الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

عودة ترامب: قراءة في مصير المنطقة العربية في ظل السياسات الصهيونية

اعداد : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر

 

في منعطف تاريخي حاسم، يطلّ العالم مجددًا على مشهد سياسي دولي مليء بالتوترات والاحتمالات الغامضة، مع عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. هذا الرجل الذي شكّل ولايته الأولى علامة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية، ليس بقراراته المثيرة للجدل فحسب، بل بنهجه غير التقليدي الذي أعاد صياغة مفهوم القيادة الأمريكية. لكن ترامب العائد في 2025 ليس هو ذات الرجل الذي عرفه العالم في ولايته الأولى؛ إنه “نسخة متحوّرة” من ذات السياسة الترامبية، أكثر جرأة، وأشدّ فتكًا، وأكثر ارتباطًا بمشروع صهيوني توسعي لا يخفى على أحد.

الشرق الأوسط، الذي لطالما كان مركزًا للصراعات الدولية وتقاطعات المصالح، يدخل مرحلة جديدة من التحديات غير المسبوقة في ظل إدارة ترامب الثانية. فالمنطقة التي تحمل جروحًا غائرة من حروب مستمرة وأزمات سياسية واقتصادية عميقة، تجد نفسها اليوم أمام مستقبل مجهول قد يعصف بما تبقى من استقرارها الهش. ومع تصريحات ترامب وممارساته خلال رئاسته السابقة التي عكست انحيازًا مطلقًا لإسرائيل، تبدو التوقعات قاتمة في ظل إدارة ذات طابع صهيوني ممتد إلى السياسة والاقتصاد وحتى الإعلام.

تتجلى خطورة الوضع الراهن في محاور متعددة. فمن جهة، تتسارع جهود إدارة ترامب لدفع الدول العربية نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل، ليس فقط كخيار سياسي، بل كشرط لبقاء أنظمتها السياسية تحت المظلة الأمريكية. ومن جهة أخرى، تُستخدم الأدوات الاقتصادية والإعلامية كسلاح لإعادة صياغة وعي الشعوب وتوجيه الرأي العام بما يخدم الأجندات الصهيونية. ومع تعاظم التوترات بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، تتزايد احتمالات أن تتحول الأرض العربية إلى مسرح صراع جديد تُستنزف فيه الموارد وتُدمَّر فيه الآمال.

لكن الخطر الأكبر لا يكمن فقط في السياسات الخارجية لإدارة ترامب، بل في قدرتها على إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة وفقًا لرؤى ضيقة تخدم مصالحها وحلفاءها. فالقضية الفلسطينية، التي كانت وما زالت جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي، مهددة بمزيد من التهميش والضغط. كما أن التدخلات الأمريكية المتزايدة في سوريا والعراق واليمن، والموقف العدائي من إيران، قد تشعل فتيل حروب جديدة تعمّق الانقسامات الإقليمية وتفاقم المعاناة الإنسانية.

وفي ظل هذه التطورات، تبرز أسئلة مصيرية: كيف ستتعامل الدول العربية مع هذا المشهد المعقد؟ وهل ستستطيع تشكيل جبهة موحدة لحماية أمنها القومي والحفاظ على استقلالية قرارها السياسي؟ أم أنها ستظل رهينة لسياسات الابتزاز والتفكيك التي تمارسها القوى الكبرى؟

إن استشراف مستقبل المنطقة العربية تحت إدارة ترامب الثانية ليس مجرد استقراء للتغيرات السياسية، بل هو محاولة لاستيعاب التحديات الكبرى التي تواجه أمة بأكملها، والتفكير في الخيارات الممكنة لبناء مشروع عربي حقيقي يحمي المصالح المشتركة ويواجه الأخطار المحدقة. وبين واقع مليء بالانقسامات وآمال شعوب تسعى للخروج من دوامة الصراعات، تبقى الإجابة عن هذه الأسئلة رهينة بالوعي الجمعي والإرادة السياسية التي قد تشكل الفارق بين مستقبل مشرق وأفق مظلم.

  1. طبيعة إدارة ترامب الثانية: سمات جديدة ومقاربات مختلفة

    تغوّل الصهيونية:

تتسم إدارة  الرئيس ترامب بأنها “ذات طابع صهيوني” شامل، مما يعكس احتمال أن تكون سياسات ترامب تجاه المنطقة العربية أكثر انحيازًا لإسرائيل، وقد تؤدي إلى تكثيف الجهود لتعزيز مشروع التطبيع العربي مع إسرائيل.

    السيطرة على الميديا والمنصات الاجتماعية:

بإدخال رؤساء أركان منصات التواصل الاجتماعي إلى دائرة صنع القرار، قد تستخدم الإدارة نفوذها لإعادة تشكيل الرأي العام العربي والعالمي لصالح أجندتها، مع تعزيز الروايات الصهيونية وتقويض الأصوات المعارضة.

  1. 2. أثر سياسات ترامب على القضايا العربية الكبرى

    القضية الفلسطينية:

من المتوقع استمرار نهج “صفقة القرن” بتعديلات أكثر قسوة، مع ضغط سياسي واقتصادي على الدول العربية لدفعها نحو التطبيع الكامل دون مراعاة للحقوق الفلسطينية.

قد يتم تمويل مشاريع استيطانية أوسع في الضفة الغربية والقدس، مع احتمال الاعتراف بمزيد من الأراضي الفلسطينية كأراضٍ إسرائيلية.

    الخليج العربي وإيران:

ترامب معروف بتبنيه نهجًا عدائيًا تجاه إيران، ومن المتوقع أن يدفع إلى تشكيل تحالف عربي-إسرائيلي لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، ما قد يؤدي إلى تصعيد التوترات وربما نشوب صراعات عسكرية.

ستسعى الإدارة إلى استنزاف الدول الخليجية ماليًا من خلال صفقات تسلح ضخمة، مستغلة قلقها من التهديد الإيراني.

سوريا والعراق:

ستتزايد محاولات تقويض النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، مع احتمال تصعيد التدخل الأمريكي في الشرق السوري بدعم مباشر للجماعات الكردية.

في العراق، قد تسعى واشنطن إلى إضعاف الميليشيات الموالية لإيران، مع تكثيف الضغط لتحقيق مصالحها النفطية والجيوسياسية.

    اليمن وليبيا:

استمرار التعامل مع الصراعات في اليمن وليبيا كمجال لصراع القوى الإقليمية والدولية دون حلول جذرية، ما يساهم في تعميق الأزمات الإنسانية.

  1. 3. الأبعاد الاقتصادية للسياسات الترامبية

    نهب الموارد العربية:

ترامب معروف بتصريحاته الصريحة عن الرغبة في استغلال ثروات الدول العربية. من المتوقع أن يشدد على عقود الطاقة والغاز والنفط، مع فرض شراكات اقتصادية تخدم المصالح الأمريكية.

    صفقات السلاح:

سيستمر ترامب في استغلال مخاوف الدول العربية من إيران لتعزيز مبيعات الأسلحة، ما يزيد من أعباء الديون على الدول العربية.

  1. 4. الهيمنة الإعلامية وإعادة تشكيل الوعي العربي

    تأثير وسائل التواصل الاجتماعي:

مع سيطرة معسكر ترامب على منصات التواصل، ستزداد محاولات توجيه النقاشات العامة والسيطرة على الرأي العام العربي لصالح سياسات الإدارة. قد يتم تضييق الخناق على الأصوات المناهضة وتوسيع حملات التضليل الإعلامي.

    التطبيع الثقافي والإعلامي:

ستحاول الإدارة دفع الشعوب العربية لقبول التطبيع مع إسرائيل كأمر واقع عبر ترويج روايات عن “فوائد” التعاون الإقليمي.

  1. 5. التداعيات الاجتماعية والسياسية على الشعوب العربية

    زيادة الاستقطاب الداخلي:

السياسات الترامبية قد تساهم في تأجيج التوترات الداخلية بين الأنظمة والشعوب، خاصة في الدول التي ترفض التطبيع أو تعارض السياسات الأمريكية.

    تفاقم الأزمات الإنسانية:

استمرار النزاعات، وتزايد تدخل ترامب في شؤون الدول العربية، سيؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية، وزيادة أعداد اللاجئين، وتصعيد معاناة الفئات المهمشة.

  1. 6. مستقبل الحركات التحررية والمقاومة

من المتوقع أن تتعرض الحركات التحررية والمقاومة لضغوط غير مسبوقة، سواء بتكثيف الحصار المالي والسياسي، أو بتصنيفها كإرهابية لتعزيز أجندة التطبيع.

سيزداد الاعتماد على القوة الناعمة والخطاب الإعلامي لتقويض هذه الحركات وتشويه صورتها عالميًا.

  1. 7. دور القوى الإقليمية والدولية الأخرى

    روسيا والصين:

قد تؤدي سياسات ترامب التصعيدية إلى تعزيز نفوذ روسيا والصين في المنطقة، حيث ستبحث الدول العربية عن حلفاء جدد لتحقيق التوازن.

    تركيا وإيران:

ستواجه تركيا وإيران تحديات جديدة من إدارة ترامب، مع احتمال زيادة الضغوط والعقوبات، ما قد يؤدي إلى تعزيز التعاون بينهما لمواجهة التحديات المشتركة.

  1. 5. سيناريوهات المستقبل:

– سيناريو التحول التدريجي:

قد تبدأ بعض الدول العربية في بناء سياساتها الاقتصادية والأمنية بعيداً عن النفوذ الأمريكي بالتدريج، مع تعزيز العلاقات مع القوى الصاعدة.

– سيناريو التحدي وإعادة التوازن:

في حال تصاعد الضغط الشعبي وتوحُّد القيادات، قد نشهد مواقف أكثر حدة تجاه السياسات الأمريكية، بما في ذلك رفض القواعد العسكرية، أو التهديد بقطع العلاقات الاقتصادية.

– سيناريو الركود والاستمرار في التبعية:

إذا استمرت حالة الانقسام الداخلي، قد تبقى المنطقة العربية تحت تأثير السياسات الأمريكية دون تغيير حقيقي.

وإجالاً، فإن سيناريو التحدي وإعادة التوازن يتطلب وعياً شعبياً عميقاً وإرادة سياسية قوية لتحقيق الاستقلالية. التحولات الدولية الحالية توفر فرصة فريدة للدول العربية لإعادة صياغة علاقاتها الخارجية، ولكن هذا يتوقف على قدرتها على تجاوز الخلافات الداخلية وبلورة رؤية استراتيجية موحدة تحمي مصالحها الوطنية.

بين أروقة التاريخ ومحطات المستقبل، تقف المنطقة العربية عند مفترق طرق خطير في مواجهة عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم. هذا المشهد لا يحمل فقط عواقب قرارات فردية أو سياسات لحظية، بل يجسّد مرحلة جديدة من إعادة صياغة التوازنات الدولية والإقليمية التي قد تعيد رسم خرائط النفوذ والقوة على حساب المصالح العربية. فالتهديد الذي تشكله إدارة ترامب الثانية ليس مجرد امتداد لسياسات سابقة، بل هو تطور نوعي في أدوات الهيمنة والتلاعب بمصائر الأمم، عبر تحالفات أكثر خطورة، وتقنيات إعلامية واقتصادية أكثر تطورًا، وأجندات صهيونية متغلغلة في نسيج القرارات الدولية.

إن المنطقة العربية، التي دفعت عبر عقود ثمن تشتتها وتناقض مصالحها، تواجه اليوم تحديًا وجوديًا. فإما أن تبادر بتوحيد صفوفها، وتعزيز مناعتها السياسية والاقتصادية، وصياغة رؤية استراتيجية تستند إلى مصالحها القومية المشتركة، وإما أن تظل رهينة لأجندات القوى الكبرى التي لا ترى في العالم العربي سوى سوق استهلاك وثروات مستباحة وأرض لصراعات بالوكالة.

لكن الأمل لم يُطفأ بعد. فتاريخ الأمة العربية مليء بمحطات النهوض التي تحققت رغم الظروف القاسية. إن مواجهة هذا التحدي الجديد تتطلب وعيًا شعبيًا يتجاوز حدود الخطابات الرسمية، وإرادة سياسية تضع المصالح الوطنية فوق كل اعتبار، ورؤية مستقبلية توازن بين ضرورات الأمن القومي ومقتضيات الانخراط في النظام العالمي.

وفي النهاية، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل تمتلك الدول العربية القدرة على مواجهة الموجة الثانية من “الجائحة الترامبية”، أم أنها ستغرق في تيار التفكك والهيمنة؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست مجرد اختبار لسياسات الحكومات، بل هي امتحان لوعي الشعوب وقدرتها على فرض إرادتها وحماية مستقبل أجيالها. فالتاريخ يكتب الآن، ولن ترحم صفحاته المتقاعسين عن أداء دورهم في هذه اللحظة الحاسمة. المنطقة أمام معركة وجود، ورهانها الوحيد هو التمسك بوحدتها وصمودها في وجه رياح عاتية قد تعصف بها، لكنها لن تسقط إلا إذا اختارت الاستسلام.

وفي غمرة هذا المشهد المليء بالتحديات والاحتمالات، تجد المنطقة العربية نفسها أمام اختبار وجودي حاسم، حيث لم تعد المواجهة مجرد صراع سياسي عابر، بل هي معركة بين إرادتين: إرادة الهيمنة التي تتجسد في سياسات إدارة ترامب الجديدة وتحالفاتها الصهيونية، وإرادة الشعوب العربية التي تطمح إلى التحرر من قيود التبعية واستعادة دورها التاريخي في صياغة مستقبلها.

إن خطورة المرحلة الراهنة لا تكمن فقط في القرارات السياسية التي قد تتخذها إدارة ترامب، بل في التغير العميق الذي تسعى إلى فرضه على وعي الشعوب وموازين القوى. هذا التغير يهدد بتكريس واقع جديد يُفرّغ القضايا العربية من محتواها، ويحوّلها إلى مجرد أوراق تفاوض في أيدي القوى الكبرى. وفي ظل هذا الواقع، تصبح القضية الفلسطينية، والأمن القومي العربي، واستقلال القرار السياسي، قضايا مصيرية تفرض على العرب مراجعة شاملة لأولوياتهم وتوجهاتهم.

لكن الأمل الحقيقي يكمن في قدرة الأمة العربية على تحويل هذا التحدي إلى فرصة للنهوض من جديد. فكلما اشتدت الأزمات، ازداد إلحاح البحث عن الحلول، وما زالت الفرصة قائمة لتوحيد الصفوف وبناء مشروع عربي يضع المصالح المشتركة فوق كل الخلافات. إنه وقت الاستفاقة، وقت اتخاذ القرارات الجريئة التي تؤسس لمرحلة جديدة من العمل العربي المشترك، تقوم على أسس القوة الذاتية، والاستقلال الاقتصادي، والتكامل الاستراتيجي.

ختامًا، فإن مستقبل المنطقة العربية لن يُكتب بقرارات تُفرض من الخارج، بل بمدى قدرة العرب على صياغة مصيرهم بأيديهم. إنها لحظة مفصلية تستدعي شجاعة القادة، ووعي الشعوب، وإرادة لا تلين. فإما أن يُسجل التاريخ أن هذه المرحلة كانت نقطة انطلاق جديدة لأمة استعادت وحدتها ومكانتها، أو أن تُضاف إلى صفحات الانكسار. والاختيار اليوم ليس خيارًا فرديًا، بل هو مسؤولية جماعية تحدد مصير أمة بأكملها.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى