تقدير الموقف

مستقبل الإستراتيجية التركية حيال الاتحاد الأوربي

 اعداد الباحث :عمار مرعي الحسن – باحث دكتوراه سياسة دولية متخصص بالشؤون التركية الإيرانية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

ليس من السهولة التنبؤ بمجريات الاحداث المستقبلية وذلك لأن هذا الأمر يدخل ضمن عالم الغيبيات التي لا يمكن الوصول لها ومعرفة حيثياتها وكل تفاصيلها وفق الامكانيات المحدودة التي يمتلكها الإنسان. إذ إنّ عملية الادراك لصور المستقبل في عالم متغير معقد متداخل تحتاج الى رؤية استراتيجية علمية تساعد على فهم و إدراك مدخلاته واستشراف مخرجاته للوصول لصور المستقبل، اذ يتم ربط هذا التصور بقدر من الحساب العلمي (الادراكي) فيتفاعل الادراك العلمي مع التصور المستقبلي فتنتج الاحتمالات العلمية التي تمنح الانسان القدرة على التنبؤ واستقراء المستقبل وفق رؤية تحليلية قائمة على اسس موضوعية. وبقدر تعلق الأمر بمستقبل الاستراتيجية التركية حيال الاتحاد الاوروبي فانه يمكن وضع ثلاث احتمالات مستقبلية يمكن أن تكون أحدها الخيار الاقرب للتحقق في المستقبل المنظور بالنسبة لتركيا. وهذه الاحتمالات يمكن توضيحها على النحو الاتي :

الاحتمال الأول: نجاح استراتيجية تركيا حيال الاتحاد الاوربي (انضمام تركيا الى الاتحاد الاوربي)

إن افتراض هذا الاحتمال قائم على أساس ان الاستراتيجية التركية ستتمكن من اقناع الاتحاد الاوروبي بضرورة وحتمية قبول عضويتها في الاتحاد، وذلك يكون من خلال الدور الكبير الذي ستقوم به تركيا سواء على المستوى الداخلي بإجراء كل الاصلاحات التي تتطلبها العضوية في الاتحاد الاوروبي، فضلاً عن الدور الاقليمي التركي النشط الذي يتحرك بفاعلية كبيرة فيجلب العديد من المزايا والفوائد للمصالح الاوروبية التي ستمتد وتتوسع مع توسع حركة  الدور الاقليمي  التركي.

إذ إن الاتحاد الاوروبي عندما يضع القدرات والمقومات الكبيرة التي تمتلكها تركيا في ميزان الحساب الاوروبي عندها يصل الى قناعة إنه من الضروري قبول عضوية تركيا التي  تتمتع بمؤهلات فريدة، فهي دولة كبيرة من حيث المساحة( تبلغ مساحة تركيا 783562كلم2)، فضلاً عن كثافة سكانية كبيرة  تبلغ نحو(73،6مليون نسمة ). فضلاً عن ذلك فإن ماضي تركيا العثماني يمنحها مكانة كبيرة لدى منطقة الشرق الاوسط سيما وانها تمتلك أكبر اقتصاد في تلك المنطقة. كما تمتلك تركيا قدرات عسكرية كبيرة تضعها في مقدمة دول الجوار الإقليمي.  كما أن تركيا تتمتع بخبرات وقدرات دبلوماسية وتفاوضية عالية بحكم تعدد دوائر نشاطها الخارجي، وعضويتها في العديد من المنظمات الدولية والإقليمية وهو ما يندرج في إطار ما يسميه (عبدالله غول) بـ “معارف التعاون الإقليمي”. لذا فإن تركيا هي الدولة التي تمتلك مقومات القوة الناعمة والصلبة  والقدرة على التأثير بالأحداث في منطقة الشرق الأوسط.

إذن بتلك المقومات التي تمتلكها تركيا تستطيع ان تؤدي دور الجسر الذي يربط بين دول الشرق والغرب من جهة، وتؤدي دور المركز المحور الذي ترتكز عليه التفاعلات ما بين الغرب والشرق، وهذا ما تبحث عنه أوروبا في حالة لو حدث اختلال في ميزان القوى العالمي وتراجع الدور الامريكي في تلك منطقة (الشرق الاوسط) الأمر الذي سيدفع بأوروبا الى محاولة  الوصول الى تلك المناطق عن طريق الجسر التركي، من خلال ضمها الى أوروبا وتحفيزها على التحرك بفاعلية كبيرة لجلب أكبر قدر من الفوائد لأوروبا.

بهذا الشكل يمكن لاستراتيجية إستمرارية طرق الباب الاوروبي التي تتبعها تركيا ستدفع في المستقبل أوروبا الى ضرورة فتح الباب أمام تركيا للدخول الى الاتحاد الاوربي وبقناعة حتى من قبل الدول الاوربية المعارضة للانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي.

الاحتمال الثاني: فشل الاستراتيجية التركية حيال الاتحاد الأوربي (عدم انضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي)

بالتأكيد تدرك تركيا إن عملية انضمامها الى الاتحاد الاوربي ليست بالسهلة فهنالك العديد من المعوقات التي تقف أمام تقدم هذه العملية، سواء على المستوى الداخلي والذرائع التي يتحجج بها الاوروبيين فيما يتعلق بمسائل الديمقراطية وحقوق الاقليات وغيرها، أو حتى على المستوى الخارجي من وجود بعض القوى الاوروبية الرافضة علناً لمسالة الانضمام التركي الى الاتحاد الاوروبي مثل فرنسا والمانيا.

إلا ان تركيا تدرك تماماً أن التحدي الأكبر والمعوق الأساسي هي أنها دولة إسلامية والدول الداخلة في الاتحاد الأوربي كلها دول مسيحية وحيث ترى الدول الأوربية أنها لا تنسجم معها حضاريا وثقافيا ودينياً، فالعامل الديني يشكل عاملاً أساسياً في الموقف الأوربي وقد تردد هذا على ألسنة كثيرا من الشخصياتالاوروبية، وبالتالي فانه من غير الممكن أن تعمل تركيا على تغيير تركيبتها السكانية او تغيير عقائدها وثوابتها الدينية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فان المؤسسات الأوربية لا تزال مقتنعة بان تركيا لم  تستكمل بعد استيفاء معايير العضوية السياسية المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية, وحقوق الأقليات، ومن جانب تركيا فإنها تدرك ان قائمة المطالب الاوروبية تطول وتزداد يوماً بعد يوم ومن الصعوبة ايجاد الحلول التي ترضي الطرف الاوروبي وتقنعه بحتمية الانضمام التركي للاتحاد الاوربي.

عند ذلك ستدرك تركيا إن النزعة (الإقصائية _ الاستبعادية) هي السمة الغالبة حول مسالة انضمامها للاتحاد الأوروبي، ويترسخ ذلك الإدراك بالنسبة لتركيا  بشكل قاطع  عندما يتم رفض منحها عضوية في الاتحاد الأوربي بشكل رسمي سيما وان الدول ذات التأثير الكبير في الإتحاد الاوربي وفي مقدمتها فرنسا هي من أشد الرافضين لانضمامها للاتحاد الأوروبي، في حين تعتقد تركيا ان السبب في رفض عضويتها في الاتحاد الاوروبي لا يعود الى الاستراتيجية التي تتبعها بقدر ما يتعلق الامر بالجانب الاوربي المصر على افشال كل محاولات الانضمام التركي للاتحاد الاوربي يأتي ذلك بالتوازي مع مخاوف جديدة من وضع الاقتصاد الأوروبي، والاضطرابات السياسية الأوروبية الداخلية وعدم وجود سياسة خارجية أوروبية موحدة ومتماسكة وفعالة. كل ذلك يعزز من احتمالية فشل الاستراتيجية التركية في الحصول على  العضوية في الاتحاد الاوروبي مما قد يدفعها مستقبلاً إلى تغيير خارطة توجهاتها بالبحث عن بدائل أو توجهات أخرى، سيما تعزيز علاقاتها مع دول جوارها الاقليمي.

الاحتمال الثالث: أتباع استراتيجية النفس الطويل  (النظرة التفائلية)

نتيجة لكثرة المحاولات التركية في إقناع الجانب الاوروبي في عملية الانضمام وتواصل الطرق على الباب من دون مجيب، فإنها ستتراجع تركيا في اتخاذ بعض الخطوات أو انتظار الامل يعود من جديد عن طريق اتباع استراتيجية جديدة وهي استراتيجية النفس الطويل التي تبنى على اساس تنفيذ كل الطلبات الاوربية مهما بلغت من تعقيد والصبر على ذلك حتى تنتهي تلك الطلبات وتحسم معها مسالة الانضمام الى الاتحاد الاوروبي.

أي أن الاستراتيجية التركية ستنفذ مخطط الانضمام للاتحاد الاوروبي على شكل مرحلتين تبدء المرحلة الاولى في تنفيذ كل متطلبات العضوية وبعدها يجري الاستعداد للمرحلة الثانية التي ستركز على ضرورة عقد شراكة استراتيجية مع أوروبا تمهد هذه الشراكة في احداث تغييرات في القناعات الاوروبية فيما يتعلق بمسالة انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، وبهذا ستتحول النظرة الاوروبية حيال تركيا من نظرة سلبية (تشاؤمية) الى نظرة إيجابية (تفاؤلية) تسمح بدخول تركيا للاتحاد الاوروبي.

هذه الاستراتيجية نابعة من أدرك تركي بأن الشروط التي يضعها الاتحاد الأوربي أمام انضمامها سيأتي يوما ما وتنتهي – على الرغم من كونها شروط صعبة وغير واضحة المعالم بشكل كامل – وحينئذً يصبح بين تركيا والانضمام إلى المجموعة الأوربية شوطاً يجب عليها إن تقطعه، بالرغم من ان ذلك الشوط غير محدود من ناحية الوقت أو الزمن ومن ناحية الشروط التي يتطلبها، وتلك القناعة ليست قائمة على اساس خيالي أو وهم أنما توصف الى درجة ما بأنها تقديرات استراتيجية تستند على افتراض فحواه ” ان التيار الاوروبي المؤيد للانضمام التركي للاتحاد الاوروبي سيقوى يوماً بعد يوم ويصل الى قناعة بضرورة انضمام تركيا، سيما وان هنالك مؤشرات تبشر بإمكانية حدوث متغيرات جديدة  على المستوى الاوروبي سواء بحصول أزمات اقتصادية أو…الخ أم حصول توازنات أوروبية جديدة تعطي الغلبة للتيار المؤيد للانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي.”

لذا فانه من المتوقع ان يتم في المستقبل القريب استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه من دون حصول موافقة أوروبية على عضوية تركيا في الاتحاد الاوربي. فضلاً عن إن التعامل التركي مع هذا الوضع سيكون بمواقف تركية أكثر حسماً. الا انه ليس من المستبعد ايضا في المستقبل البعيد أن يرضى كلا الجانبان التركي والاوربي على اقامة شراكة استراتيجية لكن من دون عضوية لتركيا في الاتحاد الاوروبي، اذا يتضح من خلال مراجعة الحاجة الأوربية لوجود تركيا إلى جانبيها وقبول عضويتها في الاتحاد الاوروبي،  ان هنالك حاجة اوربية لتركيا الا ان تلك الحاجة لم تصل بعد الى حد ان تكون حاجة ماسة وملحة وضرورية فمتى ما وصلت تركيا الى تلك الدرجة من الاهمية فان قبولها في الاتحاد الاوروبي سيكون سهلاً أن لم يكن مستعجلاً وبأقصى سرعة ممكنة.

بيد ان حصول القناعة الأوربية بضرورة عضوية تركيا تصطدم بعقبة التيار الاوروبي (التشاؤمي) المتخوف من الانضمام التركي لأوروبا على اساس أن ذلك إذا ما جرى فستصبح حدود الاتحاد الاوروبي على تماس مع دول مثل سوريا والعراق وإيران وما وراءهم ، وان الإبقاء على علاقة خاصة مع تركيا لا ترقى إلى مستوى العضوية الكاملة بالاتحاد هو الوضع الأمثل لحماية التجربة الأوربية التاريخية، المستندة في حقيقتها إلى ثقافة دينية مسيحية من مؤثرات غير مرغوب فيها.

والسؤال الذي يمكن أن يطرح في هذا المجال هو: هل من الممكن ان تتغير القناعة الاوروبية في المستقبل وتدرك أنه من الضروري قبول عضوية تركيا في الاتحاد الاوربي ؟

لسنا بصدد التكهن حول الاجابة عن التساؤل لأنه الى قدر ما تتعلق اجابته بوضع الاوربيين ووضع القارة بأكملها، الا أنه يمكن القول ليس من المستبعد ان تتغير قناعة أوروبا حول تركيا واهميتها ومن ثم تعيد حساباتها أوروبا وتنظر من جديد في مسالة انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي. سيما اذا كانت هنالك فوائد من هذه العملية بالنسبة للمصالح الاوروبية مما يعزز من أمكانية تحول النظرة الاوروبية من النظرة (التشاؤمية – السلبية) الى النظرة (التفاؤلية – الإيجابية)، وحينها سيتطلب الامر من الاتحاد الاوروبي المباشرة الفعلية في حسم قضية العضوية قبل أن تتحول القناعات التركية بعدم ضرورة أو جدوى الانضمام الى الاتحاد الاوروبي.

 

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى