مقالات

دمج النويّات…عن أية علمانية، وعن أية مدنيّة نتحدث؟

بقلم : سيهانوك ديبو

حينما نظر أوغست كونت إلى العملية الاجتماعية وأكد فهم الظواهر الاجتماعية ضمن السياق المعرفي الذي عرّفه بالوضعية Postive وعرّشه في مرحلة أتت بالضرورة بعد مرحلة الفكر الميتافيزيقي ومن ثم مرحلة الفكر الديني، ونحا إليه كضرورة من ضرورات العلم، كان ما يريده أن يؤسس علم الاجتماع البيولوجي وتطبيق وسائل العلم وخاصة التجربة على الاجتماع، وغال بالأمر بأن أية ظاهرة اجتماعية لا يمكن تطبيق الملاحظة والتجربة العلمية عليها تكون أشبه بالخرافة. أما الفكر الكنسي الديني الذي تسلط على أوربا في قرونها الوسطى؛ خلق له ولمفكري عصر الانتقال وليس النهضة حالة عداء كامل للسلطات الكنسية البطركية والفكر الديني واصلاً بعض الغُلاة إلى مرحلة الإلحاد. ومن هذه التربة نبتت العلمانية بصورتها الحالية وبشكلها الحالي الذي لا يختلف كثيراً مع بدايات نشوئه وتطوره وتحوله إلى البراديغما الثالثة والأخيرة؛ كما اعتقادها بداية والآن. ووفق براديغما العلمانية شهدت الدولة القومية في أوربا وتحولت القومية إلى فعل علماني بذهنية وضعية، والقبول الهائل لهذه الفكرة (القومية) كان على أساس هذا المبدأ ومُجمِّلٌ بأمور لم تكن غريبة في تناولها في العهد الديني أيضاً كالمساواة والعدالة والتكافل. ما حدث في الحقيقة (الانتقال من الديني إلى الوضعي العلماني)هو تجديد للسلطوية التي تهافتت في العهد الديني وأُريد إنباتها من جهة أخرى؛ علمانية. وهذه العلمانية لم تكن مفيدة طالما لم تردع ما لم يستطع الفكر الديني ردعه؛ السلطوية؛ ولو كنا مخطئين: فلماذا تم استعمار ثلاث أرباع الكرة الأرضية وقيام القومية العلمانية الوضعية في القرنين الثامن والتاسع عشر؟

وفي أية أرض “علمانية” نشأت فاشية موسوليني ونازية هتلر؟

وعن رفض الإسباني والفرنسي للباسك ولكورسيكا؛ كمثالين حتى اللحظة، ولعل الأمر لا يختلف في شرقنا القومي والذي صُنع هيكلاً جاهزاً على يد مستعمرين جلبوا ما يستخدمونه عندهم وما هو متعارف لديه، وهذا الاستنساخ الفكري أوقع الشرق كله في مشكلة كبيرة لا يمكنه الخلاص منه إلّا بفلسفة ثورية شرقية تنويرية نهضوية: القوموية التركية ببدعة علمانية أسسها مصطفى كمال بهدف الإقرار بتشكيل ثقافة نمطية متجانسة حتى القضاء على الثقافات الأخرى وفي مقدمتها الثقافة الكردية، وبمقاربة بسيطة بين الفكر القوموي التركي والقوموي العربي البعثي؛ نصل –دون عناء- إلى النتيجة نفسها، والتعبير عن ذلك في الدستور التركي يتجسد في المادة: ” كل فرد يرتبط بالدولة التركية من خلال رباط المواطنة يكون تركياً”، ولإدراك هذا الفكر بأنه أمام أزمة كبيرة فكان وجوب ارتفاع أصوات المُغالين كثيراً حتى درجة (أن تكون سعيداً يعني أن تكون تركياً). متطابقة هذه المواد مع الفكر القوموي العربي ومع المبدأ الأساسي لحزب البعث في سوريا “كل من عاش على الأرض السورية فهو عربي” ، ومثل هذا الشيء ينطبق على ما هو موجود في إيران من خلال سلطوية الفكر الديني الشيعي المطوّع أساساً لخدمة القومية الفارسية.

قد يقول قائل: ليس العيب في العلمانية المشيدة وإنما العطل فيمن حكموا باسمها، يعيدنا هذا الاستفسار العاطفي إلى المنوال الرفضي إبان سقوط الاشتراكية المشيّدة وسقوط الاتحاد السوفيتي والتهادن بين سقوط النظام غير المتعلق بقوة الفكر الاشتراكي العلمي، مع التأكيد بأن مثل هذا الفكر لم يخدم سوى سلطة الرأسمالية بعد أن تحولت الاشتراكية السوفيتية إلى رأسمالية بيروقراطية. ولأن العلمانية الوضعية هي التي أوصلت أردوغان إلى السلطة يعني أنها لم تكن سوى علموية ومطيّة لمزيد من التسلط ومزيداً من مسؤولية فشلها منذ نشوء دولة تركيا وحتى استلام أردوغان وتسلطه واستبداده الديني قائلاً: لا قضية كردية في تركيا إنما قضية إرهاب. وفي مكان آخر أفضت علمانية النظام الاستبدادي في سوريا والمعارضة الاستبدادية السورية إلى نكران تام للحق الكردي والنفخ مرة أخرى في الدولة المدنية ودولة المواطنة حين بروز مسألة الحق الكردي في سوريا.
وإذا كانت العلمانية لها الجذر السياسي الفكري الممتد لأكثر من ثلاثة قرون وقد تداعت كليّا في الشرق، فإن الدولة المدنية يعود جذرها إلى أربعينيات القرن الماضي كنسخة فكرية جهادية دينية ومحدثة وتعود برمتها إلى مفكر أخوان المسلمين سيد قطب وإلى تلاميذه الذين رأوا في صعود حركة الضباط الانقلابية في مصر 1952 بأنهم أمام مثل ذلك التحديث، وهي مسألة متعلقة بالسلطوية والذهنية السلطوية. أمّا المدنية في سياقها الفكري النظري فلا تصلح صفة للدولة، وإذا ما تم فيكون عن طريق إرفاق المتمدنة بها وتكون الدولة المتمدنة، علماً أن ذلك يعتبر مصطلحاً أكثر غموضاً.

أما دولة المواطنة المستخدم بكثرة من قبل النظام السوري وعموم المعارضة السورية فإنه مصطلح مشوش وفضفاض بسبب عدم أهليتها طالما تكون متموضعة تحت رحمة سياط العلمانية الوضعية والذي بات مسألة التستر على فشلها كمن يحجب الشمس بغربال، ولا نعتقد بأنها مخرجها الفكري يكون في مواطنة الدولة بدلا من دولة المواطنة، لأن المواطنة –بالضرورة- تسبق الدولة وتؤدي إليها، والشعور الكافي بالانتماء الثقافي والاقتصادي والاجتماعي وحتى القومي يُعتبر من شروط المواطنة، فالكردي والسرياني والتركماني وبقية الشعوب وليست المكونات السورية، علماً أن المكونات صفة إطلاق سياسي يصلح توسيمه لنواحي جغرافية كاملة كأن نقول مكونات الشرق الأوسط وليس توصيف قانوني مجتمعي ضمن إطار جغرافي محدد؛ لا يؤدي إلى الحقيقة الحقيقية، هذه الشعوب لا تستطيع أن تنتمي إلى الجمهورية العربية السورية؛ لأنها تبيدهم ثقافياً وتجعلهم خيالاً بعد الانصهار الممارس مرة تحت وطأة الفكر الديني النمطي ومرة تحت وطأة الفكر القومي العلماني، وحين الحديث عن توسيم جديد للدولة الوطنية يكون الاسم فقط سوريا أو الجمهورية السورية، وهذه تكون البداية الصحيحة التي تؤدي إلى نتائج صحيحة.

عن ماذا نبحث؛ حينما يكون السؤال عن حلٍّ للأزمة السورية؟ وعن أي إطار تنظيمي -أفقي في مجالات غالبة وعمودية في مجالات قليلة- نبحث من خلاله الحل؟ وإذا ما أدركنا أن القضية الكردية تضررت من مأزق مشروعها الوطني في سنواتها العابرة، أو لنقل في سنوات تشكّلها وتشكيلها السابق، والتحول في المشروع الصائر إليه من النموذج الكلاسيكي التقليدي “القوموي” إلى المشروع “الحداثوي الديمقراطي” أي “مشروع الأمة الديمقراطية” كأولويّة حاسمة في برامج وهدف حركة الحرية الكردستانية، يعتبر قفزة نوعية وحل نوعي للأزمة المُستدامة للقضية الكردية في إيجاد حل رشيد لها ولغيرها يضمن التعايش السلمي لكل مكونات الشرق. لكن؛ كيف يكون ذلك في سوريا المستقبل؟

هذه الأسئلة كثيراً ما كانت تُطرح بصيغ مختلفة، تستبطن تمييزاً واضحا بين القضايا المحسومة بالتعريف وبين القضايا التي تخضع للممارسة، نحن في أمس الحاجة إلى طرح هذه الأسئلة في واقعنا السياسي المعاصر للتذكير بأن قضايا السياسة وتدبير شؤون إدارة الحكم لم يفصل فيهما الواقع تفصيلاً شافياً وتركت للكُرد ليقدّروا مصالحهم على ضوء المقاصد والقيم الكبرى. أيضاً كيف السبيل لذلك؟

سنكون على قدر كبير من الإنصاف لو أكدنا بأن حل الأزمة السورية –نموذجاً لأزمات الشرق الأوسط- ليس له العلاقة بماهية النظام السياسي إذا ما قُدّر له أن ينوس نَوسان بندول ساعة بين الدولة المدنية والدولة العلمانية. هذه الساعة كلها لا تلزم كي ترصد الوقت السوري وتحدد دقائقه الحاسمة وثواني عيشه. سوريا –كدولة مستحدثة بعد اتفاقية سايكس بيكو- وكنموذج لدول الشرق الأوسط لم تتحرر يوماً ولم تكن حرة يوماً، إنها عاشت حقيقة الاستعماريين العثماني الطويل والغربي العميق، وتوهمت لها بالاستقلالية بعد فرض هوية مستحدثة عليها. ولأن موضوع الحرية يسبق الدولة، ولأن موضوع المواطنة الحرة تسبق الدولة؛ فسنكون بعافية كبرى لو ندرك بأن الديمقراطية هي المدخل الوحيد للحرية وللمواطنة الحرة ولتأسيس أي نظام سياسي في مجتمع مُنَظّم. وعلى الرغم من أن الديمقراطية لها أكثر من ألف تعريف مشوش، لكن يمكن القبول بواحدة فقط لها حينما نقول بأن الديمقراطية هي (قبول الآخر كيفما يريد قبولكَ معه، وقبولكَ معه كيفما تريد) وقتها يصل هذا التعريف كي يحدد أصل المواطنة الحرة بل أصل الحرية كلها، وتتحول هذه التعريفات: الديمقراطية، المواطنة الحرة، الحرية… إلى بناء مجتمعي منظم هو المجتمع السياسي الذي لم يره الشرق الأوسط بعد.
بمقارنة تاريخية أكاديمية معرفية يستدِّل الفيلسوف أوجلان على كل ذلك حينما يقول: (السنوات الثمانية الأولى من سلطة العدالة والتنمية (2003-2011) شبيهة للغاية بالسنوات الثمانية الأولى من سلطة حزب الشعب الجمهوري (1923-1931). فنظام الحزب الواحد طاغ في كليهما هذا وترجح كفة احتمال تكثيف AKP أيضاً من طابعه الديكتاتوري وتعزيزه بدستوره اعتباراً من انتخابات 2011 وهو أمر شديد الشبه بوضع هتلر بعد انتخابات 1933، تماماً مثلما تثاقلت وطأة الفاشية بعد 1931 على يد عصمت إينونو ورجب بكر )، وإذا علمنا بأن مقاربة الأنظمة السلطوية التي أكدها أوجلان قبل ثلاث سنوات وبهذه الدقة وأن الأنظمة السلطوية تَتَلوّن من علمانية إلى مدنية دينية وفق مأزق مشروعها القوموي السلطوي، وقد مارس أردوغان ذلك بشكل حَرْفي حينما بيّن هدفه مُستشهداً بنظام هتلر الرئاسي مؤخراً. فالمسألة برمتها لا علاقة لها بمدنية أو علمانية؛ إنما متعلقة بالقومية التي تبحث عن قربة تختبئ فيها وتحركها وفق هذه النويّة المتجمدة، ومتعلقٌة بمفهوم الدولة السلطوية التي تتعكز دائماً على مفاهيم يتم جرِّها من رقابها وبطونها وأرجلها؛ ويتم تطويعها لأجندتها بسبب هشاشة المفهوم أولاً كما تم ملاحظتها في بلدان منشأها وكما في حالة مقايسة المواطنة المشيّدة في بلدان الشرق الأوسط.
إن التحليل الماركسي للدولة لا يختلف البتة عن تحليل هيغل لها، وكلاهما يؤكد عظمة الدولة ونفعيتها كسلطة مقوننة، لَم يُساوِرها الشكُّ بتاتاً في إمكانية استخدام الدولة كأداة لتطوير الحرية والمساواة وشتى الترتيبات التي تريدُها، في حال الاستيلاء عليها. أي ربط الدولة بالسلطة وخنق السلطة بالدولة. مثل هذا التحليل يجب أن نبتعد عنه حينما نفكر بديمقراطية (القبول) الذي يفضي إلى الحل في أي مكان في الشرق الأوسط وبالتالي في سوريا أيضاً، وسياسة القبول إذا ما فتشنا عنها تكمن في تخفيف السلطة حتى تجفيفه، وهذا يكمن في النظام اللامركزي، واللامركزية التي تُقَر في دستور ديمقراطي لاحق لديمقراطية القبول؛ يجب أن تكون مادة التفاوض الأولى بين الأفرقاء السوريين ومادة مؤكدة داعمة من قبل الشرعية الدولية وهذا هو جوهر التغيير المتضمن للانتقال السياسي أيضاً وليس العكس. واللامركزية تتمثل اليوم في تبني مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية كمهمة نهضوية تنويرية أولى يتم تعميمها على سائر سوريا، حينها نقول بأن عصر التنوير الشرقي بدأ هنا، وخلاف ذلك؛ ليس إلا إعادة انتاج النظام الاستبدادي والإبقاء عليه؛ والتغيير هنا شكلي فقط أشبه بعملية تجارية تأخذ بضاعة أسماء قديمة وتستبدلها بقائمة أسماء نصف جديدة.
فكرياً؛ ربيع الشعوب في الشرق الأوسط من أعظم الثورات التي شهدها في تاريخه، لقد كشفت بامتياز الفقر المدقع الذي يعانيه الشرق؛ فلم يكن الحقوقي حقوقيّاً، ولم يكن المفكِّر مفكراً، ولم يكن التقدمي اليساري إلا يمينّاً خرِفاً، وبيّن هذا الربيع أن أكثر الشعوب المعرّضة للتهميش والإنكار والإبادة أكثرهم قدرة على التغيّير؛ والكُرد في شرقهم المتوسطي يظهرون اليوم كصنّاع للسلام بعد إحداثهم للتغيير، ويبدون اليوم بأنهم الوحيدين الذين يمتلكون مشروعاً صريحاً للتغيير الديمقراطي وإعادة أمور الشرقِ الأوسط إلى نصابها عبر مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، وأنهم يشبهون الكثير من السوريين في أماكن تواجدهم وأن الكثير من السوريين يشبهونهم ويشاركونهم في مسألة التغيير القصوى نحو الشرق الأوسط الديمقراطي.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى