الدراسات البحثيةالمتخصصة

أخلاقيات الحرب العادلة في فلسفة “دوجلاس لاكي” السياسية

اعداد : دكتور جميل أبو العباس زكير بكري – المركز الديمقراطي العربي

إشراف : الأستاذ الدكتور: السيد بهاء جلال درويش

لجنة المناقشة:

  • 1- الأستاذ الدكتور/ أحمد محمود إسماعيل الجزار، أستاذ الفلسفة وعميد كلية الآداب الأسبق (رئيسًا ومناقشًا)
  • 2- الأستاذ الدكتور/ صلاح محمود عثمان، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية (مناقشًا)
  • 3- الأستاذ الدكتور/ السيد بهاء جلال درويش، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنيا (مناقشًا)

 

ملخص رسالة دكتوراه بعنوان/ 1438هـ – 2016م

الملخص:

بعد اندلاع الحربين العالميتين (الحرب العالمية الأولى “1914- 1918″، والحرب العالمية الثانية “1939- 1945”) واللتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر سواءً من العسكريين أو المدنيين، كان من الطبيعي أن تُسلِّط الفلسفة الضوء بشكل متزايد على الفلسفات التي تدعو إلى نبذ العنف والحرب، وتنادي بالعدالة والسلام العالمي، ومن ثمَّ، التأكيد على وضع مواثيق قانونية وقواعد أخلاقية للحروب التي تنشب بين الدول وبعضها بعضًا، وقد جاءت الأولى (المواثيق القانونية) متمثلة في مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول بصفة إلزامية أو ما يسمى بالقانون الدولي. في حين لم تحمل الأخرى (القواعد الأخلاقية) هذه الصفة في كثير من جوانبها، بل اتخذت صفة الاختيارية فحسب.

ومنذ فترة غير بعيدة، ومع نشوب بعض الحروب الدولية بين بعض الدول وبعضها بعضًا، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي، ومع تزايد صناعة الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية- التي يفترض أنها محرمة دوليًا- فقدت تلك الحروب أدنى مستويات القيم الأخلاقية والإنسانية.

هذا، بالإضافة إلى ما خلَّفَته الحروب الدولية من ويلات، ونكبات، بل ومآسي على جميع الأصعدة؛ الإنسانية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية بالنسبة للعالم ككل. ناهيك عن الإفراط في استخدام القوة الغاشمة في عصرنا الراهن من قِبل الدول القوية دون أية مصوغات شرعية- سواءً أكانت قانونية أو أخلاقية- مبررة مثل: ما تفعله بعض الدول المعاصرة وإن كانت في بعض الأحيان قد اتخذت غطاءً أخلاقيًا مزيفًا قد بررت من خلاله خوضها لبعض الحروب باستخدام الأكاذيب والأساطير المتستِّرة وراء دعوى نشر الجانب القيَّمي والأخلاقي، وتحقيق السلام العالمي، وإن كانت الحقيقة العمل على تحقيق أكبر قدر من المنافع والمكاسب.

ليس هذا فحسب، بل إن المراقب للحروب عمومًا- الحروب في الغرب كمثلها في بعض حروب الشرق- في العصر الحديث يجد أن صانعيها حريصون دائمًا على تقديم المبررات الأخلاقية قبل شنها، بل أكثر من ذلك، فإن العديد من دول الغرب إن لم تصنع هذه المبررات إلا أنها تفتعلها، ولا أدل على ذلك من قولنا: إن حرب الأفيون التي شنتها بريطانيا على الصين هي من أقدم حروب التاريخ المعاصر، وقد قضت بريطانيا ما يقرب من أربعين عامًا وهي تَعُد المبررات الأخلاقية لشنها، وفي النهاية شنتها تحت مظلة حماية حرية التجارة. ولعل أحدث الحروب الغربية المعاصرة: الحرب الأميركية على العراق؛ والتي لا يخفى على أحد أنها شُنت بمبرر أخلاقي تمثل في أكذوبة القضاء على أسلحة الدمار الشامل وتحرير الشعب العراقي من الدكتاتورية المُفرطة، وإن كانت الحقيقة عكس ذلك تمامًا، لأن خيرات العراق؛ من نفط وبترول، وغيره كان المطمع الأساس الذي اندلعت من أجله تلك الحرب.

