الاجتماعية والثقافيةالدراسات البحثية

التنوع الثقافي في المجتمع الأمريكي “مقاربة انثروبولوجية”

اعداد الباحث : عبد الله أحمد جلال الدين محمد – المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة:

عالمنا ليس عالمًا مؤلفًا من مجتمع واحد، أنما هو عالم مؤلف من مجتمعات مختلفة ذات ثقافات مختلفة، غير أن التنوع الثقافي ليست ظاهرة جديدة، ولربما هي قديم قدم الإنسان، وهناك مصادر مختلفة لظهور التباين الثقافي.

تعود بعض التباينات الثقافية إلى هجرة الأمم والقبائل إلى مناطق أخرى كما كان عند الآسيويين والكاريبيين البريطانيين، والبعض الآخر ذو صلة بالمجاميع التي لديها أقاليم منفصلة كما هو الحال بالنسبة لسكان كندا الأصليين؛ كما أنّ ثمة مطالب بالاعتراف السياسي الرسمي ببعض الفرق الدينية كالآميش في الولايات المتحدة الذين يرفعون لواء الدفاع عن مجتمعاتهم في مقابل ما يسمونه بالثقافة المنحطة للمجتمع الأصلي.[1]

إن التنوع الثقافي لا يقتصر على الاختلاف بين الثقافات أو المعتقدات الثقافية فقط؛ إذ تظهر في المجتمعات البشرية درجات مشهودة من التنوع في الممارسات الثقافية وأنماط السلوك، وأن مفهوم الثقافة هو من أكثر مفاهيم  استخدامًا في علم الأنثروبولوجيا، وعندما نتطرق في حديثنا اليومي إلى (كلمة الثقافة) فإن تفكيرنا يتجه نحو المستويات الإبداعية في المجتمع الإنساني، وبالتالي تعني أسلوب الحياة الذي ينتهجه أعضاء مجتمع ما أو جماعات ما داخل المجتمع، وهي تشمل على هذا الأساس أسلوب ارتداء الملابس، تقاليد الزواج، وانماط الحياة العائلية، أشكال العمل، والاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى وسائل الترفيه والترويح النفس.

ترى المدرسة الانتشارية بأن هناك مساوة بين البشر وتفاوت بين الثقافات، إذ نجد في جميع أنحاء العالم بؤرا ثقافية متقدمة عن غيرها، ولكنها، بالمقابل، لا تعرب عن الثقة نفسها بعبقرية الإنسان وقدرته على التقدم الدائم عن طريق الاختراعات، وبالتالي فإن المدرسة الانتشارية تعتقد أن نمو المجتمعات تتم عن طريق الاخذ والتقليد، وكذلك بفعل الاحتكاكات الثقافية بين الشعوب، ولا تدرس الثقافات باعتبارها نماذج يمثله المراحل المتعاقبة عبر الزمن، بل ترفض اعتبار البشرية بمثابة الكائن الذي ينمو كما تنمو الخلايا المعلقة والمنطوية على حد ذاتها، بحيث تتطور كل منها على حدة مع تقدم الاختراعات كما يدعي مورجان. إذ ترى الانتشارية أن هذه الاختراعات فضلًا عن العناصر الثقافية أو التنوع الثقافي الذي ينتشر من مجتمع لآخر مجاورة لها، إما بفعل الهجرات أو بفعل الحروب، وبالتالي نرى فرانز بواس شدّد على أهمية الهجرات ودوها في انتشار الاختراعات التي تتيح لبعض الثقافات أن تفرض نفسها على غيرها.

سأتناول في هذه الورقة التنوع الثقافي وتعريف مفهوم الثقافة، وقراء نقدية لمفهوم التنوع الثقافي في الولايات المتحدة الامريكية، ومحاولة فهم دور الثقافة في السياسة الأمريكية، وكيف ينظر الأميركيين على التنوع الثقافي؟

مفهوم الثقافة:

إن الثقافة من المصطلحات الأكثر استخدامًا في الحياة اليومية وكثيرًاما نسمعها ونقرؤها، ونستعملها في أحاديثنا مندون أن نعير انتباه لمعناها الدقيق أو نحاول تحديدها تحديدًا علميًا، وكما أنها من الكلمات المطاطة، مثل (الحضارة) و(المعرفة) –والتي كثيرًا ما تستعمل لملء فراغ مفهومي أو معرفي من دون الاهتمام بالدقة في الاستعمال. ومن هنا تبدأ البحث عن تعريف دقيق لهذا الكلمة، ويعود أصل كلمة الإنجليزية للثقافة (Culture) إلى اللاتينية (Cultra) التي تعني التربية. وقد شاع استعمال الكلمة بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر بمعنى تلك القدرة الإنسانية الشاملة على التعلم ونقل المعارف واستخدامها في الحياة، أن مفهوم الثقافة من المفاهيم المركزية التي تعالجها الأنثروبولوجيا في القرن العشرين وبالتالي تشمل كل ظواهر حياة الإنسان خارج نطاق الوراثة البيولوجية، وأن الثقافة كما يراها معظم الباحثين هي شيء إنساني خاص ينفرد به الجنس البشري من الاجناس الأخرى، وهي تشمل السلوك والأشياء المادية التي تصاحب السلوك، وكذلك التراث الذي يشمل اللغة والأفكار والمعتقدات والعادات والرموز والمؤسسات الاجتماعية والأدوات المادية والتقنيات والأعمال الفنية والطقوس والاحتفالات وغيرها من الأشياء الأخرى. فإن الثقافة كما عرفها إدوارد بورنيت تايلور (Edward Burnett Tylor) في (كتابه الثقافة البدائية) (1871م) حيث قال بأنها ” …. تلك الوحدة الكلية المعقّدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون والعادات، بالإضافة إلى أي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع”. وفي كتابه (الأنثروبولوجيا) (1881م) إضافة تايلور أن الثقافة بهذا المفهوم، هي شيء لا يمتلكه الإنسان.[2]

الثقافة عند مالينوفسكي تعني “الكل الذي يضم الأدوات المنزلية والسلع الاستهلاكية والمواثيق العضوية التي تتدبر أمور مختلف المجتمعات البشرية، والأفكار، والفنون، والمعتقدات، والأعراف”. وكما يعرفه روث بنديكت: ” هذا الكل المعقد الذي يشمل على كل العادات المكتسبة من قبل المرء بوصفه عضوًا في المجتمع”. وأيضًا الثقافة تعني نمط حياة يتشارك فيه المرء مع أناس آخرين، أنها تكيف المرء تكيفًا مخصوصًا مع محيطه الطبيعي ومع حاجاته الاقتصادية.[3]

الثقافة كما يعرفه ليفي ستروس، بأنه يمكن اعتبار الثقافة مجموعة أنساق رمزية تتصدرها اللغة وقواعد التزاوج والعلاقات الاقتصادية والعلم والدين، وكل هذه الأنساق تهدف إلى تعبير عن بعض أوجه الحقيقة الطبيعية والحقيقة الاجتماعية، أكثر من ذلك إلى التعبير عن العلاقات التي ترتبط بها كل من هاتين الحقيقتين بالثانية، وتلك التي ترتبط بها الأنساق الرمزية ذاتها بعضها ببعض.[4]

ومع التقدم الحاصل في علم الأنثروبولوجيا، قدم علماء آخرون تعريفاتهم الخاصة لمفهوم (الثقافة) وكانت تلك التعريفات مبنيه على المكتشفات الجديدة في الأنثروبولوجيا كما نجدها عند عالمي الأنثروبولوجيا الأميركيين (أ. ل. كروبر     A. L. Kroeber) وكلايد كلوكون (Clyde Kluckhohn) أثبتا في كتابهما (الثقافة: مراجعة نقدية للمفهومات والتعريفات) حيث قدما…164 تعريفًا يتراوح بين ” السلوك المثقف” إلى “الأفكار في العقل” إلى “التركيب المنطقي” إلى ” آلية الدفاع النفسية”، وما إلى ذلك. إلا أن التعريف المفضل عندهما في هذا الحقل، هو أن الثقافة “عملية تجريدية” أو بعبار أكثر تحديدًا “تجريد مستخلص من السلوك”، ويحاجج كروبر وكلوكون بأن الثقافة هي تجريد بالقول بأنه لو كانت الثقافة بنفسها سلوكًا، لكانت بما هي كذلك موضوعًا لعلم النفس، وبذلك استنتجا بأن الثقافة هي تجريد مأخوذ من السلوك الملموس ولكنها ليست سلوكًا بذاتها، وقد أدى هذا التعريف إلى إثارة تساؤلات حول حقيقة الثقافة بوصفها “مجرد تجديد”، ولا يمكن لشيء مجرد لا وجود له ماديًا في العالم المشاهد أن يكون موضوعًا لعلم وبحث؛ فآنية الفخار واحتفال الزفاف هما شيئان ملموسان محسوسان، وليس تجريديين. وحاول ليزلي وايت (Leslie White) عام 1959م أن يقدم حلًا لهذا الإشكالية في مقالته (مفهوم الثقافة) حيث أكد أن القضية ليست فيما إذا كانت الثقافة شيئًا حقيقيًا أو مجردًا، القضية هي السياق الذي يجري فيه التأويل العلمي.[5]

بما أن الثقافة هي الأفكار والمعتقدات والقيم، فلا بد من أن تتضمن مجموعة هائلة متنوعة من القضايا، وردود أفعال الأفراد حول حدث ما، وإلى وجهات النظر الأخلاقية المجسّدة في ديانة معينة أو في رواية أدبية ما، ومن هذا المنطلق نجد الثقافة في كل مكان حولنا، فعلى سبيل المثال هناك مجموعة هائلة من المنتجات الثقافية المنتشرة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة من كتب ومجلات وصحف وأفلام وبرامج تلفازية وموقع أنترنت، وليس هذا فحسب بل أن طرق نشر هذه المنتجات مذهلة للغاية، فبواسطة شبكات الاتصال الضخمة تصل هذه المنتجات في وقت قصير إلى جميع أنحاء العالم كلها، وبالتالي تتنوع الثقافات في المعمورة نتيجة لهذه التنوع الهائلة في وسائل الاتصال الضخمة لنشرها في المجتمعات الإنسانية، ومما يخلق ثقافة خاصة لكل مجتمع وفي نفس المجتمع نجد مجموعة من التنوع الثقافي أو (التعددية الثقافية).

التنوع الثقافي:

يشير مصطلح التنوع الثقافي عمومًا إلى الاختلاف القائمة بين المجتمعات الإنسانية في الأنماط الثقافية السائد فيها، وقد كان موضوع التنوع الثقافي من المواضيع التي حظيت باهتمام الأنثروبولوجيا، وخاصة فيما يتعلق بتصنيف الثقافات إلى نماذج مختلفة، يمكن معها الإحاطة بالتنوع الثقافي الملاحظ في المجتمعات الإنسانية.[6]

إن القيم والمعايير من العناصر الجوهرية في جميع الثقافات التي تمثل منظومة الأفكار التي تحدد ما هو مهم ومُحبَّذ ومرغوب في المجتمع، وهذه الأفكار المجردة هي التي تضفي معنى محددًا، وتعطي مؤشرات إرشادية لتوجيه تفاعل البشر مع العالم الاجتماعي، فالزواج الأحادي، أي قصْر العلاقات الجنسية على شريك واحد في الحياة يمثل إحدى القيم البارزة في كثير من المجتمعات الغربية. أما المعايير فيهي قواعد السلوك التي تعكس أو تجسد القيم في الثقافة ما، وتعمل القيم والمعايير سويًا على تشكيل الأسلوب الذي يتصرف به أفراد ثقافة ما إزاء ما يحيط بهم، ففي الثقافات التي تُعلى من قيمة التعليم على سبيل المثال، فإن المعايير تُشجع الطلبة على تكريس جانب كبير من طاقاتهم للدراسة، كما أنها تحفز الوالدين على التضحية بجانب كبير من الجهد والمال لتعليم أبنائهم، وفي الثقافات التي تُعلى من شأن الكرم وحُسن الضيافة فإن المعايير الثقافية قد تؤكد التوقعات بتقديم الهدايا مثلما تُشدد على أنماط السلوك الاجتماعي لدى كل من الضيوف والمضيفين.[7]وبالتالي تتفاوت القيم والمعايير من مجتمع لآخر وحتى في المجتمع الواحد نتيجة لاختلاف الثقافة، وأن التنوع الثقافي التي تشكل مجتمع ما ترتكز على القيم والمعتقدات والممارسات الفريدة لكل جماعة داخل المجتمع الواحد، ولا توجد ثقافة في أي مجتمع من المجتمعات بدون اختلافات (التنوع) وتكون الاختلاف في الدرجة وليس في النوع، أي أنها اختلافات في بضع درجات مئوية، وفي نفس الوقت هناك أوجه التشابه في القيم والمعتقدات التي تشكل الثقافة المجتمع مثل الولايات المتحدة الامريكية التي تحتوي على تنويعة من أنماط الحياة الذي يتجسد فيها التنوع الثقافي للمجتمع الأمريكي.

التنوع الثقافي في المجتمع الأمريكي:

يرى الأجانب والمواطنون على حد سواء أن الولايات المتحدة الامريكية مكان ساحر وجذّاب، فبالنسبة إلى أولئك الذين يأتون من الخارج تُمثّل الولايات المتحدة الامريكية مجموعة من المشاعر؛ تتراوح بين مشاعر الإعجاب بسبب ديناميتها ومشاعر البغض تجاه طموحاتها الإمبريالية الصريحة؛ إذ تمّ تصويرها على أنها النموذج الأمثل للعالم أو لما يجب أن يكون عليه، وهي أيضًا مثال دقيق لما على المجتمعات أن تتفاداه في تنظيمها. أما بالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة الامريكية فإن تنوع المجتمع والتعددية فيه تدفعهم للتأمّل في ماهية، أمريكا، وتمثّله، وما يعنيه أن يكون المرء مواطنًا أميركيًا.

تعتبر أميركا جزءًا من العالم الجديد الذي استعمرته أوروبا (على حساب السكان الأصليين)، وتم بناء أميركا، نوع ما، من لا شيء، وعلى الرغم من أن سكانها كانوا مدينين لأسلافهم (الأنغلو ساكسون بشكل رئيسي) بوجود بعض العادات الثقافية، إلا أنهم كانوا يعيشون نمطًا حياتيًا يتميز، بطرائق عدة، عن نمط الحياة في المجتمعات الأوروبية. تحرر السكان المستعمرات من سيطرة الحكومة الإنجليزية في عام 1776م، وأسسوا نظامًا جديدًا يرتكز على دستور ديمقراطي احتفظ بقدسية حقوق الفرد ضد تدخل الآخرين، جاعلًا من حرية التعبير وحرية الاعتقاد ركائز أساسية للحياة الأميركية، بخلاف أوروبا حيث كان حكم الملوك مازال مهيمنًا، تسس أميركية الديمقراطية على مبدأ المساواة التي تعادل أهمية مبدأ الحرية، فلاكهما مهم لفهم القانون الأمريكي، ولفهم الأميركيين للظروف الاجتماعية التي يعيشون في ظلها، وقد لاحظ توكفيل أن أساس واقع الحياة الأميركية هو المساواة بين معظم الناس من حيث الثروة والوضع الاجتماعي، والذي جعل من أميركا لاحقًا من اقوى دول العالم.[8]

إن الأنثروبولوجيون الأميركيون يفكرون بقلق حول الدراسات الثقافية كتهديد لاحتكارهم الأكاديمي؛ فإن العديد يعتبرون التعددية الثقافية (التنوع الثقافي) بالأحرى فرصة، ومع ذلك فإن هذه الأخيرة قد تمثل تحديًا أكثر إفسادًا، لكونها ترجمة سياسية لبعض الأفكار الأساسية حول الثقافة، ويجب أن نُقرّ على الفور بأن التعددية الثقافية ليست بالحركة الاجتماعية المتماسكة؛ فبعض المتعاطفين سيزدرون بهذا الصنف ويستطيع المرء أن يفرق بين أولئك الذين يوصفون بأنهم أتباع التعددية الثقافة ما بين مدارس وزمر ونزاعات، فتيرينس تيرنر (Terence Turner) مثلًا يقارن ما بين التعددية الثقافية مبنيه على الاختلاف (يجب أن يُنظر إليها بدونية) وبين تعددية ثقافية نقدية يجد أنها تستحق الإعجاب، فالتنوع المتعدد ثقافيًا ينظر إلى الداخل وهو محشو بالغرور حول أهمية نوع خاص من الثقافة وحول ادعائها التفوق. أما التعددية الثقافية النقدية فهي على النقيض ذات نظرة خارجية منظمة لتحدي التحاملات الثقافية لطبقة اجتماعية مسيطرة وهي منكبة على تعرية عورة الحديث المهيمن غير الحصينة. ويلاحظ تيرينس تيرنر أن تطور الدراسات الثقافية له أثر بصورة مباشرة في نشو تعدد الثقافي، والدراسات الثقافية مرتبطة بصورة مشابهة بالثقافات الفرعية والأوساط الإعلامية وأساليب تمثيل المجموعات على حدود الطبقات المهيمنة ومجموعة المنزلة المتميزة في المجتمع والأميركي.[9]

إن الهدف المشترك هو استبدال أيديولوجية وعاء الانصهار الأميركي بما هو في الواقع أيديولوجية تعاكس الاستيعاب؛ فأتباع التعددية الثقافي يرفضون المنظور القائل أنالمهاجرين يجبأن يستوعبوا في التيار الأميركي الرئيسي، ويذهبون إلى حد إنكار وجود تيار رئيسي، وإنكار أن جميع الأميركيين الحقيقيين يشاركون في المثل العليا للطموحات، وعلى النقيض من ذلك، فإن أميركا التعدد الثقافي متشظية ثقافية، ولكن هم لا يعتبرون هذا مشكلة في حد ذاته. إن المشكلة ليست في وجود الاختلافات بل لأنها تعامل بازدراء كانحراف عن المعيار؛ فالثقافة المهيمنة (بيضاء، انكلو، طبقة وسطى، ذكورية، وعلى ذلك النحو) تفرض قواعدها على كل شخص آخر، ويوصم بقية السكان لكونهم مختلفين، فاختلافهم تعرف بهم: فهم ليسوا من الجنس الأبيض وليسوا من أصول إنجليزية وليسوا من الطبقة الوسطى وليسوا مثليين جنسيًا. ويترجم تعدد الثقافات هذه إلى برنامج سياسي جازمين بحق أن تكون مختلفًا وبقيمة الاختلاف، ويجب أن يمنح كل حيز ثقافي قدرًا جيد من حق تقرير المصير إضافة إلى صوت مساوٍ في العلاقات الجماعية.

إن النقاشات في أميركا حول الثقافة والهوية قد ألهمتها الاهتمامات بالهجرة، وكان النقاش في الخمسينيات والستينات حول العرق وليس الهجرة، وموقع الأفرو أميركيين في المجتمع على وجه الخصوص، وقد أثيرت أسئلة محرجة عن واقع الحقوق المدنية في أميركا وعن تقبل الغالبية استيعاب الأقلية، واحتمال قيام الأفرو أميركيين بتأسيس أمه منفصلة لأنفسهم، والسياسات الثقافية في الثمانينيات والتسعينيات كانت أكثر اهتمامًا بأصناف الناس الذين يختلفون جدًا لأول وهلة عن المجموعات المهاجرين أو الاميركيين الأصليين أو الاميركيين السود، أن كل هذه الأقليات القديم منها أو الجديد، في موقف متشابه، رغم أن كون الإنسان أسود في أميركا يبدو أمرًا مختلفًا عن كونه يهوديًا أو يتكلم الإسبانية أو قد يكون سُحاقيًا، والخاصية البديهية المميزة لهذه الأقليات قد اصبحوا مرئيين في زمن متأخر رغم الإقرار في بعض الأحيان بأنهم أصنافًا مثل “المثليين” و”المسلمين السود” كانوا موجودين قبل أن يعترف بهم حتى ممن ينتمون إليهم.[10]

إن الثقافة والهوية مصنوع ومخترع وأنها تركيبات استطراديه غير مستقرة، وكل ثقافة تتصف بالخلاف الداخلي وذات مساميّة، والبحث عن الهوية ليست إلا كفاحًا يائسًا وجوديًا لتجمع أسلوب حياة يمكن إدامة ولو لبرهة قصرة، وعلى الرغم من الاختلاف إلا أننا لا نستطيع الاستغناء عن أشياء مثل الأفكار عن الثقافة والهوية، وينكر الأنثروبولوجيون الأميركيون المعاصرون الأفكار الشعبية القائلة إن الاختلافات أمر طبيعي، وأن الهوية الثقافية يجب أن تعود بأصلها إلى الهوية البيولوجية الأولية، ونجد الكثير من الأميركيون الذينيلجأون إلى الهوية الثقافية والاختلاف الثقافي (التنوع الثقافي) بالضرورة، عن فكرة العرق لصالح الثقافة فهم يميلون بالأحرى إلى افتراض أننا ” فقط حين نعرف إلى أي عرق ننتمي نستطيع القول أية ثقافة هي ثقافتنا”.[11]

إن التعددية الثقافية هو مبدأ الاختلاف الذي يبدو في بعض الأوقات أنه القيمة الوحيدة التي لا خلاف عليها، وتمثل الثقافة بالنسبة إلى جميس كليفورد القوة المستمرة للمجموعات لتحقيق اختلاف حقيقي، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نحتفظ بمفهوم الوظائف المختلفة والنسبية. اقترح ليفي ستراوس أن معظم الناس يصرون على فردانيتهم وعلى اختلافهم عن الآخرين ويميلون إلى اعتبار عادات الآخرين بشعة ومخزية وأن أصحابها ليسوا بشرًا كاملين، وقد حث ليفي ستراوس الأنثروبولوجيين على إظهار أن الاختلافات بين الشعوب لا يجب قياسها على مقياس واحد، لأن القيم تختلف ثقافيًا، وحثهم كذلك على القيام بتوكيد أن الاختلافات الإنسانية مسجلة في أساس مشترك – أن مقياس الاتساق الإنساني هو في قابليتنا المشتركة على التعلم وعلى الاقتباس والاستيعاب، فكل ثقافة هي ثقافة تعددية (فكل الثقافات هي نتيجة الخبط غير المنظم والاستعارات والمزج الذي حدث منذ زمن طويل رغم أنه على وتائر مختلفة).

إن النظريات المبكرة على سبيل المثال الانتشارية والتطورية كانت لهم دورًا كبير في دراسة الثقافات (التنوع الثقافي)، ولكن اليوم في ظل التطور والتقدم الذي نراها، وخاصة في ظل النظام الرأسمالي اللبرالي، لم تعد النظريات المبكرة قادرة على تحليل الظواهر الثقافية، وبالتالي فإن النظريات الحديثة عن الثقافة تعيد تدوير النظريات المبكرة وتتوجه لأغراض سياسية كما نجده في كثير من دول العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الامريكية التي تتمتع بالتعددية في الهويات الثقافية، وكثيرًا  ما تم استخدمها في السياسة الامريكية وخاصة في فترة الانتخابات الرئاسية، والدليل على ذلك الانتخابات الأخيرة، استخدم فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تمييز ضد الأقليات في اميركا، مثل قرار  بتعليق دخول المسلمين إلى اميركا وملاحقة المهاجرين غير الشرعيين وإعادتهم إلى بلدانهم.

خاتمة:

من العسير أن نعتمد على تعريف واحد لثقافة، وبالتالي هناك مجموعة من التعريفات يكمل كل واحد منهم الآخر، فعلى سبيل المثال تعريف كروبر وكلوكون قدما صيغة تشتمل على معظم العناصر التي حظيت بموافقة الكثير من علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، فالثقافة تتألف من أنماط مسترة أو ظاهرة للسلوك المكتسب والمنقول، عن طريق الرموز فضلًا عن الإنجازات المتميزة للجماعات الإنسانية، ويتضمن ذلك الأشياء المصنوعة.

إن ظهور التنوع الثقافي في المجتمعات الإنسانية نتيجة لعمليات الهجرة، والاستعمار والحروب والعولمة إلى انتشار سكان الأرض وانتقالهم من أوطانهم عبر الحدود للاستقرار في مناطق جديد، وأدّى ذلك إلى ظهور ثقافات تَوليفيّة مركبة ينتسب الأفراد والجماعات إثنية، ولغوية متنوعة، في أوساط المدن الحديثة الكبرى، والثقافات الفرعية لا تُشير إلى الجماعات الإثنية واللغوية في المجتمع فحسب، بل يُمكن أن تدل على شرائح سكانية تميزها أنماطها الثقافية عن بقية المجتمع، مثلًا ثقافة العرب أو الأمريكيين السود في المجتمع الأمريكيوغيرها من الثقافات الأخرى.

إن الحياة في المجتمع الأمريكي يتصف بالتعددية الثقافية سوءًا كانت باتجاه النزعة الفردية أو باتجاه النزعة الجماهيرية وبذوبان الفرد في المجموعة، وأن التنوع الثقافي في أميركا هي نتيجة لتنوع في الحياة الاجتماعي لكل المدن الأمريكية والمجتمع بشكل عام، وبالتالي تصبح الثقافة الجماهير غير متجانسة من حيث منتجاتها، وبالتالي فإن وجود أشكال ثقافية متنوعة، تشمل هذه الأشكال ثقافة (وطنية) تعتمد على الإيمان بالديمقراطية، وثقافات محلية تدور في فلك شبكة من الأصدقاء والعائلة والجيران، وقيم ثقافية فرعية تعتمد على رفض مثاليات الطبقة الوسطى، ومجموعة أذواق تعتمد على الخلفية الإثنية أو الطبقية التي تُعد أساس الاختلافات في الثقافة الأمريكية، ورغم التعددية الثقافية (التنوع الثقافي) الذي تشكل المجتمع الأمريكي جعلت من أميركا دولة من الدول العظماء في العالم.

قائمة المراجع:

  • البهشتي على رضا الحسيني، الأسس السياسية (في المجتمعات التعددية) تعريب، عبد الرحمن العلوي، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت 2006.
  • كوبر آدم، الثقافة التفسير الأنثروبولوجي، ترجمة، صباح صديق الدملوجي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012.
  • كوش دنيس، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة، منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت مارس 2007.
  • كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة، محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ديسمبر2009.
  • لومبار جاك، مدخل الأثنولوجيا، ترجمة، حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي.
  • غيث محمد عاطف، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 2006.
  • غدنز أنتوني، علم الاجتماع، ترجمة، فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005.
  • ديفيد إنغليز وجون هيوسون، مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة، ترجمة، لما نصر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2013.

[1]على رضا الحسيني البهشتي، الأسس السياسية (في المجتمعات التعددية) تعريب، عبد الرحمن العلوي، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت 2006، ص،10

[2]كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة، محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ديسمبر2009م، ص، ص، 7، 8.

[3]جاك لومبار، مدخل الأثنولوجيا، ترجمة، حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، ص، ص، 153، 154.

[4]دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة، منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت مارس 2007م، ص 78.

[5]كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة، محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ديسمبر2009م، ص، 9.

[6]محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 2006، ص، 96.

[7]أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة، فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص، 83.

[8]ديفيد إنغليز وجون هيوسون، مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة، ترجمة، لما نصر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2013، ص، 99.

[9]آدم كوبر، الثقافة التفسير الأنثروبولوجي، ترجمة، صباح صديق الدملوجي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، ص، ص، 346، 348.

[10]نفس المرجع، ص، 350.

[11]آدم كوبر، الثقافة التفسير الأنثروبولوجي، ترجمة، صباح صديق الدملوجي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، ص، ص، ص، 366، 368، 369.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى