الدراسات البحثيةالمتخصصة

جذور الإسلام السياسي في تونس خلال القرن 19: الخصائص المحلية والتّداعيات الخارجيّة

اعداد: د. عبد القادر سوداني – جامعة صفاقس – تونس

  • المركز الديمقراطي العربي

المقدمة

رغم الرّأي الشائع أنّ التاريخ السياسي قد أخذ حصّته من الدّراسة والبحث وأن موضوعاته قد إستنفذت ، فولى أغلب الباحثين وجوههم شطر مجالات أخرى للبحث، لكنّ تجدد التاريخ السياسي وإمكانية اعتماده كبوّابة لدراسة الأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي عرفتها البلاد التونسيّة إبّان العهد الحسيني تجعلنا نركن إلى دراسة مؤسّستي الدين والسلطة باعتبارهما أهمّ مصادر الحدث التاريخي. كما أنّ بعض الخصائص والسمات السياسيّة لم تلق رعاية كافية من قبل المؤرّخين أو طرحت تحت تأثير سابقة النهضة السياسية والدينية بأوروبا، دون مراعاة خصوصيّة البلاد الإسلامية .

كانت الرافعة الدينيّة أحد الأجهزة التي شرّعت حكم مختلف البايات الحسينيّون وتماهي منظومة الحكم مع تنظيمات العشائر والقبائل، كما كان الديني أحد أشكال التقاطع في الانتقال من الكيان الطرفي في مجال الإمبراطوريّة إلى الدولة التي لا ترتبط سوى بخيوط شكليّة من التبعيّة للمركز العثماني .

لن نتّبع بصفة زمنية حكم كلّ البايات بل سنغلب الجانب التأليفي بتتبّع المفاصل التاريخيّة الكبرى، من الأهليّة الشخصيّة إلى التغلّب والإستيلاء على الحكم إلى الوراثة، كما سنعرّج على دور “العلماء والصّلحاء ” في أمر تولي حكم البلاد وتسويغ ممارسة السّلطة وتأثيم – بالمعنى الفقهي – الثورة على السّلطان أو نقض البيعة،كما تم تطويع النصّ الدّيني لفائدة الأحكام السّلطانيّة التي ضجّت بها مطالب الفقهاء والعلماء، وإنتهى تعاون الفقيه و السلطان بإستخزان المؤسّسة الدينيّة لفائدة “أولي الأمر”.

هذا الإنصهار بين الدّين والدّولة ألقى بتداعياته على المشهد الفكري والثقافي وزاد من شرخ الأزمة الحضاريّة فعبّر كوكبة من “أهل الحلّ والعقد” عن ضرورة الإصلاح والتحديث خاصّة بعد التأثر بنموذج الدّولة الغربيّة.

لم تعرف البلاد التونسيّة حضورا قويّا للأنظمة التّيوقراطيّة نتيجة ضعف تواجد الفرق الدينيّة التي جبلت على مناهضة “السلطان الجائر” وفق تصنيفات عقائديّة مذهبيّة مثل الخوارج والشّيعة، الذين كانوا لا يتمتّعون بثقل ديمغرافي تونسي يسمح لهم بالخروج على الحكم تحت دعاوي دينيّة صرفة مثل “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ” ، والخروج عن النّموذج الرسولي والشّرع الإلاهي. كان أغلب سكان الإيالة ينتمون إلى شخصيّة دينيّة متشابهة تعتنق المذهب السنّي الأقلّ ميلا للخروج على مبدأ الجماعة والسلطان الشرعي، والأكثر إلتصاقا بالحاكم الشرعي، ومعلوم أنّ المذهب السنّي يصل إلى حدّ تكفير من ينقض بيعته للحاكم، تأكّد هذا المبدأ عند إصرار مدينة القيروان         -المركز الروحي للإيالة – على عدم نقض بيعتها للحاكم الشرعي حسين بن علي سنة 1728 عندما أراد علي باشا تأسيس شرعيّة بديلة.

من الخصائص الأخرى الواجب الإشارة إليها هي حالة التماهي النسبي بين قطبي السلطة والمجتمع، فالبنية القبلية كانت مفعمة بمفهوم الحكم السلالي ، كما أنّ البلاط الحسيني أصبح يصطبغ بطابع محلي، وأصبح السكان المحليون من الوسائط التي يستند إليها الحكم، لذلك عرفت البلاد التونسيّة حالة من الانصهار بين الحاكم والمحكوم ساعدت على إطالة أمد حكم الأسرة الحسينية، دون أن نغفل أنّ الحكم الحسيني “الخارج” عن التنظيم القبلي كان الخيار الأمثل للقبيلة حتى يمنع تغلب مجموعة قبلية على أخرى .

في الجانب الديني تمكنت السلطة السياسية من إحتواء وتحييد المؤسسة الدينية، فغاية الدين والدولة واحد وهو حكم المجتمع، فخطاب السلطة وسلوكها مرتبطا بالدين حتى يمنع كل مظاهر الاحتجاج والانفلات. كما أنّ المؤسّسة الدينية عرفت حالة من التشظي بحضور الإسلام الشعبي والرسمي. فقد ارتبط التراث المرابطي مع الحركات الصوفية التي أحالت الدين إلى تراث غير قادر على تفعيل الحاضر. ومعلوم أنّ المناخ الثقافي في هذا العصر شجّع على بروز الفكر الخرافي والصوفي والذي لا يتطلب سوى حدّا باهتا من المعرفة والإلمام بالدّين. إلى جانب الفكر الصّوفي فقد إنتصبت الزّوايا كأحد العلامات الفارقة في المشهد الثقافي، ورغم إنحسار هذه الروافد الدينية إلى الهرطقة فإنّ ذلك لم يمنع السلطة الحسينية من معاضدتها والإنخراط في منظومتها، فهذه المسالك الدينية تتمتع بقدرة الحشد الإجتماعي والحدّ من الإحتقان لفائدة ” أولي الأمر”.

سنعمل من خلال هذا العمل على تبيان الوجه الآخر للإسلام الشعبي الذي كثيرا ما وسم برديف الجهل وصنو الهرطقة دون ربط ذلك بحقيقة تعدّد الأعراق داخل اللوحة الإجتماعية في الفترة الحسينيّة، هؤلاء الوافدون الذين حملوا معهم ثقافتهم وأفكارهم تجلّت في ممارسات إبتعدت أو إقتربت من الإسلام .

ولعبت هذه المؤسسات دورا إقتصاديا ذا شأن باعتبار الإقتطاعات الهائلة التي تتحصل عليها والتي ساهمت في إدخال بعض الفئات والمجالات في المنظومة الإنتاجية. بذلك يمكن الإقرار أنّ الإيالة الحسينية لم تنغمس تماما في وهاد التخلّف الفكري والحضاري بل أبقت على خيوط من التواصل مع الدين والمعرفة.

سوف نسعى إلى التخلّص من الكتابة التاريخيّة التي تصوّر الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي عرفته البلاد من خلال رؤية سكونيّة وإطار ثابت، إذ أنّ الفعل التاريخي الواحد يمكن أن يجمع في رحمه زخما من التناقضات، ممّا يحتّم على الباحث الابتعاد عن التماثل الخطّي للحدث التاريخي، ومنها سحب مشهد حضاري قاتم على كامل الفترة الحسينيّة.

كما أنّ فئات اجتماعيّة واسعة كانت عرضة للازدراء والنظرة الدونيّة من قبل نخبة السّيف والقلم، وهو ما يستوجب إعادة فحص وتأمّل للحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة لسكّان البادية والقبائل والتي بقيت من الإبهام بمكان، كما تمّ التركيز على النزعة الإستقلاليّة للبايات الحسينيّين عن الباب العالي، دون التعرّض لتداعيات التجربة الوهابيّة بالحجاز وإستقلال محمد علي باشا بمصر، دفعت الأستانة إلى الجنوح إلى مراقبة فاعلة لولاياتها، وكذلك نشوء مراكز إستقطاب أوروبية بدأت تسعى حثيثا نحو ممارسة هيمنتها على الأطراف الغربية من الإمبراطوريّة العثمانيّة.

في المجال الإقتصادي أدّى إنصهار السلطتين الرمزيّة والزمنيّة إلى إطالة أمد إمتيازات الفئات المتنفذة، وإجهادا مستمرّا للسكان لتحصيل أرزاقهم وخاصّة في دواخل البلاد التي أصبحت تتحمّل وزر الإنتاج والضرائب، وشاع نمط الإنتاج المنزلي بحيث يتوق كلّ مجتمع إلى أن ينتج بنفسها ما يكفي لبقاء أعضائها دون تطوير الاكتفاء الذاتي نحو التبادل .

أدّت هذه العوامل إلى بروز شق من الدّائرين في فلك البلاط إنتصر لضرورة الإصلاح والاقتداء بالنموذج الغربي، ولا غرو أنّ المصلح خير الدّين أسهب في تعداد محاسن الحريّة وهو ما يحايث النمط الإستبدادي السائد، ويقطع مع الزعم أنّ السلطان يستمدّ سلطته من السماء .

أنتجت بعض الإصلاحات وضعا جديدا في بنية النظام والوسائط التي يعتمد عليها ومنها المؤسّسة الدينيّة، وهنا يعن السؤال عن مدى تطابق الإصطلاحات مع واقع الإيالة، وهل أنّ هذه الإصلاحات كانت ترنو إلى خلق واقع بديل أم أنّ محاولات التغيير أنتجت وضعا أكثر سوءا، وهل إقتصر دور رجال الذين على إقرار وتسويغ هذا السلوك ؟

سوف نعمل على تتبع مرامي الإصلاح أكان وعيا بالحداثة أم إجراء إحترازي من قبل الطغمة الحاكمة من أجل منع إنهيار السلطة .

I– قراءة في المشهد الديني والسياسي في الفترة الحسينيّة خلال القرنيين 18 و 19 :

1- منظومة الحكم :

عرفت منظومة الحكم خلال الطور الحسيني مراحل مختلفة تراوحت بين التنفذ والإنحسار، بين الوراثة والتغلب وبين الاستبداد والعدل. لقد كان الحكم الخاضع “لهيئة الواحد”[1] هي السمة الطاغية للأسرة الحسينية، التي مثلت في هذا الجانب إمتدادا للدولة السلطانية الخلافية في الآستانة. ما يمكن تسجيله أن العثمانيين في أوجاق الغرب ومنها تونس لم يستنبطوا أي تصوّر جديد للحكم وتنظيم الدولة، فلم تبدأ نماذج الحكم الغربية في الإتصال الكثيف بالعالم الإسلامي إلا خلال القرن17 مع تولي المراديون الحكم و هم من المماليك المتأثرين بالحضارة الغربية ، لذلك لم تطرح “نخبة السيف والقلم” مسألة طبيعة الحكم إلاّ في القرن19 مع إشتداد الأزمة السياسية .

عند تناولنا لنظام الحكم الحسيني وجب علينا الحيطة من بعض الأحكام التي أعاقت كل جهد يهدف لتفحّص طبيعة الحكم ومدى تواصل الحكام مع السكان وحجم الشرعيّة التي حازوها، فقد إستفاد الحسينيوّن من عراقة السلطة المركزيّة في البلاد منذ عهد الأغالبة حتى وفود الأتراك، ولم تشهد هذه المنظومات الحاكمة معارضة من قبل السكان في شأن تولي الحكم أو البحث في ماهية شرعيّتها، وانسحب هذا الأمر على الأسرة الحسينيّة .

ما يمكن ملاحظته هو خوف البدو من تقلّبات الحكم  ومن تبعات الإرتباط بالسلطة، لذلك بقي الحكم خاضعا لكل تغلب من العناصر الخارجية ، ” الفضاء المغربي أصبح في أغلبه تحت سيادة قوى غير محليّة في غياب قوى داخليّة قادرة على تقديم البديل ” [2] .

كان مدى تطابق سياسة الحاكم مع مصالح هذه المجموعة السكانيّة أو تلك معيارا محدّدا لمدى خضوع أو خروج السكان على الحكم المركزي، لذلك وجد كل منشق داخل البلاد التونسيّة من يقوم بدعوته ويسانده في الإستحواذ على السلطة مثلما هو حال أبو القاسم الشوك في إعتماده بجبل وسلات سنة 1674، ومحمد باي بالكاف سنة 1675 وعلي باي بوسلات سنة 1676.

كانت ذهنيّة ” الأعراب ” غير مهيّأة للإهتمام بشؤون الحكم ولا بتدعيم أركان السلطة فكان أن إنحاز غالبيّة السكان إلى عشي مصطفى صاحب الجزائر خلال حربه مع إبراهيم الشريف سنة 1705 رغم العداء المستحكم بين حكام البلدين .

رغم أنّ المصادر تذكر أنّ حسين بن علي أبى تولّي أمر البلاد رغم إلحاح أهل الحلّ والعقد،      ” فامتنع مصرا على عدم القبول فقال له العلماء يجب عليك القبول لاسيما والحالة هذه فأجاب دعوتهم ودخل معهم الحاضرة لقبول البيعة ” [3]، يوحي هذا الأمر بالشرعيّة المطلقة لحكم حسين والمكانة المتميّزة التي يتمتّع بها داخل لفيف السلطة، وأهل الحل والعقد والأهليّة الشخصيّة التي قادته إلى تولي الحكم، لكن هذه المزايا ستصبح موضع شكّ بعد خروج غالبية الأعراب عليه في حربه ضدّ جيش الجزائر، “وقد تبعه (جيش الجزائر) من جنس أهل الفساد والضرر ما يخرج عن العدو والحصر وإنضاف إليهم ممن يبغي الفساد في الأرض والله لا يجب المفسدين وإجتمع عليه من سفلة البادية والأطراف ما قدره أربعون ألفا”.[4] ثمّ واجه حسين بن علي تمرّد الداي محمد خوجه الأصفر وهو ما يعني دحض الزعم القائل باختلاف نمط حكم حسين بن علي الذي نهل ونشأ في البيئة السياسيّة للمراديين، وبالتالي من الشطط في الرأي فصل طبيعة حكم هذا الباي عن أسلافه من الحكام، فقد دفعت المعارضة المسلّحة التي انتهجها علي باشا حسين بن علي إلى أن يصبح أكثر عسفا مع السكان[5]، وقد أكّد القنصل الفرنسي Saint Gervais سنة 1733 إلى أنّ عنف الباي طال وزرائه وخواصه.

اعتمد حسين بن علي في توليه أمر الحكم على تمرّسه ومعرفته بخفايا السلطة وعصبيّة الترك وتطويع الدين لتشريع توجّهاته مثل الرؤيا ومباركة الصالحين، أمّا علي باشا فقد مثل الحكم القائم على التغلّب والاستيلاء عنوة على الشرعيّة وكان عنوان الحكم المحلّي – كان سليل قبيلة أولاد حسن وتقلب مع أبيه في قيادة الأعراب – ممّا جلب له سخط الأتراك ومن تعلّق بركاب السلطة في فترة حسين بن علي، ولم يقدر عالم البدو أو “فضاء اللادولة”[6] أن يصمد أمام قوّة شوكة الأتراك وقدرتهم على مواجهة طموح علي باشا.

وإذا كانت المصادر التاريخيّة قد أجمعت على الطابع القسري والعنيف لحكم علي باشا في مقابل حكم حسين بن علي وتماهي حكمه بين الزمني والرمزي[7]، فهذه الأحكام من شأنها أن تسقط الفرع الباشي من تاريخ الأسرة الحسينية لافتقاره للشرعيّة هذه الآراء تحتاج إلى فرز ومراجعة.

الشكل الثالث للحكم كان مع حمودة باشا الذي انعقدت له البيعة في فترة حكم والده علي باي سنة1777 ثمّ وقع تأكيد البيعة في 31 ماي 1782، هذا النمط الخاضع لوصيّة الحاكم عوض التوريث حسب السن داخل الأسرة والذي كان يعطي لمحمود باي ابن محمد باي أحقيّة تولي العرش، بدأت مع حمودة باشا فترة جديدة من الحكم – باستثناء فترة الاضطرابات التي أعقبت وفاته ومقتل أخيه عثمان واستيلاء محمود باي على الحكم- فنظام الحكم عرف شرعيّة جاهزة، لعب “العلماء والصلحاء” دورا مهمّا في تأكيد هذه الشرعيّة من خلال تطويع السكان بالحض على عدم نقض البيعة والخروج عن الحكم الشرعي، كما برّر الفقهاء سياسة البايات – حتى الجائرة منها- وسيتأكّد دور المؤسّسة الدينيّة خلال الشكل الثالث من الحكم والذي برز مع تولّي محمّد الصادق باي حكم البلاد سنة 1859.

سيعرف نمط الحكم –مع هذا الباي- النزوع نحو الاستبداد والانصراف عن النّهج التحديثي وتركه دواليب الحكم لفائدة الخواصه، “امتاز بالخمول الذهني والميل إلى الترف دون حدود وهو متّهم بضعف خلقه الدّيني، بسبب انقياده لهواه، ولمن يجلب هل وسائل اللهو، حتى وقع أسيرا لبعض وزرائه الذين وفروا له ما يطلب لكي يبقى بعيدا عن الحكم”.[8]

يمكن الإقرار أن هذه الفترة عرفت سيطرة شخصيّتين – مصطفى خزنهدار وخير الدين- أثرا بسياستهما على وضع الإيالة الاقتصادي والسياسي وساهما كل منهما في تعميق الأزمة الحضاريّة والمعيشيّة للسكان، فمصطفى خزنهدار جعل نظام الحكم أكثر عسفا وجورا أمّا خلفه خير الدين فقد رمى إلى إصلاح النظام من خلال التشديد والتضييق على السّكان، كان نتائج هذه السياسات تعميق الشرخ بين منظومة الحكم وغالبيّة السكان.

تشابهت منظومات الحكم في الفترة الحسينيّة وبدت الفوارق طفيفة في سياسة البايات إذ مال أغلب الحكام إلى السلطة الشموليّة وارتكزت على سطوة العسكر والرافعة الدينيّة لتأكيد الشّرعيّة.

2- علاقة الديني بالسياسي :

لا ريب أنّ النّص والموروث الديني قد وقع توظيفه في تأكيد شرعيّة السلوك السياسي، وأضحى من العسير فرز السياسي عن الديني، وشاعت عن البلدان الإسلامية فكرة التداخل الشّديد بين الرّمزي والزمني، وأنّ الملك يحمل في ذاته ثلاثة مكوّنات الفيزيائي والسّياسي والرمزي.[9]

تمكّنت السلطة السياسيّة من مخزنة المؤسّسة الدينيّة بعد مسار طويل من التحوّلات منذ دولة النبي إلى السلطنة العثمانيّة، وقد اغتنم الحكام السياسيّون غياب مرجعيّة دينيّة محدّدة بشأن السّلطة الزمنيّة لكسب دعم الفقهاء، ورغم الرّأي القائل بمحدوديّة مشاركة “أهل الحلّ والعقد” في “الشّان السياسي” ليس لهم نفوذ كاف للحسم في عمليّة اختيار الشخص أو الأسرة الحاكمة ومع ذلك فإنّهم يمارسون تأثيرا قويّا على الطبيعة العامّة للمجتمع”[10]، فإنّ السلطة السياسيّة كانت تقوم بضوابط دينيّة ووفق شروط حدّدها الأثر الديني، الأمّة وهي كيان ذو جوهر ديني يرتبط أعضاؤه بإخاء روحي يحميه ويغذيه الخليفة[11]. الواقع أنّ علاقة السياسي الديني مثلت انعكاسا للوضع العام للأمّة أو الدّولة فكلّما تدهورت حالة السكان كلما زاد التصاق القصر بالجامع وذلك لحماية الشرعية السياسية من كل عمر احتجاجي وذلك بوضع المعارضة السياسية في خانة الفساد والفتنة والكفر.

طرحت هذه العلاقة بقوّة في أوروبا من قبل المثقفين والمحدثين، فبعد فترة من النزاع بين الملكية والكنيسة أدّى إلى تشريع قوانين تحدّد مجال عمل كل مؤسّسة، فساهم عصر النهضة في إحداث تغييرات جذريّة على العقيدة المسيحيّة[12] وبالتالي مراجعة دور الكنيسة في حياة الشعوب وخاصّة الفكر البروتستانتي الذي كان عملا مذيبا لبديهيّات وذهنيّة الفكر القروسطي، في حين ينسب البعض الآخر فصل الدين عن الدّولة إلى العقلانيّة التي تساهم في تقويض هيمنة الكنيسة على الفكر السياسي والأخلاقي.[13]

أحدثت جملة التحوّلات السياسية والفكرية والدينية واقعا جديدا سرعان ما بدأ يلقي بتداعياته على الفكر الإسلامي ليبدأ بعض المجدّدين المتأثرين بالنزعة الليبرالية في طرح أسئلة في علاقة الدين بالسياسة.

سعى جانب من الفقهاء إلى التمسّك بالموروث الديني على الشاكلة التي أبّد عليها والتضييق في مجال الاجتهاد لدرء البدع، خاصّة أن تحالف القائمين على الدّين مع السّلطان وفر لها امتيازات اجتماعيّة وماليّة دفعها إلى أن تحاول الحفاظ “على هذا الوضع القائم والمانع لأنّه يطيل من أمد هذه الامتيازات وبالتالي فهي تقف في وجه طرح أيّ سؤال له معنى[14]، ورغم هذه النزعة المحافظة فقد تعالت الأصوات المطالبة بالإصلاح،”لقد قامت المؤسسة الدينيّة العثمانية ولمرحلة طويلة من الزمن بدور حماية الاستبداد السلطاني وصولا إلى تأسيس قطاع من الاستبداد في المجتمع والدولة ” [15].

كانت السجالات الفكرية تستهدف إسقاط درع الدين الذي ارتكب باسمه السلاطين والحكام أشنع أنواع الطغيان وأدّى إلى حالة من الكساد الفكري الناتج عن هيمنة الرؤية الجامدة “لأهل الحل والعقد” والتي كرّست التخلّف والاستبداد الذي حاربه محمّد عبده نتيجة الواقع المتردّي إلى النخب القائدة الغير عربية “ممّن دخلوا الإسلام بأبدانهم دون أن ينفد منه شيء إلى وجدانهم” [16].

لم تسلم الإيالة الحسينية من موجات الإصلاح والتحديث التي إجتاحت مجال الإمبراطورية ولكن علاقة الديني بالسياسي إمتازت ببعض الخصائص التي إختلفت عن باقي الكيانات العثمانية، ذلك أنّ الدّعوة إلى الإصلاح انطلقت من داخل المؤسّسة السياسية وبارك العلماء والفقهاء هذا التوجّه، ثمّ صمتوا عن ارتداد السلطة إلى الإستبداد وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية علاقة السياسي بالديني في الإيالة الحسينية ؟

شهدت الحقبة الحفصية عزل السلطة السياسية للفقيه والعالم ابن الآبار عن خطة الإنشاء والعلامة “لسوء خلقه وإقدامه على التعليم في كتب لم يؤمر بالتعليم فيها[17] ثم قتله من قبل السلطان المستنصر سنة 1259، وخلال وفود الأتراك إلى البلاد التونسية كان قسما من البدو يجهلون بعض أحكام الإسلام، “كان بعضهم يعرف عدد أوقات الصلوات وغيرها من الفروض العينية وكأني بإثمهم يتحمّل به من يعمل حالهم ولا يرشدهم”.[18]

فإذا كان ابن الآبار من الفقهاء الملتصقين بالركب السلطاني فإنّ الإسلام السطحي “للإعراب” وعلى ما فيه من تجن وتحقير لهؤلاء السكان فإنّه فتح الباب أمام السلطة لاستثمار الإسلام الشعبي من خلال التحالف مع رجال الزوايا والطرق الصوفية، وتواصلت تبعية الفقهاء والصلحاء للقصر خلال الحقبة المراديّة وبشكل أكثر خضوعا.[19]

سقنا هذه الأمثلة لدّلالة على أن الأسرة الحسينيّة ورثت بيئة فكريّة تقوم على انصهار الحياة الفكريّة والدينيّة في المؤسّسة السياسيّة التي كانت تمسك بخيوط المنظومة الثقافيّة والدينيّة للمجتمع، كما أنّ الأنظمة ذاتها كانت إفرازا لهذا الواقع الذهني الذي خلط بين الفكر الرمزي الديني أي الإخضاع، فلا غرو أن يدفع حمودة باشا الشيخ المالكي أبو حفص عمر إلى دحض دعوة الحركة الوهابية المنادية بالاجتهاد، ولا عجب أنّ قرار أحمد باي بتحريم الرق والعبوديّة جوبه بمعارضة من قبل أعيان البلاد وتجار الرقيق وبعض علماء الدين بدعوى مخالفته للنصّ القرآني[20]، ومن المفارقة أنّ أحمد باي أحد دعاة الإصلاح والمتأثر بعظمة الحضارة الماديّة الفرنسيّة كان منخرطا في الذهنيّة الطرقيّة.

كان الفقهاء يصطفون وراء أنظمة الحكم في الأخذ والاقتباس عن مظاهر الرقي الأوروبي، ولكن دون التطرّق إلى الحكم الشمولي للبايات وكان الانتصار لمحمد الصادق باي عندما عدّل عن مواصلة نهج التحديث تأكيدا أنّ المؤسسة السياسيّة تمكّنت من احتواء الدّين واستخدامه كأحد وسائطها.

حافظ مختلف الحكام الحسينيون على إقحام رجال الدين داخل المؤسسة السياسية فأصبح الدين أداة من أدوات التنفذ وأحد وسائط السلطة لتأكيد شرعيّتها. كانت الوحدة المذهبيّة لأغلب سكان الإيالة وإيمان المذهب السنّي بضرورة تراص الرعيّة وراء الراعي والمكاسب التي يجنيها الفقيه جرّاء تحالف مع السلطان دافعا لمخزنة العلماء والصلحاء.

II– تداعيات انصهار الديني والسياسي والسعي إلى الإصلاح:

1- تأثير انصهار الديني والسياسي:

لئن تعرّض الدين الإسلامي إلى الجانب المعيشي في المعاملات والعلاقات بين “المؤمنين” فإنّه لم يحسم بصفة قاطعة نمط الحكم الواجب أتباعه، ومارس “السلف الصالح” منظومات متعدّدة من الحكم.

تعدّدت الآراء بشأن مدى ارتباط الدّيني بالسياسة وتحديد معايير الحكم، “الخليفة يمثل الدين والدنيا لأنّه ليس مطلق التصرّف بل هو فرد ضمن إطار الدّستور العامّ الذي يقوم على ركيزتين هما القرآن والسنة”[21] كان غياب حد فاصل بين المؤسسة السياسية وتشريعات الدين يشحذ هذا الخلط والالتباس، ذلك أن السلطان بدوره خاضع لنواميس الدين “الدين يتسلل إلى قلب ظواهر اجتماعية ذات مضامين مختلفة”[22]، برزت في الشرق رؤية المستبد العادل كإجراء توفيقي من قبل الفقهاء بين محدّدات ونواميس اللاهوتي وبين التزامهم تجاه مؤسسة الدولة السلطانية.

وفي تونس لم تجد الأنظمة السياسية عنتا في التحالف حينا مع الدّين والإخضاع حينا آخر كما أنّ الوحدة المذهبيّة لغالبيّة سكان الإيالة مثل خصوصية تونسية علاوة على عدم قيام كيانات مذهبيّة تيوقراطيّة سمح بوجود انسجام بين قطبي السّلطة والمجتمع. وعكس الوحدة العقديّة لغالبيّة المجتمع التونسي فقد تباينت الأصول العربيّة للسّكان، مما جعل قيادة المجتمع تستلزم التحالف بين بعض الأعراق لتكوين سلطة قادرة على ممارسة نفوذها على كل الطيف الاجتماعي.

تأكد التحالف بين ممثلي الدين وأصحاب السلطان من خلال وصف عمليّات الإغارة البحريّة أو القرصنة بالجهاد البحري في بيئة مفعمة بالعداء للآخر المسيحي، وكانت المدن –الخاضعة لسلطة العلماء- قد ثبتت تحالفها مع السلطة المركزية في محيط بدوي يتّسم بالعداء للاستقرار والمستقرين، وأكد العلماء والفقهاء تلازم أحكام الدين مع طاعة “أولي الأمر”.

بثت الأسرة الحسينية القضاة في أغلب المدن كشكل من أشكال التنفذ وإذا كان الإسلام الرّسمي قد سمح بترسيخ شرعيّة الحكم الحسيني – لتقاطع المصالح ووحدة العرق- فإنّ نظام الحكم سيعرف وضعية مغايرة في البوادي والمجالات القصية حيث يكاد ينعدم تأثير الفقهاء والعلماء.

فهل يعزى ضعف حضور الدين النقي لدى القبائل إلى إشكالية الأسلمة السطحية الأعراب، أم أنّ الأمر يحتاج إلى مزيد البحث حول علاقة هؤلاء السكان بلفيف السّلطة؟

تعرّضت العناصر الدنيا عامة والبربر خاصة إلى التهميش والتحقير في الخطاب الرسمي –الديني والسياسي- وبقيت على هامش الحدث السياسي، بل وصل الحال مرارا إلى التشكيك في إسلامهم، “اقترنت (البداوة) منذ ابن خلدون اقترانا نهائيا بأفكار العنف والتوحش”[23]، الواقع أنّ مهاجمة السكان المحليين ترافقت مع قدوم العرب في بدايات “الفتح” وتواصلت مع أغلب الأنظمة الحاكمة فنزع صفة الإسلام عن هؤلاء السكان من شأنه أن يسوغ للحاكم السياسي مصادرة أراضيهم والتحكّم في رقابهم وتطويعهم بالحديد والنار.

كان الحطّ من قيمة العنصر المحلي وخاصة البربر لقد انطلق لأسباب سياسيّة وبتعلة دينية إذ أنّ حدّة شكيمة البربر والأعراب وتمرّدهم على المسلمين والشّخصية الحضاريّة التي حافظ عليها هؤلاء السكان جعلت السلطة السياسية تهرع إلى الحقل الرمزي لتسوغ الفتك بالمعارضين باستغلال تحالفها مع علماء الدّين.

تواصل العمل بفرز السكان بين فئة طيّعة هادئة وأخرى مضطربة مشاغبة خلال الفترة الحسينية وأفرز التحالف بين المؤسسة السياسية والدينية بروز نعوت تجمع بين المعجم السياسي والديني وتتّهم بالفساد كل من يخرج عن إطار الجماعة ويمتنع عن الاستجابة لتوجّهات الباي رأس السلطة السياسية و”خليفة الله في الأرض المفوض شرعا لردع أهل الفساد”.[24]

كان تواتر الاحتجاج أحد علامات مرور ممثلي الإسلام الرسمي إلى طور الصّمت وتطويع الدين لفائدة السياسي، ذلك أنّ اعتزال الفقهاء عن ممارسة الرّقابة الدينيّة على البايات حتى تحول دون ممارسة الاستبداد والانحراف عن تعاليم الدين واستغلال الفقهاء للفتك ببعض السّكان، “تدين المجتمع أصبح مادة سياسيّة كالولاء والخضوع”[25] ولم يقتصر حضور المؤسسة الدينية إلى مجرّد تسويغ سلوك السّلط بل إن الفقهاء كانوا لا يتوانون عن مباركة من ينقلب على السلطة “يحذر الفقيه من الخروج عن السلطان فوق الفتنة ما إن يصبح الخارج المغامر سلطانا وقد يكسر النصيحة أو يتجاوزه حتى يصبح بدوره مستضلا بدلالاتها وإيحاءاتها ومحتميا بمعانيها المعلنة والمضمرة”[26]. وقد لبثت البلاد التونسية بين 1735 و1740 في إطار حكم ذو قطبين، الخليفة الأول وهو حسين بن علي في القيروان ويمثل الشرعية المستباحة أما الحاكم الثاني فهو علي باشا صاحب الشرعية البديلة والذي استحوذ على الحاضرة مركز الثقل السياسي، حدث هذا الشرخ دون قدرة “رجال الدّين” على حسم هذا الاختلاف وتعدّد الشرعيّات الحاكمة”.

دفع تأرجح المجلاّت القبلية في تبعيتها للحكم المركزي أجهزة السلطة إلى الاهتمام بالزوايا والقائمين عليها –رغم مظاهر الهرطقة والانحراف عن الإسلام النقي- لذلك نجد تواتر الزوايا في منطقة الهمامة لكبح جماع هؤلاء السكان في معارضتهم لبعض سياسات الحكم الحسيني، وكانت المحلة دائمة الرعاية بممثلي الإسلام الشعبي من خلال تقديم الهدايا والعطاءات[27] لقاء خدمة السلطة وجر أتباعها إلى موالات البلاط الحسيني.

كان تعاون الحكم السياسي مع الإسلام الشعبي في المجالات القبلية قد ساهم في خلق بيئة فكرية وذهنية تنزع نحو الجمود والسكون المعرفي ومنع السكان من الولوج إلى جوهر الدين خوفا من الوثوب على السلطة عند انحرافها عن ضوابط الشرع، لذا لم تطبق الشرعية الإسلامية في منطقة القبائل الجزائرية إلا بعد 1962.[28]

لئن ساهمت الزوايا والطريقة الصوفية في ترسيخ فراغ فكري عميق في شخصية القبلي فإنّها وفقت في تنظيم الحياة اليومية للقبائل من خلال الإشراف على العرف لتلك المنظومة الحضارية الجامعة بين الهوية المحلية والدين.

2– الركود الديني والسعي نحو الإصلاح:

كانت الإصلاحات التي عرفتها أوروبا الغربية خلاصة مسار طويل للتجاذب بين الفكر الإصلاحي والفكر المشدود إلى الامتيازات فكانت العلمانية التي تمكنت من القطع مع مشكلات التعصب الفكري والديني والحد من الطبقية الاجتماعية وإطلاق الفكر مع عقال الدين وسطوة الحكم، ورفع السلطة السياسية يدها عن بعض الجوانب المعيشية السكانية[29] وتوحدت أوروبا من أجل الهيمنة على بقية المجالات وتقويم “بربرية” سكان شمال إفريقيا[30] أصبح التطوّر الغربي مثالا لبقية الشعوب التي عملت أن تحذو حذوهم ومنها البلدان الإسلامية.

كانت الإصلاحات بمثابة ردّة فعل على اتّساع الشرخ بين عالم أوروبي متمدّن وآخر إسلامي يزداد تخلّفا، تلقفت النخب زمام مبادرة التحديث واتّجهت اهتمامات المصلحين نحو المؤسّسة السياسية، فبرزت رؤية المستبد العادل إذ نادى كوكبة من الذين اعتنقوا الآراء الليبرالية مثل محمد عبد (1848-1905) وعبد الرحمان الكواكبي (1854-1902) وفرح أنطوان (1877-1922) بضرورة بناء دولة حديثة على غرار النّمط الغربي.

تطوّرت بعض المفاهيم في خضم تغيير رؤية الإسلام السياسي فخرجت كلمة الحرية من مجرّد نقيض العبودية والجبر إلى نقيض الاستبداد والطغيان، ورغم أنّ هذه الإصلاحات لم تقوّض البنية الفكريّة والسياسيّة القائمة على الحكم الدّستوري والدّين الباهت التكراري فإنها لامست أسباب الوهن الذي أصاب الأمّة الإسلامية وخاصّة في ما يخصّ علاقة الفقيه بالسلطة.

كانت الإيالة التونسية أولى المجالات التي نادت بالإصلاح لقربها الجغرافي من أوروبا وقدم عهد اتصالها بهذه القوى، وعكس المشرق الذي تزعم المنهج الإصلاحي فيه نخبة من المثقفين ففي الإيالة الحسينية كانت السلطة ولفيفها من شعار التحديث. عمل حمودة باشا على تثبيت بعض الأعراب مثل أولاد سعيد باقتطاعهم لأراضي بالنفيضة لدفع الاستقرار والإنتاج عوض الاقتصار على التعامل مع جزء من السكان بسياسة الجزر والرّدع، لذلك كان انتصار حمودة باشا على دايات الجزائر سنة 1807 إفرازا للفكر الإصلاحي الذي آمن به هذا الباي والتي جعلت السكان يلتفون حوله.[31]

– الفكر الإصلاحي في تونس ولد مشوها إذ أنّ لفيف السلطة اقتصر على المراوحة بين فرض تشريعات لا تتماشى مع واقع السكان كالضرائب وبين النزوع إلى حماية امتيازاتهم، ففي الوقت الذي كان معظم السكان يعانون من الاحتياج كان أعوان البايليك لا يتوانون عن استحداث ضرائب جديدة مثل “دفع ضريبة منحة الصباط بدعوى أنّ الحذاء يبلى عند قيام الموظف لمهامه”[32] فأصبح هناك صراعا جليّا بين قطبي السلطة والمجتمع على من يتحمّل وزر وعواقب التدهور الاقتصادي للإيالة دون العمل على معالجة أسباب هذا الانحطاط.

– طغيان الطابع الشخصي للإصلاحات إذ أن كل سلطة كانت تقطع مع إنجازات من سبقها، فإذا كان أحمد باي قد آمن بضرورة إصلاح الجيش فإنّ محمد باي عدل عن هذا الرأي وانصرف إلى استحداث قوانين وتشريعات تكفل تنظيم الدولة مثل قانون عهد الأمان الذي تلاشى باعتلاء محمد الصادق باي العرش.

– النخبة التي حملت لواء التحديث، عملت على صون العرش الحسيني من الاضطرابات وزيادة تهميش وتفقير الجزء الأعم من السكان، مثل شريحة الخمّاسة التي تضرّرت من “إصلاحات خير الدين” كيف يمكن لخير الدين أن يحول هؤلاء الخماسة إلى أشباه عبيد وهو الذي ردّد في كتابة أقوم المسالك كلمة حرية 48مرّة وكلمة عدل 39مرّة”[33] ولا أدل على ذلك من التوافق بين سياسة خير الدين ومصطفى خزندار رغم الفارق في هدف كلاهما، “إنّ خير الدين مع شجبه أحيانا للسياسة المتبعة من مصطفى خزندار لم يعاكس قط صهره في الواقع”.[34]

– عدم طرح إشكالية علاقة “العلماء والصلحاء” مع منظومة الحكم الحسيني، فقد بقي هامش الإصلاح السياسي ضيقا وخاضعا لإرادة الباي زيادة على أن بعض ممثلي الدين كانوا يميلون إلى المحافظة على امتيازاتهم أكثر من اقتناعهم بحتمية الإصلاح “البورجوازية الدينية والعقارية بحاضرة تونس التي كانت أقل حركة من الأرستقراطية الحسينية الحاكمة”.[35]

الخاتمـــة:

يحتاج البحث في علاقة الدين بالسياسة أو الفقيه والسلطان إلى مزيد التمحيص والتنقيب اعتبارا للتفرعات التي يحدها هذا الموضوع والأسئلة الشائكة التي يخلفها.

عرفت البلاد التونسية غلبة السياسي دون أن يعني ذلك تغيبا كليا لمثلي الدين وكانت لهم الكلمة الفصل في المعاملات والأحكام وحتى معارضة سياسات الحكام، فقد عرف عهد علي باشا جدالا بينه وبين العلماء وخاصة الجانب العنيف في حكمه وهو ما يعني المكانة المميزة للفقهاء في بلاط علي باشا ومناخ الحرية الذي أرساه هذا الباي عكس ما ذهبت إليه متون الإخباريين من الطابع القسري.

لا يمكن فصل منظومة الحكم عن البيئة الذهنية والفكرية السائدة في الإيالة، فقد كانت البلاد عرضة لعديد الأخطار الداخلية والخارجيّة وهو ما يستلزم وجود نظام حكم قوي قادر على مجابهة هذه التحدّيات، فقد كانت أوروبا الصاعدة تمارس ضغطا تجاريا وسياسيا وحتى عسكريا وكانت الجزائر دائمة التوثب للتدخل في شأن البلاط وكان الحكام الحسينيون يتوجسون خيفة – وخاصة خلال القرن19- من إعادة الإيالة إلى الإشراف النهائي المباشر، دفعت هذه العوامل منظومة الحكم إلى الالتجاء إلى الدين لتبرير سلوكها ودرء هذه الأخطار خاصة أنّ الوضع الداخلي كان لا يختلف كثيرا عن الخطر الخارجي فلئن قبلت أغلب القبائل سلطة البايات فإنّ تفعيل هذه التبعية بقي دون المأمول وخاصة فيما يتعلّق بالاستجابة للمطالب الضريبية للبايليك.

كان تاريخ الحكم في البلاد الإسلامية عامة ذو طبيعة خاصة ذلك أنّه نظام قبلي لحقته بعض التغييرات ولكنه لم يصل بعد إلى نظام الدولة.

كما أنّ الإصلاحات التي عرفتها أوروبا والتي ألقت بتداعياتها على البلاد التونسية كانت خلاصة مراحل تاريخية من التحوّلات حتى وصلت أوروبا إلى النظام السياسي الذي كان مرآة للواقع الفكري والاجتماعي والاقتصادي، هذه التحوّلات لم تعارضها البلاد التونسية وهو ما جعل الإصلاح محايثا للبيئة الفكرية والدينية للمجتمع التونسي، كما أنّ إيمان النخبة الدائرة في فلك السلطة بالإصلاح لم يستهدف كل نواحي الإنسان في ذلك العصر بل كان تحت وطأة الانهيار وفقدان الامتيازات ، كما أن الإصلاحات لم تكن وليدة الشخصية الذهنية للمجتمع التونسي ولم تنطلق من رحم واقعه لذلك كانت سريعة الزوال ولكنها أدّت إلى بروز نخبة متأثرة بالفكر الأوروبي ستقود العمل السياسي في فترة لاحقة.

[1]  كلاستر (بيار)، ” أثريات العنف أو الحرب في المجتمعات البدائية “، من مؤلف “في أصل العنف والدولة” ، تعريب وتقديم علي حرب، دار الحداثة للنشر والتوزيع، بيروت1975، ص73.

[2]  مؤلف جماعي ، ” مقدمات ووثائق في تاريخ المغرب العربي “، منشورات كلية الآداب بمنوبة، تونس 1995، ص180.

[3]  ابن أبي الضياف (أحمد)، “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان”، تحقيق لجنة من وزراء الشؤون الثقافيّة، الدار العربية للكتاب، تونس2001، الجزء2، ص84.

[4]  الأندلسيّة (محمد بن محمد) المعروف بالوزير السرّاج، “الحلل السندسيّة في الأخبار التونسيّة”، تحقيق محمد الحبيب هيلة، تونس1970، ص18.

[5]  Chérif.M-H. « Pouvoir et société dans la Tunisie de Hussayen Bin Ali (1705-1740).

[6]  عيسى (لطفي)، “الجذور الوسيطة للدولة الحديثة ببلاد المغرب”، مجلة إيبلا، السنة 61، عدد 182، تونس 1998، ص94.

[7] Saint Gervais. Mémoires, pp80-81.

[8]  بنبلغيث (الشيباني)، “الجيش التونسي في عهد محمّد الصادق باي 1859-1882”، تقديم عبد الجليل التميمي، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، الطبعة الأولى، تونس1995، ص65.

[9] Marin.L. « Le portrait du roi ». Publication minuit. Paris. 1981. p21.

[10]  كلنير (إرنست)، “السلطة السياسيّة والوظيفة الدينيّة في بوادي المغربيّة” من مؤلّف “الأنتروبولوجيا والتاريخ”، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، دار تويقال للنشر، الطبعة الأولى، المغرب1988، ص44.

[11]  أركون (محمّد)، “نافذة على الإسلام”، ترجمة صياح الجهيم، دار عطيّة للنشر، الطبعة الأولى، بيروت1992، ص50.

[12]  كرين (برينتون)، تشكيل العقل الحديث”، ترجمة شوقي جلال، “مجلة عالم لمعرفة”، عدد82، سنة 1984، ص159.

[13]  كافين (رايني)، “الغرب والعالم”، ترجمة عبد الوهّاب المسيري وهدى عبد المسيح الحجازي، مجلة عالم المعرفة، عدد87، جانفي، 1986، ص8.

[14]  أركون (محمد)، “الفكر الإسلامي: قراءة علميّة”، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان1987، ص52.

[15]  كوتراني (وجيه)، “الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في إيران الصفوية التاجارية والدولة العثمانيّة”، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، بيروت2001، ص145.

[16]  عبده (محمد)، “الإسلام والنصرانية”، الطبعة الثالثة، القاهرة1922، ص147.

[17]  الزركشي (أبو عبد الله محمد)، “تاريخ الدولتين الموحدتين والحفصيّة”، تحقيق محمد ماضور، تونس1996، ص62.

[18]  الخامس (محمد بيرم)، “القطر التونسي في صفوة الاعتبار بمستودع “الأمطار والأقطار”، تحقيق علي الشنوفي وعبد الحفيظ منصور ورياض المرزقي، بيت الحكمة، الطبعة الأولى، تونس1989، ص105.

[19]  ابن أبي ضياف (أحمد)، “الإتحاف…”، نفس المصدر، الجزء2، ص74.

[20]  المحجوبي (علي)، “النهضة الحديثة في القرن19، لماذا فشلت بمصر وتونس ونجحت باليابان”، مركز النشر الجامعي ودار سيراس للنشر، تونس1990، ص90.

[21]  عبد الرزاق (علي)، “الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام”، نقد وتعليق ممدوح حقي، مكتبة الحياة، بيروت، ص26.

[22]  شرارة (وضاح)، “الحركات السياسية الدينية أو التمهيد للدولة”، دار الحداثة، بيروت1980، ص167.

[23]  جعيط (هشام)، “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي”، ترجمة المنجي الصيادي، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت1984، ص18.

[24]  بن طاهر (جمال): “الفساد وردعه، الردع المالي وأشكال المقاومة والصراع بالبلاد التونسية 1705-1840 “تقديم محمد الهادي الشريف، منشورات كلية الآداب منوبة، تونس1995، ص108.

[25]  كوثراني (وجيه): “الفقيه والسلطان”، نفس المرجع، ص11.

[26]  المرجع نفسه، ص14.

[27]  مؤلف جماعي مقدّمات ووثائق في المغرب العربي الحديث……”، نفس المرجع ، ص 120.

[28]  أركون (محمد): “نافذة على الإسلام”، نفس المرجع، ص97.

[29]  Jeannin.P. L’Europe du nord ouest et du nord. Presse universitaire de la France. 1ère édition paris 1969. p257.

[30] Le père dan. Histoire de la Barbarie et des Corsaires. Paris 1837. pp4-5.

[31]  المحجوبي (علي)، “النهضة الحديثة…”، نفس المرجع، ص78.

[32]   المرجع نفسه، ص133.

[33]  التيمومي (الهادي)، “مهنة الخامسة، تونس بيت التشريع والواقع 1861-1875” من مؤلف جماعي:“المغيبون في تاريخ تونس الاجتماعي”، تنسيق الهادي التيمومي، بيت الحكمة، تونس 1993، ص90.

[34]  فان كريكير (جيرار)، “خير الدين والبلاد التونسية 185-1881” ترجمة البشير بن سلامة، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس 1988، ص102.

[35]  جعيط (هشام) “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي”، ترجمة المنجي الصيادي، درا الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 1984، ص18.

تحريرا في 27-10-2017

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى