الشرق الأوسطعاجل

إشكالية الديني والسياسي عند محمد عابد الجابري

اعداد الباحث : محمد عدي – المغرب – المركز الديمقراطي العربي

 

تعتبر ثنائية الدين والسياسة من أهم الإشكاليات التي تناولها الدارسون في الفكر العربي المعاصر، بحيث نجد أطروحات تختلف من حيث منطلقاتها ومرجعياتها الفكرية والإيديولوجية، وتختلف كذلك من حيث غاياتها ونتائجها، دون أن ننسى أن هذه الإشكالية ليست حديثة العهد بالفكر السياسي العربي، بل كانت من أهم قضايا الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية، خصوصا عند الفارابي، الذي كان اهتمامه منصبا على الفلسفة السياسية أكثر من مواضيع فلسفية أخرى كانت محل اشتغال فلاسفة عصره، فهو فيلسوف سياسي فضلا عن كونه فيلسوف الملة، أي أن اشتغاله بالسياسة كان بموازاة اشتغاله بالدين من منظور فلسفي، فكما يقول محمد أيت حمو : ” فالفارابي أعظم فيلسوف للملة، وأول فيلسوف قدم تصورا فلسفيا عميقا للملة في الإسلام ”[1]، وما زالت إشكالية الديني والسياسي تفرض وجودها في الفكر العربي المعاصر، بل ازدادت أهميتها أكثر من ذي قبل خصوصا أما التحديات الآنية التي تقوض الكثير من أطروحات الإسلام السياسي التي كانت من قبيل المسلمات الدينية فضلا عن كونها أعرافا سياسية، خصوصا أمام دعوات العلمانية التي تطورت في سياق فلسفي وعلمي رفضه الفكر الديني التقليدي من قبل، وما زالت تجليات رفضه واضحة عند بعض التيارات الدينية التقليدية السلفية.

وهذا المقال المختصر هو محاولة لتسليط الضوء على أطروحة لأحد كبار المفكرين المعاصرين الذين تناولوا إشكالية الديني والسياسي بحثا وتأليفا، وهو المفكر المغربي محمد عابد الجابري صاحب مشروع نقد العقل العربي الذي خصص الجزء الثالث من مشروعه لنقد العقل السياسي العربي من حيث محدداته وتجلياته، هذا بالإضافة إلى دراسات متفرقة تقدم أطروحة متماسكة ودراسة وافية لهذا الموضوع.

اشتغل الجابري في الجزأين الأول والثاني؛ تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي على ”أسس الفعل المعرفي وآلياته وموجهاته في الثقافة العربي”، فهو دراسة لعقل الفكر العربي، أما في الجزء الثالث الذي خصصه للعقل السياسي العربي، فالمقصود منه هو دراسة واقع العقل العربي أي ”محددات الممارسة السياسية وتجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية وامتداداتها إلى اليوم”[2]، لهذا فالجهاز المفاهيمي سيختلف عن الجزأين السابقين، بحيث لن يدرس الجابري العقل السياسي انطلاقا من النظم المعرفية الثلاثة المعهودة (بيان، عرفان، برهان)، بل بجهاز مفاهيمي خاص يستعير الجابري صنفا منه كم أشار إلى ذلك من ”الفكر العلمي الاجتماعي والسياسي المعاصر”، وصنف يستعيره ”من تراثنا العربي الإسلامي”[3] مؤكدا وعيه بصعوبة ذلك وبما يعتريه من الأخطار.

ومن أهم المفاهيم الإجرائية التي وظفها الجابري لدراسة محددات وتجليات العقل السياسي العربي :

اللاشعور السياسي : هذا المفهوم الذي استعاره من المفكر الفرنسي ”رجيس دوبري”؛ حيث وظف هذا الأخير مفهوم اللاشعور السياسي في نقده للاشتراكية أو بالأحرى واقعها في الاتحاد السوفياتي، إذ يعتبر دوبري أن الظاهرة السياسية ليست نتاجا لوعي الناس، ولا نتاجا لعلاقاتهم الاجتماعية والطبقية، بل هي نتاج لضغوطات ”مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات”، وهو ما يسميه دوبري باللاشعور السياسي، الذي يؤكد الجابري أنه لا يوظفه بكل حمولته الفكرية بل بقدر ما تفرضه خصوصية الموضوع[4].

المخيال الاجتماعي : الذي يستعيره الجابري من علم الاجتماع المعاصر ، باعتباره ”جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للإيديولوجيا السياسية، في فترة تاريخية ما، ولدي جماعة اجتماعية منظمة، بنيتها الشعورية”، والمخيال الاجتماعي العربي هو ”هو الصرح الخيالي المليء برأس مالنا من المآثر والبطولات وأنواع المعاناة”[5].

المجال السياسي : الذي يستعيره الجابري من علم الاجتماع الفرنسي “برتران بادي”[6]، ويقصد به هذا اللاأخير التغيرات التي عرفتها الممارسة السياسية في أوروبا في ولادة عنصر ثالث فيها هو الشعب والمصلحة العامة بعد أن كانت محتكرة من طرف كل من الأمير والكنسية، مما أدى إلى الانتقال من ممارسة سياسية مغايرة تماما للممارسة السياسية التقليدية.

تطرقنا باختصار إلى أهم المفاهيم التي وظفها الجابري في نقده وتحليله للعقل السياسي العربي، مؤكدا اقتصاره على إجرائيتها دون أخذها بكل حمولتها الفكرية بل بقدر حاجة الموضوع لها انطلاقا من خصوصيته ومميزاته، أما عن محددات العقل السياسي أو بمفاتيحه فيوظف الجابري ثلاثة مفاهيم، وهي : القبيلة والعقيدة والغنيمة، وسنشير إلى أوجه توظيفها باقتضاب.

القبيلة : ويوظفها الجابري في بعدها الأنثروبولوجي كما تبلورت في الدراسات الاجتماعية الغربية للمجتمعات البدائية، يوظفها كذلك انطلاقا من مضمونها الخلدوني، باعتبارها تلعب دورا مهما في الممارسة السياسية العربية القديمة كما أنها ما زالت حاضرة في الواقع المعاصر، حيث يتحدد الآخر والمنافس  السياسي انطلاقا من مدى قرابته وانتمائه القبلي للأنا، أو يسميه ابن خلدون بالعصبية.

الغنيمة : وبقصد بها الجابري طبيعة المؤثرات الاقتصادية التي كانت جزءا من الممارسة السياسية وكان لها أثر بالغ في تحديد موازين القوى، وتنسحب الغنيمة على كل المفاهيم التي كانت معهودة في أثناء تشكل العقل السياسي العربي، أي مرحلة الدعوة المحمدية، من قبيل الفيء والخراج والعطاء والجباية والجزية..، حيث تحدد هذه المفاهيم طبيعة العلاقة الاقتصادية بين الحاكم والمحكوم وبين الغالب والمغلوب في الممارسة السياسية العربية في أولى مراحل تشكلها.

العقيدة : ولا يقصد بها الجابري دينا ولا مضمونا معينا، بل يقصد بها بنية عقلية معينة لا تنتمي إلى صنف اليقينيات بل إلى المعتقدات الإيمانية التي تحكم مخيال جماعة معينة بحيث تدافع عنها باعتبارها تؤسس لمنطق تلك الجماعة، لذلك سيركز الجابري على التمذهب باعتباره تحيزا عقديا فاعلا ومحركا في الممارسة السياسية، دون أن يولي أهمية لمضمون هذا المذهب أو ذاك من حيث صحته أو وجاهته أي دون أحكام قيمية تجاهه.

إذن فالقبيلة والغنيمة والعقيدة هي المحددات الكبرى التي يدرس من خلالها الجابري العقل السياسي العربي في أولى مراحل تشكله، ، حيث يفرق الجابري بين مرحلة تشكل العقل النظري العربي ويحدده بعصر التدوين والعصر العباسي الأول، محددا بدايات العقل السياسي بالدعوة المحمدية وما تبعها من أحداث ما زالت آثارها حاضرة وبقوة في الممارسة السياسية في واقعنا المعاصر.

أما تجليات العقل السياسي العربي الذي أشرنا في الفقرات السابقة إلى  مفهومه ومحدداته، فيرصدها الجابري من خلال مجموعة من الإشكاليات التي يمكن اعتبارها أهم محاور الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي وامتداداته وحضوره في الواقع المعاصر؛ ومن هذه القضايا ما يسميه الجابري بدولة الملك السياسي؛ التي تمثل مرحلة مهمة من مراحل العقل السياسي السني، وبميثولوجيا الإمامة التي تعبر عن العقل السياسي الشيعي، إلى غيرها من التجليات.

وسنركز هنا على تجل واحد من هذه التجليات لتبين دور المحددات التي ذكرناها سابقا ومآلها فيه، بحيث نقتصر على دولة الملك السياسي التي أسسها معاوية، بتحويله لنظام الحكم من الخلافة والشورى إلى نظام ملكي، وهو ما يعتبره الجابري : ”تأسيسا جديدا للدولة في الإسلام وإعادة بناء لها”[7]، وذلك بإنهاء معاوية للحرب الأهلية التي بدأت في خلافة عثمان والتي قضى فيها هذا الأخير نحبه بل كادت تؤدي إلى انهيار الدولة، إلا أن ما يعتبره الجابري قطيعة سياسية بدأت مع معاوية قد حال دون هذا الانهيار،  بتأسيسه لنموذج في الدولة سيبقى سائدا إلى اليوم ، حيث إن هذا البناء الذي يدعيه الجابري أوجد مفهوم ”المجال السياسي”، إذ لم تعد الممارسة السياسية تتحد بمحددات القبيلة والغنيمة والعقيدة، بل أصبحت السياسة تمارس داخل هذه المحددات، حيث بقي فعل القبيلة والغنيمة حاضرا، بينما تستعمل العقيدة ”كغطاء إيديولوجي” على حد تعبير الجابري.[8]

انطلاقا من هذه المعطيات نلاحظ أن الجابري يتجاوز ثنائية الدين والسياسي في دراسته للعقل السياسي العربي، بحيث يستحضر محددات أخرى لا تقل أهمية عن الديني في الممارسة السياسية من قبيل القبيلة، تعبيرا عن العلاقات الاجتماعية، والغنيمة، تعبير عن العلاقات والظروف الاقتصادية، ليختلف دور الدين من حيث حضوره؛ أحيانا محددا أساسيا؛ وغطاء إيديولوجيا أحيانا أخرى.

المراجع:

[1]  – محمد أيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفرابي، الصفحة 06، التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان 2001.

[2]  – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، الصفحة 07، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة، بيروت 2000.

[3]  – المصدر نفسه، الصفحة 08

[4]  – المصدر نفسه، الصفحة 13

[5]  – المصدر نفسه، الصفحة 16

[6]  – عبد الإله لقزيز، نقد التراث، الصفحة 350، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى ، بيروت 2014.

[7]  – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، الصفحة 232، مصدر سابق

[8]  – المصدر نفسه، الصفحة 234

2.5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى