أبوظبي والدوحة وماراثون الكبار
بقلم : عبدالله عبدالحميد فرحان – باحث وكاتب يمني
قبل سنوات .. أعلنت “أبوظبي” و “الدوحة” عن مشروع جسر بحري عبر المياه الدولية للبلدين بمسافة (45) كيلومترا يربط دولة قطر بدولة الإمارات العربية المتحدة، يختصر المشروع زمن التنقل البري بين العاصمتين الدوحة وابوظبي دون المرور بالمملكة العربية السعودية التي تحتكر اتصال قطر بالبر منذ تنازل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم أبوظبي عن شريط “خور العيديد” الساحلي – والممتد من الحدود الحالية لإمارة أبو ظبي حتى الحدود القطرية – فيما عرف باتفاقية جدة (1974) تحت ضغط حاجة الدولة الوليدة (الإمارات العربية المتحدة) للحصول على الاعتراف الدولي بها، وضرورات احتواء “أبوظبي” للإمارات الست في شبه جزيرة مسندم (المطلة على مضيق هرمز وخليج عمان)، واتصالها المباشر براً بسلطنة عمان.
حتى اللحظة .. لم يتم إنجاز الجسر أو الشروع بتنفيذه بسبب الاعتراض السعودي، فبدون المرور عبر الجارة الكبرى ما من اتصال بري بين أبوظبي وباقي الإمارات السبع وبين إمارة قطر؛ وهي التي كانت عضوا في الاتحاد الجديد لولا انسحابها في (سبتمبر 1971م) قبيل اعلان دولة الإمارات العربية المتحدة (ديسمبر 1971م)، ربما فشلت الجغرافيا والإطار السياسي الواحد في الجمع بين أبوظبي والدوحة؛ غير أن هناك سباقاً يجمع الإمارتين حديثتي النشأة والتكوين غربي الخليج، والمتعطشتين – بفضل عوائد النفط والغاز الضخمة – لأدوار نفوذ في منطقة متخمة بحسابات الكبار الإقليميين ومصالح الكبار الدوليين.
يتنافس آل نهيان وآل ثاني على أكثر من مضمار، ويمكن للمتابع إدراك الاتجاهات العكسية لتحالفات كل منهما، ففي حين تستثمر الدوحة في علاقاتها مع الأتراك والإخوان المسلمين؛ تذهب أبوظبي نحو تنمية علاقاتها بالمصريين والقوى المناهضة للإخوان المسلمين، وتجتهد العاصمتان في تحقيق اختراق في الجسم السياسي والاجتماعي السعودي، واحتواء أكبر نسبة من الساسة والكتاب وشيوخ القبائل في المملكة العربية السعودية، وصولا إلى محاولة استقطاب أعضاء في الأسرة الحاكمة ومقربين إليها، وحتى الدخول على خط التنافس على السلطة والنفوذ بين أقطاب الأسرة السعودية الحاكمة، ضمن لعبة تناقضات خطرة وحساسة.
مؤخرا .. تذهب وسائل إعلام قطرية وإماراتية لمناقشة الصراع الإقليمي في المنطقة في قالب جديد يهتم بالشأن الإنساني ويحمل الكبار الإقليميين (السعودية، إيران، تركيا) مسئولية توحش الصراعات في الدول المضطربة ما يتسبب بانتاج المآسي الإنسانية، كما يتم تحميل هذه القوى مسئولية انسداد الأفق السياسي لأزمات المنطقة بموازاة التسويق لدور أوسع للدول المتوسطة والصغيرة (تحديدا الدوحة وأبو ظبي)، تتمتع كلا الإمارتين بقدرات مالية كبيرة، واستقرار أمني واقتصادي في محيط يشهد انتكاسات سياسية وأمنية واجتماعية وأزمات سياسية وديمغرافية بتمويل البترودولار، كما تستضيف العاصمتان المتنافستان عدة فعاليات ومؤتمرات دولية وجولات مباحثات سياسية لحل عدة مشكلات في المنطقة، تأكيداً لدورهما المتصاعد فيها.
أبو ظبي .. عن ماذا يبحث صيادو اللؤلؤ ؟
لعقود طويلة، انهمك الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في بناء وتعزيز القوة الناعمة لأبو ظبي بعيداً عن الصراعات، فقدم تنازلات مؤلمة في اتفاق جدة 1974م مع السعوديين، وسعى لتعزيز اتصال الإمارة بمحيطها فكان اتحاد الإمارات السبع في دولة الإمارات العربية المتحدة (ديسمبر 1971م)، ثم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربي (مايو 1981م)، وحلت أبوظبي في صدارة الدول المانحة للمساعدات الإنسانية والدولية قياسا بناتجها القومي، كما باتت الإمارات العربية المتحدة الشريك التجاري الإقليمي الأول لمعظم دول الشرق الأوسط، وأكثر ابتعاداً عن كثيرٍ من صراعات المنطقة.
في 2007م تم تعديل الخرائط الرسمية لأبوظبي لتشمل معظم حقل شيبة النفطي وشريط خور العيديد وصولا إلى الحدود القطرية، وبمحاذاة هذا الشريط تم افتتاح خط أنابيب “دولفين” لنقل الغاز القطري إلى البر الإماراتي (2008م)، ما أثار حفيظة السعودية التي تدعي ملكية المياه الإقليمية للخور الغني بالموارد الطبيعية، بالمقابل تنشط شبكة علاقات واسعة مع رجال أعمال وإعلاميين وشيوخ قبليين وشخصيات في العائلة الحكومية السعودية، بهدف تعزيز نفوذ أبو ظبي في دوائر صنع القرار السعودي، وبحسب “موند أفريك” فإن الشيخ محمد بن زايد “أقل حذرا من سابقيه تجاه الأخطار التي يمكن أن تترتب عن التدخل في الشؤون الداخلية السعودية”، غير أنه يمكن القول أن هذه المقامرة أسهمت – حتى الآن- في تراجع الدور القطري التركي وخلق دور فاعل لأبوظبي في المعادلة الإقليمية الجديدة.
قبل أيام استضافت العاصمة الإماراتية مؤتمرا لعلماء دين سنة وبعض رجال الدين المسيحيين تحت عنوان “مؤتمر حكماء المسلمين” بعد فترة وجيزة من مؤتمر جروزني المدعوم روسيا والمغضوب عليه سعوديا، تتشكل خارطة تحالفات أبوظبي في الإقليم والتي لم تكتمل -وفق متابعين- لحداثة التجربة، وهي تمتلك شبكة من مراكز الدراسات وشركات العلاقات العامة والإعلام، كما تدير النسخ العربية لعدة وسائل إعلام أميركية عريقة، “سويسرا الشرق الأوسط” تتجه لتصبح إسبارطة حسب “بلومبيرغ”، حالياً تحتل أبوظبي مركزا متقدما في قائمة أكبر مشتريّ السلاح في العالم، وتنخرط في عمليات عسكرية مباشرة في اليمن أدت لمقتل عشرات الضباط والجنود الإماراتيين، كما شاركت في عمليات الناتو الجوية ضد نظام القذافي في ليبيا التي تشهد حاليا عمليات جوية إماراتية دعما لقوات خليفة حفتر ضد فصائل ليبية موالية لتنظيم “الإخوان المسلمين”، وكانت سلطنة عمان أعلنت -قبل سنوات- عن ضبط شبكة تجسس تعمل لصالح أبوظبي التي يرتفع منسوب الفعل السياسي والأمني لها وسط توجس القوى الإقليمية من ذلك (كما تفصح تسريبات ويكيليكس لوثائق سرية سعودية).
الدوحة : هل يشتعل الغاز مجددا ؟
في إبريل الماضي؛ أعلنت أنقرة والدوحة عن انشاء قاعدة عسكرية تركية في قطر، ينتشر ٣٠٠٠ جندي تركي في القاعدة بعد 98 عاماً على مغادرة آخر جندي عثماني شواطئ الخليج وتحديدا من مشيخة قطر التي اقتصر عليها الوجود العسكري العثماني غربي الخليج آنذاك، حينها أسهم الوجود العثماني في حماية سلطة آل ثاني على الجزيرة القطرية من مخاطر التمدد المتسارع لدولة عبدالعزيز آل سعود، قرن من الزمان قد لا يكون كافيا لتغيير حسابات المخاوف القطرية من جهة، والمصالح والتطلعات التركية من جهة أخرى، لكن لا يشك الكثيرون في أن هناك متغيرات جديدة في التحالف التركي القطري الجديد القديم.
بثلاثية الإعلام والإسلام السياسي وأموال البترودولار أشعلت إمارة قطر فتيل أزمات الربيع العربي، لم يتسبب ذلك في تغيير النظم السياسية في تونس ومصر واليمن وليبيا وحسب، فأحدثت الأزمات هزات عنيفة في البيئة السياسية والأمنية والاقتصادية في تلك الدول، وأعادت تشكيل النسيج الاجتماعي والخطاب الثقافي في مجتمعاتها، ولا تزال تعاني اليمن وسوريا وليبيا حروباً طاحنة ذهبت بعشرات آلاف البشر ودمرت البنى الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية فيها (تجاوزت الخسائر 614 مليار دولار وفق تقديرات الأمم المتحدة)، ومع أن قطر كانت المحرك الرئيس لهذه الأحداث فقد تسبب دخول الكبار الإقليميين (السعودية، تركيا، إيران) على خط هذه الأزمات إلى تراجع الدور القطري وانكماشه.
وفيما فشل الإخوان المسلمين (حلفاء قطر) في تسويق مشروعهم السياسي لأوساط الشارع في بلدان الربيع العربي وتبديد مخاوف المحيط الإقليمي؛ نجح القطريون في تجاوز عاصفة غضب الكبار عليها، والتي وصلت إلى سحب السفراء الخليجيين من الدوحة (مارس 2014م) والتهديد بفرض حصار بري وجوي عليها، عدا عن التهديدات الإيرانية والروسية، تراجعت الدوحة عن صدارة المشهد فيما تجتهد في صيانة تحالفاتها وأدواتها، وترميم العلاقات التي تشوهت مع تيارات وقوى إقليمية واسعة، وتعكف قطر حاليا على بناء منظومة إعلامية جديدة (قنوات ومواقع إلكترونية ومراكز دراسات)، كما تستثمر استضافتها مونديال 2022م لتحسين صورتها وتعزيز اتصالاتها ونفوذها الناعم في المنطقة، استعدادا لجولة نفوذ سياسي قادمة.