النهضة الصينية: كيف استطاعت دولة مقيدة الحريات أن تقود العالم تكنولوجيًا؟

اعداد : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
في عالمٍ تحكمه التناقضات وتتنافس فيه النماذج الاقتصادية والسياسية، تبرز التجربة الصينية كظاهرة فريدة تستحق التأمل والدراسة. كيف لبلد كان يعاني من الفقر المدقع، والعزلة السياسية، والتأخر الصناعي، أن يتحول في غضون عقود قليلة إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي وقوة تكنولوجية عظمى تنافس الدول الأكثر تقدماً؟ هذا التحول المذهل لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج رؤية استراتيجية طويلة الأمد تبناها الحزب الشيوعي الصيني، الذي استطاع، رغم طبيعته المركزية الصارمة وسماته القمعية، أن يمزج بين الانضباط السياسي والانفتاح الاقتصادي، ليحقق معادلة نادرة تجمع بين السيطرة المطلقة والإبداع التكنولوجي.
لقد أثار هذا النموذج الاستثنائي العديد من التساؤلات والتحديات الفكرية: كيف استطاعت دولة تحكمها أيديولوجية اشتراكية صارمة أن تتبنى آليات السوق الرأسمالي دون التخلي عن ثوابتها السياسية؟ وكيف تمكنت الصين من تقييد الحريات الفردية والجماعية، مع الحفاظ على استقرارها الداخلي وازدهارها الاقتصادي؟ وما هي الأدوات التي اعتمدتها لتتحول من “ورشة العالم” إلى مركز للإبداع التكنولوجي العالمي، في وقت يتطلب فيه الابتكار مرونة وحرية غالباً ما تعيقها الأنظمة المركزية؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب الغوص في أعماق التجربة الصينية، وتحليل العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مكنت هذا البلد من قلب موازين القوى العالمية. إنها قصة صعود لا تمثل مجرد إنجاز اقتصادي، بل أيضاً إعادة تشكيل للنظام الدولي، وإثبات لقدرة النماذج غير التقليدية على تحقيق النجاح، حتى في ظل القيود التي يعتبرها البعض عوائق أمام التنمية والتقدم.
عملاق صناعي وتكنولوجي
تحوّل الصين إلى عملاق صناعي وتكنولوجي في ظل نظام حكم مركزي يقوده الحزب الشيوعي الصيني يمثل أحد أبرز التجارب التنموية في العصر الحديث، حيث نجحت بكين في تجاوز التناقض الظاهري بين التقييد السياسي والانفتاح الاقتصادي. من خلال السرد التالي نحاول أن نفهم هذا التحول:
- 1. الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية
– قيادة مركزية قوية: يتميز الحزب الشيوعي الصيني بوجود قيادة مركزية قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد دون التعرض للتقلبات السياسية التي تواجه الأنظمة الديمقراطية.
– رؤية واضحة: منذ إصلاحات “دنغ شياو بينغ” عام 1978، تبنت الصين استراتيجية تقوم على الانفتاح الاقتصادي التدريجي دون المساس بالسيطرة السياسية. رفعت الصين شعار “اشتراكية السوق” التي تجمع بين التخطيط المركزي وآليات السوق.
- 2. الإصلاحات الاقتصادية والانفتاح التدريجي
–الانتقال من الاقتصاد المغلق إلى اقتصاد السوق: بدأت الصين تحرير قطاعاتها الاقتصادية تدريجيًا، مع السماح للقطاع الخاص بالازدهار في مجالات محددة مع الإبقاء على القطاعات الاستراتيجية تحت سيطرة الدولة.
–المناطق الاقتصادية الخاصة: أنشأت الصين مناطق اقتصادية خاصة (مثل شنتشن) لتجريب السياسات الجديدة، مما أدى إلى جذب الاستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا.
– تشجيع التصنيع: استثمرت الصين بكثافة في قطاع التصنيع عبر دعم الشركات المحلية وإقامة شراكات مع الشركات العالمية لنقل المعرفة والتكنولوجيا.
- 3. التركيز على التعليم والبحث والتطوير
– نظام تعليمي مركزي: ركزت الصين على تحسين نظامها التعليمي، خاصة في مجالات العلوم والهندسة، مما ساهم في تكوين قاعدة بشرية مؤهلة لدعم التطور الصناعي والتكنولوجي.
– استثمارات ضخمة في البحث والتطوير: بلغت نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في الصين حوالي 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2020، مما جعلها واحدة من أعلى الدول إنفاقًا في هذا المجال.
–الاستفادة من المغتربين: شجعت الصين الكفاءات المغتربة على العودة من خلال برامج مثل “ألف موهبة” لنقل المعرفة والخبرة.
- 4. التوجه نحو الابتكار التكنولوجي
– الدعم الحكومي للابتكار: وفرت الحكومة الصينية دعماً مالياً ولوجستياً كبيراً للشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا المعلومات.
– الاعتماد على الذات: بعد توتر العلاقات مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، ركزت الصين على تطوير تقنياتها الخاصة وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية.
– استراتيجيات وطنية: أطلقت مبادرات مثل “صُنع في الصين 2025” لتعزيز قدرتها الصناعية والتكنولوجية على الصعيد العالمي.
- 5. الاستفادة من العولمة
– الموقع الجغرافي والتجارة الدولية: استفادت الصين من موقعها الجغرافي لتصبح مركزًا عالميًا للتجارة، كما انضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، مما فتح أسواق العالم أمام منتجاتها.
– سلاسل التوريد العالمية: أصبحت الصين جزءًا رئيسيًا من سلاسل التوريد العالمية بفضل بنيتها التحتية المتطورة وتكاليف الإنتاج المنخفضة.
– استراتيجية التقليد ثم الابتكار: بدأت الشركات الصينية بتقليد التكنولوجيا الغربية ثم انتقلت إلى الابتكار، ما ساهم في منافسة الشركات الكبرى عالميًا.
- 6. التحكم المركزي والقدرة على تنفيذ الخطط
– تخطيط محكم وتنفيذ فعال: سمحت المركزية للحكومة الصينية بتوجيه الموارد بشكل دقيق نحو القطاعات ذات الأولوية.
– إدارة الأزمات: أظهرت الصين قدرة استثنائية في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية بفضل مركزية القرار وسرعة التنفيذ.
– السيطرة على التضخم: تمكنت الحكومة من السيطرة على التضخم وتوفير بيئة مستقرة للنمو الاقتصادي.
- 7. قيود الحريات والتأثير على الاستقرار
–القمع كأداة استقرار: ساهمت السيطرة السياسية والقمع المحدود للحريات في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهو ما وفر بيئة ملائمة للنمو الاقتصادي.
–الرقابة التكنولوجية: استثمرت الصين في أنظمة مراقبة متقدمة لضمان السيطرة على المعارضة والحد من أي اضطرابات محتملة.
–الإعلام الموجه: استخدمت الصين الإعلام كأداة لتوجيه الرأي العام وتعزيز الثقة في سياسات الحزب الشيوعي.
- 8. التحديات والانتقادات
– الفجوة الاجتماعية: على الرغم من النمو الاقتصادي، لا تزال هناك فجوة كبيرة بين المناطق الحضرية والريفية.
– الديون والتبعية: تعاني الشركات الحكومية من مستويات ديون مرتفعة، كما تواجه الصين تحديات في تقليل اعتمادها على الأسواق الغربية.
–حقوق الإنسان: تواجه الصين انتقادات مستمرة بشأن قضايا حقوق الإنسان والقيود المفروضة على الحريات.
وهكذا نرى أن التحول الصيني إلى قوة صناعية وتكنولوجية كبرى يعكس قدرة الحزب الشيوعي على التوفيق بين المركزية السياسية والانفتاح الاقتصادي. ومع ذلك، فإن هذا النجاح لا يخلو من تحديات داخلية وخارجية قد تؤثر على استدامة هذا النموذج على المدى الطويل.
وفي ختام هذا السرد، يتجلى لنا أن صعود الصين كعملاق صناعي وتكنولوجي تحت مظلة نظام حكم مركزي ومقيد للحريات يمثل نموذجًا استثنائيًا في تاريخ الأمم. لقد أثبتت التجربة الصينية أن الطريق إلى النهضة لا يسير بالضرورة وفق القوالب التقليدية التي تربط بين الديمقراطية السياسية والتقدم الاقتصادي، بل يمكن لقيادة حازمة ورؤية استراتيجية بعيدة المدى أن تحقق أهدافًا تنموية عظمى حتى في ظل قيود سياسية صارمة.
ومع ذلك، فإن هذا النجاح لم يخلُ من التحديات، سواء على الصعيد الداخلي بما يشمله من فجوات اجتماعية وضغوط اقتصادية، أو على الصعيد الخارجي حيث تواجه الصين انتقادات دولية وتوترات جيوسياسية. السؤال المحوري الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يستطيع هذا النموذج أن يحافظ على زخمه واستقراره في مواجهة عالم متغير يتطلب مزيدًا من الانفتاح والمرونة؟
إن التجربة الصينية ليست مجرد قصة نجاح اقتصادي، بل هي درس عميق حول كيفية توظيف الموارد والإرادة السياسية لتحقيق التحول الشامل. وهي تذكرنا بأن مسارات التنمية متعددة، وأن لكل أمة الحق في صياغة نموذجها الخاص الذي يتوافق مع ظروفها وتاريخها وطموحاتها. ومن هنا، تبقى الصين مثالاً حيًا على أن الإرادة والإدارة القوية قادرتان على تحقيق المستحيل، مهما كانت القيود والتحديات.