خطاب العرش: هل يتجه المغرب نحو حالة الاستثناء ؟!
اعداد: د.محمد الشيخ بانـــن – باحث في العلوم السياسية – متخصص في الجماعات الإسلامية
- المركز الديمقراطي العربي
استطاعت المؤسسة الملكية في المغرب عبر قرون من حكمها، استعادة العمق التاريخي بعد تجديده وإضافته كمشروعية جديدة لسلطتها، شأنها في ذلك شأن جل الأنظمة العربية الإسلامية[1]. لكن ما ميزها منذ الاستقلال السياسي سنة 1956 هو حفاظها على تلك التعددية السياسية؛ سواء المنبثقة من الحركة الوطنية أو التي اصطنعها الحسن الثاني، لمواجهة الأجنحة الراديكالية، المناوئة لحكمه أو حتى تلك التي طالبت بإشراكها في إدارة الاجتماع السياسي، ما جعل، في المحصلة، من الملك الشخص المركزي في النظام السياسي المغربي.
هكذا موقع وصلاحيات قادت الحسن الثاني إلى إعلان حالة الاستثناء يوم 07 يونيو1965، في إثر الاحتجاجات العارمة التي عرفتها مدينة الدار البيضاء على وجه الخصوص في 23 مارس من نفس السنة، والتي قوبلت بقمع وحشي، أدى إلى سقوط العديد من الشهداء والجرحى والمخطوفين، وأدخل البلاد في حالة من الرعب، لم تتوقف، نسبيا، إلا بعد أن بلور النظام السياسي تعددية جديدة ورفع حالة الاستثناء وقام بإصلاح دستوري محدود.
ما تقدم، مكن المؤسسة الملكية من تجديد مشروعيتها، عبر شعارات أيديولوجية من قبيل؛ المسلسل الديموقراطي والإجماع الوطني، بل ساعدها على ترسيخ حكمها وتجاوز رياح التغيير التي عصفت بعدة أنظمة ملكية. ومن تجليات ذلك انتقال العرش سنة 1999 من الحسن الثاني إلى ابنه محمد السادس، بشكل سلس وهادئ، رغم الأزمة الاقتصادية التي كان يعاني منها المغرب آنذاك.
بداية حكم محمد السادس: الانفراج المحدود:
مثلت الفترة الممتدة من سنة 2000 إلى 2003، من حكم محمد السادس مؤشرا لدى البعض على الانفراج السياسي. خاصة بعد أن طرد الملك الشاب وزير الداخلية القوي إدريس البصري وسمح بعودة أبراهام السرفاتي وأحدث هيئات حقوقية، مثل هيئة الإنصاف والمصالحة، للبحث في الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها مرحلتي حكم أبيه وجده، كما فتح المجال أمام الصحافة المستقلة وشجع على سن تشريعات لصالح المرأة ..إلخ. لكن الدارس لهذه الخطوات سيخلص إلى أنها كانت مدروسة ومحدودة ولم تخرج من تحت عباءة الملك. وما التخلص من عبد الرحمان اليوسفي سنة 2002، الزعيم الاتحادي الكبير، الذي ساهم في انتقال العرش، رغم تصدر حزبه للانتخابات التشريعية، ضدا على ما عرف آنذاك بالمنهجية الديمقراطية، إلا دليل على رفض المؤسسة الملكية لأي فاعل وازن، وإن كان تحت ظلّها. بل رفضها لأي شكل من أشكال الانفتاح؛ ومنه حرية الصحافة. وما المضايقات التي تعرض لها كل من علي المرابط وبوبكر الجامعي وأحمد رضا بن شمسي وعلي أنوزلا، ويتعرض لها اليوم حميد المهداوي، إلا تجل من تجليات الحكم الأوتوقراطي.
قد يقول قائل إن أحداث الدار البيضاء الإرهابية سنة 2003 وما بعدها وتغول التنظيمات الإسلامية، كانت السبب من وراء تلك الإجراءات المتخذة، لكن ضحايا هذه الإجراءات منابر إعلامية ذات نفس إصلاحي وليس حتى ثوري، لها توجه ليبرالي أكثر منه إسلامي أو يساري!؟؟.
فيالمقابل، فالمؤسسة الملكية أو” دار المخزن” كما تعرف في المغرب، تمكنت من دمج جزء من الإخوان المسلمين في المؤسسات الدستورية، في أواخر مرحلة حكم الحسن الثاني ومكنتهم من السلطة في مرحلة محمد السادس، من خلال التعديل الدستوري الذي قام به الملك سنة 2011، في إثر الحراك السياسي ذي المثل الثورية، الذي شهدته المنطقة العربية.
خطابات الملك: ثورة تحت ظلال الاستبداد.
أحدث خطاب العرش ليوم 29 يوليوز 2017، رجة كبيرة في الأوساط السياسية والشعبية في المغرب. رغمأنهفي الحقيقة امتداد للعديد من خطابات[2]الملك ذات النفس الراديكالي؛ مثل الخطاب الذي سبق وأن تساءل من خلاله، يوم 30 يوليوز2014عن الثروة،وكذلك خطاب يوم 14 أكتوبر 2016 الذي افتتح به الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة، والذي تطرق إلى موضوع الإدارة العمومية ومُعاناة المواطنين مع تعقيد المساطر وغياب أطر ذات كفاءة عالية ومردودية فعالة.
لكن ما ميز خطاب العرش لهذه السنة، إضافة إلى تأكيده على الاختلالات السالفة الذكر،هو ما يلي:
- انتقادهلبرامج التنمية البشرية والترابية، التي لم تسهم في تحسين ظروف عيش المواطنين. وهذا في الحقيقة إقرار بفشل هذا الورش، الذي صرفت فيه أموال طائلة بعدماروجت له الدولة إعلاميا ودبلوماسيا. ذلك أن هذه المقاربة افتقدت، منذ بدايتها، لمداخل التنفيذ ومرتكزات الاستمرارية ومقومات المردودية، ما جعلها تتحول إلى مجرد صدقات/ إكراميات، يتحكم في تحديدها منطق الولاء للسلطة؛ نخبة المخزن وأعوانها، وفي توزيعها منظومةالزبونية والمحسوبية والرشوة؛
- رده على العديد من تصريحات قادة حراك الريف وبعض المتتبعين، التي تناولتمن جهة، وجود صراع داخل المربع الضيق للحكمبين تيار متشدد، وآخر معتدل، يختلفان بشأن طريقة التعامل مع هذه الأحداث، ومن جهة أخرى،وجود مقاربة أمنية تطغى على مسألة التعاطي مع احتجاجات الريف السلمية.
محاولة الملك تفنيد هذه التصريحات، تدل على المكانة التي تحتلها في الوعي الشعبي العام، لذلك لم يجد بدا منالرد عليها، باعتباره أعلى سلطة في المغرب؛
- هجومه على رجال السياسة، واعتبارهم مسؤولين بشكل مباشر عن الأزمة التي يعيشها المغرب ككل. وهذه سابقة من نوعها، حيث وجه الملك هكذا إنْتِقاض إلى أحزاب المنظومة الرسمية، التي تؤثث الشرعية القائمة منذ زمن بعيد، ودعوته مسؤوليها إلى الانسحاب،بصفتهم جزء من المشكل وليس الحل. وهو بذلك يعبر، حقيقة، عن إحساس، ربما، بتأكل المشروعية السياسية لحكمه؛ وإن كان كل ما قاله تجاه الأحزاب قائم ومعروف لدى الكثير من المتتبعين والباحثين. ولكن هذا لا يقلل من مسؤولية أجهزة الدولة الأمنية، التي تدخلت في الشأن الحزبي والنقابي، منذ زمن الحسن الثاني، وحرست على رسم الخريطة الانتخابية؛ إما عبر التزوير المباشر لنتائج الانتخابات أو من خلال حيادها السلبي وتغاضيها عن عمليات شراء الذمم وتوظيف الدين بشكل فاضح. بل وصل الأمر الى حد اختراق الأحزاب بواسطة المخبرين ورجال التهريب والمال، الذين لا يعرفون معاني ونبل العمل السياسي. والمحصلة تعددية سياسية ضعيفة ينخرها الفساد ويطغى عليها الاستعراض وتحكمها المزاجية وتغيب عنهامُثُلالديمقراطية.
لذلك، هل يهدف الملك من خلال انتقاضه لممارسة أحزاب المنظومة الرسمية ومنتخبيها، إلى مد اليد إلى قوى المعارضة الإسلامية واليسارية، التي تنشط من خارج الشرعية القائمة أم يسعى إلى التأسيس لنمط جديد، يتجاوز منظومة الوساطة السياسية ويكرس بدائل تقليدية، بنفحة حداثية ؟؟. خاصة وأن جل مكونات المشهدالرسمي السالفة الذكر،تعيش حالة انفصام سياسي؛ من تجلياته تهليلها وترحيبهابخطابالملك،وكأن مضامينه الحادة لا تعنيها!!.
- انتقاده بشدة لعمل الإدارة العمومية، التي تفتقد روح المسؤولية والكفاءة، “وتعاني من ضعف الحكامة، ومن قلة المردودية وما يترتب عن ذلك من تعطيل لمصالح الناس”، نتيجة تعقيد المساطر الإدارية وغياب ثقافة المبادرة و”الاكتفاء براتب شهري مضمون، على قلته، بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي”، يقول الملك.
هذا الانتقاد الحاد، يجد أساسه في الوضع المتردي للإدارات العمومية بل للوظيفة العمومية في المغرب. ولكن هذا الوضع تكرس نتيجة الأولوية التي أعطتها الدولة عبر عقود للقطاع الخاص، على حساب القطاع العام. وذلك تنفيذا لإملاءات صندوق النقد الدولي، من جهة ونتيجة أيضا لتغلغل ثلاثي التعليمات والتوجيهات والإملاءات، القادم من أم الوزارات ( وزارة الداخلية) الذي أضحى عاملا رئيسا، يحدد مسار الممارسة الإدارية بل وحتى السياسية، من جهة ثانية. فتحمل المسؤولية في الإدارات العمومية مثلا، لا يتم بمعيار المعرفة العلمية والكفاءة المهنية ولكن من طريق تقارير الأجهزة الأمنيةوعلاقات الزبونية وتوصيات الأحزاب السياسية الرسمية. وبالتالي،ليس غريبا أن يتقهقر قطاع الوظيفة العمومية إلى هذا المستوى من الانحطاط؛ ويعاني العاملونفيهتدهوراغيرمسبوقلقدرتهمالشرائيةومن ظروف عمل قاسية، جعلت العديد منهم يهاجرون إلى الدول الغربية، التي تستقبلهم بالأحضان، مثل كندا!! ؛
- أشاد بالقطاع الخاص،” الذي يتميز بالنجاعة والتنافسية، بفضل نموذج التسيير، القائم على آليات المتابعة والمراقبة والتحفيز”. وتساءل أيضا عن أسباب عدم انعكاس مردودية هذا القطاع على الواقع المعيش. لكن كيف لقطاع خاص يحكم أربابه منطق الجشع والتهرب الضريبي وعدم الالتزام بالقوانين التي تحدد طبيعة علاقات الشغل واستغلال اليد العاملة الرخيصة، في ظروف قاسية، مع استثناءات قليلة، أن ينعكس ايجابا على القطاعات الاجتماعية، التي ترعاها الدولة ؟؟. فاليوم، وفي إثر التحديات الاجتماعية الناشئة، أصبحت العديد من الدول تصدر تشريعات، تلزم الدولة بالاضطلاع بدورها في الرعاية الصحية وتوفير تعليم مجاني وناجع وصيانة حقوق الناس، من خلال ضمان فرص الشغل والعيش الكريم. أما مسألة مقتربات السياسة العامة التي يشتغل بجزء منها القطاع الخاص، فهي في الأصل تبلورت في القطاع العام. لكن إهمال هذا القطاع الحيوي من طرف الدولة؛ وغض الطرف عن تفشي الرشوة والمحسوبية داخله، لتشجيع المرتفقين للذهاب إلى القطاع الخاص، هو الذي أدى إلى هذا الوضع الكارثي، الذي تعرفه المستشفيات والمؤسسات التربوية، على سبيل المثال لا الحصر؛
- نوه بدور رجال الأمن، قائلا: ” وأمام هذا الفراغ المؤسف والخطير وجدت القوات العمومية نفسها وجها لوجه مع الساكنة، فتحملت مسؤوليتها بكل شجاعة وصبر، وضبط للنفس، والتزام بالقانون في الحفاظ على الأمن والاستقرار. وهنا أقصد الحسيمة، رغم أن ما وقع يمكن أن ينطبق على أي منطقة أخرى”.
لا شك أن القوات الأمنية، لا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تلعب دور الوسائط السياسية، مهما بلغت من اليقظة والحنكة. وما حصل/ يحصل في الحسيمة، يبرز بوضوح حجم الانتهاكات التي تعرضت/ تتعرض لها جماهير الريف؛ التي ما برحت تعلن أن مطالبها ذات بعد اجتماعي وثقافي صرف، لكن الدولة رفضت/ترفض الحوار مع هؤلاء النشطاء وفضلت الزج بهم في السجون أو قمعهم إلى حد سقوط ضحايا؛
- أشاد بالشعب وأنه اختار التعاطي معه بشكل واضح كما حذره من “العدميين” الذين يبخسون ما وصل إليه المغرب من مكتسبات!!.
هكذا خطاب، يسعى إلى التقابل مع الناس بدون وسائط سياسية، ينم عن عمق الأزمة التي يعيشها المغرب الرسمي، ذلك أن الناس بدون تعبيرات سياسية، لا يمكن التخاطب معهم ولا الرهان عليهم. فعبر التاريخ، كانت، ولازالت، للبشرية تعبيراتها المعلنة والسرية، المنبثقة من رحم المجتمع وليست تلك الفوقية، التي تُحدثها الأنظمة السلطوية لخلق توازنات ظرفية، والتي تستند في الغالب على الغوغاء؛ وما كان الغوغاء إلا دعاة خراب ودمار!!.
الملك يرسم خطط المستقبل:
اعتبر محمد السادس” النموذج المؤسسي المغربي، من الأنظمة السياسية المتقدمة. إلا أنه يبقى في معظمه حبرا على ورق، والمشكل يكمن في التطبيق على أرض الواقع”. رغم إعلانه عن حرصه على احترام اختصاصات المؤسسات، وفصل السلط وعلى مضامين الدستور التي لا تقبل التأويل. لكنه، بالمقابل قدم إشارة غاية في الأهمية؛ قد تحمل في ثناياها التلويح بإعلان حالة استثناء على أرض الواقع السياسي، تتجاوز الأحزاب السياسية ولا تلغيها، وفق المهام الدستورية، التي تلزمه، على حد تعبيره، بضمان أمن واستقرار البلاد وصيانة مصالح الناس وحقوقهم وحرياتهم، بمبرر تخلف المسؤولين عن القيام بواجبهم، نتيجة تركهم “قضايا الوطن والمواطنين عرضة للضياع”.
لكنه، في أخر الخطاب ترك الباب مفتوحا، من خلال دعوته إلى تغيير العقليات وتوفير أفضل الأطر للعمل في الإدارات، وضرورة اختيار الأحزاب السياسية لأحسن النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام.
يبدو من خلال ما تقدم، أن الحياة السياسية في المغرب، قد وصلت إلى مستنقع خطير؛ نتيجة تدخل الدولة الأمنية، عبر عقود، في العمل السياسي والنقابي والمدني بشكل عام، من طريق اختراق هذه الإطارات بواسطة الموالين لها أو تأسيس إطارات موازية، لسحب المشروعية من تلك القائمة. والذي بدأ مع ماعرف بأحزاب الإدارة وجمعيات الهضاب والسهول والوديان والمؤسسات الحقوقية الرسمية. والمحصلة، تكريس ثقافة سياسية انتهازية؛ مراوغة وماكرة، نتج منها تدني الخطاب السياسي إلى حد الشعبوية، ما قاد إلى عزوف الأغلبية الساحقة من المواطنين/ت عن المشاركة السياسية بالموازاة مع بدايةتَشَكُّلالتطلعات الهوياتية الماضوية. ورغم ذلك لازالتالمؤسسة الملكية، تعتقدبأن شؤون الحكم في المغرب لا يمكن أن تدار إلا تحت ظلّها.
- لكن كيف يمكن ذلك؛إذا غابت السياسة … وساد الاستبداد ؟؟!.
[1]– يراجع الدكتور محمد الشيخ بانن، الدولة في فكر الجماعات الإسلامية في المغرب: دراسة حالات، سلسلة أطروحات الدكتوراه، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان 2016.
[2]– منشورة على الرابط التالي: http://www.maroc.ma/ar/%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%84%D9%83%D9%8A%D8%A9
للتواصل مع الكاتب: banane73@gmail.com