الجماعات الاسلامية

محطات تاريخية في تطور الفكر السلفي

 بقلم : أحمد المهداوي – المركز الديمقراطي العربي

 

جذور ” المدرسة السلفية ” ممتدة إلى العصور الإسلامية الأولى، فالمنهج السلفي مر في حياته بأربع فترات تاريخية ابتدأت المرحلة الأولى مع أهل الحديث، ثم بعد ذلك مع ابن تيمية، ثم أعاد الظهور مع محمد بن عبد الوهاب، مرورا بما يصطلح عليه بحركة إحياء التيار السلفي إبان اليقظة الفكرية في المشرق العربي، انتهاء بالسلفية المعاصرة بمختلف مدارسها وفروعها العلمية منها والجامية والجهادية والسرورية.

** السلفية مع أهل الحديث :

هذه المحطة الأولى من حياة الفكر السلفي وقد ابتدأت مع طبقة أهل الحديث كما سماهم بذلك كثير من الأئمة والمتمثلة في: طبقة الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، ثم البخاري ومسلم والدارمي.

ظهرت هذه الجماعة من أهل الحديث إبان القرن الثالث و الرابع الهجري وانتسبت بآرائها لابن حنبل في إثبات بعض صفات الله بدعوى أن الله أثبتها لنفسه في القرآن والسنة وذلك الأخذ بظواهر النصوص ثم تفويض الكيف والوصف، ثم أقر هذا المنهج كمنهج رسمي للدولة العباسية في زمن الخليفة القادر بالله، ومدرسة أهل الحديث والأثر كانوا في مواجهة المعتزلة تحت قيادة أحمد بن حنبل(1) كما ذكرنا آنفا، وقد كان المعتزلة يتخذون مناهج عقلية في قراءة النصوص وتأويلها واستمدوا أصولهم المنطقية من الحضارة الإغريقية عن طريق الترجمة والتعامل المباشر معها، هنا تدخل أهل الحديث حين تبين لهم أن في هذه المناهج العقلية خطرا يهدد صفاء الإسلام ونقائه على ما كان عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين بعده، وينذر بتفكك الأمة وانهيارها، وانتهى هذا النزاع حين تولى الخليفة المتوكل أمر الخلافة و أطلق سراح ابن حنبل وانتصر لمنهجه ومعتقده، ويعبر الكاتب حسن أبوهنية عن ثبات ابن حنبل بقوله : ” كان حاسما في بلورة وعي سلفي عمل على بلورة موقف سلفي واضح ومتميز لأول مرة “(2) .

1- أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164-241هـ / 780-855م) فقيه ومحدِّث مسلم، ورابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي. اشتُهر بعلمه الغزير وحفظه القوي، وكان معروفاً بالأخلاق الحسنة كالصبر والتواضع والتسامح، وقد أثنى عليه كثير من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل»، ويُعدُّ كتابه “المسند” من أشهر كتب الحديث وأوسعها. اشتُهر ابن حنبل بصبره على المحنة التي وقعت به والتي عُرفت باسم “فتنة خلق القرآن”.

2- سياسات السلفية الإحيائية الجديدة بقلم حسن أبو هنية.

إن أصحاب الحديث رأوا أن ” السلف الصالح ” من أصحاب النبي هم الأولى و الأكثر موثوقية في تأويل النص وإضاءته، وعلى ” الخلف ” الرجوع إليهم كأصل ومصدر في الفهم والسلوك والإقتداء، ويمكن القول أن السلفية تطورت خلال الحقبة التأسيسية مع الإمام أحمد بن حنبل خصوصا بعد واقعة فتنة أو محنة خلق القرآن التي ثبت فيها الإمام على مبادئه وآرائه مما أكسبه مكانة متميزة، لدى أهل الحديث سابقا و السلفيين لاحقا (1).

** السلفية و مرحلة ابن تيمية :

كانت هذه المحطة الثانية بعد ما شهدت السلفية انحسارا ملحوظا شعبيا وسياسيا وبعد انقسام الفقهاء الإسلاميين طوائف وشيعا، برز” شيخ الإسلام ” أحمد ابن تيمية في القرن السابع الهجري الذي تزامن مع سقوط عاصمة الدولة العباسية – بغداد- على أيدي التتار سنة 656 هـ، الذي عمل على إحياء الفكر السلفي وقام بشن حملة على من رأى أنهم من أهل البدع، داعيا بأعلى صوته إلى إحياء عقيدة ومنهج السلف من أجل تحقيق النهضة.

أعطى ابن تيمية للدعوة السلفية شحنة متجددة وضخ فيها دماء متدفقة بقوله:” مذهب السلف لا يكون إلا حقا “(2) ، فابن تيمية ينظر للسلف على أنهم أهل الفضل والسبق وأن قولهم وفعلهم لا يكون إلا حقا وأن إتباعهم واجب، وما خالف أحد ما نقل عنهم إلا ويكون مبتدعا، ويذكر ابن تيمية في «المجموع» : ” من كان له خبرة بالنظريات والعقليات وبالعمليات علم أن مذهب الصحابة دائما أرجح من قول من بعدهم وأنه لابتدع أحد قولا في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله “(3).وهذه النظرة للسلف من طرف ابن تيمية هي نظرة تبجيلية ونظرة اعتزاز وفخار بما نقل عن السلف وتبيان على أن طريقهم هي طريق الحق، ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها القرن الأول، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل وإيمان عقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، وهذا ليدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم(4) .

1- أنظر ” تيارات الفكر الإسلامي “، محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط: 1997،2، ص: 161-168

2- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ( 4/158 ).

3- مجموع الفتاوى، ( 4/157-158 ).

4- مجموع الفتاوى، ( 4/149 ).

فما كان عليه السلف الصالح هو الحق و الأصوب من منظور ابن تيمية إذ أنهم هم الشرب الأول وهم أقرب من الخلف للوحي الإلهي والنبوي ، ثم إن من بعدهم كثر فيهم الاختلاف وانتشرت الأمة بعدهم طوائف وشيع مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: } افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: هي ما أنا عليه وأصحابي {(1) .

من هنا يظهر أن ابن تيمية قد نظر للمنهج السلفي على أنه المنهج القويم والصراط المستقيم و طوق النجاة من كل ابتداع أثيم، وغير هذا المنهج هو ضلالة وحياد عن الدين الإسلامي الصحيح، إن حقبة ابن تيمية تمثل تطورا مهما في تشكل الإطار العقائدي والمعرفي للسلفية، وأصبحت مدرسته الفكرية وكتبه وفتاويه بمثابة بوصلة فكرية للتيار السلفي، إذ تعبر السلفية التاريخية مع ابن تيمية على نضوج واكتمال بلور وقولب ” المنهج السلفي “، وحدد معالم الطريق لكافة السلفيين الذين جاؤوا من بعده وانتسبوا إلى السلفية (2) .

** من السلفية إلى الدعوة الوهابية :

هذه كانت المحطة الثالثة من حياة السلفية فبعد مرور قرون على مرحلة السلفية مع ابن تيمية شهدت انحسارا كبيرا مرة أخرى لتعاود الظهور تارة أخرى في القرن الثامن عشر الميلادي متمثلة في الدعوة النجدية أو إن شئت أن تقول ” الدعوة الوهابية “، مع محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية والتي واكبت عصر الانحطاط وأفول نجم الدولة العثمانية، وصعود الاستعمار الغربي، هذه الدعوة التي ولدت من رحم ضيق للسلفية التاريخية امتدت إلى أوائل القرن التاسع عشر ميلادي، حيث دعا فيها محمد بن عبد الوهاب إلى توحيد الله سبحانه، ومنع التوسل بغير الله، ورفض التبرك بالقبور وأحيى تراث ابن تيمية.

ويعد كتيب ” التوحيد ” لمحمد بن عبد الوهاب مرجعا أساسيا لدى أغلب السلفيين، إذ يوضح فيه أصول العقيدة السلفية، والوهابية من الناحية الدينية ” دعوة إصلاحية تطهيرية ” تسعى للحفاظ على الهوية عبر التمسك بظاهر النص (3) .

1- رواه ابن ماجة، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، ح: 3992؛ وابن حبان، في كتاب التاريخ، ذكر افتراق اليهود والنصارى فرقا مختلفة، ح: 6247.

2- أنظر كتاب ” أنا سلفي “، محمد أبو رمان، مؤسسة فريدريش إيبرت، عمان، 2014، ص: 45.

3- أنظر المرجع السابق: ص: 46-47.

** السلفية إبان النهضة :

المحطة الرابعة من عمر السلفية حيث برزت خلال هذه المرحلة في القرن التاسع عشر الهجري إشكالية ” التقدم والتأخر ” (1) أي: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟، وذلك بعد ضعف الدولة العثمانية وتزايد الأطماع الأوروبية في الهيمنة على البلاد العربية و محاولة هذه الأخيرة بث سياسة الإصلاحات، وظهور المطابع و الصحف و البعثات الطلابية والتبشيرية مع ظهور المدارس العصرية وانتشار الترجمة، وبروز طبقة جديدة مثقفة متأثرة بالثقافة الغربية، كل هذا أدى إلى تمخض قضية الإصلاح الديني التي صارت الشغل الشاغل لرواد المدرسة الإصلاحية، فزاوجوا بين نزوعهم العقلاني المستمد من المعارف الغربية الحديثة وبين أصول الدعوة السلفية الوهابية، فالمدرسة الإصلاحية التي كان كل من جمال الدين الأفغاني ( 1838-1897 )، ومحمد عبده ( 184-1905 )، و عبد الرحمن الكواكبي( 1849-1903 )، أحد أهم روادها و التي دعت إلى العودة إلى المنابع الصحيحة للعقيدة ( القرآن والسنة ) ونبذ البدع، وفتح باب الاجتهاد والتوفيق بين الدين والعلم، وهذا على المستوى الديني، أما على المستوى السياسي فقد دعا هؤلاء إلى نهج مبدأ الشورى والديمقراطية في الحكم ونبذ الاستبداد- هذا الاستبداد السياسي الذي انحسر معه الدين تدريجيا إلى شرائع فقط ولم يعد يؤدي وظيفته الأساسية التي من أجلها كتب الله سبحانه الخيرية لأمة الإسلام، قال سبحانه وتعالى:} كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر {(2)، – ثم إلى جانب ذلك قام رواد هذه المدرسة الإصلاحية إلى دعوة المسلمين إلى الإتحاد ومواجهة الاستعمار؛ أما على المستوى الاجتماعي فقد دعا هؤلاء الرواد إلى الاهتمام بالتربية والتعليم باعتبارهما مدخلا لإصلاح المجتمع، وكذا نقد الفوارق بين أفراد المجتمع والدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.

السلفية في هذه المرحلة الإصلاحية طغى عليها الاشتغال بنهضة الأمة والسعي إلى إخراج العالم الإسلامي من الركود الفكري الذي أصابه بالعجز والشلل.

1- أنظر كتاب ” أنا سلفي “، محمد أبو رمان، مؤسسة فريدريش إيبرت، عمان، 2014، ص: 48.

2- سورة آل عمران، الآية 110.

لقد ساهم الفكر السلفي في المرحلة الإصلاحية بشكل إيجابي في النهضة والانفتاح الحضاري، حيث أسس لمنهج يدعو إلى التوفيق بين الدين والعلم، وينشد مصالحة الذات عبر العودة إلى الينابيع الأولى للدين الإسلامي الصحيح، حيث أن الدين في تلك المرحلة والمراحل التي تلتها بعد ذلك حتى يومنا هذا صار يعيش في زمن الغربة الثانية على حد تعبير السلفيين، وهذا ما يجسده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : } بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ {(1) وعلق المفكر الإسلامي محمد قطب على هذه الغربة المذكورة في الحديث بقوله : ” ولقد عاد غريبا بالفعل…غريبا بين أهله أنفسهم، يتصورونه على غير حقيقته- فضلا عن سلوكهم المنحرف عنه-ويستغربونه حين يعرض لهم في صورته الحقيقية كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخذت تطبيقها الكامل في حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم “(2) ، فعند محمد قطب أن الصورة الحقيقية للإسلام الصحيح أخذت أوج اكتمالها على عهد السلف الصالح مما يستدعي إتباع هذا الشرب الأول لإعادة تصحيح المنهج الديني، وبذل جهد مضاعف لإزالة الغربة الثانية كما أزال المسلمون الأوائل الغربة الأولى للإسلام، وهذا الجهد المضاعف في نظر محمد قطب هو المهمة الملقاة اليوم على عاتق الصحوة الإسلامية(3).

مما سبق ذكره عن تاريخ الدعوة السلفية نجد أن هذه الأخيرة واكبت كل عصور التاريخ الإسلامي منذ القرن الثالث والرابع الهجري الذي كان فيه للسلفية الباع الطويل في مواجهة الفرق الأخرى من ” معتزلة، شيعة، مرجئة و قدرية…”، حيث اتخذت موقفا سلفيا لا يقبل المداخلات الغريبة، والشبه المريبة؛ ثم جاء في القرن السابع الهجري – بعد انحسار وانكماش المنهج السلفي – شيخ الإسلام ابن تيمية ليعيد إحياء هذا المنهج على أصوله وثوابته الأولى، رافضا بذلك أي شكل من أشكال الابتداع التي من شأنها أن تشوب الدين الإسلامي؛ ليشهد المنهج السلفي انحسارا وتقهقرا من جديد إلى حدود القرن الثاني عشر الهجري ليبرز الشيخ محمد بن عبد الوهاب داعيا إلى إعادة صياغة هذا المنهج في صورته السلفية الحقة، و المناداة بأعلى الصوت لنبذ الخرافات و البدع؛ ثم بعد هذا كله جاءت الحركة الإصلاحية السلفية لتعيد بناء هذه الأخيرة على أسس علمية، وذلك بالدعوة إلى العودة إلى الينابيع الأولى للدين القويم، مع الاستفادة نوعا ما من العلم الغربي الحديث.

1- رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا، ح : 389.

2- كتاب ” مفاهيم ينبغي أن تصحح “، محمد قطب، دار الشروق، بيروت، ص: 13.

3- أنظر المرجع السابق.

كان هذا موجزا بسيطا عن أهم الملامح التاريخية للدعوة السلفية، رغم أنه لايمكن حصر تاريخها الطويل في بضع ورقات، إلا أن هذا التاريخ خلق جدلا بين مختلف الفئات، حيث يرى البعض و خاصة من يمثلون ” التيار الإسلامي ” أن المنهج السلفي كان يسير في منحى صاعد أي أنه يتطور حقبة بعد حقبة، وينشئ لنفسه شخصية ذات ملامح مميزة عن باقي الفصائل الأخرى، في حين يرى البعض الآخر وخاصة من ينتقدون التيار السلفي أن هذا الأخير يسير في منحى هابط أي أنه لا يتقدم ويرجع إلى الخلف في صيرورته عوض التطور والتقدم.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى