الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الى الأمام: نهاية سياسات القرن التاسع عشر

اعداد : أبو القاسم المشاي – كبير باحثين واستاذ مشارك هيئة البحث العلمي – ليبيا

  • المركز الديمقراطي العربي

 

أصبح الشر قابعا في كل مكان. إنه في داخل كل واحد منّا. لا مفر إذن من منطق الرعب ضد الرعب، ولكنه رعب غير قابل للحل، يجعل النظام عارياً أمام ذاته وعاجزاً عن الخروج من دائرة إعادة إنتاج بنية موته. بودريار

 

شكلّت زيارة الدولة الفرنسية الى امريكا مفارقة جديدة في السياسة الفرنسية وتجاهلا للموقف الاوربي الموحدّ، وهذا المنحى يرسم ملامح مستقبلية للرؤية الفرنسية واعلان قطيعة كلية مع سياسات القرن التاسع عشر الاستعمارية التي ارتسمت خرائطها وملكيتها وتقسيمها للعالم في برلين عام 1884. وهذا ما عبرت عنه محطات ماكرون منذ تدشينه لعتبات الاليزية بشعار الجمهورية السادسة واعلان القطيعة مع الارث النابليوني والديغولي.. بل الاعلان مباشرة عن ماضي العبودية الذي مارسته فرنسا – نابليون خلال حقبة القرن الثامن عشر، وهكذا حضرت اغلب خطابات ” ماكرون” الى الأمام او ” الجمهورية السادسة” كمحاولة لتحسين صورة فرنسا لمرحلة ما بعد ساركوزي وظاهرة الكلبيتوكراسي – الحكام اللصوص – والتي لم تسلم منها فرنسا المعاصرة، وصعود خطابات الشعوبية التي تبناها اليمين الفرنسي .. ومازالت تعيش ارتباكها وارتداداتها مغ الاضرابات العمالية والتي تحاول في ذات المصير التشبث ” بالماضي الاستعماري!” وبمنهجيات وادوات القرن الماضي – حيث افل بريق النضال العمالي والنقابي، وعلى سطح تنظيرات نهاية العمل – نهاية الوظيفة .. وجدت الاحداث الاخيرة صورتها في تعطيل قطاع المواصلات في فرنسا وهو ما يعيد الى اذهاننا محطات سابقة للحركة العمالية في العصر الصناعي والى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. حيث شعارها مناهضة الراسمالية والاحتكارات العالمية، ولم تتوقف النضالات العمالية وارتفعت وتيرتها مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتحول البلدان الشيوعية الى المنظومة الاقتصادية الاوربية وجاءت حركة عمال المواني البولندية في تسعينيات القرن الماضي لترفع شهادة نهاية صلاحية المد العمالي في صورته الشيوعية واختفت يافطات ” إنجلز ” ياعمال العالم اتحدوا !

إعلان راسمالية السوق لمرحلة ما بعد ” الجات ” GATS والتجارة العالمية لم يكن سوى اعلان مبكر لـــ ” نهاية سياسات القرن التاسع عشر ” والاندماج او الانمحاء في النظام العالمي الجديد .. حيث يتهاوى النظام القديم ومنهجياته ومعاهداته واتفاقياته مودعاً تراتيله الجنائزية للقرن التاسع عشر ونهاية حقبة الاستعمار والهيمنة لصالح الليبرالية السياسية مع مزيدِ من التحرر لصالح الرقمية والانسان – آلة، وفي ذات المصير ” فرنسا الجديدة ” هي نتاج تاريخ طويل من الاستعمار والحروب وانتاج العبودية من كالدونيا الجديدة الى غوادلوبي – الكاريبي، الى مراكزها ومؤسساتها الموجهة لذات الغاية الذي اختنقت بتخمتها فرنسا لازمنة طويلة – تارة تحت الغطاء الاوربي السميك ومرات عدة تحت شراشف السياسات الزائلة .. واذ انكشفت ازمتها ومرضها – ف كانت الزيارة للبحث عن رئة للتنفس في اروقة البيت الابيض واعلان الولاء المطلق وتدشين المعبد متجها بصلواته من اجل الخروج بأقل الخسائر مع تحمل فاتورة العقاب .. اذ لم يعد هناك من يثق في صكوك الغفران البابوية ولم تعد تنطلي الخديعة على التاريخ !

* هذا التوجه الحتمي الذي رسمه وخطط له ” ماكرون ” مسترشدا بما يقدمه عديد المفكرين ولعل المفكر الفرنسي بودريار، في احدى محوارته ..” نحن نرغب في أن يوجد سيد يبسط هيمنته على العالم… تظهر المحرقة في حدها الاقصى ك محرقة عالمية. إننا نتجه نحو إبادة لا أعرف طبيعتها، ولكن الفرق بيننا وبين أمريكا يكمن في كونها تسير نحو (أي إبادة) بقوة وثبات هائلين “.

هل ستكون فرنسا وعبر ولادتها الجديدة ومع ما تعانيه من أزمات بين ارتهانها للاتحاد الاوربي او اللعب بمفردها وبما تملكه من أوراق قديمة ظلت مخفية عن شروط التسليم بالحاكمية لأوربا الموحدة واشتراطاتها الاقتصادية والامنية ؟ ام المساألة رهان في لحظات السباق الاخيرة ومحاولة لإستيعاب شروط الخسارة قبل الربح .. وهذا ما يجعلها تقطع حبل تواصلها مع عدد من الدول برمشة عين بالرغم من حيوية مصالحها ونفوذ شركاتها الكبرى من طهران الى الدوحة .. وهل الانتماء لعقيدة الاسواق الجديدة او ان ما يقودها ليس سوى وهمْ إنقاذ ما تبقى من رفات ” الرأسمالية الثالثة – الطور الصناعي الثالث لصالح صعود الرأسمالية الرمزية والتي هي ثورة اللا – يقين في ذات الافق الذي تبشّر بظهوره !

الارهاب لتمويل الارهاب:

من المفارقات التى انعكست مباشرة على اثر الزيارة ” الماكرونية ” تبني فرنسا المنتدى الدولي لتمويل الارهاب، وكأن الأرهاب جاء وظهر وتجلى وتحول الى مصدر استثماري فوق دولي وهو في ذات المنحى يقف شاهدا ليخط مقولة ” فكرة الأسواق الحرة ” وبالتالي وضع نظام مراقبة مالي أكثر شمولية وتحكما وهو ابرز تحدي يواجه سياسات القرن الحادي والعشرين .. وهذا ما تواجهه فرنسا وبقية الدول الاستعمارية وتأتي في مقدمتهم بريطانيا العظمى سابقا .. ولعل ما نشرته الصحافة الروسية يمنحنا بعدا اضافيا للنظر في هذه التغيرات والتبدلات والمفارقات وهي تقف على حافة طور حضاري جديد ومستقبل مشوش وعامض ” تكمن مشكلة فرنسا- ماكرون في أن المبالغة في الموالاة لأمريكا: “أمريكا X 2” أو حتى “أمريكا X 3” هو دور تمارسه بريطانيا منذ وقت

طويل.ويجب على ماكرون لكي يتفوق عليها، أن يأتي بأمر غير اعتيادي، كأن يعلن الحرب على روسيا مثلا، بعد أن هيأت بريطانيا الغرب لذلك، ووضعته على حافة تلك الحرب “.

* ابتكرت فرنسا أول خطواتها تجاه المعبد الجديد ” موضوع تمويل الارهاب” والذي يمكن وصفه بأنه مشروع متعدد الاهداف والغايات والمصادر .. منْ يمول الأرهاب ؟ ومن هو الارهاب وهل الارهاب شكل مادي يمكن القضاء عليه ..ام ان المسألة محاكاة ساخرة تحاول الزيارة الماكرونية ان تستجيب لفرضياتها وان بدأت لها غير مفهومة سياسيا ..فبالرغم من الصدى الاعلامي الذي انحصر في القبلات بين ماكرون وميلانيا وبين ردع الشاهنامة الايرانية النووية، وبين التهديدات الارهابية التي زعزعت استقرار فرنسا في اكثر من مرة، وبين ماضيها الاستعماري وتاريخها العبودي .. وبين اشتراطات اندماجها الضريبي وتجنب الحرب التجارية القادمة .. ولكن تظل هذه المحاولة او الهرولة الى الامام هي ما يمنح فرنسا توازنا جديدا داخل منصة التداعيات المتوقعة لإزمة اقتصادية كبرى – ولعل المبادرة لتنفيذ القوانين والتجميد المتصل بتمويل الارهاب وغسيل الاموال يصب في مصلحة قانون ” الجاستا ” Justice Against Sponsors of Terrorism Act الذي تم استحداثه بعد هجمات 11 سبتمبر 2011، وهذا ما جعل فرنسا تذهب في ذات الاتجاه وتعيد ترميم تصدعاتها التي انتجتها الساركوزية واحتضانها لمشاريع الدكتاتوريات وتحالفها مع الانظمة الشمولية الداعمة والمنتجة للارهاب..!

حرب تجارية:

ما أعلنه ماكرون امام الكونغرس الامريكي كمحاولة جريئة للمشاركة في خوض الحرب العالمية الرابعة ” الحرب التجارية” والادعاء بتحديد خرائطها عبر تجارية في الوقت الذي يغلف العالم الغموض واللا – يقين والتقلب والتعقيد وما يطلق عليه VUCA فقط مجرد حضور هذه المعادلة لاذهاننا فأننا سنجد لـــ ” فرنسا ” الذريعة والمبرر لهذه الانغماسية والقطيعة من جهة أخرى، وبين انحسار دورها الاستعماري وضعف تحركها السياسي داخل المجموعة الاوربية وعلاقاتها مع محيطها المتوسطي المثير للشكوك – القطيعة مع الماضي والانغماس كليا في المشروع الامريكي وهو يدشن اجندة النظام العالمي الجديد .. اذن هي حرب تجارية تدمرّ الوظائف وتقضي على الطبقة الوسطى، ولعل هذه العبارة السياسية كان قد قدمها لنا ستيغليتز في كتابه الشهير ” الانقسام الكبير” حيث نقف على عتبة تنبؤاته التي أعلنها أيضاً في ” العولمة والسخط” وأبرز ما يمكن التفكير حوله هو مرحلة التفاوت في المداخيل والتسارع التقني والذي تزايدت هوتها وفجوتها لتحفر تأثيرها على مستوى الحياة البشرية وتمنح التباطؤ لعجلة التنمية لنكتشف خديعة التنظيرات امام تدفقات الهجرة غير الشريعة وصعود الارهاب والجريمة وازمة الغذاء والانحباس الحراري وظهور عقيدة الكلبتوكراسي Kleptocracyاو الحكام اللصوص.. وعندما وصلت الازمة الى جيوب المجتمع الاوربي بعد ان ضربت اليونان وقضمت مواقع العمل في ايطاليا الصناعية

واعلان البريسكت الانجليزي .. فهي اليوم تتعمق لتدمر وتقضي على الوظائف لصالح الروبوتات وسلطة التكنولوجيا الجديدة وجميع هذه واكثر تشكل ضغطا متزايدا يتحرك بسرعة فائقة وهو من جانب لا يعبر عن الرأسمالية الحقيقية ولكنه في ذات الصفحة يسرّع من انهيار احدى اطوارها والتي مازالت تمسح بسلوكها الاحتيالي مجمل شروط وواجهات الاسواق الحالية .. وهي ذاتها الشروط التي دفعت فرنسا والدول الاستعمارية الى احتلال العالم وصياغة شروط اقتسامه في مؤتمر برلين 1884 وتوجّتها بالعديد من الاتفاقيات من معاهدة أوشي لوزان الى فرساي ويالطا وسايكس بيكو .. وغيرها من الاتفاقيات التي حولت العالم بأسره الى اسواق نخاسة وعبيد لصالح الاستعمار والقوى المهيمنة حتى وان تبدلت المحطات بين اللاعبين ” رابح وخاسر” !

* هل هذا يعني ان الهرولة الجديدة والتي تجر خطواتها على المسرح الاحتفالي بإنتصار ليبرالية الاسواق وتأّبين ” وهمْ” الايمان بوجود واقع ثابت ؟ وهذه اليقظة المفاجأة او التي مهدت لها لقاءات اعلان القطيعة من ابيدجان الى مالي والنيجر واخيرا مع – الصديق اللدود صاحب باريس سان جرمان – وشركة امارة الحمدين، كما يفسر لنا محاولة متمردة للبحث عن تراخيص جديدة يمكن تكييفها مع التغيرات الكبرى الجيو – أمنية والجيو – اقتصادية ومع اشتراطات المنهج الامريكي للتنمية المستدامة واهداف الالفية .. امْ ان المسألة تتويج لمزحة فرنسية ساخرة وليست سوى محاولة يمكن وصفها عبر المحافظة على محمياتها وتقاليدها الاستعمارية تحت الغطاء الامريكي وعبر برنامج فرانكفوني تنسجه على يافطة مضللة “الاستعمار بالتنمية” ! وبوعيها الثقافوي والانثربولوجي والفكري للهيمنة والاستبداد والنهب لثروات الشعوب وعبر تدجينها لطريقة حياتها ونمط عيشها واسلوب رفاهيتها وبوعيها لــ ” سلطة استبداد ” ثاوية في العقل الاوربي المهيمن على الواقع والمواقع وحتى صناعة العقائد المتطرفة واستخدامها وجدت ضالتها ودعمها واحتضانها تحت الاغطية الاوربية – الانجليزية والفرنسية بشكل خاص، كما ان صعود اليمين المتطرف والشعوبية والارهاب العرقي مرورا بعقيدة الحرب وتجارة السلاح حتى وسائل التعذيب المتطورة تمت تحت عقل وايادي اوربية .. هل كل ما يحدث ليس سوى ” موت بقاء السلطة” ؟!

الخيبة المؤجلة:

خابت بالفشل مساعي فرنسا – الجمهورية السادسة في احتواء الازمة الليبية ومجموعة الساحل والصحراء الافريقية وتزاحمت على طاولة الاليزيه المحاولات المبسترة والجاهزة لإدارة الحرب والهجرة والجوع عن بعد، واحتدم الصراع الجيو سياسي الايطالي الفرنسي على جنوب المتوسط، ما يعيد الى الاذهان الصراع الايطالي الفرنسي في عام 1934 والتي توّجت بأتفاقية غرسياني – لافال والتي سرعان ما تنصلت منها فرنسا مع خسارة ايطاليا في حلبة الحرب العالمية ما وسعّ من النفوذ الفرنسي وتسهيل اقتسام وابتلاع الغنيمة مع بريطانيا العظمى .. ولعل الساركوزية وتبنيها لمشروع حرب إزالة القذافي والذي لم يكن قبل ذلك باشهر سوى الصديق المخلص لإوهام فرنسا بالسيطرة على منابع الغاز والنفظ ومشاريع الإعمار والبنية التحتية ودخولها كوسيط رئيسي وأشبين لدعم عقد المصالحة الاوروبية مع نظام القذافي وعبر ” المأذون ” القطري الذي وجد الطريق ممهدا ليجرّ المنطقة والبلاد الى صراعات مفتوحة على أكثر من اتجاه .. وتتحول قطر الى دولة عظمى وصانع للتطرف وداعم جيو استراتيجي للحركات المتطرفة من آزواد الى دار فور الى شواطي المتوسط وحين يصبح الارهاب اللعبة التي يحتفى بها ” السوق” لزيادة كثافة عصر الفرجوي، وحين تتهاوى الانظمة الاوربية والفرنسية والانجليزية امام سذاجة الممثلين وتظهر لنا هشاشة النظام عندما يتم تفجير مطار بروكسل وحصد ارواح الابرياء في باريس – 11، بل يتحرك اسرع من التنبؤية الزائفة لأعتى اجهزة المخابرات – MI5 ويضرب فرحة الناس في مانشستر وحين الارهاب لا يكتفي بالعشوائية بل يرسم خطواتها عبر لعبة النظام ذاته والذي ولدت من بنيته الفكرية وعقله المخابراتي !

وفي ليبيا تلعب فرنسا مع الجميع فهي تدعم حفتر في الشرق الليبي وتدعم حكومة الوفاق الاسلامية .. بينما في الجنوب الليبي فهي تتحالف مع مختلف الاطراف لضمان التلاعب بالصورة والتحكم في تغير المشهد .. وبما يخدم السياسات الفرنسية المؤجلة وفي ذات المشهد تعمل على تقزيم وكسر اصابع الفاشية الجديدة والتي لملمت اوراقها مع خروج حكومة ” ألفانو – جنتليوني ” من السلطة مع الاحتفاظ بحلفائها في حكومة الوفاق وآخرين.. اذن تبدلت القوانين والمعطيات ولم يتبدل اللعب بأوراق الازمة الليبية والتي ساهمت في صناعة انحرافات جديدة وقطائع جديدة وتحولت ايطاليا من شريك متوسطي – أوربي الى جار لدود.. هل ستدفع فرنسا ثمن ذلك لاحقاً امْ ان الفاتورة تنتمي للحرب على الإرهاب .. يشبه الموضوع الى حدّ كبير تحويل الجثث الى رهائن، وتحويلنا الى متفرجين مخدوعين، وهذا هو ” التحريف الساخر للتاريخ” ؟!

طرابلس – ليبيا : 27/04/2018

3.5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى