مقالات

علاقتنا بالثقافة…كيف ولماذا؟

بقلم : فاطمة لمحرحر  – باحثة في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية المعاصرة – كلية الحقوق فاس

 

 

 

قيل إن الانسان يولد مرتين، الاولى من بطن أمه والثانية من رحم التربية والثقافة، مما يعني أن للانسان ولادة ثقافية تميزه عن سائر الحيوانات، بها يحقق انسانيته ويتحقق اجتماعيا.[1] ولعل ما يقال هنا عن الانسان يجري على المجتمع كذلك، فبعد ولادة تاريخية يولد المجتمع مرة ثانية بالثقافة، وبها يحيا ويتقدم. فالثقافة التي نومئ إليها في هذا الموضوع لا تقتصر كما جرت العادة قديما على علوم اللغو وفنونها، والادب وفروعه، و لا على ما يسمى اليوم بالعلوم الانسانية، ولا على “ما يبقى لدى الانسان بعد أن ينسى كل شيء” جسب تعبير الاديب الفرنسي “اميل هيريو”. إن الثقافة التي نحن بصددها هي، كما حدد معناها علماء الانتروبولوجيا، أعمق وأعم من ذلك، حيث تشمل الانتاج الفكري والمادي الذي حققه الانسان خلال تاريخه الطويل من علوم وفنون وتقنيات وتكنولوجيات، وأنساق فلسفية و أخلاقية، وتقاليد وعادات وغيرها. أو بعبارة مختصرة: الثقافة هي التراث البشري الذي لا ينتقل إلى الانسان عبر الوراثة البيولوجية، بل بواسطة التعليم والتحصيل والممارسة والتجريب العلمي وتجارب الحياة.

كانت الثقافة وستبقى مرادفة لعملية الوعي والبناء والحرية، وتوظيف إمكانات الانسان في سبيل مشروع أسمى وأرقى. وهي بحث مستمر عن هذا المعنى المتأصل في وجود الإنسان المتجذر في مختلف مستويات تجربته الانسانية. والثقافة، بهذا المفهوم هي القنطرة الضرورية والجسر الذي لا غنى عنه في أي مشروع ينشد التقدم للامة. فهي التي تنقل مفاهيم التقدم الحضارة، من منطقة العاطفة إلى منطقة العقل، ومن ردود الافعال إلى الفعل، ومن التطلع المجرد إلى الفعل المتواصل لصناعة الحقائق والوقائع. وبهذا تبقى الثقافة مركز الثقل الحقيقي في عمليات البناء والنهضة. حيث إن الامم جميعا باختلاف مفاهيمها الاديديولوجية، وأطرها المعرفية، وخصائصها الراهنة، وتطلعاتها المستقبلية، تتعاطى مع الثقافة بمستوياتها المتعددة، باعتبارها القوة القادرة على إنجاز التطلعات، وإحداث التحول النوعي في مسيرتها ومسارها. فالثقافة هي سبيلها إلى القوة الذاتية، القادرة على مجابهة تيار التحولات الكبرى التي تجري في العالم على مختلف الصعد والمستويات. فهي التي توفر لنا الاسباب الذاتية لصياغة إرادة جمعية تتعاطى بفعالية وإيجابية مع تحولات العالم وتطوراته. وهي التي تنظم مساحة الاولويات للمجتمع والامة، بحيث تتجه الجهود والطاقات إلى الاولى والاهم.

إن القول بوجود ثقافة كونية منسجمة، ستكون نهاية الثقافة. ما هو أكثر كونية فيما يخص الثقافة، هو التنوع، فلا توجد ثقافة مغربية موحدة و ثقافة عربية موحدة ولا ثقافة إسلامية موحدة. إننا نشعر بمقصد الثقافة عند مستوى الفرد، ويقاس هذا المقصد بدرجة الحرية التي يكسبها ويتمتع بها. لهذا فإن لكل ثقافة بيئة محلية وتاريخية ومجتمعية، ولها توازناتها الذاتية المستمدة من معطى المنابع والمصادر الاصلية لهذه الثقافة، ومعطى الواقع وتفاعلاته، لذلك فإن لكل ثقافة شخصية متميزة عن الثقافات الاخرى. وعلى هذا لا تكون الثقافة ماهية ثابتة جامدة، كما يرى الانثربولوجيون، وإنما علاقة تفاعل مستمرة ومفضية إلى تطور في الثقافة والمجتمع.

وإن مفهوم الثقافة لم يفتأ يتطور حتى غدا يعني منظومة من القيم الفكرية والسلوكية، الفاعلة في تحقيق التطابق بين الانسان ومجتمعه، والتواصل بين ماضيه وحاضره، بل ويتصدر كل العوامل المؤثرة في تحريك المجتمعات وتطورها، أو في الحفاظ على هويتها وخصوصياتها، في خضم صراع الحضارات وتنوع أشكال التنميات، وهكذا أصبحنا نلاحظ من خلال ما يعشيه عالمنا المعاصر من تحولات عميقة وتيارات متناقضة أن الظواهر السياسية والاجتماعية ليست سوى تجليات ثقافية في عمقها من قبيل الحركات الاصولية الدينية، وصراع العولمة مع الخصوصيات الثقافية، والنقاش حول الهوية الوطنية، لكننا نلاحظ في نفس الوقت أن الثقافة تظل عصية التحديد، حيث يواجه الباحث في حصر مقوماتها وتمظهراتها صعوبة منهجية، نظرا للاتساع تداولها، وتعدد ومفاهيمها وتداخل تجلياتها وتشعب الاراء حولها.

كثيرة هي المؤشرات التي تدل على أنه من المحتمل جدا أن ما يعرفه العالم اليوم من معاناة موجعة ستزداد حجما وخطورة أكثر في السنوات المقبلة، مؤشرات لها صلات وثيقة بالتحولات المناخية والتنافسية الجيوستراتيجية والنزاعات الاجتماعية، في علاقتها بشتى أنوع الهجرة والتغيرات الديمغرافية والهزات الاقتصادية والمالية، بالاضافة إلى للصراعات ذات النبرة الاقليمية والعقدية والطائفية. ليس المراد من ذلك التنبيه إلى هذا الافق المقلق هو تغليب النظرة السوداوية على ما ينبغي أن نتحلى به من تفاؤل وثقة في انتصار القيم الانسانية على قوى الظلام والدمار. من المؤكد أن التوجه العالمي الداعي إلى الاهتمام بالثقافة نابع من وعي عميق بأن الصناعة مهما بلغت من الذروة تبقى غير قادرة على بناء مجتمع متطور ومتكامل. فلا مناص بالتالي من اعتماد مقاربة اخرى تعضد مساهمة الثقافة في تشكيل الوجه الجديد للمجتمعات الحديثة ليس فقط من خلال ترقية تراثها المادي واللامادي، وإنما ايضا من خلال دعم توجهها نحو اقتصاد المعرفة.

وأخيرا يمكننا القول، أن تأثير الثقافة يبقى مستمرا باستمرار الانسان ووجوده، لان الميزة الكبرى في العنصر البشر أنه كائن ثقافي يحمل منظومة الرموز الثقافية معه، وهذا ما يميزه من الموجودات الاخرى.

لائحة المراجع:

المهدي المنجرة، قيمة القيم، الطبعة الثالثة، الدارالبيضاء، 2008.

الثقافة المغربية ورهانات التنمية، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة ندوات، الرباط، دجنبر 2014.

محمد محفوظ، الحضور والمثقافة المثقف العربي وتحديات العولمة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000.

مصطفى بولحيا، الاتصال الثقافي والتربية في عصر العولمة، المستقبل العربي، العدد 457، مارس 2017.

– صاحب القول بالولادتين هو الفيلسوف كانط.[1]

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى