البرامج والمنظومات الديمقراطيةالدراسات البحثية

الانتخابات التشريعية في الجزائر 4 ماي 2017: دراسة تحليلية

اعداد : د. لقرع بن علي  – أستاذ العلوم السياسية، جامعة مستغانم (الجزائر)

  • المركز الديمقراطي العربي

 

ملخص:

تعد الانتخابات التشريعية التي جرت في الجزائر يوم 4 ماي 2017 موعدا هاما بالنسبة للنظام الحاكم، فهي فرصة لتجديد الغرفة السفلى للبرلمان، وهي فرصة كذلك لإعادة تشكيل المشهد السياسي تحضيرا للانتخابات الرئاسية سنة 2019. وقد جاءت هذه الانتخابات في ظل ظروف داخلية وخارجية مختلفة عن ظروف الانتخابات التي سبقتها. فانتخابات 4 ماي أجريت في ظروف التقشف الاقتصادي، وفي ظل التعديل الدستوري الذي تضمّن استحداث الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات، وهي أول انتخابات تنظّم بعد تفكيك مديرية الاستعلام والأمن، وفي نفس الوقت تشهد المنطقة العربية تراجعا للثورات العربية ونجاح الثورات المضادة، وانتشار الحروب داخل بلدان الثورات. ولهذا، فإن نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 4 ماي 2017 توحي أن النظام الحاكم في الجزائر سيجعل من الانتخابات التشريعية وسيلة لإدارة الواقع والمحافظة على استمراره.

الكلمات المفتاحية:

الانتخابات، البرلمان، قانون الانتخاب، الجزائر

مقدمة:

شهدت الجزائر يوم 4 ماي 2017 انتخابات تشريعية لاختيار مجلس شعبي وطني جديد للعهدة التشريعية 2017-2022، وهي سادس انتخابات تشريعية تنظم في الجزائر منذ التحول نحو التعددية الحزبية في نهاية الثمانينيات. لكن هذه الانتخابات هي خامس انتخابات تشريعية تعقد في موعدها المحدد بعد إعادة البناء المؤسساتي على إثر دستور 1996، لأن الجزائر شهدت في بداية التسعينيات توقيف المسار الانتخابي سنة 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بانتخابات 26 ديسمبر 1991. ولهذا يلاحظ حرص السلطة الحاكمة على تنظيم الانتخابات التشريعية في وقتها المحدد حيث قامت السلطة بتنظيم انتخابات تشريعية في سنوات 1997، 2002، 2007، 2012، وأخيرا في سنة 2017.

تكمن أهمية هذه الدراسة في كونها تسلط الضوء على موعد انتخابي هام بالنسبة للنظام السياسي في الجزائر، حيث جاءت هذه الانتخابات في ظروف داخلية وخارجية حساسة بالنسبة للدولة، وفي نفس الوقت تتعلق هذه الانتخابات بإعادة تشكيل الغرفة السفلى للبرلمان الجزائري، حيث تكتسي هذه الغرفة مكانة هامة داخل النظام السياسي باعتبار أنها جزء من السلطة التشريعية، ورئيسها يحتل المرتبة الثالثة من حيث المكانة بعد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الأمة. من جهة أخرى، جاءت هذه الانتخابات على بعد سنتين من الانتخابات الرئاسية سنة 2019، وبالتالي فإن نتائج الانتخابات التشريعية ستلقي بإفرازاتها على الحياة السياسية خلال الفترة ما بين 2017-2019.

بناء على ذلك، تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عن الإشكالية المتعلقة بمدى تأثير نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2017 على النظام السياسي في الجزائر إلى غاية الانتخابات الرئاسية 2019. وبالتالي، البحث عن مدى فعالية هذه الانتخابات في تغيير المشهد السياسي الجزائري أم هي فرصة لإدارة الواقع السياسي القائم وإعادة إنتاج نفس النظام السياسي.

  1. الظروف البيئية للانتخابات التشريعية:

جرت الانتخابات التشريعية في ظروف تختلف عن الظروف التي عرفتها المواعد الانتخابية السابقة، فانتخابات 4 ماي 2017 تعد أول انتخابات تنظم في الجزائر بعد إقالة اللواء محمد مدين المدعو توفيق، من قيادة جهاز الاستخبارات (مديرية الاستعلام والأمن) في سبتمبر 2015، حيث كان أغلب الدارسين والفاعلين في المشهد السياسي الجزائري يشير إلى تدخل هذا الجهاز في تنظيم الانتخابات وترتيب نتائجها، بل إن الكثير من يعتبره صانع الرؤساء في الجزائر. وهي أول انتخابات كذلك، تنظم بعد إعادة هيكلة جهاز المخابرات، حيث تم تفكيك مديرية الاستعلام والأمن (drs) في يناير 2016، واستبدالها بمديرية المصالح الأمنية (dss) يشرف عليها اللواء بشير طرطاق كمستشار في رئاسة الجمهورية ومنسق للمصالح الأمنية التي لم تعد تابعة لوزارة الدفاع مثلما كان عليه الحال سابقا، بل أصبحت تابعة لرئاسة الجمهورية.

من جهة أخرى، تعد انتخابات 4 ماي 2017 هي أول انتخابات تنظّم في العهدة الرابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، هذه العهدة التي أثارت جدلا كبيرا بخصوص مدى قدرة الرئيس على مزاولة نشاطه كرئيس للدولة، وخلقت انسدادا سياسيا بين السلطة الحاكمة والمعارضة. وفي هذا الإطار، شهدت الجزائر حراكا واسعا للمعارضة توّج بإنشاء تنسيقية الانتقال الديمقراطي سنة 2014، لكن مع مرور الوقت تراجع نشاط المعارضة وتمكّنت السلطة الحاكمة من اختراق صفوفها وإحداث شرخ بين مكونات التنسيقية، وتجلى ذلك في عدم اتفاق أحزاب المعارضة على موقف موحّد من الانتخابات التشريعية. ففي الوقت الذي أعلن فيه كل من حزب جيل جديد بقيادة سفيان جيلالي، وحزب طلائع الحريات بقيادة علي بن فليس عن عدم مشاركتهما في الانتخابات، نجد أن باقي أحزاب المعارضة شاركت في هذا الموعد الانتخابي.

إن الانتخابات التشريعية لسنة 2017 جاءت في ظروف اقتصادية صعبة تمر بها الجزائر على إثر انخفاض أسعار النفط منذ منتصف سنة 2014، حيث بقيت الأسعار خلال سنة 2016-2017 تتراوح بين 45 إلى 55 دولار للبرميل. وقد أدى هذا الانخفاض إلى تراجع المداخيل المالية للدولة، وبالتالي لم يعد بإمكان السلطة الحاكمة مواصلة الإنفاق الضخم وشراء السلم الاجتماعي، بل وجدت نفسها مضطرة لإتباع سياسة التقشف وترشيد النفقات العمومية، وفي نفس الوقت استعمال احتياطي الصرف الذي انخفض  بشكل مخيف من 190 مليار دولار سنة 2014 إلى 100 مليار دولار سنة 2017. وقد تزامن هذا التأزم الاقتصادي مع حراك اجتماعي واحتجاجات شعبية معارضة لسياسة التقشف، والمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية.

وعلى المستوى الخارجي، تزامنت انتخابات 4 ماي 2017 مع تراجع الثورات العربية، ونجاح الثورة المضادة في مصر. بل أصبح الوضع العربي تغلب عليه الحروب في ليبيا وسوريا واليمن، وتصاعد تنظيم داعش الذي فتح المجال واسعا للتدخل القوى الدولية والإقليمية في بلدان الثورات العربية لاسيما في سوريا. وقد انعكس هذا الوضع المأساوي العربي بشكل سلبي على نفسية المواطنين الجزائريين، وفي نفس الوقت أدى إلى تنامي خطاب التخويف لدى السلطة الحاكمة في الجزائر بهدف كبح أي مسعى للمطالبة بالتغيير السياسي. 

  1. الإطار الدستوري والقانوني لتنظيم الانتخابات:

نظمت الانتخابات التشريعية بعد مرور سنة كاملة على إقرار التعديل الدستوري في سنة 2016، وهي أول انتخابات تنظم في الجزائر في ظل الدستور الجديد. ولهذا، هناك الكثير من المتابعين للشأن السياسي الجزائري وكذلك الأحزاب السياسية، الذين اعتبروا أن الانتخابات التشريعية 2017 تعتبر امتحانا لمدى صدقية الإصلاحات الدستورية التي بادرت بها السلطة الحاكمة في الدستور الجديد.

لقد تضمن هذا الدستور فصلا منفردا يتعلق بمراقبة الانتخابات، حيث ألزم السلطات العمومية المكلفة بتنظيم الانتخابات بإحاطتها بالشفافية والحياد، وبهذه الصفة، توضع القائمة الانتخابية عند كل انتخاب تحت تصرف المترشحين[1].

من جهة أخرى، استحدث الدستور الجديد هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات، ترأسها شخصية وطنية يعينها رئيس الجمهورية، بعد استشارة الأحزاب السياسية. وتكون لهذه الهيئة لجنة دائمة، وتنشر أعضاءها الآخرين فور استدعاء الهيئة الانتخابية. وهي تتكوّن بشكل متساو من قضاة يقترحهم المجلس الأعلى للقضاء، ويعيّنهم رئيس الجمهورية، وكفاءات مستقلة يتم اختيارها من المجتمع المدني يعينها رئيس الجمهورية. وقد أوكل الدستور للهيئة العليا مهمة السهر على شفافية الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية وكذا الاستفتاء ونزاهتها، منذ استدعاء الهيئة الناخبة حتى إعلان النتائج المؤقتة للاقتراع. وتسهر اللجنة الدائمة للهيئة على الإشراف على عمليات مراجعة الإدارة للقوائم الانتخابية، وصياغة التوصيات لتحسين النصوص التشريعية والتنظيمية التي تحكم العمليات الانتخابية، إضافة إلى تنظيم دورة في التكوين المدني لفائدة التشكيلات السياسية حول مراقبة الانتخابات وصياغة الطعون[2].

إن استحداث هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات جاء كرد فعل على مطالب المعارضة المتكتلة في تنسيقية الانتقال الديمقراطي بعد الانتخابات الرئاسية سنة 2014، حيث طالبت أحزاب المعارضة بتشكيل لجنة مستقلة عن الإدارة لتنظيم الانتخابات تفاديا للتزوير حسب تعبير هذه الأحزاب. ولهذا، استغلت السلطة الحاكمة فرصة تعديل الدستور وقامت باستحداث هيئة عليا لمراقبة الانتخابات بهدف احتواء مطالب المعارضة، ومحاولة إبداء حسن نيتها في تنظيم انتخابات شفافة، ومن جهة أخرى، حاولت السلطة بهذا الإجراء تقسيم صفوف المعارضة المتكتلة، خوفا من اتخاذها موقفا موحدا بمقاطعة الانتخابات، الأمر الذي يؤثر في مصداقية الانتخابات لدى الرأي العام المحلي والدولي.

بموجب الدستور الجديد، صدر قانون عضوي رقم 16-11 مؤرخ في 25 أوت 2016، يتعلق بالهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات. وقد تضمّن هذا القانون أن هذه الهيئة تتشكل من الرئيس مع 410 عضوا يعينهم رئيس الجمهورية. وحدد الشروط الواجب توفرها في عضو الهيئة العليا بعنوان الكفاءات المستقلة من المجتمع المدني، حيث اشترط أن يكون ناخبا، وأن لا يكون محكوما عليه بحكم نهائي لارتكاب جناية أو جنحة سالبة للحرية، ولم يرد اعتباره باستثناء الجنح غير العمدية، وأن لا يكون منتخبا، وأن لا يكون منتميا لحزب سياسي، وأن لا يكون شاغلا لوظيفة عليا في الدولة. ويراعى كذلك في تشكيل الهيئة العليا بعنوان الكفاءات المستقلة التمثيل الجغرافي لجميع المحافظات والجالية الوطنية في الخارج. وفي نفس الوقت حظر القانون على عضو الهيئة العليا المشاركة في كل النشاطات التي تنظمها الأحزاب أو حضورها، باستثناء الحالات التي يزاول فيها مهامه الرقابية المنصوص عليها في القانون[3].

لقد منح القانون للهيئة العليا مجموعة من الصلاحيات قبل الاقتراع، وأثناء الاقتراع، وبعد الاقتراع، إضافة إلى صلاحيات أخرى عامة. ومادام أنه لا يمكن ذكر جميع الصلاحيات، غير أن الملاحظ أنها صلاحيات تتعلق بالتنظيم مثل التأكد من حياد الأعوان المكلفين بالعملية الانتخابية وعدم استعمال أملاك الدولة لفائدة حزب أو مترشح أو قائمة معينة. والتأكد من احترام الترتيبات القانونية الخاصة بوضع القائمة الانتخابية البلدية تحت تصرف الأحزاب السياسية والمترشحين الأحرار، والتأكد من توزيع الهياكل المعينة من قبل الإدارة لاحتضان تجمعات الحملة الانتخابية وكذا المواقع المخصصة لإشهار قوائم المترشحين. وكذلك التأكد من التوزيع المنصف للحيز الزمني في وسائل الإعلام الوطنية السمعية البصرية المرخص لها قانونا، بين المترشحين أو قوائم المترشحين. ومن بين الصلاحيات التي تمارسها الهيئة العليا أثناء الاقتراع، أن تتأكد من اتخاذ كل التدابير للسماح لممثلي المترشحين بممارسة حقهم في حضور عمليات التصويت على مستوى المراكز والمكاتب، والمكاتب المتنقلة[4].

وبعد الاقتراع، تتأكد الهيئة العليا في إطار الصلاحيات المخولة لها، من احترام إجراءات الفرز  والإحصاء وحفظ أوراق التصويت المعبر عنها، وتتأكد من احترام الأحكام القانونية لتمكين ممثلي الأحزاب المشاركة والمترشحين الأحرار من تسجيل احتجاجاتهم في محاضر الفرز، وكذلك تتأكد من تسليم نسخ مصادق على مطابقتها للأصل لممثلي الأحزاب السياسية المشاركة ولممثلي المترشحين الأحرار. أما الصلاحيات العامة التي تمارسها الهيئة العليا في مجال الرقابة، فهي تتعلق بإشعار وإخطار الأطراف المعنية بالعملية الانتخابية. وللهيئة العليا أن تفصل في المسائل التي تدخل في مجال اختصاصها، بقرارات غير قابلة للطعن. ويمكن لها أن تطلب عند الحاجة، من النائب العام المختص إقليميا تسخير القوة العمومية لتنفيذ قراراتها[5].

علاوة على ما سبق ذكره، خضع تنظيم الانتخابات التشريعية يوم 4 ماي 2017 للقانون العضوي رقم 16-10، المتعلق بنظام الانتخابات. فقد تضمّن هذا القانون فصلا يتعلق بالأحكام الخاصة بانتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني.

وفقا لهذا القانون، ينتخب أعضاء المجلس الشعبي الوطني لعهدة مدتها خمس سنوات بطريقة الاقتراع النسبي على القائمة، وتحدد الدائرة الانتخابية الأساسية المعتمدة لانتخاب هؤلاء الأعضاء حسب الحدود الإقليمية للمحافظة، غير أنه يمكن تقسيم المحافظة إلى دائرتين انتخابيتين أو أكثر وفقا لمعيار الكثافة السكانية. وتجدر الإشارة هنا، أنه بحكم القانون لا يمكن أن يقل عدد المقاعد عن خمسة بالنسبة للمحافظات التي يقل عدد سكانها عن 350 ألف نسمة[6].

يترتب على طريقة الاقتراع النسبي بالقائمة، توزيع المقاعد حسب نسبة عدد الأصوات التي تحصلت عليها كل قائمة مع تطبيق قاعدة الباقي الأقوى، وعدم الأخذ في الحسبان عند توزيع المقاعد، القوائم التي لم تحصل على 5% على الأقل من الأصوات المعبّر عنها. وحدّد القانون لكل دائرة انتخابية المعامل الانتخابي الذي يؤخذ في الحسبان في توزيع المقاعد المطلوب شغلها، وهو حاصل قسمة عدد الأصوات المعبر عنها منقوصة منه عند الاقتضاء الأصوات التي حصلت عليها القوائم التي لم تصل إلى 5% المذكورة سابقا، على عدد المقاعد المطلوب شغلها. ووفقا لهذه القاعدة تحصل كل قائمة في الدائرة الانتخابية على عدد المقاعد بقدر عدد المرات التي حصلت فيها على المعامل الانتخابي، ثم بعد ذلك ترتب الأصوات الباقية التي حصلت عليها القوائم الفائزة بقاعد والأصوات التي حصلت عليها القوائم غير الفائزة بمقاعد، حسب أهمية عدد الأصوات التي حصلت عليها كل منها، وتوزع المقاعد حسب هذا الترتيب. وعندما يتساوى عدد الأصوات التي حصلت عليها قائمتان أو أكثر، يمنح المقعد الأخير للمترشح الأصغر سنّـــا[7].

أما فيما يتعلق بنتائج الانتخابات، فقد أشار القانون إلى أن المجلس الدستوري يضبط نتائج الانتخابات التشريعية ويعلنها في أجل أقصاه 72 ساعة من تاريخ استلام نتائج اللجان الانتخابية للدوائر الانتخابية والولائية وللمقيمين في الخارج، ويبلغها إلى الوزير المكلف بالداخلية، وعند الاقتضاء إلى رئيس المجلس الشعبي الوطني[8].

رغم كل هذه الأحكام الدستورية والقانونية المخولة للهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات، فإن الواقع يبدو مغايرا للنصوص. فهذه الهيئة مشكوك في استقلاليتها مادام أن كل أعضائها معينون من طرف رئيس الجمهورية، وفي نفس الوقت فإن تركيبتها تقصي الأحزاب السياسية التي تعد المشارك الأساسي في العملية الانتخابية، وهي المعني الأول بنتائج الانتخابات. كما أن هذه الهيئة تفتقد للآليات التي تجعل قراراتها ملزمة للإدارة المكلفة بتنظيم الانتخابات، حيث تقتصر صلاحياتها الرقابية على الإشعار والإخطار. وقد أبانت مجريات الأحداث أثناء الحملة الانتخابية ويوم التصويت، أن هناك ثغرات ونقائص يجب على المشرّع أن يتداركها في الانتخابات المقبلة. وبغض النظر عن هذه الثغرات القانونية، فإن المشكل المطروح في الجزائر لا يتعلق بالنصوص القانونية، بل يتعلق بغياب الإرادة السياسية لدى السلطة الحاكمة في تنظيم انتخابات نزيهة تكرّس التنافسية والتداول بين الأحزاب والتيارات السياسية.

  1. إدارة العملية الانتخابية:

يتطلب تحليل الانتخابات التشريعية الجزائرية تحليل العملية الانتخابية بمختلف مراحلها، قبل التصويت، ويوم التصويت، وبعد الاقتراع. ولهذا سوف نركز على ضبط قوائم المرشحين، والحملة الانتخابية، ومرحلة التصويت.

ضبط قوائم المرشحين:

أشار القانون العضوي قم 16-10 المتعلق بنظام الانتخابات إلى الشروط الواجب توفرها في المترشح إلى عضوية المجلس الشعبي الوطني، وحددها بأن يكون متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية، ولم يوجد في إحدى حالات فقدان الأهلية. وأن يكون مسجلا في الدائرة الانتخابية التي يترشح فيها، وأن يكون بالغا 25 سنة على الأقل يوم الاقتراع، وأن يكون ذا جنسية جزائرية، وأن يثبت أداءه الخدمة العسكرية أو إعفاءه منها، وألاّ يكون محكوما عليه بحكم نهائي لارتكاب جناية أو جنحة سالبة للحرية ولم يرد اعتباره باستثناء الجنح غير العمدية[9].

بناء على نص القانون، قامت الأحزاب السياسية بتقديم مرشحيها إضافة إلى مجموعة من القوائم الحرة، حيث كشف رئيس الهيئة العليا لمراقبة الانتخابات، أن العدد النهائي للتشكيلات السياسية التي دخلت الانتخابات التشريعية بلغ 53 قائمة حزبية، منها 50 قائمة قدمتها الأحزاب بشكل فردي، وثلاثة قوائم قدمتها التحالفات الحزبية التي تشكلت على إثر هذه الانتخابات، وهي تحالف حركة مجتمع السلم الذي يضم حركة حمس وجبهة التغيير، والاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء الذي يضم حركة النهضة، جبهة العدالة والتنمية وحركة البناء الوطني، وتحالف الفتح الذي يضم الحزب الوطني الجزائري، الحزب الوطني الحر، حركة الوطنيين الأحرار، حزب النور الجزائري، وحزب الشباب الديمقراطي[10].

وضعت جبهة التحرير الوطني، ثمانية وزراء على رأس قوائم المرشحين في ثماني محافظات، فيما أثارت قوائم الحزب غضبًا في بعض المحافظات، بسبب إقصاء كوادر شبابية كانت تطمح إلى دخول البرلمان، تماشيًا مع شعارات رفعها الحزب تعد بمنح فرصة كبيرة للشباب في قوائمه. وبعد توقيع حركة مجتمع السلم على إتفاق وحدة مع جبهة التغيير المنشقّة عنها في عام 2008، أجرت انتخابات داخلية هي الأولى من نوعها بالنسبة للأحزاب السياسية في الجزائر، لاختيار مرشّحيها على مستوى كل محافظة.. أما التجمع الوطني الديمقراطي، فقد ضبط قوائم مرشحيه على وقع احتجاج عدد من كوادر الحزب على قوائم المرشحين، حيث اتّهم مناضلو الحزب في محافظة أم البواقي (شرقي الجزائر)، قيادة الحزب بالإقصاء وإدراج مناضلين لا صلة لهم بالحزب في قوائم الترشيحات. أما الحركة الشعبية الجزائرية التي يقودها وزير التجارة السابق عمارة بن يونس، فقد أعلن عدد من قياداتها وكوادرها استقالتهم، ردًّا على قوائم مرشحي الحزب للبرلمان. واستهدف الاتحاد من أجل النهضة والتنمية والبناء الوعاء الإسلامي من الناخبين، حيث تحالفت ثلاثة أحزاب إسلامية، هي “حركة البناء” و”حركة النهضة” و”جبهة العدالة والتنمية”، وأسهم هذا التحالف في توفير عدد مهم من الكوادر السياسية لترشيحها في الانتخابات[11].

الحملة الانتخابية:

لوحظ في الحملة الانتخابية أن كل الأحزاب السياسية أجمعت على هدف واحد يتمثل في إقناع الناخبين بضرورة المشاركة الواسعة في الانتخابات، وهذا يدل على المخاوف التي كانت موجودة لدى الأحزاب والسلطة معا من مقاطعة الناخبين وعزوفهم عن التصويت. لكن مجريات الحملة الانتخابية أبانت عن رداءة الخطاب السياسي لدى أغلب قيادات الأحزاب السياسية المشاركة، وفي نفس الوقت غلبة الطابع الفولكلوري على نشاطات الأحزاب أثناء الحملة عوض تقديم البرامج والأفكار للناخبين.

وفي خضم هذه الحملة، أثارت تصريحات أحمد أويحيى – الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي –  الحيرة بتقديمه لبرنامج ذو طابع اجتماعي، حيث طالب برفع سقف الاستفادة من السكنات الاجتماعية، وذهب إلى حد توجيه النقد لقرارات الحكومة، بل ذهب أبعد من ذلك بمطالبته العودة إلى تنفيذ عقوبة الإعدام. في ذلك الوقت، كان جمال ولد عباس الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، يرافع لحزبه، حيث اعتمد خطابا وصف بالاستفزازي. فقد صرّح أن جبهة التحرير هي الدولة، ثم تراجع معتبرا  حزبه العمود الفقري للدولة، ليفاجئ الرأي العام أن جبهة التحرير ستحكم الجزائر لمائة سنة أخرى. أما الأحزاب الإسلامية المنتشية بتحالفاتها، فقد كانت تحسب خطواتها وخطاباتها، وكلها أمل أن تنافس أحزاب الأغلبية على المراتب الأولى في المجلس الشعبي الوطني. وفي نفس الوقت، قام الوزير الأول السابق عبد المالك سلال بعدّة زيارات لمحافظات مختلفة، اعتبرها البعض محاولة للترويج لحزب جبهة التحرير الوطني، وكسر شوكة الأحزاب الأخرى في عز الحملة الانتخابية. كل هذا حدث وسط عزوف رهيب لدى الناخب الجزائري الذي نفّرته تلك الحملة من الانتخابات، مما جعل الحكومة تلجأ إلى تجنيد الأئمة والمساجد وحتى الزوايا لدعوة الجزائريين للتصويت في الانتخابات[12].

يلاحظ على الخطاب الذي اعتمدته الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات هو هيمنة الخطاب الأمني الذي اعتمدته أحزاب الموالاة لاسيما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وحزب تاج، والحركة الشعبية الجزائرية، حيث تميّز خطابها بطابع التخويف مما يحدث في دول الجوار مثل ليبيا ومالي، وما يحدث في دول الثورات العربية مثل سوريا واليمن. ويأتي هذا الخطاب في ظل غياب انجاز حقيقي وملموس تقدمه السلطة للمجتمع بعد إنفاق مبالغ ضخمة قاربت 1000 مليار دولار دون إحداث تنمية اقتصادية حقيقية، واستمرار تبعية الاقتصاد الوطني للريع النفطي. وبالتالي جاء خطاب التخويف والخطاب الأمني كبديل عن سياسة شراء السلم الاجتماعي التي انتهجتها السلطة في ظروف الرخاء والوفرة المالية.

في المقابل نجد أحزاب المعارضة لاسيما ذات البعد الإسلامي قامت بتبني خطاب سياسي يحمل نبرة النقد للسياسات المنتهجة من طرف الحكومة والحكم عليها بالفشل، وحاولت تقديم خطاب بديل يغلب عليه البعد الاقتصادي. وهنا برزت الحملة الناجحة نسبيا التي قامت بها حركة مجتمع السلم بقيادة رئيسها عبد الرزاق مقري، الذي حاول إضفاء نوع من المصداقية على حملته الانتخابية وإعطائها بعدا برامجيا غير معهود في الانتخابات الجزائرية. أما حزب العمال بقيادة لويزة حنون فقد يقي وفيا لخطابه المعتمد منذ التسعينيات، حيث حافظت زعيمة الحزب على خطابها الاشتراكي والمطالبة باستعادة سيادة الدولة الكاملة.

لم تعط أحزاب المعارضة أي اهتمام للوضع السياسي المتأزم الذي تعيشه الجزائر، فلم نسمع حديثا عن الوضع الصحي لرئيس الجمهورية، والانسداد السياسي الناتج عن هذا الوضع الذي أفرز تعطّلا واضحا على مستوى رئاسة الجمهورية. ولاحظنا كذلك أن بعض الأحزاب تراجعت عن مطالبها، مثل رئيس حركة مجتمع السلم الذي تراجع عن خطابه المعلن في سنة 2014.

مرحلة التصويت:

جري التصويت يوم الخميس 4 ماي 2017، حيث شارك في عملية التصويت 8 225 223 من مجموع 23 251 503 ناخبا مسجلا[13]. وحرصت وزارة الداخلية على متابعة نسبة المشاركة منذ الساعات الأولى للتصويت وتقديمها للرأي العام، حيث قدمت نسبة المشاركة على الساعة العاشرة صباحا 4.13% ثم ارتفعت إلى 15.58% على الساعة الثانية زوالا. وبعد نهاية عملية التصويت قدّم وزير الداخلية نسبة مشاركة قدرت بـ 38.25 %، مؤكدا على أن عملية التصويت جرت في ظروف جيدة وفي هدوء واستقرار امني[14].

وتجدر الإشارة، إلى أن نسبة المشاركة التي أعلن عنها وزير الداخلية، تم تصحيحها فيما بعد من طرف المجلس الدستوري عند إعلانه للنتائج المؤقتة للانتخابات بعد 72 ساعة، وهذا ما طرح العديد من التساؤلات لدى المتابعين ولدى الرأي العام. ومهما يكن الأمر، فقد أبانت هذه الانتخابات أن حوالي 15 مليون ناخب رفضوا الإدلاء بأصواتهم.

  1. نتائج ودلالات الانتخابات التشريعية:

في صبيحة يوم الجمعة 5 ماي 2017، أعلن وزير الداخلية في مؤتمر صحفي عن نتائج الانتخابات التشريعية التي لم تكن مفاجئة للرأي العام. وتتضمن تلك النتائج الدلالات الآتية:

تناقص نسبة المشاركة وارتفاع عدد الأوراق الملغاة (الشعب يقود ثورة صامتة):

   ما يلاحظ حول الانتخابات التشريعية الجزائرية هو التناقص الكبير في نسبة المشاركة وعزوف الناخبين عن التصويت خلال السنوات العشرة الأخيرة، وفي المقابل هناك تنامي لظاهرة الأوراق الملغاة والتصويت بالورقة البيضاء.

في انتخابات 17 ماي 2007 انخفضت نسبة المشاركة لأول مرة إلى حدود 35.65% حيث شارك في التصويت أكثر من 6.6 مليون ناخب من مجموع 18.7 مليون ناخب مسجل. وبلغ عدد الأوراق الملغاة 961751 ورقة[15]. وفي سنة 2012 ارتفعت نسبة المشاركة قليلا لتبلغ 43.14% حيث شارك في التصويت 9.3 مليون ناخب من مجموع 21.6 مليون ناخب مسجل، وفي نفس الوقت ارتفع عدد الأوراق الملغاة بشكل مضاعف ليبلغ 1704047 ورقة[16].  أما في انتخابات 4 ماي 2017 فقد عادت نسبة المشاركة إلى الانخفاض من جديد إلى 35.37% وارتفع عدد الأوراق الملغاة مرة أخرى إلى 1757043 ورقة[17].

يعتبر تناقص المشاركة الانتخابية مؤشرا على العزوف الشعبي عن الانتخابات ولاسيّما لدى فئة الشباب، بحيث أصبحت المقاطعة والأوراق الملغاة وسيلة لدى الناخبين للتعبير عن غضبهم وتذمرهم من الوضع القائم، وعدم إيمانهم بالعملية الانتخابية برمتها بعدما لاحظوا في مواعيد سابقة أن أصوات المواطنين لا تؤخذ بعين الاعتبار[18]. إن هذا السلوك يعكس الإحباط واللامبالاة السياسية والنفور من ممارسة الحق الانتخابي، وقد يتحول إلى عنف سياسي من أجل التغيير بعد استنفاذ آلية التصويت لجدواها. فالعزوف عن التصويت يشير إلى غضب شعبي كامن لم تأخذه السلطة الحاكمة والأحزاب السياسية بعين الاعتبار، وهو سلوك سلبي نابع من وعي سياسي وليس ثقافة انعزالية عن الحياة السياسية[19].

وإذا كان هذا المشهد العبثي المتكرر  في تنظيم الانتخابات يخدم السلطة ويغطي بعض قبحها، مما يجعلها تدمنه وتحث عليه في كل مرة، فإن المستهجن هو ما تقوم به الأحزاب التي تدعي المعارضة، فمشاركتها تدل على أنها تتخبط في الغباء السياسي، الذي يجعلها تؤمن أن نفس المعطيات في نفس الظروف والشروط، يمكن أن تعطي نتائج مختلفة[20].

إن الاستقالة الشعبية من العملية الانتخابية وفقدان الثقة فيها، مرده لكون الانتخابات أصبحت آلية لفرض الأمر الواقع، وآلية للإقصاء والبقاء في الحكم مهما كانت الظروف. فإذا كانت الانتخابات في الديمقراطيات العريقة، وسيلة للاختيار بين البرامج وممارسة العقاب الانتخابي، ووسيلة لإدارة الصراع السياسي، فإنها في الجزائر أصبحت تشكل أزمة في حد ذاتها عوض أن تساهم في إدارة الأزمات السياسية.

الاستثناء الجزائري، تقوية أحزاب السلطة وتراجع الأحزاب الإسلامية:

أفرزت نتائج انتخابات 4 ماي 2017 نفس الخارطة الحزبية التي ألفها الجزائريون منذ نهاية التسعينيات، حيث جاء حزب جبهة التحرير الوطني في المرتبة الأولى بحصوله على 161 مقعدا، ثم التجمع الوطني الديمقراطي الذي حلّ ثانيا بحصوله على 100 مقعد، مع العلم أن هذين الحزبين محسوبين على السلطة الحاكمة. وهذا يشير إلى ترسيخ الأمر الواقع والسائد منذ سنوات، بحيث تكررت الانتخابات والنتيجة دائما ثابتة لا تتغير، فجبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي حافظا على صدارتهما للمشهد السياسي.

لقد أبانت الانتخابات التشريعية كذلك عن تراجع الأحزاب الإسلامية، حيث حصلت حركة مجتمع السلم على 34 مقعد، في حين اكتفى الاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء بـ 15 مقعدا فقط. ويبدو الأمر واضحا بالتوجه نحو تكريس الاستثناء الجزائري في المنطقة العربية، ففي دول الجوار (تونس، والمغرب) كان هناك تنامي للأحزاب الإسلامية بوصولها إلى السلطة بعد الثورات العربية. لكن في الجزائر حدث العكس، مما يدل على أن الأزمة الأمنية في سنوات التسعينيات مازالت تسيطر على ذهنية السلطة والناخبين في الجزائر.

لم يقتصر التراجع على الأحزاب الإسلامية فقط، بل شمل كذلك الأحزاب العلمانية المعارضة، ويعود هذا التراجع إلى تدني شعبية هذه الأحزاب وتخندقها في مناطق معينة. فحزب العمال حصل على 11 مقعدا، وحصلت جبهة القوى الاشتراكية على 14 مقعدا، في حين لم يتجاوز عدد مقاعد التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية 9 مقاعد. وفي المقابل، أفرزت الانتخابات تصاعد لبعض الأحزاب الجديدة التي تأسست بعد 2011، مثل تجمع أمل الجزائر الذي يقوده الوزير السابق عمار غول، حيث تحصّل على 20 مقعدا، وكذلك الحركة الشعبية الجزائرية التي يقودها الوزير السابق عمارة بن يونس، حيث فازت بمجموع 13 مقعدا. وقد أحدثت قوائم الأحرار المفاجأة بحصولها على 28 مقعدا، مما يشير إلى أن التصويت في الانتخابات التشريعية يخضع لاعتبارات جهوية وعروشية ومالية، كما أحدثت جبهة المستقبل المفاجأة بحصولها على 14 مقعدا، رغم أنها حديثة النشأة.

جدول رقم (01):ترتيب القوائم الفائزة حسب عدد المقاعد التي حصلت عليها

القوائم عدد المقاعد المـُحصَّل عليها
حزب جبهة التحرير الوطني 161
التجمع الوطني الديمقراطي 100
تحالف حركة مجتمع السلم 34
قوائم الأحرار 28
تجمع أمل الجزائر 20
الاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء 15
جبهة المستقبل 14
جبهة القوى الاشتراكية 14
الحركة الشعبية الجزائرية 13
حزب العمال 11
التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية 9
التحالف الوطني الجمهوري 6
حركة الوفاق الوطني 4
حزب الكرامة 3
حزب الشباب 2
الجبهة الديمقراطية الحرة 2
جبهة النضال الوطني 2
التجمع الوطني الجمهوري 2
عهد 54 2
الحزب الوطني للتضامن والتنمية 2
حزب الحرية والعدالة 2
الجبهة الوطنية للعدالة الاجتماعية 1
حركة الإصلاح الوطني 1
الجبهة الوطنية الجزائرية 1
حزب التجديد الجزائري 1
الاتحاد الوطني من أجل التنمية 1
الحركة الوطنية للعمال الجزائريين 1
حركة الانفتاح 1
الجبهة الوطنية للحريات 1
جبهة الجزائر الجديدة 1
حزب الفجر الجديد 1
اتحاد القوى الديمقراطية والاجتماعية 1
حركة المواطنين الأحرار 1
الاتحاد للتجمع الوطني 1
حزب العدل والبيان 1
تحالف تكتل الفتح 1

المصدر: »بيــــان يتعلق بدراسة الطعون وإعلان النتائج النهائية لانتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني، الذي جرى يوم 4 مايو سنة 2017،« المجلس الدستوري (الجزائر)، 18 ماي 2017، في:

http://www.conseil-constitutionnel.dz/IndexArab.htm

إن الأغلبية البرلمانية التي أفرزتها انتخابات 4 ماي 2017 ينطبق عليها وصف عبد الإله بلقزيز في حديثه عن الأكثرية النيابية الموجودة في أغلب البلدان العربية، معتبرا إياها أغلبية مخترعة اختراعا لدعم سلطان رئيس الدولة وحزبه وصحابته وآل بيته! وهي – في الغالب – من لون واحد وطعم واحد، وهي متكررة التجدد. إنها الأكثرية التي لا وظيفة لها سوى تجديد شرعية نظام الأقلية، بل هي الاسم الحركي المستعار للأقلية السياسية[21].

الفساد الانتخابي:

ساهمت الإصلاحات الاقتصادية وسياسة الخصخصة التي شهدتها الجزائر منذ التسعينيات، في ظهور مجموعة من رجال الأعمال الجدد مرتبطين بالاقتصاد الريعي، وأدى هذا بدوره إلى توظيف المال كوسيلة عمل وإقناع في المجال السياسي والانتخابي سواء في إطار القوائم الحرة أو في دواليب السلطة والإدارة والأحزاب السياسية[22].

وأصبح دور المال في الانتخابات التشريعية أمرا ظاهرا للعيان، حيث تفشت ظاهرة البزنسة من خلال تقديم رشاوى لرؤساء مكاتب الأحزاب من طرف بعض رجال المال كي يتصدروا القوائم الانتخابية فيها، أو لشراء الأصوات أثناء عملية التصويت (تحالفات ظرفية بين الأحزاب ورجال المال)[23]. وهكذا تحوّلت الانتخابات التشريعية إلى فرصة لدخول البرلمان بالنسبة لكبار رجال المال، والاقتراب من مراكز الحكم بهدف الحصول على الحصانة النيابية أو حماية سلطوية.

العروشية والزبائنية السياسية:

يراهن النظام الحاكم في الجزائر على الزبائنية السياسية وتوزيع الريع كوسائل للتحشيد الانتخابي وإفراغ اللعبة السياسية من الحرية وكسب التأييد. ويتم ذلك من خلال التمويل الذي تقدمه الدولة لكل مترشح، ومنح مبالغ مالية لأعضاء لجان المراقبة والمراقبين التابعين للأحزاب السياسية، والأشخاص المتعاقد معهم لتنظيم عملية التصويت. وهكذا، تحوّلت الزبائنية إلى بديل للمشاركة السياسية، بل أصبحت آلية أساسية في إدارة اللعبة السياسية وإفراغها من حرية الممارسة. كما أن الانتخابات أصبحت فرصة للحصول على حصانة برلمانية أو حماية سياسية أو وجاهة اجتماعية أو مكافآت مالية. ولهذا يمثل الدخول إلى البرلمان فرصة تستغلها الأحزاب الموالية للسلطة الحاكمة (جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي) بغية الحصول على مناصب وزارية ودبلوماسية وإعادة توزيع جزء من الريع فيما بينها، فكلّما امتلك الحزب عددا أكبر من النواب والمترشحين، كلّما كبرت مكاسبه وامتيازاته[24].

إن التدفق في الموارد يلعب دورا هاما في التحشيد الانتخابي، حيث يساعد الأحزاب السياسية لجذب الأفراد ضمن علاقة زبائنية من تبادل المنافع (عمل، ترقية، حماية)، مقابل إعطاء الصوت في الانتخابات، وعليهم إتباع الحزب أو المرشح الذي يوزع المنافع. الأمر الذي جعل عملية إعداد قوائم المرشحين بمثابة لعبة اجتماعية، تتم بالاستناد إلى المخزون الانتخابي (محلي، قبلي، جمعياتي، مهني) أو بفعل الوسيط العلائقي[25]. وهكذا، تظهر العلاقة الزبونية بين المترشحين والسلطة، لأنهم زبائن وليسوا نوابا سياسيين. فالترشح للانتخابات بالنسبة للأحزاب لاسيما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، يتم وفق صفقة مبرمة لضمان مرشحين تتوفر فيهم صفات الوكيل الزبوني الذي يستجيب لقواعد الولاء[26].

وهكذا، فإن الانتخابات التشريعية في الجزائر، ليست سوى عملية لإعادة تشكيل العلاقات الزبونية والتقليدية في المجتمع، حيث لوحظ ظهور الكثير من الشخصيات ذات مستوى من التعليم، إلاّ أنها احتفظت بذهنياتها التقليدية، وكرّست انتماءاتها القبلية والعشائرية والعائلية في التأثير على الناخبين للحصول على العضوية في البرلمان. وفي نفس الوقت، كانت مدعومة بقوى مالية وسياسية تكمن وراءها مصالح مختلفة تسهّل من عملية استغلال ذوي النفوذ المحلي المتمثل في الجاه والسلطة. وفي الانتخابات كان للخطاب التقليدي تأثيرا كبيرا على الناخبين، مما يعكس العلاقة الزبونية بين المرشحين والناخبين دون الاهتمام بالبرامج الحزبية التي كانت غائبة عن الحملات الانتخابية[27].  

لقد لعبت العروشية دورا كبيرا في هذه الانتخابات، ففي محافظة الأغواط فاز التجمع الوطني الديمقراطي بمقعدين لأول مرة بقيادة المرشح الصافي العرابي للعهدة الثانية والمرشحة الريغي خديجة. وتراجعت جبهة التحرير الوطني للمرتبة الثالثة بمقعد واحد للمرشح زعابطة يحي. ولعبت العروشية دورا حاسما في فوز كل من متصدر قائمة التواصل الحرة صليعة أحمد الذي يعد مرشح “عرش العجلات”، حيث جاء في المرتبة الثانية بعد التجمع الوطني الديمقراطي. وفاز دقموسي الدقموس متصدر قائمة الجزائر الجديدة بمقعد واحد على المستوى الوطني مدعوما من عرشه “الحرازلية”، وعاد المقعد السادس لمرشح جبهة المستقبل بن سليمان خليفة مدعوما من طرف عرشه “الحجاج”[28].

   إن ظهور مثل هذه السلوكيات العروشية خلال الانتخابات التشريعية، يرجع أساسا إلى تحوّل المناصب العليا في الدولة ولاسيما المنصب النيابي إلى وسيلة للوصول إلى مركز للنفوذ، ووسيلة للحصول على الريع والحفاظ على مصالح العروش ومكتسباتها. وبهذا المنطق، أصبحت مؤسسات الدولة مكرّسة للولاءات الأولية التقليدية، وهذا في حد ذاته يعكس انحسار المشروع الوطني وفشل النخب الحاكمة، التي تلجأ إلى التسيير الآني لشؤون الدولة والمجتمع بموازين قوى محلية وهشة يسيطر فيها العرش[29].

إعادة التوازن داخل النظام الحاكم:

حصول التجمع الوطني الديمقراطي على 100 مقعد في المجلس الشعبي الوطني، يشير إلى الرغبة في بناء توازن جديد للقوى داخل النظام الحاكم في الجزائر، فمنذ مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم يحصل التجمع الوطني الديمقراطي على مقاعد تتجاوز 70 مقعدا في الغرفة السفلى، حيث كانت نتائج الانتخابات ترتب ليكون حزب جبهة التحرير الوطني هي الفائز بأكبر عدد من المقاعد باعتباره الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية، وبفارق كبير عن الحزب الثاني للسلطة. وبالتالي، فإن التجمع الوطني الديمقراطي الذي يقوده أحمد أويحي – مدير ديوان رئاسة الجمهورية سايقا والوزير الاول حاليا – هو الواجهة الحزبية لجناح معين داخل النظام الحاكم، وجاءت هذه النتيجة لتعزيز موقع ومكانة هذا الحزب داخل مؤسسات الدولة لاسيما البرلمان. وهذا يوحي بأن حزب التجمع الوطني الديمقراطي سيتم توظيفه في إدارة اللعبة السياسية خلال الفترة 2017-2019، وسيوظف كذلك في حسم الصراعات بين أجنحة السلطة الحاكمة حول مرحلة ما بعد بوتفليقة.

خاتمة:

لقد أبانت الانتخابات التشريعية في الجزائر بأنها لم تكن فرصة للتغيير السياسي، بل كانت فرصة للنظام الحاكم من أجل المحافظة على بقائه واستمراره، وفي نفس وظّفها كوسيلة لإدارة الواقع السياسي والاقتصادي المتأزم الذي تعيشه البلاد. فهذه الانتخابات أثبتت أن النصوص الدستورية والقانونية وحدها لا تكفي لتحقيق الانتقال الديمقراطي ما لم تكن مرفوقة بالإرادة السياسية اللازمة. وأثبتت كذلك أن السلطة الحاكمة مازالت تعتمد على أساليب الفساد والزبائنية والعروشية في إدارة العملية الانتخابية. وقد أفرزت هذه الانتخابات أن هناك أغلبية صامتة جعلت من سلوك المقاطعة أسلوبا للاحتجاج ضد السلطة والمعارضة معا. ولهذا فإن الجزائر أصبحت بحاجة ماسة إلى نخب جديدة داخل السلطة وداخل الأحزاب السياسية، فالنخب الحالية تجاوزتها الأحداث ولم تعد قادرة على الاستجابة لتحديات المرحلة الراهنة.

المراجع:

  • باللغة العربية:

الوثائق الرسمية:

»قانون رقم 16-01 مؤرخ في 6 مارس 2016، يتضمن التعديل الدستوري،« الجريدة الرسمية (الجزائر)، السنة 53، عدد 14، 7 مارس 2016.

»قانون عضوي رقم 16-11 مؤرخ في 25 غشت سنة 2016، يتعلق بالهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات،« الجريدة الر سمية (الجزائر)، السنة 53، عدد 50، 28 أوت 2016.

»قانون عضوي رقم 16-10 مؤرخ في 25 غشت سنة 2016، يتعلق بنظام الانتخابات،« الجريدة الرسمية (الجزائر)، السنة 53، عدد 50، 28 أوت 2016.

»إعلان رقم 01 مؤرخ في 15 مايو سنة 2012، يتضمن نتائج انتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني،« الجريدة الرسمية (الجزائر)، السنة 49، عدد 32، 26 ماي 2012.

الكتب:

بلقزيز عبد الله، الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، ط.1، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008).

مجموعة مؤلفين، التحول الديمقراطي في الوطن العربي: التقرير السنوي 2013 (القاهرة: مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، 2013).

مجموعة مؤلفين، الانتخابات الديمقراطية وواقع الانتخابات في الأقطار العربية، مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، ط.1، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009).

الدوريات:

بن سعيد مراد، »انتخابات الرئاسة الجزائرية: تراجع أم تقدم،« المجلة العربية للعلوم السياسية، عددان 34-44، يناير 2015.

عباسي عادل، »واقع النشاط الحزبي في الجزائر وانعكاساته على سلوك الهيئة الناخبة: دراسة في ضوء تشريعيات 2007 مع إطلالة على التشريعيات المقبلة،« المجلة العربية للعلوم السياسية، عدد 35، أوت 2012.

عشور طارق، »معوقات التجربة البرلمانية في الجزائر 1997-2011: دراسة في بعض المتغيرات السياسية،« المجلة العربية للعلوم السياسية، عدد 34، أفريل 2012.

مرقومة منصور، »المجتمع المدني والثقافة السياسية المحلية في الجزائر بين الواقع والنظرية،« دفاتر السياسة والقانون، عدد خاص، أفريل 2011.

  • باللغة الأجنبية:

Mohammed Hachemaoui, « Algeria’s May 17, 2007 parliamentary elections or the political representation crisis, » Arab reform initiative, March 2009.

[1] المادة 193 في: »قانون رقم 16-01 مؤرخ في 6 مارس 2016، يتضمن التعديل الدستوري،« الجريدة الرسمية (الجزائر)، السنة 53، عدد 14، 7 مارس 2016، ص34.

[2] المادة 194 من الدستور، في: المرجع نفسه، ص34.

[3] المواد 4، 7، 8، 11، في: »قانون عضوي رقم 16-11 مؤرخ في 25 غشت سنة 2016، يتعلق بالهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات،« الجريدة الر سمية (الجزائر)، السنة 53، عدد 50، 28 أوت 2016، ص42.

[4] المواد 12، 13، في: المرجع نفسه، ص43.

[5] المادة 14، ومن المادة 15 إلى المادة 24، في: المرجع نفسه، ص44.

[6] المادة 84، في: »قانون عضوي رقم 16-10 مؤرخ في 25 غشت سنة 2016، يتعلق بنظام الانتخابات،« الجريدة الرسمية (الجزائر)، السنة 53، عدد 50، 28 أوت 2016، ص21.

[7] المواد 86، 87، 88، في: المرجع نفسه، ص21.

[8] المادة 101، في: المرجع نفسه، ص23.

[9] المادة 92، في: المرجع نفسه، ص22.

[10] محمد . ب، »60 حزبا يدخلون التشريعيات فرادى ومتحالفين،« المساء، 25 مارس 2017، في:

http://www.el-massa.com/dz/index.php/component/k2/item/34508

[11] عثمان لحياني، »قوائم المرشحين تثير الفتنة داخل الأحزاب الجزائرية،« العربي الجديد، 4 مارس 2017، في:

https://www.alaraby.co.uk/politics

[12] نادية .ب، »تشريعيات 2017.. بين صراع القوائم وصمت الصناديق وصولا لخيبة النتائج، «المصدر، 19 ماي 2017، في:

http://almasdar-dz.com/2017/05/19

[13] »بيان المجلس الدستوري إعلان النتـائج المؤقتة لانتخـاب أعضـاء المجلس الشعبي الوطني الذي جرى يوم 4 مايو سنة 2017،« المجلس الدستوري (الجزائر)، في:

http://www.conseil-constitutionnel.dz/IndexArab.htm

[14] »سير عملية الانتخابات التشريعية 4 ماي 2017،« وزارة الداخلية والجماعات المحلية (الجزائر)، في:

http://www.interieur.gov.dz/index.php/

[15] »الانتخابات التشريعية 17 ماي 2007،« وزارة الداخلية والجماعات المحلية (الجزائر)، في:

ftp://pogar.org/LocalUser/pogarp/elections/results/legislative/algeria-2007-a.pdf

[16] »إعلان رقم 01 مؤرخ في 15 مايو سنة 2012، يتضمن نتائج انتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني،« الجريدة الرسمية (الجزائر)، السنة 49، عدد 32، 26 ماي 2012، ص05.

[17] »بيان المجلس الدستوري إعلان النتـائج المؤقتة لانتخـاب أعضـاء المجلس الشعبي الوطني الذي جرى يوم 4 مايو سنة 2017،« المجلس الدستوري (الجزائر)، في:

http://www.conseil-constitutionnel.dz/IndexArab.htm

[18] مراد بن سعيد، »انتخابات الرئاسة الجزائرية: تراجع أم تقدم،« المجلة العربية للعلوم السياسية، عددان 34-44، جانفي 2015، ص49.

[19] عادل عباسي، »واقع النشاط الحزبي في الجزائر وانعكاساته على سلوك الهيئة الناخبة: دراسة في ضوء تشريعيات 2007 مع إطلالة على التشريعيات المقبلة،« المجلة العربية للعلوم السياسية، عدد 35، أوت 2012، ص ص31-32.

[20] قاسم دحمان، »قراءة في واقع الانتخابات البرلمانية في الجزائر،« نون بوست، 9 ماي 2017، في:

http://www.noonpost.org/content/17903#.WRdzZOYLg4Y

[21] عبد الله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط.1، 2008)، ص64.

[22] عبد الناصر جابي، »الانتخابات التشريعية الجزائرية: انتخابات استقرار أم ركود سياسي،« في: مجموعة من المؤلفين، الانتخابات الديمقراطية وواقع الانتخابات في الأقطار العربية، مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط.1، 2009)، ص84.

[23] المرجع نفسه، ص85.

[24] Mohammed Hachemaoui, « Algeria’s May 17, 2007 parliamentary elections or the political representation crisis,” Arab reform initiative, p.5.

[25] Ibid., p.6.

[26] طارق عشور، »معوقات التجربة البرلمانية في الجزائر 1997-2011: دراسة في بعض المتغيرات السياسية،« المجلة العربية للعلوم السياسية، عدد 34، أفريل 2012، ص11.

[27] منصور مرقومة، »المجتمع المدني والثقافة السياسية المحلية في الجزائر بين الواقع والنظرية،« دفاتر السياسة والقانون، عدد خاص، أفريل 2011، ص305.

[28] ع. نورين، »العروشية تهزم الأحزاب بالأغواط،« الخبر، 5 ماي 2017، في:

http://www.elkhabar.com/press/article/121413/

[29] طارق عشور، مرجع سابق،  ص22.

تحريرا في 20-8-2017

3/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى