الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

اتفاقية “بيسكو” – قراءة في النوايا والاهداف

اعداد : أ.م امجد زين العابدين طعمة – تدريسي وباحث في الجامعة المستنصرية / العراق- بغداد

  • المركز الديمقراطي العربي

 

 

ايقنت الدول الاوربية في ضوء افرازات بيئة امنية دولية وإقليمية متغيرة، ان عليها ان تغير من استراتيجيتها الدولية بشكل عام وسياستها الأمنية بشكل خاص، لا سيما في الآونة الأخيرة التي شهدت أكثر من حدث مؤثر على القرار الأوربي في هذا الاتجاه، في مقدمتها خروج بريطانيا المفاجئ من الاتحاد الأوربي منتصف عام 2016، فضلاً عن عوامل أخرى منها توفرالقناعة لدىأكبر فاعلين في الاتحاد الأوروبي وهما كل من المانيا وفرنسا، بالإضافة الى الازمات المتعددة والمتتالية التي تشهدها أوروبا منذ عام 2014، وفي مقدمتها الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها اكثر من دولة أوروبية من قبل التنظيمات الأصولية المتطرفة، وتبعات موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية، فضلاً عن الازمة الأوكرانية وتداعيات ضم روسيا لجزيرة القرم، كما ان لسياسة الإدارة الامريكية الجديدة بقيادة ترمب تجاه الدول الاوربية المؤثرة مثل فرنسا وألمانيا كان له بعض التأثير على القرار الأوروبي الانف الذكر.

فعلى الرغم من ان حلم بناء جيش أوروبي موحد وقوي كان حلماً للرئيس الفرنسي الاسبق شارل ديغول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الا ان بوادر تحقق هذا الحلم لم يكتب لها النجاح بسبب الفيتو البريطاني النهائيوالمتكرر في طريقالمضي بهذا المشروع، لكن نجاح(بريكست)وبدأ عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي بصورة نهائية،كان كفيلاً بإعادة الفكرة الى الواجهة مرة أخرى، وطرح الآراء الداعية بضرورة العمل بصورة جدية على تقوية ودعم القدرات الدفاعية للاتحاد الأوربيوالتنسيق فيما بينها دون الولايات المتحدة الامريكية، وبناء هياكل امنية جديدة يمكن ان تكون موازية ومشابهة لحلف شمال الأطلسي( الناتو)، فهل ستشهد المرحلة المقبلة بعد توقيع الاتفاقية وتطبيقها بشكل نهائي تشكيل تحالف دفاعي وامني مواز ومشابه لحلف الناتو، امانه سيظل في اطار كونه مكملاً لما يقوم به الحلف بشكل فعلي على ارض الواقع.

فميركل وماكرون الذين تمثل بلدانهم الثقل الأكبر داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي كافة،أصبحوا اليوم،وبفضل نجاحهم في الانتخابات الأخيرة لبلدانهم، من اشد المؤيدين والداعمين لهذه الفكرة القديمة المؤجلة،التي أصبحت اليوم واقعاً بعد اعلان وزراء خارجية ودفاع 23 دولة عضو بالاتحاد الأوروبيفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2017 توقيعها الرسمي في العاصمة البلجيكية بروكسل على اتفاقية مشتركة للتعاون الدفاعي الدائم(التعاون الهيكلي الدائم في الامن والدفاع “بيسكو- PESCO”)، والتزامها بتعاون أمنى ودفاعي استراتيجي طويل المدى ودائم، الامر الذي يؤسس لولادة فكرة “اتحاد دفاع أوروبي مشترك”، مما يتيح للدول الأوروبية الموقعة التعاون بشكل أوثق لبناء القدرات الأمنية والعسكرية.

وتهدف الاتفاقية الى تحقيق العديد من الأهداف والاولويات الأوروبية المشتركة، منها تمويل تطوير القدرات العسكرية المسلحة في محاولة للوصول الى تكامل دفاعي أوروبي ولتدعيم وحدة الاتحاد الأوروبي بعد مغادرة بريطانيا له، كما ستنشئ الدول الموقعة على الاتفاقية مبادرة مشتركة تهدف لإعطاء الاتحاد دوراً أكثر تماسكاً في التعامل مع مختلف الازمات الدولية والإقليمية المستقبلية، فضلاً عن إلزام دول الاتحاد نفسها بمشروعات مشتركة مع زيادة تعهداتها في مجالات الانفاق الدفاعي والمساهمة في مهمات الانتشار السريع، إضافة الى انشاء مقر للقوة العسكرية الموحدة المقترحة في كل دولة من الدول الموقعة على اتفاقية بيسكو.

ولم توقع على الاتفاقية كل من بريطانيا التي ستكمل إجراءات مغادرتها الرسمية والنهائية للاتحاد الأوروبي عام 2019، والدنمارك التي أعلنت وبشكل رسمي رفضها للمشروع بشكل كامل، فضلاً عن مالطا والبرتغال وايرلندا، لكن الممثلة العليا للسياسة الخارجية والامن في الاتحاد الأوروبي “فيديريكاموغريني” اكدت في تصريحات صحفية على ترك الباب مفتوحاً امام هذه الدول في حال عدلت عن قرارها برفض الانضمام الى الاتفاقية، التي تهدف وحسب وجهة نظرها الى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي ومساعدة دول الاتحاد على مواجهة التحديات الأمنية المختلفة، مؤكدة في نفس الوقت ان هذه الخطوة لن تلغي دور حلف الناتو بل ستكون مكملة وداعمة لمهام الحلف، لاسيما فيما يتعلق بامتلاك أدوات مكافحة الحرب الهجينة والتي تقع بين الأسلحة التقليدية وتلك المتعلقة بالهجمات السيبرانية والالكترونية.

لتعلن الاتفاقية عن بدأ مرحلة جديدة تركز فيها الدول الأوروبية على تكثيف عملية التعاون الوثيق فيما بينها في مجالات الامن والدفاع، وزيادة الاستثمارات في هذا الاتجاه، مما يمكن له ان يساهم وبشكل كبير في تطوير القدرات الدفاعية لدول الاتحاد كافة، والمضي قدماً نحو تحقيق المزيد من التكامل وتعزيز التعاون الدفاعي في الإطار الأوروبي لتوفير امن واستقرار أكبر لمواطنيها، في ظل الواقع الدولي والإقليمي المتغير المشار اليه انفاً.

هذه الاتفاقية التي هي في الأساس ترجمة فعلية وتنفيذ عمليل مشروع ألماني فرنسي مشترك، لوضع إطار تعاون استراتيجي أوروبي مستقبلي في مجالات الامن والدفاع، الا ان هناك تباين واضح في وجهات نظر البلدين حول طبيعة معايير انضمام الدول الأوروبية إليها، فبينما يحرص الفرنسيون على تشديد شروط الالتحاق، مع ضرورة وضع التزامات مالية محددة أكثر، يرغب الألمان في جعل هذه المجموعة أكثر مرونة، لفسح المجال امام انضمام أكبر عدد ممكن من الدول اليها، ومنها التي لم توقع على الاتفاق لحد هذه اللحظة، الامر الذي يعطي قوة اكبر للاتفاقية ويكسبها شرعية اكثر.

ومن أبرز اهداف المشروع المعلنة بشكل رسمي:

  • 1- تطوير المعدات والأجهزة الدفاعية والعسكرية عبر مشاريع اوربية مشتركة.
  • 2- ضخ 2% من ميزانيات 23 جيش تابع لدول اوربية من التي وقعت على الاتفاقية في البحوث والدراسات المتعلقة بالشؤون الأمنية والدفاعية والتكنولوجيا العسكرية.
  • 3- انشاء صندوق أوروبي لتحفيز الصناعاتالعسكريةالمشتركة برأسمال 5.5 مليار يورو.
  • 4- تعزيز جاهزية القوات الأوروبية عبر مهام وواجبات عسكرية مشتركة.
  • 5- زيادة الانفاق العسكري الأوربي بالتدريج وبعملية منظمة.

وعلى الرغم من التأكيدات والاشارات التي أطلقها أكثر من عضو مؤثر في الاتحاد الأوروبي على أن اتفاقية بيسكو لن يكون لها تأثيراً مفصلياً على مجمل العلاقة مع حلف الناتو بل سيكون تأثيرها تكميليا لعمل حلف الناتو، الذي يضم في عضويته 22 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي، وان الهدف من الاتفاق يتلخص بوضع سياسة اوربية دفاعية أكثر الزاماً من دون تشكيل جيش اوروبي، الا ان بعض التصريحات تشير الى ابعد من ذلك، مثل التصريحات التي ادلت بها المستشارة الألمانية ميركل في وقت سابق والتي اثارت الكثير من علامات الاستفهام في حينها وقالت فيها بان “الأيام التي كنا نعتمد فيها على بعض قد ولت وعلى أوروبا ان تأخذ مصيرها بيدها”، فضلا عن التصريحات التي ادلت بها وزيرة الدفاع الألمانية اورسلا فان درلين والتي وصفت توقيع الاتفاق بانه يوم عظيم لأوروبا وان الاتفاق هو تأسيس لاتحاد اوربي للأمن والدفاع، الامر الذي يمكن ان يساعد المانيا والبلدان الأوروبية حل المشاكل التي تواجهها بمفردها”، وهو ما يعد مواقف جديدة لم تطرح من قبل.

بالإضافة الى ما ذهبت اليه الممثلة العليا للسياسة الخارجية والامن في الاتحاد الأوروبي من ان الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاقية ستقدم أكثر من خمسين مشروعاً مشتركاً في مجالات تحسين وتطوير القدرات الأمنية والدفاعية والعسكرية، في خطوة مهمة نحو الاكتفاء الذاتي وتعزيز الاستقلال الاستراتيجي وسياسة الامن والدفاع في دول الاتحاد لمواجهة التحديات الأمنية الخطيرة.

فالدول الأوروبية ووفق ما تم الاتفاق عليه في بيسكوستكون مطالبة وبشكل تلقائي بزيادة نسب الانفاق العسكري الملقى على عاتقها، وهو ما كانت رفضته في وقت سابق عندما تم طرح الموضوع من قبل الرئيس الأمريكيترمب،لا سيما فيما يتعلقبموضوع زيادة حصصها المتعلقة بالجانب الدفاعي في حلف الناتو، حيث صرح في حينها بان الحلفاء الأوروبيين يتعين عليهم ان يدفعوا المزيد من اجل امنهم،  علماً ان ميزانية الدفاع لدول الاتحاد الأوروبي تبلغ ما مقادره 334 مليار يورو، فيما تبلغ ميزانية الولايات المتحدة الامريكية في هذا الشأن 611 مليار يورو.

ان الواقع الجديد والمختلف الذي يعيشه العالم اليوم بفعل التطورات المتسارعة والبيئة الأمنية المتغيرة، يختلف بشكل جذري عن واقع العالم الذي افرزته مخرجات الحرب العالمية الثانية والهياكل الدولية والعسكرية التي تلت هذا التاريخ المفصلي المهم، فالتصريحات والآراء التي طرحت من قبل أكثر من طرف فاعل في الاتحاد الأوروبي، لاسيما من قبل المسؤولين في المانيا وفرنسا، فضلاً عن حيثيات الاتفاق الأوروبي التي تشير الى إمكانية تشكيل كيان عسكري موحد للاتحاد الأوربي، بإمكانيات وتسليح منفصل عن الجيوش الخاصة بالاتحاد، مما يؤهله لان يكون ثاني اكبر تحالف عسكري بعد حلف الناتو، تشير الى ان اهداف الاتفاق يمكن ان تتجاوز ما هو معلن عنه ليصبح الجيش الأوروبي المؤمل انشاءه خلال المرحلة المقبلة بديلاً عن حلف الناتو، او في الطريق بان يكون بديلاً له كأن يكون منافساً له في المرحلة الأولى ومن ثم يحل محله في المراحل القادمة من الاتفاقية.

واستناداً على ما تقدم فان المرحلة القادمة يمكن ان تشهد تحقق اكثر من سيناريو وفقاً للمعطيات المتوفرة على الأرض، فضلاً عن مخرجات واهداف بيسكو المعلن منها او تلك المستندة على النوايا، اذ انه ووفقاً لقراءة تحليلية لمسار الاحداث وتصريحات الدول المعنية بالأمر، لاسيما تلك المؤثرة في قرار الاتحاد الاوروبي مثل المانيا وفرنسا، فانه يمكن ان تشهد المرحلة المقبلة من الاتفاق بداية خطوات عملية لبناء جيش أوروبي موحد يعمل بمعزل عن حلف الناتو، يتولى مهام حماية الدول الأوروبية ويتم تمويله من ميزانيات الدول المنضوية فيه، ليشكل بداية عهد جديد يتم فيه الاستغناء بشكل او باخر عن الدور الذي يلعبه حلف الناتو في هذا الاطار، ويعمل بالتدريج على تجاوز كل اشكال القصور في تعامل الأوروبيين مع امنهم القومي، ويقلل في الوقت نفسه من اعتمادهم على الولايات المتحدة في مسائل الامن والدفاع.

بالإضافة الى إمكانية مشاركة هذا الجيش في بعض مهام إحلال السلام والامن في مختلف بقاع العالم، فضلاً عنإمكانية مشاركته في العمليات التي تتعلق بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية في قارة افريقيا او في ضفتي الاطلسي،لا سيما بعد تصاعد معدل التهديدات الأمنية التي تواجهها الدول الأوروبية بشكل عام من هذه المناطق، او المشاركة في تلك المهام التي يمكن ان يتخلف عنها حلف الناتو او الولايات المتحدة، لأسباب متعددة، او الوقوف امام التمدد الروسي في حوض البحر المتوسط بشكل عام او في شرق أوروبا واوكرانيا والقرم بشكل خاص، وهو ما يمكن ان يشكل خطراً كبيراً على الامن الأوروبي وامن الطاقة بفضل ما تحتويه هذه المنطقة من ثروات طبيعية.

اوفي تحقق السيناريو الاخر الذي يشير الى ان اهداف الاتفاقية تذهب باتجاه كونه لا يتجاوز الأهداف المعلن عنها والتي تذهب باتجاه حصر مهام الاتفاقية بعدها مكملة وداعمة لحلف الناتو، اوفي السيناريو الاخير الذي يذهب باتجاه ان الاتفاق سيكون ممهداً لتشكيل قوات عسكرية محدودة المهام او أقرب الى قوات شرطة متخصصة بمهام مكافحة الهجرة غير الشرعية، تأخذ على عاتقها معالجة واحدة من أكثر المشاكل التي تشكل خطراً على الامن الأوربي والدولي، او في عمليات مكافحة الإرهاب والحد من اخطارها.

  • المصدر : مجلة اتجاهات سياسية احدى اصدارات المركز الديمقراطي العربي – ألمانيا – برلين
Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى