كل الخُطى تؤدي إلى الشرق الأوسط الديمقراطي
بقلم الباحث السياسي : سيهانوك ديبو
تركيا تسابق الزمن وتهادن الأطراف الدولية والإقليمية وتستدير وتتنازل وتعتذر وتُسَّرع من عملية تبادل السفراء بينها وبين من عادتها ظاهرياً في لحظة ما سابقة، وكل ذلك فقط لأنها تعلم ما ينتظرها. وتعلم أيضاً أن التغيير الذي يظهر أفق جداوله وخطوطه العريضة؛ على الأقل؛ سيصل إليها إنْ عاجلاً أمْ آجلاً، وأن هذا التغيير يفوق طاقتها الحالية وتفوق بكثير الأوراق التي تمتلكها أو التي امتلكتها في الأزمة السورية.
ف(المعارضات) التي خلقتها اصطدمت بمفاصل صعبة فاقت قوتها وقوة الدعم المقدمة لها من قبل تركيا؛ فالمجتمعية السورية لفظت الإخوان المسلمين وقذفته خارجاً كظاهرة لم تلائم لحظة واقع شعب سوريا وطبيعة كينوناته، علاوة على أن طبيعة التنوع القومي وتعدد الثقافات في سوريا غير مستعدة أن تقبل إعادة أي تشكيل لنظام مركزي يكون منتجاً للاستبداد.
وهذا ما يؤكد مغادرة تركيا لكل ملف حلب ومن هم موجودة فيه من منفذات للأجندة التركية أي الجماعات المسلحة الوجودة في حلب. كما يؤكد ويتوقع في الوقت نفسه خطوة بعد المغادرة وتوّقع الظهور في أية لحظة في دمشق ومحاولة أحياء الأطلال الضائعة بين دمشق وأنقرة لفترتهما الذهبية من نهاية تسعينات القرن الماضي حتى الشهور الأولى من الأزمة السورية.
يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي أي قبل خمسة أيام؛ كان حديث اردوغان واضحاً وصريحاً أمام وزراء حكومته حينما اختصر المشهد قائلاً: إما أن تصغر تركيا لاحقاً أو أن تتسع اليوم. ومثل هذا القول يفسر الزعزعة الكبيرة التي تشهدها تركيا، إذْ لا يمكن اقتصار هذه الزعزعة على ما ينتظرها من تغيير يكون بمفاد كل تغييب للرباعية التي رفعها حزب العدالة والتنمية وأردوغان مراراً وتكراراً.
إنها في الحقيقة لم تكن سوى رباعية الحكم الاستبدادي وإنكار لكل مخالف وتسويغ الإبادة لمن يختلف معها وأركان الشوفينية المعمول بها من قبل تركيا والتي لا تختلف كثيراً مع هو موجود في كل نظام استبدادي يجاور تركيا ويعادي من خلالها الشعوب الموجودة وقضاياها؛ وأولّهم الكرد.
التصغير الذي تخشاه تركيا قد يكون حلماً لنيله أو استعادته في فترة قادمة ليست بالبعيدة؛ خاصة إذا ما أصرّت في المضي في مخططاتها الاستعمارية القديمة الحديثة وتوسيع المساحة المسموحة لها في أقصى شمال سوريا غرب الفرات 70 كم * 15 كم والتي قد تعتبر بحد ذاتها (ثمن القبول التركي) أو اذعانها لما نتج وينتج من تلاقي بين رؤية تطلعات المكونات السورية في روج آفا- شمال سوريا من ناحية ومن ناحية أخرى مع رؤى راعيي الملف السوري كلاً من واشنطن وموسكو.
علماً أنه من المحتمل جداً أن ترتكب تركيا الخطوة الأولى من ضياعها حينما تتدخل منفردة في سوريا ليكون ذلك المستنقع غير معلوم النتائج، والذي سيؤدي إلى خسران تركيا أكثر بكثير من وضعها الحالي وخاصة من الناحية الاقتصادية وضعف المؤسسة العسكرية، أما الأخيرة فإن ما يفسر مسرحية الانقلاب العسكري في 15 أوغسطس آب العام الحالي وما تلاه من طرد لأكثر من نصف مليون تركي من مؤسسات الدولة التركية؛ فإنه بهدف تخطي فيتو العسكر التركي تحجيمه بسبب امتناعه من خوض معارك مُكلفة أو تفوق طاقتها العسكرية دون مشاركة من الناتو أو الدول الإقليمية.
الصراع بين مؤسسات الدولة التركية يمكن تسميته بالتآكل الذاتي الذي ينال بنية الاستبداد حينما يصل إلى مرحلة معينة من الإقصاء وإنكار المختلف.
في الحقيقة أن الرباعية التركية ليست سوى أقصى حالات التوحد بأقصى حالات اللااستقرار وتوجيه المدافع إلى الأمن المجتمعي في تركيا وسوريا وعموم الجغرافيات المستقطعة المستحدثة في المئة الأخيرة من زمن الشرق الأوسط (الدول/ الأقطار). واردوغان ليس سوى أداة يشبه أدوات شبيهة له يشَكِّل هذا المجموع (واقعة الضد مجتمعية) قد أنتجتها أفكار نمطية تشكل قعر التقسيم والتفتيت الظاهر البادي لحركية التاريخ البشرية.
من العرق إلى الدين إلى الطوائف إلى القومية إلى اللغوية إلى المناطقية إلى الطائفة القومية/ القوموية. والأخيرة عنوان الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وبالأخص لرباعية الدول التي ترفض أي حل ديمقراطي للقضية الكردية في البلدان المستحدثة وفق جغرافية مستحدثة لم تكن يوماً موجودة بهذه النقشة (سوريا، العراق، تركيا، وإيران).
ومن الطبيعي أن لا يكون حل هذه القضية بإحداث جغرافية جديدة/ كردستان؛ ليس الأمر متعلق بعدم أحقيتها أن تظهر مطلقاً؛ إنما الأمر كله بسبب أحقيتها الظهور وفق الرؤية الجديدة الخادمة لكل الحقوق ولمفهوم الحرية وبأصل ديمقراطية القبول؛ لكن؛ بشكل مغاير لكل نمطية أو فئوية أو ما يجلب من دمار التقسيم والفُرَقيّة والعقدية وكل أصل متعلق بالتناحر، والظهور الحق لحل القضية الكردية هي اليوم متعلقة بالفيدراليات الديمقراطية والتي تحقق كونفيدرالية شعوب هذه المنطقة؛ أي كما كانت تعيش عليه قبل ظهور مستودعات السلطة القومودينية.
أيّاً كانت خطوة تركيا؛ فكل الخطى الثقيلة والخفيفة تؤدى إلى نتيجة واحدة يكون فيها الشرق الأوسط الديمقراطي.