مشكلة الدراسة:

إن المشكلة الرئيسة لهذه الدراسة تتمثل، كما هو واضح من عنوانها، في محاولة الكشف عن أبعاد فلسفة “دوجلاس لاكي” الأخلاقية والسياسية، ولسوف يحاول الباحث أن يقدم هذه الأبعاد من منطلق نظرية “لاكي” حول “أخلاقيات الحرب العادلة”.

وعلى ذلك يكون التساؤل الرئيس للدراسة هو:

  • ما أخلاقيات الحرب العادلة في فلسفة “دوجلاس لاكي” السياسية؟

والذي تتفرع عنه تساؤلات عدة منها:

  • على أي أساس تقوم فلسفة لاكي فيما يتعلق بأخلاقيات الحرب العادلة؟
  • ما موقف لاكي من نظرية الواقعية؟
  • وهل توجد أخلاقيات للحرب أم أن كل شيء مباح في الحب والحرب كما يقولون؟
  • ما أخلاقيات المسالمة عند لاكي وما من أنواع المسالمة؟
  • وما مفهوم الحرب العادلة ولماذا لم يستخدم “لاكي” مصطلح الحرب المشروعة وهل ثمة فارق بين الحرب العادلة والحرب المشروعة؟
  • ما تاريخ نظرية الحرب العادلة، ومصادرها، وعناصرها؟ ومن أبرز فلاسفتها؟ وما موقف لاكي منها؟
  • وكيف تكون حربًا وتكون عادلة؟
  • وهل توجد حرب عادلة وأخرى غير عادلة؟
  • وإلى أي مدى تكون الحرب عادلة وبأي معيار؟
  • ومن الذي يحدد معيار الحرب بأنها عادلة أو غير عادلة؟
  • وهل يوجد قاسم مشترك بين البشر فيما يتعلق بتحديد سقف ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي؟ وما هو عادل وما هو غير عادل أم أن الأمر لا يعدو عن كونه نسبي يختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر؟!! وإن كان يوجد فما هو وهل هو مُفَعَّل أو لا؟ وإن كان لا يوجد فهل من سبيل إلى وجوده؟
  • ما أخلاقيات الحرب العادلة عند “لاكي” قبل الحرب، وأثناءها، وبعد اندلاعها ومبادئ كل واحدة منها؟ وما موقفه تجاه الأسلحة النووية والردع النووي؟
  • هل يمكن للنظريات أن تُنهي الحرب أو لا؟
  • وما موقف الفكر الديني السماوي من أخلاقيات الحرب العادلة؟

لذا، دعت الضرورة إلى البحث في إبراز مضامين الحرب وأخلاقياتها في فلسفة “دوجلاس لاكي” السياسية، ومن ثمَّ، إظهار ما لها وما عليها.

أهمية الدراسة:

وإذا كانت المقدمة السابقة تكشف عن شيء من أهمية الدراسة، إلا أن هذه الأهمية لم تستنفذ بعد. فالدراسة تزعم أنها جديدة على المكتبة العربية، من منظور الاعتبارات التي قدمناها. أضف إلى ذلك، أن الحديث عن أخلاقيات الحرب العادلة أثار ولا يزال يثير الجدل على نطاق واسع؛ لأنه لا يعتمد على رأي قطعي واحد، بل آراء نسبية متعددة تختلف من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر.

هذا، بالإضافة إلى التركيز على الإنسان من خلال تراثه المتأصل فيه؛ لأنّ الإنسان في نهاية المطاف ينطبق عليه المثل الأفريقي القائل:”ليس أفظع من الإنسان إلَّا الإنسان، وليس أحسن من الإنسان إلَّا الإنسان. فإذا كانت الحرب داءً، فإنّ سبب هذا الداء هو الإنسان. وإذا كان الحظر والتقنين هما الدواء، فإنّ الإنسان وحده هو الذي يمكنه تقديم هذا الدواء”.

لذا، نهضت هذه الدراسة من أجل محاولة الوقوف على معرفة حقيقة هذا الجدل، على أمل الخروج في النهاية برأي يخص الباحث.

أسباب الدراسة:

إن الأسباب التي دفعتني إلى الإقبال على هذه الدراسة تتركز في عدة أسباب يكمن أهمها نتيجة لما جاء في المقدمة فيما يلي:

– إن سبب اختيارنا لأخلاقيات الحرب العادلة يتمثل في معالجة جوانب القصور والضعف في الدراسات التي تناولت “نظرية الحرب العادلة” بشكل متفرق وركزت على بعض عناصرها دون بعضها الآخر.

– معرفة دور الفلسفة الذي ينبغي أن تؤديه إزاء تزايد حدة الصراعات الدولية وحروبها التي افتقدت أدنى مستويات القيم الأخلاقية والإنسانية؟. بالإضافة إلى ما خلفته تلك الحروب من ويلات، ونكبات، ومآسي على جميع الأصعدة؛ الأخلاقية، والسياسية، والقانونية، والاجتماعية.

– أما سبب اختيارنا لـ”لاكي” تحديدًا؛ فذلك لأنه لا توجد دراسة في المكتبة العربية، في حدود علمنا، تناولت الحرب العادلة عنده بشيء من التفصيل، وذلك مرجعه؛ أنه فيلسوف معاصر لا يزال على قيد الحياة مما يجعل مؤلفاته حديثة، ومن ثم، صعوبة الحصول عليها دون مشقة. كما أن بعض الباحثين يرى أن فلسفته لم تكتمل بالشكل الكاف بعد؛ لأنها في تطور مستمر.

– زعم “لاكي” أنه قدَّم نظرية جديدة وعَصْرِية عن أخلاقيات الحرب العادلة في فلسفته السياسية.

– إن اهتمامات “لاكي” الفلسفية لم تقتصر على أخلاقيات الحرب والسلام فحسب، بل لقد كان له باع طويل في المجالات الفلسفية العديدة؛ فقد اهتم بالأخلاق عمومًا والأخلاق التطبيقية خصوصًا، وبعلم الجمال، وبتاريخ الفلسفة. وكان له إسهامات وكتابات كثيرة في كل من هذه الفروع الفلسفية المختلفة.

أهداف الدراسة:

لقد أدَّت الحروب الطاحنة التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ إلى استقرار فكرة لدى بعض الناس مُفادها أنّ الميل إلى الحرب لم يترك مجالًا للميل إلى السلم؛ ولذلك يأتي في صدارة أهداف هذه الدراسة إثبات أنّ الميل إلى السلم، أيضًا، مُتجذر في نفوس أناس كثيرين، إلى درجة أنه على الرغم من التسليم بأنّ الحرب ظاهرة إنسانية متكررة، فإنه لم يخلُ عصر من عقلاء وفلاسفة ينددون بها ويعملون على تقنينها، علاوةً على جنوح [الشريعتين] السماويتين الأكثر انتشارًا (المسيحية والإسلام) إلى السلم، وإلى احترام إنسانية الإنسان.

بالإضافة، إلى اعتقاد الكثير من الدارسين والعوام على سواء أنه لا توجد أخلاق في الحروب، كما لا توجد حرب عادلة، بل كل الحروب ظالمة!!!. لهذا، أخذت الدراسة على عاتقها مهمة بيان صحة أو خطأ هذا الاعتقاد، وكشف اللثام عنه، مع بيان الحجج والبراهين التي تؤكد على ضرورة وجود أخلاقيات للحرب؛ سواء على مستوى ما هو كائن أو على مستوى ما ينبغي أن يكون، أو تلك التي تفند هذه الحجج وتؤكد على ما هو عكسها تمامًا.

كما أن الدراسة تستهدف إلقاء الضوء على المعنى الأخلاقي لمفهوم “العدالة”، الذي لم يعُد قائمًا كمفهوم مطلق، بل تحوَّل إلى مفهوم نسبي جدًا، يتحدد بقوة الدولة التي تريد فرضه، أو بالإجماع الذي يمكن توفيره لدعم الجهد اللازم للقيام بأي عمل من أعمال الحرب، أو لاتخاذ أي موقف سياسي مطلوب. فالعالم لم يعد قادرًا على أن يحول دون رغبة الطرف القوي بأن يقرر “العدالة التي يريد” بمفرده.

كما تهدف الدراسة إلى المساهمة في تجلية هذا الموضوع وجمعه، ونفض الغبار عن جوانب ضعفه ونقصه عند “دوجلاس لاكي”. إذا كان بعض الفلاسفة المعاصرين قد قدَّم لنظرية حديثة حول أخلاقيات الحرب العادلة في العصر المعاصر مثل: “مايكل والزر”، إلا أن “دوجلاس لاكي” قد انتقد هذه النظرية ورفض منها ما رآه جوانب ضعف فيها، بالإضافة إلى أنه أضاف إليها تعديلات جديدة جعلته يُقدم رؤية جديدة عن نظرية الحرب العادلة تُعدُّ أكثر تماسكًا من غيرها، وإن كانت لا تخلو من انتقادات أيضًا.

علاوة على ما سبق، فإن هدف الدراسة يكمن في معرفة رأي “لاكي” بشأن وضع معايير أخلاقية تنظم العلاقات الدولية أو لا، بالإضافة إلى رأيه فيما يتعلق بالحث على ضرورة إلزام الدول بهذه المعايير؛ لما لها من آثار إيجابية تنعكس على تطور الدول ورفاهية شعوبها.

تبويب الدراسة:

للتحقق من فروض البحث قسمنَّا الدراسة إلى ستة فصول، تسبقها مقدمة وتليها خاتمة، يمكن ترتيبها على النحو التالي:

المقدمة: وقد عرضت فيها؛ لمشكلة الدراسة، وأسبابها، وأهميتها، وأهدافها، والدراسات السابقة، وخطة الدراسة ومنهجها.

أما التمهيد؛ فقد عرضنا فيه لحياة “دوجلاس لاكي”، ومؤلفاته، وظروف عصره.

الفصل الأول: والذي حمل عنوان:”الأخلاقيات وعلاقتها بالسياسة ونظرية الواقعية” وفيه قدم الباحث؛ معنى الأخلاق في اللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى، علاقة الأخلاق بالسياسة، وعلاقتها بالسلام والحرب، ونظرية الواقعية وموقف لاكي منها، ثم خاتمة الفصل.

أما الفصل الثاني: فقد جاء بعنوان “أخلاقيات المسالمة”، والذي ناقشنا فيه؛ مفهوم المسالمة، وأنواعها: مسالمة الحظر ضد القتل؛ كالحظر التوراتي، وقدسية الحياة، والحق في الحياة. والمسالمة العالمية؛ مثل: المسالمة المسيحية، حجة النموذج الأخلاقي، ومبدأ المسالمة الغاندي. والمسالمة الخاصة؛ كمسالمة أوغسطين المحدودة، ومشكلة الدفاع عن النفس. والمسالمة المناهضة للحرب؛ مثل: قتل الجنود، وقتل المدنيين، وتوازن الخير والشر في الحرب، وأخيرًا؛ خاتمة الفصل.

 وقد ناقشت في الفصل الثالث: والذي حمل عنوان “نظرية الحرب العادلة”؛ وفيه قدمنا تفسيرًا مفصلًا لمعنى الحرب لغة واصطلاحًا، والحرب وأنواعها، ومفهوم الحرب العادلة، والفرق بين الحرب العادلة والحرب المشروعة، ونظرية الحرب العادلة؛ تاريخها، ومصادرها (الديني والفلسفي)، وعناصرها, ونماذج من الفلاسفة الذين تناولوها بالشرح والتحليل.

وبالنسبة للفصل الرابع: فقد أتى بعنوان “أخلاقيات ما قبل الحرب أو عدالة اللجوء إلى الحرب”، وفيه عرضنا لمفهوم عدالة اللجوء إلى الحرب، والقواعد الأخلاقية لها.

كما تناول الفصل الخامس: والذي ورد بعنوان “عدالة إدارة الحرب وما بعدها “، وفيه أوضح الباحث المقصود بعدالة إدارة الحرب، ومبادئ عدالة إدارة الحرب، والمبررات الفلسفية لقوانين الحرب، وعدالة ما بعد الحرب ومفهومها ومبادئها.

وبالنسبة للفصل السادس والأخير: فقد جاء بعنوان “أخلاقيات الحرب العادلة في الفكر الديني السماوي”، وفيه قدَّم الباحث تحليلًا للعنوان، والحرب العادلة في الشرائع السماوية؛ اليهودية، والمسيحية، والإسلامية، بالإضافة إلى الحرب العادلة في الفكر اليهودي، والمسيحي والإسلامي، مع بعض نماذج لفلاسفة كل منها.

أما الخاتمة؛ فقد جاءت مُتَضَمَّنَةً عرضًا مفصلًا لأهم النتائج التي تم التوصل إليها من خلال الدراسة، وأخيرًا، أَتْبَعَنا الدراسة بِثَبْتٍ بأهم المصادر والمراجع التي تم استخدامها فيها.

منهج الدراسة:

تبنى الباحث المنهج التحليلي منهجًا أساسيًا للدراسة من أجل تحليل أفكار “لاكي” الفلسفية من كتبه الأساسية. هذا بالإضافة إلى المنهج التاريخي الذي قد يحتاجه الباحث متى احتاج لتأصيل فكرة أو إيضاح جدتها أو أصالتها. كما استخدمنا المنهج النقدي المقارن عند نقد فكرة ما تارة ومقارنتها بمثيلاتها عند بعض الفلاسفة تارة أخرى.

نتائج الدراسة

نستنتج من هذه الدراسة عدة نتائج أهمها:

أولاً، إن “دوجلاس لاكي”  فيلسوف سياسي وكاتب مسرحي أميركي، كانت حياته جزءًا من فلسفته وفلسفته جزءًا من حياته، فقد عاش هموم عصره، كغيره من الفلاسفة العظماء، ولاسيما فترة الحروب الطاحنة تلك التي كادت أن تفنَى البشرية بسببها، فقدم فلسفته السياسية وطرح آراءه في سبيل النهوض بالعالم ومعالجة مشكلاته السياسية والأخلاقية، وخاصة فيما يتعلق بقضيتي السلام والحرب.

ثانيًا، إن فيلسوفنا مع العلاقة بين الأخلاق والسياسة- وإن لم يكن يعرض لذلك بشكل صريح كما أوضحنا- وذلك من خلال؛ تأكيده على ضرورة التزام الحرب بالأخلاق حتى تكون حربًا عادلة كما هو واضح من كتاباته عن الأخلاقيات وعلاقتها بالسياسة مثل: كتابه “أخلاقيات الحرب والسلام” وغيره. ناهيك، عن موقفه من الحرب العادلة وأخلاقياتها كما بيَّنا من قبل، وإن كانت الأخلاق التي يريدها أخلاق المنفعة كما كشفت الدراسة.

ثالثًا، تبني “لاكي” لمذهب المنفعة العامة كان واضحًا في آرائه السياسية والأخلاقية، وخاصة فيما يتعلق بأخلاقيات الحرب العادلة، وإن كان قد انتابه الكثير من الانتقادات، إلا أن منفعة “لاكي” كانت فريدة من نوعها؛ حيث لم تكن في كل الأحوال منفعة من أجل المنفعة وإنما منفعة أخذت على عاتقها مهمة مراعاة الجانب الأخلاقي في العديد من صورها.

رابعًا، تأكيد “لاكي” على أن المشكلات الأخلاقية التطبيقية تؤَرِّق الجنس البشري وستظل، وخاصة بعد تفاقم طفرة التقدم العلمي وصناعة الأسلحة النووية والكيماوية التي باتت تهدد البشرية، وعلى هذا، قام بوضع المعايير التي تحدد مدى أخلاقية تلك الصناعات، ومنتجاتها، وكيفية استخدامها من عدمه. ومن ثمَّ، كان تركيزه على كيفية تناول قضية عدالة الحروب وأخلاقياتها بين الدول وبعضها بعضًا، كما أوضحنا في الدراسة.

خامسًا، إن “لاكي” يقوَّض نظرية الواقعية فيما يتعلق بأخلاقيات الحروب الدولية، ويفنَّد آراءها وخاصة رفضها الالتزام بالجانب الأخلاقي في الحروب، وإباحتها فعل أي شيء في الحرب من أجل المصلحة والمنفعة.

سادسًا، إذا كنا قد عرضنا لنظرية الواقعية، ونظرية المسالمة، إلا أننا نؤكد أنهما نظريتان متطرفتان. حيث إن إحداهما، ترى أن الحرب غير عادلة في كل الأحوال وهم دعاة مبدأ المسالمة المطلقة، والأخرى، ترى أن الحرب عادلة في كل صورها، وأنصار هذا الرأي هم دعاة الواقعية والقومية المتطرفة.

ولكنني ضد الإفراط والتفريط معًا، وأميل إلى الأخذ بنظرية الحرب العادلة- ولكن بشروط- التي ترى أن الحروب تكون عادلة في ظل الالتزام بقواعد أخلاقية معينة، وتكون غير عادلة في حالة انتهاك مثل هذه القواعد الأخلاقية كما أوضحنا في تعقيبنا وملاحظاتنا على الجوانب التي أخفق فيها “لاكي”.

سابعًا، انتهينا من البحث أن تقسيم “لاكي” وتصنيفه نظرية “المسالمة” إلى أربعة أصناف يوضح مدى سعة أفقه وتحليله للمسائل تحليلًا فلسفيًا متميزًا، وإن كنت أرى أنه نسي أو تناسى بعض الأنواع الأخرى من المسالمة كالمسالمة النتائجية والمسالمة الواجبية وغيرهما، كما أوضحنا في نهاية الفصل الثاني. بالإضافة، إلى معارضته لرأي القائلين بأن بعض الحروب قد تكون سببًا للوصول إلى السلام أو المسالمة.

ثامنًا، إن “لاكي” يؤكد على أنه يوجد قاسم مشترك بين البشر وهو الفكرة السليمة التي تستنكر الانتهاكات الأخلاقية التي وقعت في الحرب العالمية الثانية، ومن ثمَّ، فإن أغلبية البشر يدينون فكرة الخوض في الحرب العالمية الثانية منذ بدايتها. وإن كان لهذه القاعدة استثناءات، بحيث جعلت بعض الأميركيين يقولون بأخلاقية الحرب العالمية الثانية، وقد كان مرجعهم في ذلك تحقيق المصلحة الذاتية، التي هي أخلاقية من وجهة نظرهم، من أجل تغليبها على أي شيء آخر.

تاسعًا، يمكننا أن نستنتج أيضًا أن “نظرية الحرب العادلة وأخلاقياتها” قد مرت بعدة مراحل تاريخية؛ يمكننا تسميتها: مرحلة النشأة والتكوين، ومرحلة النضج والبلوغ، ومرحلة الشيخوخة، ثم مرحلة البعث من جديد…الخ، وقد ارتبطت هذه المراحل بالظروف التاريخية التي تسود فيها القيم الأخلاقية أو تندثر؛ مثل: قيمة العدالة، وقيمة السلام، وقيمة الحق….الخ. هذا بالإضافة إلى وجود الاستثناء في كل مرحلة من هذه المراحل.

عاشرًا، توصلت الدراسة إلى أن مراحل تطبيق نظرية الحرب العادلة مرت من الناحية التاريخية بثلاث مراحل: المرحلة الأولى, مرحلة ما قبل تشكل النظام الدولي في صورة دول قومية ذات سيادة، وهي مرحلة عشوائية الحروب، وعدم التقيد بنظام أخلاقي أو قانوني بين الدول وبعضها بعضًا. أما المرحلة الثانية؛ فهي مرحلة الدول القومية ذات السيادة والتي ارتكزت بالأساس على القواعد التي تحكم إدارة الحروب حين نشوبها, وفي هذه المرحلة تم اعتبار الحرب ظاهرة أخلاقية بحيث يجوز للدولة صاحبة السيادة إعلان الحرب- من خلال السلطة الشرعية- على الدولة المعتدية إذا ما توفرت الأسباب التي تؤهلها لخوض الحرب. أما المرحلة الثالثة؛ فهي المرحلة التي تم فيها إدراك طبيعة التحولات السياسية والتكنولوجية الهائلة التي تشهدها العلاقات الدولية, وهو ما بعث لدى الكثيرين الرغبة في إعادة إحياء نظرية الحرب العادلة بشقيها على حد سواء, ولكن على نحو يجعلها ليس فقط أكثر تواجدًا, ولكن أيضًا أكثر استجابة لمستجدات الواقع, وهي مرحلة اتسمت بالأساس بمحاولات فرض القيود على حق الدول في استخدام القوة العسكرية.

الإحدى عشرة، تُعد نظرية الحرب العادلة نظرية ذات قيمة أخلاقية أكثر من كونها قيمة قانونية أو سياسية. ومع ذلك، فرغم النصوص والنظريات التي قُدمت بشأن عدالة الحرب، ورغم إسهامات “لاكي” الذي أضاف ما لم يضفه غيره، ورغم المواثيق الدولية والقانونية بشأن الحرب إلا أن إنّ تحريمها بنصوص واضحة لم يَحُلْ دون تكرارها أو منعها بين الدول أو في مختلف أنحاء العالم على وجه العموم، ناهيك عن أنّ إخضاعها لقوانين عديدة لم يقضِ على التجاوزات التي ترتبط بكلّ نزاع مسلح. ورغم كل هذا إلا أن الأمل في السلم متأصل في طبيعة البشر وسيظل الإنسان السوي يسعى إلى السلم، في الوقت الذي يسعى غيره إلى الحرب، وهكذا في صراع مستمر.

الثانية عشرة، إن الإرهاصات الأولى لنظرية الحرب العادلة تأثرت بالفكر اليوناني والروماني إلى حد ما، بالإضافة إلى علم اللاهوت المسيحي، ناهيك عن أنها تُشتق في الفكر الإسلامي من المصادر الأساسية للتشريع، وبالتالي، وجُدت الصعوبة في بلورتها في قالب واحد، ومن ثمَّ، صعوبة  نقلها بحرفيتها إلى أحكام القانون الدولي العام.

الثالثة عشرة، لم يكن للحرب العادلة سبب واحد عند “لاكي”، وإنما تعددت الأسباب العادلة للحرب، ومن ثمَّ، تعددت قواعدها حتى أصبحت عادلة لكل طرف من أطرافها، وعلى هذا، أمست هذه الأسباب مجرد تبريرات يسوغها القادة بشكل صوري فحسب.

الرابعة عشرة، ينتقل “لاكي” في نظريته عن أخلاقيات الحرب العادلة من رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه الحروب وأخلاقياتها، إلى ما هو كائن أو واقع فيما بين الدول. وعلى هذا، تُعدُّ رؤيته عبارة عن طرح نظري، لمجموعة من المبادئ والأخلاقيات في الحروب والتي تتغير بتغير الواقع وتطوره، يهدف إلى معالجة الواقع من خلال تقييمه وتقويمه.

الخامسة عشرة، إيمان “لاكي” بأخلاقيات وعدالة ما قبل الحرب والذي يتمثل في مجموعة من المبادئ التي يجب الالتزام بها قبل شن الحرب ابتداء، وأثنائها، وبعدها.

السادسة عشرة، ساعد مبدأ التناسب في تطوير مبادئ القانون الدولي الإنساني وظهور الكثير من المبادئ والتي منه مبدأ حظر الآلام والإصابات التي لا مبرر له وحظر الهجمات العشوائية والتي يندرج خرقه ضمن جرائم الحرب. كما يغطي مبدأ التناسب الكثير من النقص وعدم الوضوح في قواعد الحماية المقررة للمدنيين. ناهيك، عن إن تبرير الأطراف المتنازعة بوجود تناسب في استخدام القوة  ممكن أن تؤدي إلى نتائج  مأساوية بالنسبة للمدنيين والأعيان المدنية.

على هذا، يشير مبدأ التناسب فقط إلى حماية المدنيين دون أن يضع العبارات الدقيقة الواضحة التي تعبر عن كيفية حماية مبدأ التناسب لهؤلاء المدنيين. وبالتالي، لابد أن تنشأ قواعد لحماية الإنسانية والاعتبارات المتعلقة بها، بصورة متجددة تواكب القيم التي يهدف المبدأ إلى ترسيخها وحمايتها.

السابعة عشرة، إن أخلاقيات الحرب العادلة عند “لاكي” لم تكن مثالية حالمة ولم تكن واقعية مفعمة، ولكنها جمعت بين المثالية والواقعية في آن، وقد رأينا هذا من خلال عرضنا لتعريفه للحرب العادلة وأخلاقياتها، وعناصرها.

الثامنة عشرة، وفيما يتعلق بالفصل الأخير فقد توصلت الدراسة للنتائج التالية:

1- توصل الباحث إلى أن الشرائع السماوية الثلاث كانت تدعو للسلام في النصوص الدينية، كل بطريقتها. بالإضافة إلى تعارض آيات السلام مع آيات الحرب فيما يتعلق بالشريعة اليهودية والمسيحية.

2- وقوع بعض الفلاسفة؛ كالقديس أوغسطين وتوما الأكويني في تضارب بين الدعوة للسلام والدعوة لمحاربة المخالفين أو المارقين.

3- التضارب في الآيات بين الدعوة للسلام والدعوة للحرب في التوراة والإنجيل.

4- توصل الباحث إلى أن الإسلام كان ولا يزال له السبق في وضع نظرية مكتملة الأركان عن أخلاقيات الحروب العادلة قبل وأثناء وبعد اندلاعها. فقد كانت قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية أسبق في الظهور وأكمل في القواعد والمبادئ والأحكام منها في القانون الدولي الوضعي, فقد عرفت الشريعة الإسلامية التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين والأهداف العسكرية والأعيان المدنية.

5- عدم رجوع بعض الفلاسفة المسلمين إلى الاعتماد على ما ورد في الكتاب والسنة فيما يتعلق بأخلاقيات الحروب- إلا فيما ندر مثل: الجهاد عند ابن رشد وابن خلدون- جعل ما قدموه في هذا الشأن قاصرًا إلى حد كبير. وإن كان من الأولى أن يُدَعِّموا- كفلاسفة- بالأدلة والحجج العقلية ما جاء به الإسلام مع بيان المقاصد والحكمة من هذه النظرية.

6- تمتاز قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية بوجود عنصر الإلزام الذي تفتقر إليه قواعد القانون الدولي الوضعي، فهي في الشريعة الإسلامية عبادة يتقرب بها المسلم إلي ربه، أما في القانون الدولي فآليات المتابعة والمراقبة ضعيفة لا تكاد تشعر بها لأنها بيد الدول ولا يلزمها سوي أخلاقيات ورضاء الدول وهو منعدم في العديد من الحالات، مما جعل قواعد القانون الوضعي ورقية أو نظرية أكثر منها عملية بينما الوضع عكس ذلك تماما في الشريعة الإسلامية.

7- عرفت الشريعة الإسلامية الدفاع الشرعي بصورة دقيقة وموضوعية أفضل من القانون الدولي الوضعي. كما أقرت قبل القانون الدولي الوضعي ضرورة الأخذ بالوسائل السلمية لحل المنازعات الدولية.

8- عرف الإسلام الدفاع الشرعي الجماعي قبل القانون الدولي الوضعي, كما عرف الإسلام حقوق الإنسان والتفرقة بينها في زمن النزاعات المسلحة ووقت السلم، وهناك العديد من الوثائق الإسلامية التي تؤكد ذلك.

وأخيرًا، يمكننا القول: إن نظرية الحرب العادلة وأخلاقيات الحروب ستظل مثار جدل كبير، سببه اختلاف المنطلقات والرؤى الفكرية التي يعتقدها أنصار هذه النظرية أو تلك، والتي من الممكن العمل على التقارب بينها، وليس انصهارها للوصول إلى نظرية جديدة، كما سنوضح في التوصيات التالية.

توصيات الدراسة:

إن ما قدمته هذه الدراسة من أخلاقيات للحروب تجعل الباحث يأمل من شعوب ودول العالم المعاصر أن يعملوا جاهدين على إيجاد آلية تأخذ على عاتقها مهمة تطبيق أخلاقيات الحروب بين الدول بعد تلاشي ما بنظرية الحرب العادلة المعاصرة من عيوب وقصور والاستعاضة عنها بنظرية حرب عادلة جديدة تتوافق مع أخلاق الفطرة الإنسانية أو العالمية، بحيث تصبو إلى تحكيم قوة المنطق، لا منطق القوة حول العلاقات الدولية.

هذا، بالإضافة إلى أن دراستنا لأخلاقيات الحرب العادلة في فلسفة “دوجلاس لاكي” السياسية جعلت الباحث يضع يديه على موضوعات نحن في أمس الحاجة إليها- كشعوب عربية تحديدًا- وكدول ترغب في العيش في عالمٍ خالٍ من الحروب في علاقاتها ببعضها بعضًا على وجه العموم، وقد حالت الدراسة دون الإسهاب في شرحها وتحليلها بالقدر الكاف والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، فيما يتعلق بحاجتنا لها كشعوب عربية؛ موقف الفلاسفة العرب من السلام في الإسلام، والسلام في الإسلام وأثره على القانون الدولي، وأخلاقيات السلام بين الإسلام وميثاق الأمم المتحدة دراسة مقارنة، وأخلاقيات الحروب في الإسلام أحكامها ومقاصدها رؤية فلسفية، الحرب العادلة في التقليد الفلسفي العربي والغربي دراسة مقارنة.

أما، فيما يتعلق بحاجتنا لهذه الموضوعات كدول عالمية فيمكننا أن نبحث في؛ أخلاقيات الحروب المعاصرة بين النظرية والتطبيق من منظور الأخلاق العالمية، أخلاقيات الأسلحة النووية، والكيماوية، والبيولوجية، نظرية الحرب العادلة عند “لاري ماي”، العلاقات الدولية والتناقضات الفلسفية عند “ريمون آرون”، وغيرهم من الفلاسفة المعاصرين.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى