الشرق الأوسطعاجل

اتفاقيات السلام في مالي.. أبعادٌ سياسية وأخرى قبلية

بقلم : محمد محمود أبو المعالي – نواكشوط

رغم اتفاق السلم والمصالحة الذي تم التوقيع عليه في شهر يونيو 2015 في العاصمة المالية بين الحركات المتمردة في إقليم أزواد بشمال البلاد، والحكومة المركزية في باماكو، بوساطة دولية تقودها الجزائر، إلا أن المعارك ظلّت مستعرة بين قوات “منسقية الحركات الأزوادية”، التي تقاتل من أجل استقلال الإقليم عن مالي من جهة، وبين المليشيات القبلية التابعة لبعض قبائل الطوارق والعرب الموالية للحكومة في مالي.

هذه التطورات هدّدت بنسف اتفاق السلام بعد اتِّهام الحركات الأزوادية للحكومة المالية بدعم وتسيير المليشيات المُوالية لها، ودفعها للهجوم على مواقع الحركات المتمرِّدة لطردها من مواقعها، بخلاف ما ينصّ عليه اتفاق وقْف إطلاق النار بين الطرفيْن، من احتفاظ كل طرف بالمواقع التي يُسيْطر عليها، إلى حين الشروع عمليا في تطبيق اتفاق السِّلم والمصالحة.

وفي محاولة لتفادي انهيار اتفاق السلام، رعت الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي حوارا محليا آخرا بين قادة المجتمع من شيوخ القبائل التقليديين والوجهاء وعلماء الدِّين وقادة الجماعات المسلحة في المنطقة استمر عدة أسابيع، وأفضى في النهاية إلى توقيع اتفاق سلام جديد، يرى المراقبون أنه جاء مكملا لاتفاق الجزائر الذي أخذ بُعدا سياسيا بين الحركات والحكومة، في وقت يعرِف فيه الصراع تصاعدا ملحوظا للبعد القبلي، أكثر من البُعد السياسي والحركي.

وقد نص الإتفاق الجديد في فقرته الأخيرة على التمسّك باتفاق “مسار الجزائر”، الذي وقّعت عليه الأطراف، واعتباره معزّزا ومكمِّلا له، كما دعا الموقّعون على اتفاق المجتمع الدولي ومجموعة الوساطة بقيادة الجزائر، وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، ودول الطوق المحيطة بالمنطقة، إلى بذل مزيد من الجهود من أجل المساعدة في تثبيت مسار السلام وتطبيقه.

هذا الإتفاق الجديد بين الفُرقاء في شمال مالي، الموالين للحكومة والمناوئين لها، والذي تمّ برعاية دولية وإقليمية، كانت الحكومة المالية حاضِرة فيه بقوّة عبْر ما يُعرف بحركات “العريضة الموحدة” الموالية لها، والمؤلّفة من قبائل “الإيمغاد” الطارقية وقبائل “الأمهار” العربية، ويتزعَّم هذه المجموعة القائد المساعد للجيش المالي الجنرال “الهجي أغ غامو”، المنحدر من الطوارق، رِفقة بعض أعيان القبائل العربية الموالين لباماكو، بينما يقود الجناح الآخر المناوئ للحكومة، ممثِّلون عن قبائل “الإفوغاس”، بقيادة “العباس أغ انتالا” رئيس المجلس الأعلى لوحدة أزواد، ونجل الزعيم التاريخي لتلك القبائل، والعقيد “محمد ناجم”، القائد العسكري للحركة الوطنية لتحرير أزواد، ممثلا لقبائل “الإيدنان” الطارقية، فضلا عن عدد من أعيان القبائل الأخرى، وكذا ممثلين عن قبائل “عرب تلمسي” و”البرابيش” من العرب، وهي مجموعات قبلية شكّلت وَقود الصِّراع الأخير الذي عرفته المنطقة وأسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى، وتبادل لعمليات الاختطاف والسلب والنّهب بين المتحاربين.

وقد نص الاتفاق الجديد على “الوقف الفوري والحازم لإطلاق النار، وحظر كل الأعمال الإستفزازية عبْر كل الوسائل”، وتبادل الأسرى والمُختطَفين بين الحركات والمجموعات القبلية المتناحِرة، وإنجاز خريطة طريق بين منسقية الحركات الأزوادية، المناوئة للحكومة في باماكو ونظيرتها من الحركات الموالية للحكومة، وتشكيل لِجان متابعة مُشترَكة بين الأطراف، تسهَر على تطبيق بنود الاتفاق وتثبيت وقْف إطلاق النار بين مختلف الفصائل والمجموعات القبلية.

وبالتوقيع على الإتفاق الجديد، يكون الوسطاء قد سعوا لترميم التصدّعات الحاصلة في العلاقة بين الحكومة المالية والحركات الأزوادية، وبين الفرقاء الإجتماعيِّين والقبليِّين أيضا، سبيلا إلى الشروع في تطبيق اتِّفاق السِّلم والمصالحة، الذي يأمل الماليون أن يُنهي عقودا طويلة من الحروب والصّراعات التي عرفتها المنطقة وحوّلتها إلى واحدة من أخطر بِقاع العالم وأقلها أمنا وأكثرها انتشارا للجريمة المنظمة وتجارة المخدّرات والممنوعات، الأمر الذي لا يتلقّاه العديد من المراقبين بكثير من التفاؤل، نظرا لاعتبارات عديدة، في مقدِّمتها أن اتفاق المصالحة الجديد الذي تم التوقيع عليه بموجب مسار الجزائر، لا يختلف كثيرا عن اتفاقيات وقعت سابقا في الستينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، وانهارت كلّها بعد سنوات من توقيعها بسبب غياب إرادة جادّة لتطبيقها أو بسبب تغييب تلك الإتفاقيات لبعض المطالب الجوهرية لسكّان إقليم أزواد، الذين حملوا السلاح ضدّ الدولة المركزية منذ استقلالها عن فرنسا بداية ستينيات القرن الماضي.

غير أن توقيع هذا الإتفاق تزامَن مع الإعلان عن اغتيال عددٍ من القيادات العسكرية والمُجتمعية في المِنطقة على أيْدي مجهولين، يُعتقَـد أنهم يسعَـوْن لإرباك الساحة وإفشال مساعي التسوية فيها، حيث أطلق مجهولون النار على العقيد محمد أغ أكنون، القائد العسكري في الحركة الوطنية وأردوه قتيلا قُرب لدية بير، شمال مدينة تمبوكتو، كما قُـتِل زعيم قبَلي آخر في المنقطة على أيْدي مسلّحين مجهولين، واختُطِف عددٌ من الأشخاص عُـثِـر على جُـثثهم لاحقا.

وتتبايَن وِجهات نظر المحلِّلين بشأن هذه الإغتيالات، بين من يحملها للحركات الجهادية التي تنشط في المنقطة وتتّهم بعض القياديات العسكرية والسياسية في الحركات المتمرِّدة بالتعاون مع الفرنسيين والقوات الدولية في الحرب عليها، بينما يُلقي آخرون باللّائمة على بعض “بارونات” تجارة المخدِّرات، الذين يروْن في اتفاقيات السِّلم والمصالحة، تهديدا لمَصالحهم، حيث تساعِد حالة الحرب والفوضى القائمة، في تكريس واقع المنطقة كمَـعبَر للمخدِّرات وتجارة السلاح، بعيدا عن أي رقيب قانوني.

هذا فضلا عن أن المنطقة عرفت في السنوات الأخيرة تطوّرات خطيرة، تمثلت في الحضور القوي للجماعات الجهادية المسلّحة، مثل تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي و”جماعة أنصار الدِّين” وتنظيم “المرابطين”، وهي جماعات فرضت سيْطرتها على مُدن أزواد سنة 2012، بعد طرد القوات المالية منها، واستمرت في إحكام السيطرة عليها قبْل أن تُخرِجها القوات الفرنسية والإفريقية منها بداية عام 2013 في حرب ما تزال مستمرة حتى الآن. هذه الحركات الجهادية تبدو اليوم غيْر معنِية بالإتفاقيات الجديدة التي وقّعتها منسقية الحركات الأزوادية مع الحكومة المالية، بل ترفضها وتُناهِضها، جُملة وتفصيلا.

وقد جاء أول موقِف لتلك الحركات من اتفاق السلام، على لِسان الزعيم التاريخي للثورة في أزواد “إياد أغ غالي”، الذي تحوَّل من قوْمي يساري إلى قيادي جهادي، يتزعّم تنظيم “جماعة أنصار الدِّين” ويتحالف مع تنظيم القاعدة، حيث وصَف الإتفاق الموقّع بـ “الهزيل والمُخْزي”، وهاجَم الحركات الأزوادية التي وقعت عليه، قائلا إنها سلّمت الشعب من جديد إلى الحكومة المالية ليُواجه ما عاناه سابقا من اضطهاد وظُلم وعُنصرية، وتخلّت عن حمايته والنضال من أجل حقوقه، وسخر “أغ غالي” من الحركات المتمرِّدة مُتسائِلا أين شعاراتها بالحرية والاستقلال التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، من توقيعها على “اتفاق إذعان ورضوخ للدولة المالية”، واعتبر الزعيم الجهادي في مالي أن وجود فقرة في الاتفاق تنصّ على تشكيل قوة مشترَكة لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة العابِرة للحدود، إنما أريد بها إعلان الحرب على الجماعات الجهادية في المنطقة، متعهِّدا بمزيد من التصعيد ضدّ الماليين والفرنسيين.

وبين اتفاقيات سلام، تنعدم الثقة بين أطرافها وتتعدد الإتهامات المتبادلة بينهم، وآمال السكان الحالمين بتحقيق السلم والرخاء والعدالة، وبين حركات جهادية تهدد وتحارب مَن يقف في وجْه مشروعها الجهادي، يبقى الشمال المالي متأرجِحا، يقيده واقع مرير من الحرب والصراعات والتخلّف، وتنعشه آمال في سلام منشود، قد يحمل معه بشائر التنمية والإستقرار.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى