الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

التلازم بين المصالح الوطنية والحماية الدولية للسيادة: تحليل السياسة الخارجية الغربية في إفريقيا وأوروبا الشرقية

إعداد :  محمود سامح همام – باحث مصري سياسي متخصص في الشئون الأفريقية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تتضح في التجارب الدولية الحديثة المتعلقة بالأزمات الإقليمية والنزاعات السياسية أن مفهوم السلامة الإقليمية، رغم كونه قيمة عالمية مفترضة، لا يتم تطبيقه بشكل متساوٍ أو موضوعي على جميع الدول والأزمات. فقد أصبح هذا المبدأ أداة سياسية بيد القوى الكبرى، تُستثمر بحسب المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية لكل دولة، بدلاً من أن يكون معيارًا ثابتًا للعدالة الدولية. الحرب الروسية على أوكرانيا تمثل نموذجًا صارخًا على هذا الانحياز؛ إذ فرض الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان، عقوبات اقتصادية وسياسية واسعة النطاق على روسيا بزعم حماية السيادة الإقليمية لأوكرانيا، فيما تُركت العديد من النزاعات الإقليمية الأخرى، سواء في أفريقيا أو آسيا، بدون تدخل حقيقي، على الرغم من أن هذه النزاعات تنطوي على انتهاكات مشابهة للسيادة الوطنية. وتوضح التجربة الأفريقية، وخاصة من خلال الحالتين المتباينتين في جنوب السودان وأرض الصومال، أن الأمم المتحدة والدول الكبرى تعمل غالبًا وفق اعتبارات سياسية محضة، مما يضعف من فعالية السيادة كمعيار عالمي ويكشف التداخل العميق بين المبادئ الدولية والمصالح الوطنية للدول الكبرى.

أولًا: التباين في المعايير الدولية بين الدول المارقة والدول الصديقة

تُظهر حالة جنوب السودان بوضوح أن الاعتراف الدولي بالدول الجديدة لا يُبنى على أساس قانوني أو مبدأ عالمي ثابت، بل يخضع لحسابات استراتيجية وسياسية معقدة. فعندما أعلنت جنوب السودان استقلالها في 9 يوليو 2011، جاء الدعم الدولي سريعًا وقويًا، إذ اعترفت 59 دولة بالدولة الجديدة، فيما قبلت الأمم المتحدة العضوية دون أي اعتراض، ما يعكس توافقًا دوليًا غير مسبوق حول هذا القرار. يعود هذا الدعم جزئيًا إلى العداء الدولي لحكومة السودان السابقة، التي تم تصنيفها عام 1993 كدولة راعية للإرهاب بسبب سياساتها الداخلية وإيوائها لعناصر متطرفة، بالإضافة إلى سجلها العنيف في إقليم دارفور، حيث أسفر الصراع عن مقتل مئات الآلاف وتشريد ملايين المدنيين. هذا السياق السياسي ساعد على تهيئة بيئة دولية ملائمة للاعتراف بجنوب السودان، رغم أن الاستقلال لم يأتِ نتيجة تسوية سياسية شاملة أو اتفاق داخلي متين بين الأطراف السودانية.

على النقيض، لم يحصل إعلان استقلال أرض الصومال عام 1991 على أي اعتراف رسمي، على الرغم من حكمها الذاتي الفعّال لأكثر من ثلاثة عقود. ويرتبط هذا الموقف الدولي برؤية الغرب وأجهزة الأمم المتحدة أن دعم استقلال أرض الصومال قد يضر بالجهود الرامية لتعزيز الحكومة الفيدرالية الصومالية كأداة أساسية للاستقرار الإقليمي. فالولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي، بالإضافة إلى الأمم المتحدة، يركزون على دعم هذه الحكومة في مواجهة حركة الشباب وتنظيم الدولة الإسلامية، فضلاً عن مكافحة القرصنة البحرية المستمرة التي تهدد الملاحة الدولية. وبالتالي، فإن الحسابات الاستراتيجية للغرب تجاه الصومال تحدد موقفه من الاستقلال، على عكس حالة جنوب السودان التي ارتبطت بمصالح غربية في إضعاف نظام السودان السابق.

استكمالًا، يمكن مقارنة موقف المجتمع الدولي تجاه جنوب السودان وأرض الصومال على أنه انعكاس لمدى توافق القرارات السياسية مع المصالح الاستراتيجية. فبينما أدى دعم استقلال جنوب السودان إلى إضعاف السودان السابق، فإن رفض الاعتراف بأرض الصومال ساهم في تعزيز الحكومة الفيدرالية الصومالية لضمان الاستقرار الإقليمي، ما يعكس الاستخدام الانتقائي لمبدأ السلامة الإقليمية. هذا التباين يكشف أن الاعتراف بالدولة الجديدة ليس نتيجة تطبيق حيادي للمعايير الدولية، بل هو أداة لتحقيق أهداف استراتيجية محددة للقوى الكبرى.

ثانيًا: دور الأمم المتحدة في إدارة النزاعات الإقليمية وأدوات التأثير السياسي

تلعب الأمم المتحدة دورًا مزدوجًا في إدارة النزاعات: من ناحية تقديم المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، ومن ناحية أخرى، محدودية تأثيرها السياسي في الاعتراف بالدول الجديدة أو التدخل المباشر في النزاعات المتعلقة بالسيادة. ففي جنوب السودان، أدى الاستقلال إلى اندلاع حرب أهلية سريعة، ما استدعى تدخل الأمم المتحدة عبر بعثة حفظ السلام، التي ركزت على حماية المدنيين وتأمين المساعدات الإنسانية، لكنها لم تقدم حلاً فعالاً لمعالجة جذور النزاع أو قيادة حوار سياسي مستدام بين الأطراف المتقاتلة. وبالتالي، لم تتمكن البعثة من وقف تصاعد العنف أو بناء مؤسسات دولة قوية ومستقرة، مما يعكس محدودية أدوات الأمم المتحدة التقليدية في إدارة النزاعات السياسية العميقة.

في المقابل، في أرض الصومال، اقتصرت جهود الأمم المتحدة على تقديم الدعم التنموي والاقتصادي والمساعدات الإنسانية، مع التمسك بالاعتراف الدولي بوحدة أراضي الصومال وعدم الاعتراف باستقلال أرض الصومال. ويؤكد هذا التباين أن الأمم المتحدة ليست جهة مستقلة تمامًا، بل تتأثر بالضغط السياسي والمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى المؤثرة في تشكيل القرار الدولي. وقد أصبح دور الأمم المتحدة أشبه بوسيط شكلي يضفي شرعية على السياسات الغربية بدلًا من أن يكون جهة فاعلة مستقلة تحدد مصير الدول والانفصالات بناءً على معايير حيادية.

وعلى سبيل المثال، لم تتمكن بعثة حفظ السلام في جنوب السودان من منع تجدد القتال بين الحكومة والفصائل المتمردة، رغم وجود مراقبين دوليين وآليات حماية المدنيين. بالمقابل، دعمت الأمم المتحدة الحكومة الفيدرالية الصومالية لتعزيز استقرار الدولة ومواجهة الإرهاب، وهو دليل على أن الأمم المتحدة تُستخدم أحيانًا كأداة لتحقيق أهداف سياسية محددة للقوى الكبرى، بدلًا من تطبيق معايير السلامة الإقليمية بشكل موحد.

ثالثاً: عادة هيكلة مفاهيم السيادة والاعتراف الدولي

إن التجارب السابقة تؤكد الحاجة إلى إعادة هيكلة آليات الاعتراف الدولي وتحديد السيادة الوطنية لضمان حياد الأمم المتحدة والكيانات الدولية الأخرى. فالآليات الحالية المعتمدة على نموذج “حفظ السلام + الحوار المطول” أثبتت محدوديتها في معالجة النزاعات التي تتعلق بالسيادة، مثل النزاع في جنوب السودان، حيث أدى غياب حوار سياسي فعّال ومستمر إلى استمرار العنف وتأجيل بناء مؤسسات دولة فاعلة.

تتمثل الحلول المقترحة في إنشاء مؤسسات دبلوماسية دولية مستقلة، قادرة على تقييم النزاعات والسيادة الوطنية بدون التأثر بالمصالح الأجنبية المباشرة، ووضع معايير واضحة وموحدة لتحديد الدول ذات السيادة والدول غير السيادية. هذا يتيح تقييمًا موضوعيًا للنزاعات ويحد من التأثير الانتقائي للقوى الكبرى، ما يسهم في تحقيق استقرار دولي وإقليمي حقيقي.

وفي هذا السياق، لو تم تطبيق نموذج مستقل لتقييم السيادة الوطنية في أفريقيا، كان من الممكن أن تحصل أرض الصومال على شكل من أشكال الاعتراف الجزئي، أو على الأقل وضع إطار دولي مستقل لتسوية النزاع، بدلًا من الاكتفاء بالمساعدات الإنسانية والتنموية التي لم تعالج جذور الأزمة ولا تحقق اعترافًا سياديًا حقيقيًا.

في الختام، تُظهر التجارب الدولية في أوكرانيا وجنوب السودان وأرض الصومال أن المجتمع الدولي يتعامل مع مبدأ السلامة الإقليمية بشكل انتقائي يخضع لمصالح القوى الكبرى، بعيدًا عن التطبيق الموحد لمعايير العدالة الدولية. إن الاستقرار الدولي والإقليمي يتطلب إعادة هيكلة الأمم المتحدة والكيانات الدولية الأخرى لضمان استقلالية القرارات المتعلقة بالاعتراف بالدول وإدارة النزاعات، بعيدًا عن الانحياز لمصالح القوى الكبرى. ويستلزم ذلك تطوير منهجيات دبلوماسية وسياسية مبتكرة لتقييم السيادة الوطنية بشكل حيادي، وتقديم حلول دائمة للنزاعات التي تهدد السلامة الإقليمية، بما يحقق عدالة دولية متوازنة ومستقرة على المدى الطويل.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى