الدراسات البحثيةالعسكريةالنظم السياسي

المعونة الأمريكية لمصر : مرحلة الغزل العنيف

اعداد: السفير بلال المصري – ســفيـر مصر السابق لدي أنجولا وساوتومي والنيجر
  • المركز الديمقراطي العربي

 

أوردت Washington Post وكذلك وكالة أنباء Reuters بتاريخ 22 أغسطس بالإحالة علي مصدر لم يُسم بالخارجية الأمريكية قوله أن الولايات المتحدة قررت قطع مبلغ 65 مليون دولار من المعونة العسكرية الامريكية لمصر و30 مليون دولار من صندوق الدعم الإقتصادي وأن هذين المبلغين سوف لا يُوجهان إلي مصر وقررت أيضاً حجب مبلغ 195 مليون دولار من المعونة العسكرية , وأوضح المصدر أن وزير الخارجية Rex Tillerson أحاط وزير الخارجية المصري هاتفياً بهذا القرار , مُوضحاً له أن الجزء المُعلق أو المحجوب من المعونة العسكرية سيُجمد بحساب مصرفي حتي تُظهر مصر تقدماً بشأن الأولويات الرئيسية في مجالات حقوق الإنسان والتشريع المُنظم للمنظمات غير الحكومية , وقد علق المصدر المُشار إليه علي هذا بأن هناك ثمة قلق لدي الإدارة الأمريكية بشأن حقوق الإنسان والحوكمة في مصر  .

لم يكن هذا القرار مُفاجئاً للقاهرة ففي 13 أبريل 2016 أشار موقع AL-MONITOR إلي ما صرحت به السيدة Ileana Ros-Lehtinen رئيسة لجنة الشئون الخارجية للشرق الأوسط بمجلس النواب الأمريكي عند طرحها في هذا اليوم مسألة طلبات الخارجية الأمريكية من الميزانية , إذ قالت ” إننا نواجه في مصر مسألة خط الأنابيب التمويلي إذ أن ما بين 500 إلي 700 مليون دولار من تمويلات السنوات السابقة لم تُنفق أو تُسحب بعد , بينما الإدارة مُستمرة في طلب 150 مليون دولار لمصر (يمثل تمويلات الدعم الإقتصادي) دون أن تُقدم خطة ملموسة بشأن كيفية إنفاق هذه التمويلات غير المسحوبة وبدون أن تبدو هناك ثمة مرونة في العمل بمصر التي كان العمل يتسم بها من قبل ” , وأضافت ” إن تونس مهمة من الوجهة الإستراتيجية حيث تشير إليها الإدارة ولغيرها من دول العالم العربي بإعتبارها نموذجاً للإنتقال الديموقراطي , وعلي أية حال عندما نقارنها بمصر والأردن أو حتي لبنان , فإن ماعون مساعداتنا لتونس لا يشير حقيقةً إلي أن الإدارة تري مستقبلها كأولوية متقدمة , إن شعب وحكومة تونس يحتاجوننا أكثر من أي وقت مضي ” , كذلك أشارCole Bockenfeld  نائب مدير السياسات بمشروع الديموقراطية في الشرق الأوسط ” في كل عام يناضل مسئولي الإدارة لسحب التمويلات للإستجابة للأزمات الطارئة والفرص الجديدة , بينما هناك مئآت الملايين من الدولار تُركت علي الطاولة بمصر , وإذا ما ظلت الحكومة المصرية ترفض التعاون مع الولايات المتحدة في برامج التنمية , عندئذ تكون الديموقراطية البازغة في تونس مرشحة أولي لمزيد من المعونة , فحكومتها تواجه تحديات إقتصادية وأمنية مُضطردة كما أنها أبدت رغبة حقيقية في العمل مع الولايات المتحدة لمساعدتها علي مواجهة هذه التحديات ” , وبعد ذلك بدأ مُسلسل مُتتابع من الأنباء عن هذه الإستقطاعات , فقد أشار موقع Cairo Scene بتاريخ 3 يونيو 2017 إلي ما قاله Richard Brown  مدير  USAIDبمصر أمام جمع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1999 من أنه من بين ما تضطلع به USAID من خلال برنامجها بمصر , الترويج  للمنظمات غير الحكومية وتحرير الإقتصاد المصري وان التمويل الأمريكي مُوجه للقطاعات التي تُصدق عليها الحكومة الأمريكية التي لا تدعم الأنشطة الإقتصادية التي في ليست في وضع صراع مع المصالح الأمريكية وعلي سبيل المثال صناعة النسيج , كذلك نشر نفس الموقع في 3 يونيو 2017 ما صرح به لوكالة FOX News مدير الميزانية بالبيت الأبيض Mick Mulvaney من أن إدارة الرئيس Trump قد إقترحت إجراء إستقطاعات مُؤثرة بالمعونات الخارجية للولايات المتحدة وهي التي يمكن أن تؤثر تأثيراً ضاراً علي مصر وإسرائيل وهما من  أكبر الدول المُتلقية لها , وان الرسالة  الضمنية والواضحة إلي حد ما هي : ” أن مالاً أقل يُنفق بالخارج يعني مزيداً من المال يُنفق هنا ”  .

إتصالاً بما تقدم تجب الإشارة إلي ما أفادت به Shana Marshall من معهد دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة George Washington من أن المعونة العسكرية الأمريكية لمصر أو لغيرها من الدول المُتلقية لها , هي في الواقع دعم من الحكومة الأمريكية الفيدرالية للصناعات العسكرية الأمريكية فمبلغ المعونة العسكرية لمصر والبالغ نحو مليار دولار يُودع في بنك الإحتياطي الفيدرالي في نيويورك وهناك يتحول إلي تمويل إئتماني للخزانة الأمريكية ومنه يُصرف لحساب متعهدي الصناعات العسكرية الأمريكية ومنذ نهاية عقد الثمانيات من القرن الماضي وللآن أرسلت الولايات المتحدة لمصر في إطار هذه المعونة حوالي 1,000 من الدبابات من طراز M1A1 Abrams قيمتها حوالي 3,9 مليار دولار مُكدسة بمخازن الجيش المصري جنباً إلي جنب مع الدبابات السوفيتية الصنع , فيما أشار Robert Springborg خبير في شئون الجيش المصري في مدرسة  الدراسات العليا البحرية في Monterey إلي أنه “ليس هناك من سيناريو مُقنع ليبرر إحتاجهم (المصريين) لكل هذا الكم من الدبابات إلا أن يكون هناك غزو خارجي , وهذه الدبابات تساعد في معارك المدي البري لها واسع , لكنها لن تكون كذلك في حالة التهديد القائم حالياً وتواجهه مصر في شبه جزيرة سيناء  , وأن ما لا يقل عن 200 دبابة من تلك التي ترسلها الولايات المتحدة لمصر لا تستخدم أبداً ” .

في النهاية أُعلن رسمياً في 22 أغسطس 2017 عن أن الإدارة الأمريكية إتخذت قرارين أحدهما بإستقطاع مبلغ 96 مليون دولار والآخر بحجب مبلغ 195 مليون دولار من المعونة العسكرية السنوية الأمريكية لمصر والتي يبلغ مجملها 1,3 مليار دولار سنوياً , والتي تُسلم لمصر من خلال أسلوب ” تدفقات التمويلات النقدية ” أو ” Cash-flow financing  ” , وللنظر في هذا القرار فإن هناك ثمة مدي أوسع يُفضل وضع الموضوع للنظر في حدوده ما أمكن ذلك , إذ أن قراراً بهذا التأثير علي علاقة ثنائية تُوصف أحياناً بالإستراتيجية لابد وأنه يتفاعل أو سيتفاعل مع المدي الذي يحدث فيه , ويمكن لمحاولة بيان علاقة التأثير والتأثر المُتبادل وتجنباً للتهوين أو التهويل علي الأقل بيان ذلك علي النحو الآتي  :  

1- أن القرار الأمريكي بحجب وإستقطاع ما مجموعه 291 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر بالرغم من أن له مدلول سياسي إلا أنه في الحسابات الختامية تطبيق لا أكثر ولا أقل للقانون الأمريكي الذي يُوجب خصم 15% من مجمل المعونة الأمريكية أوالتمويلات العسكرية الخارجية Foreign Military Financing لمصر البالغة 1,3 مليار دولار سنوياً مالم تتمكن الإدارة من إثبات أن مصر تحرز تقدماً في مضمار حقوق الإنسان والديموقراطة وهو مالم تستطع الإدارة إثباته مرة أخري للكونجرس , وبالرغم من هذا فقد كانت ومازالت وزارة الدفاع الأمريكية تمثل الجبهة ذات الروابط المتينة والمُستمرة مع العسكريين المصريين ويؤكد هذا المعني أن Jim Mattis وزير الدفاع الأمريكي عندما زار القاهرة في 20 أبريل 2017 صرح فقال ” غادرت القاهرة وأنا واثق جداً كل الثقة أننا حققنا تقدماً في العلاقات العسكرية / العسكرية والتي هي كالصخرة وظلت صلبة طيلة هذه السنيين ” , لكن يبدو أن جهد وزارة الدفاع في إتجاه منع إتخاذ هذا القرار لم يسجل نجاحاً إذ أن موضوع القطع الجزئي للمعونة العسكرية لمصر نُوقش في مستهل أبريل 2016 .

من جهة أخري فإن المؤسسة العسكرية المصرية تعرضت قبل صدمة القطع الجزئي تلك للمعونة العسكرية الأمريكية لصدمة أكبر , إذ أن إدارة الرئيس Obama إتخذت عقب مأساة فض إعتصام رابعة العدوية الدموي غير المسبوق في  14 أغسطس 2013 قراراً لم تتخذه إدارة سابقة من قبل وهو تعليق المعونة العسكرية لمصر , لكن نفس هذه الإدارة إستأنفت في مارس 2015 برامج مساعداتها لمصر لكن بعد أن قررت إعادة صياغة هذه المساعدات , فبدلاً من إمداد مصر بالمعدات والأسلحة التقليدية علي نطاق واسع وهو ما كان العمل جارياً عليه طيلة 30 عاماً أعلن البيت الأبيض أنه بدءاً من عام 2018 فإن المعونة العسكرية لمصر ستُوزع علي 4 قطاعات هي : (1) مكافحة الإرهاب (2) أمن الحدود (3) أمن سيناء(4) الأمن البحري , وأعلن الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي Bernadette Meehan أن إدارة الرئيس Obama قررت إنهاء إستخدام مصر بدءاً من عام 2018 لتدفقات التمويلات النقدية وهي الآلية التي كانت تمكن مصر من شراء المعدات بالأجل  .

في تقديري أن قرار المؤسسة العسكرية المصرية البحث عن شركاء آخرين بدلاً من و / أو بالإضافة إلي الولايات المتحدة لم يكن قراراً مُؤسساً فقط علي رد فعل مصر بسبب تعليق إدارة الرئيس Obama للمعونة العسكرية أو حتي بسبب إعادة صياغتها بدءاً من عام 2018 , فمصر تحركت مبكراً بإتجاه فرنسا فتعاقدت معها عام 2014 لشراء 4 فرقاطات بمبلغ إجمالي قدره 1,35 بليون دولار وفي خريف 2015 أعلنت فرنسا أنها باعت لمصر حاملتي طائرات هليوكوبتر طراز MISTRAL و24 طائرة مقاتلة من طراز Dassault Rafale بمبلغ إجمالي قدره 5,9 مليار دولار نصفه مُمول بقروض فرنسية , أما روسيا  فقد توصلت مصر معها إلي صفقة مكونة من 24 طائرة طراز  Ka-52 Alligator helicopters تتناسب مع حاملتي الطائرات الفرنسيتين , بالإضافة إلي مبيعات أسلحة روسية أخري تتضمن (Antey-2500 (S-300 وهو نظام مُضاد للصواريخ الباليستية بلغ قيمة التعاقد عليه بليون دولار بالإضافة إلي 46 طائرة مقاتلة مُتعددة المهام طرازMIG 29  , ويُعتقد أن تمويل هذه الصفقات وربما غيرها كان من التدفقات المالية الخليجية التي منحتها السعودية والكويت والإمارات لمصر بعد الإطاحة بالرئيس المُنتخب محمد مرسي وتبلغ هذه المنح في بعض التقديرات 23 بليون دولار , كما لم يكن القرار المصري رد فعل طبيعي إزاء التناول المختلف لمسألة المعونات الأمريكية خاصة العسكرية منها لمصر فقط بل أيضاً رد فعل طبيعي لأزمة المكانة والدور الذي تعاني مصر من إفتقادهما أو علي الأقل تآكلهما منذ عهد مبارك ووصلت هذه الأزمة إلي ذروتها منذ عام 2013 وحتي الآن ومن المُؤكد – وفقاً لذلك – أن الإدارة الأمريكية تتابع وعن كثب وبعمق السلوك السياسي للنظام القائم حالياً في مصر ومن ثم فقد توقعت إندفاع مصر نحو شركاء آخرين في مقدمتهم فرنسا وروسيا لتحقيق إستراتيجية التوسع في التسليح للوفاء بمتطلبات عسكرية لا تتضمن بالقطع مواجهة إسرائيل , وهو ما تم علي أية حال وفي الوقت الذي صُرفت فيه هذه المنح علي مشتريات سلاح لتنفيذ إستراتيجية عسكرية ليست الحرب أحد أهم متطلباتها , لكنها كانت لمحاولة بناء هذا الدور وتلك المكانة المفقودين من واقع ترسخ الإرتباط المصري بمواقف تقوم علي دعم أطراف في دول الإقليم المُضطرب المُحيط بها بأدوات عسكرية بحتة , فقوي مصر الناعمة إندثرت أو كادت بسبب الإستبداد ولم يتبق في نظر هؤلاء غير القوة العسكرية المُجردة لإستعادة الدور والمكانة , ولإستعادتهما كان علي القيادة المصرية الحالية السعي أولاً إلي نيل الإعتراف الدولي بها خاصة من القوي الدولية الكبري المؤثرة وهي تحديداً روسيا وفرنسا والصين بإستخدام الحافز المالي مُتمثلاً في مشتريات السلاح المصري من هذه الدول وضعاً في الإعتبار أن جماعة صناعة السلاح بهذه الدول أو القوي الدولية تعد أقوي أطراف التأثير السياسي علي الحكومات القائمة , وبقدر عزل هذه الحكومات لمعايير الحوكمة وحقوق الإنسان والديموقراطية عن صفقات السلاح بقدر ما تنشط جماعة ضغط صناعة السلاح بها لدعم حكوماتها القائمة في أي مواقف سياسية تتخذها بحيث لا تتأسس علي معايير السلطة النظيفة أو حقوق الإنسان أو غيرهما من المعايير .

علي كل حال وعلي سبيل التلازم Corollaire حقق هذا القرار توسيعاً وتنويعاً واضحاً لمدي التسليح المصري بإضافة والتركيز علي سلاح البحرية مُرتبطاً بسلاح الجو لإكتساب مدي جغرافي يتجاوز الحدود المصرية ليصل إلي مضيق باب المندب وربما بعده بقليل في خليج عدن , وذلك من أجل صناعة دور إقليمي لمصر يقوم فقط علي الجهد العسكري في الوقت الذي تداعت وأنهارت فيه القوي الناعمة المصرية جراء عمليات هدم منظمة بتوجيهات / مؤثرات / مغريات وحوافز أمريكية وأوروبية إستخدمت فيها المعونات الأمريكية والأوروبية كحوافز وزواجر تفاعلت معها الإدارة المصرية إبان عهد مبارك وللآن , والأخطر أن عمليات محو الهوية الإسلامية والعربية كانت تتم في الجزء الأكبر منها عبر برامج ممولة من المعونة الأمريكية والإتحاد الأوربي  في قطاع التعليم والصحة الإنجابية بل والقطاع غير المدني أيضاً , فالهدف النهائي من هذه المعونات معروف لمن يريد أن يعرف فهو وبإختصار محو جوهر الهوية المصرية التي أساسها الهوية الإسلامية / العربية والتي بغيرها لن يتسلح الجيش بهوية يذود عنها ولن تجد جيلاً يوقف زحف أجيال اليهود التي تُربي علي أساس أن إسرائيل دولة يهودية وهو ما يردده رئيس وزراء إسرائيل وعامل النظافة في شوارع تل أبيب معاً , لكنك إن قلت ” دولة إسلامية ” فستُوصم بالإرهاب ووقف أمامك العالم شرقه وغربه , وللأسف فقد إنضم طابور خامس داخل مصر لأعداء هوية مصر , فأنت تسمع وبوضوح وبقوة أصوات مُنكرة تصل من خلال الإعلام السفيه لتنتقد الإسلام وفقهاءه وأمهات كتب التفسير والفقه , وهذه هي معركة الهوية التي لا يعلم من يديرها أن نهايتها دمار ماحق للدولة المصرية ذاتها فهي ستصبح ورقة بيضاء لا تدلك علي شيئ , إذ أن شعباً بلا هوية هو شعب بلا مستقبل فماضيه محاه أسري المعونات الأمريكية والأوروبية وحاضره نطاقه الحصول فقط علي الطعام … المعونات معركة …  معركة يكسبها الأمريكيين والأوروبيين عندما يتخلي الشعب وقادته عن الكرامة لأنه مقابل كل دولار يعطونه إليك هناك جزءاً من كرامتك وإستقلالك يُمحي , ومما يؤكد ذلك أن مصر حصلت منذ خمسينات القرن الماضي علي معونات من الولايات المتحدة بلغ مجموعها حوالي 77 بليون دولار ومع ذلك لا أثر لها علي تنمية مجالات الصحة والتعليم والإسكان والري والزراعة والصناعة , وربما تجد لها أثراً بمخازن الأسلحة والمعدات ومع المُتعاقدين مع الفساد .

2- كان من الممكن للإدارة الأمريكية بإستخدام قاعدة إزدواج المعايير التي تطبقها بحرية نسبية في المسافة الفاصلة بين ما يريده الكونجرس وما تراه مؤسسات الأمن والخارجية الأمريكية – إن رأت أنها مُحققة لما تنص عليه وثائق الأمن القومي الأمريكي المُتتابعة – كان مُمكناً لهذه الإدارة أن تمرر المعونة العسكرية لمصر في هذا العام المالي وتترك التهديد بقطع جزئي للمعونة مُعلقاً , وقد فعلت ذلك  سابقاً ولمرات مع نظام مبارك , لولا أن هناك حدثان مهدا الطريق إلي حد كبير لوصول الإدارة الأمريكية إلي نقطة حرجة تبرر لها وفقاً للمصالح الأمريكية وليس لغيرها إتخاذ قرار القطع الجزئي للمعونة العسكرية , أولهما فتح نقاش في جلسة إستماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي في 13 أبريل 2017 تناول أمور ذات صلة مباشرة ببعضها البعض وتتعلق جميعها بوضعية المعونة الأمريكية لمصر في ضوء عدم سحب مبالغ تتراوح ما بين 500 إلي 700 مليون دولار وإنتهاكات حقوق الإنسان مع نقاش خافت غير معلن كان يجري في أروقة مؤسسات الأمن الأمريكي بشأن إرتباطات مصر بقوي مناوئة للولايات المتحدة منها روسيا والصين وكوريا الشمالية  , وثانيهما تمرير البرلمان المصري في نوفمبر 2016 قانون جديد للجمعيات الأهلية ثم إصداره في 29 مايو 2017 من أهم سماته تحديد وتقييد حركة ونمو المنظمات غير الحكومية المحلية والأجنبية او ما يُسمي بقوي العمل المدني في مصر وعددها 64,000 جمعية ومنظمة وإمهالها عام حتي توفق أوضاعها وفقاً للقانون الجديد وإلا حُلت بمقتضي القانون , ونظراً للأهمية القصوي لقوي العمل المدني وإعتماد مؤسسات الأمن القومي الأمريكي علي مخرجاتها المعلوماتية التي تستخرجها المنظمات غبر الحكومية (الجزء الأهم في المجتمع المدني)علي إختلافها من باطن المجتمع المصري , لذلك إعتبرت المؤسسات الأمنية الأمريكية هذا القانون بمثابة نُكران للجميل المُتمثل في المعونة الأمريكية والذي لهذه المؤسسات قول يُعتد به في تدفقها لمصر , ذلك أنه في إستراتيجيات الإرتباط الأمريكي لتطبيق سياستها الخارجية تنزع الولايات المتحدة إلي إستخدام الحوافز للإرتباط بالمجتمع المدني في بلد ما وبالدوائر العسكرية فيه حيثما يكون ذلك ممكناً , ولإن هناك نقاط إرتكاز مختلفة تنطلق منها السياسة الأمريكية فإنه وفي الحالة المصرية – كما في بعض الحالات الأخري –  كانت ومازالت نقطتي الإرتكاز الرئيسيتين للولايات المتحدة  للتعامل تتم من خلال المنظمات غير الحكومية والمؤسسة العسكرية للنفاذ والتحكم علي مدي واسع وبعمق في المجتمع المصري ومؤسساته وعلي رأسها المؤسسة العسكرية التي تحولت بسبب المعونة العسكرية الأمريكية إلي أضعف حلقات السلسة المؤسسية المصرية , وفيما إنطلقت السياسة الأمريكية من نقطتي الإرتكاز المُشار إليهما فقد طبقت الولايات المتحدة نمطاً مناسباً لتحقيق المصالح الأمريكية في مصر وهو نمط إقتران الحوافز بالعقوبات أو الجمع ما بين العسل والخل فبينما يقدم الفرع التنفيذي بالإدارة الأمريكية الحوافز , نجد الكونجرس يهدد بفرض العقوبات (ريتشارد هاس وميجان أوسوليفان . ترجمة إسماعيل عبد الحكم . العسل والخل “الحوافز والعقوبات والسياسة الخارجية . الناشر مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 2002 . صفحة 171) , علي أني ألاحظ أنه وفي حالة السودان نجد أننا إزاء نمط أمريكي مختلف إذ تضافرت قوي الكونجرس والإدارة الأمريكية ومن ثم تناغمت سياستهما إزاء السودان وكان العنصر الغالب فيهما هو العقوبات مع النذر اليسير من الحوافز التي كانت تُوظف فقط لقياس ما تبقي من قوة لدي متخذ القرار السوداني وليس لدفعه بصفة إيجابية  .

3- هناك تناول مختلف للسياسة الخارجية الأمريكية من قبل القائمين علي وضع الخطوط العامة الحاكمة التي تعمل علي هديها مؤسسات الإدارة الأمريكية علي إختلافها بدءاً من الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس Trump مروراً بمجلس الأمن القومي فالمخابرات المركزية ووكالاتها والمؤسسة العسكرية بالبنتاجون ومن ثم القيادات العسكرية الجغرافية الست للولايات المتحدة ومنهم القيادتين العسكريتين المركزية USCENCOM والأفريقية  AFRICOM فالخارجية الأمريكية وUSAID ألخ , ومن بين ما يؤكد ذلك أنه بالرغم من أن إدارة الرئيس Obama كانت تتعامل مع إثيوبيا بإعتبارها حليفاً ذا أهمية حيوية في الحرب علي الإرهاب في القرن الأفريقي كما صرح بذلك الرئيس Obama نفسه في سبتمبر 2014, إلا أننا نجد أن وزير الدفاع الأمريكي Jim Mattis ضم إلي جولته في بعض دول الشرق الأوسط جيبوتي المجاورة تماماً لإثيوبيا فيزورها في 22أبريل 2017 ويتجاهل زيارة إثيوبيا , وعلي غير عادة إدارة الرئيس Obama فقد توقفت إدارة الرئيس Trump حتي الآن عن وصف إثيوبيا في بياناتها الرسمية ذات الصلة بالقرن الأفريقي علي أن لها دور في جبهة الحرب علي الإرهاب ولا علي أنها ” شريك إستراتيجي” ولا حتي الإشارة إلي إضطلاعها بدور في المحافظة علي الإستقرار الإقليمي , كما أنه لا ذكر حتي الآن لإعادة فتح الولايات المتحدة لقاعدة الطائرات التي بدون طيار  Drone base بإثيوبيا  والتي أُغلقت عام 2016 فقد إستبدلتها الولايات المتحدة بقاعدتها في جيبوتي وكذلك فقد أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا في مايو 2017 عن تمركز كتيبة من العسكريين الأمريكيين تابعة للواء 101 المحمول جواً بالصومال وذلك لأول مرة منذ الإنسحاب الأمريكي من الصومال عام 1994 أي أن الولايات المتحدة إستعادت تواجدها العسكري المباشر بالصومال وساحله من نقطتين هما أراضي الصومال نفسه وجيبوتي فأنخفضت أهمية إثيوبيا عسكرياً , وقد نشر موقع THE HILL بتاريخ 5 مايو 2017 تقريراً بعنوان ” الولايات المتحدة ليست بحاجة إلي إثيوبيا في حربها علي الإرهاب في القرن الأفريقي” وبرر كاتبه ALEMAYEHU G. MARIAM رأيه بأن وزير الدفاع الأمريكي Jim Mattis زار عدة دول بالشرق الأوسط لإعادة تأكيد التحالف العسكري بينهم وبين بلاده كما زار جيبوتي هذا البلد الصغير بالقرن الأفريقي لكنه لم يزر إثيوبيا مما يعني أنها أي إثيوبيا غائبة وبوضوح عن مصفوفة الشراكة الإستراتيجية للولايات المتحدة , وأن ثقل التواجد العسكري الأمريكي في القاعدة الأمريكية في جيبوتي بمعسكر Camp Lemonnier سيُقلل نسبياً من أهمية الإعتمادية العسكرية الأمريكية علي تمركزها البحري الأمريكي في Diego Garcia , بالإضافة إلي أن جيبوتي أصبحت منطقة فائقة الأهمية للعسكرية الأمريكية بإعتبار علاقتها بأحداث ومخاطر الشرق الأوسط مما دعي دول كالسعودية والأمارات العربية لتأسيس قاعدتين عسكريتين لهما هناك بالإضافة إلي القاعدة الصينية الرابضة علي بعد كيلومترات قليلة من قاعدة  Camp Lemonnier الأمريكية , يُضاف إلي ذلك فشل إثيوبيا في كبح حركة الشباب الصومالي خلافاً لما تعهد به وأعلنه  Meles Zenawiفي يناير 2007 عندما قال ” أن أمامه أسبوع أو أسبوعين علي الأكثر لطرد الإسلاميين من الصومال وبعدها تبقي قواتنا هناك لبضعة أيام للمساعدة في تشكيل حكومة إنتقالية لحفظ الإستقرار ثم تخرج قواتنا من الصومال ” وما حدث وفقاً لما كتبه ALEMAYEHU G. MARIAM بموقع THE HILL في 5 مايو 2017 ” أن الإسلاميين خرجوا من الصومال ليحل محلهم حسب زعمه ” قتلة حركة الشباب ” , فكل من يعارضهم أو ينازلهم  ” قتلة “, وقال ” أنهم جعلوا الموقف السياسي والعسكري أسوأ داخل الصومال , وتسبب الدور السيئ (الإثيوبيين) لهم في الصومال في رفع تكلفة مواجهة حركة الشباب من 300 مليون دولار عام 2009 إلي 900 مليون عام أي حتي خروج القوة الإثيوبية من الصومال في صيف 2016 والتي كان قوامها 3,000 ولم تكن مُلحقة علي قوة الإتحاد الأفريقي في الصومال  AMISOM ” , وهو ما يفسر- في تقديري –  إستعادة الولايات المتحدة لدور عسكري مباشر بالصومال ,  ولهذا وإستشعاراً منها للتحول الذي طرأ علي السياسة الأمريكية إزاءها فقد تعاقدت الحكومة الإثيوبية في يناير 2017 مع SGR وهي شركة علاقات عامة مقرها واشنطن لتحسين صورتها لدي الإدارة الأمريكية بواقع 150,000 دولار تُسدد لهذه الشركة شهرياً من خزانة بلد كإثيوبيا يتضور نحو 20 مليون من سكانه جوعاً , وهو نفس ما تفعله أيضاً مصر ودول أخري بالمنطقة  .

إذا ما أعتبرنا هذا التحول الأمريكي مُؤكداً في الحالة الإثيوبية وهو بالقطع كذلك , فلماذا إذن لا نعتبر أن قطع جزئي للمعونة العسكرية الأمريكية لمصر مُؤسس علي نفس هذا السبب ؟ أي علي تدني فاعلية العسكرية المصرية لأسباب مختلفة من أهمها عدم الإستقرار السياسي والأمني في مصر حيث أن قواها مُستهلك جزء منها في التموضع بوادي النيل والدلتا كما حدث في 11 نوفمبر 2016والإنخراط في المؤسسات المدنية وتنفيذ مشروعات إقتصادية بعضها ذا طابع فني لا قبل للمؤسسات العسكرية بالعالم به , والأخطر المعركة التي تخوضها القوات المسلحة المصرية في سيناء وهي معركة بسبب طبيعة وحساسية مسرحها المُتاخم للكيان الصهيوني تعتبر ذات نتائج مؤثرة بدرجة أو بأخري علي أمن إسرائيل كما هي علي الإستقرار النسبي للنظام السياسي القائم بالقاهرة والعلاقات الأمنية التبادلية بين تل أبيب والقاهرة التي خرجت عن نصوصها التقليدية لتترسم خطي مسرح اللامعقول , كذلك فهي مُؤثرة علي سمعة ومصداقية وقدرات القوات المسلحة المصرية نفسها وطاقاتها المُستنزفة في شبه جزيرة سيناء فهي معركة بدأت موازية لتداعيات إسقاط نظام مبارك وهي نقطة في غاية الأهمية لأنها تعني الكثير ,  تعنيه أن النظام الحالي بالقاهرة بسببها ولأسباب أخري مهمة لا يعتبر ضعيفاً ولا قوياً كما لا يعتبر مُستقراً بقدر ما يعتبر قابلاً للإبتزاز من قبل كل القوي الدولية التي دخل معها في تعاقدات عسكرية بالإضافة إلي الولايات المتحدة نفسها التي تستخدم المعونة العسكرية إستخدامها لمصلحة البريد والهاتف الأمريكية أي إرسال رسائل معنونة ومباشرة لمن يهمها أمره , فقد فُرضت علي الجيش المصري معركة مع / ضد مقاتلي ولاية سيناء أو أنصار بيت المقدس أو داعش في نفس المنطقة التي أراد الأمريكيون والصهاينة إخلاءها من أي جهود عسكرية / قتالية فإذا بهم يضطرون خشية توسع خطر هذه المواجهة إلي قبول تمدد القوات المسلحة المصرية بشبه جزيرة سيناء بإعداد غير مُتفق عليها في ملحق معاهدة السلام مع إسرائيل لمواجهة هذا التمرد أو القتال الذي هو في نفس الوقت إختبار محدود للجاهزية العسكرية المصرية في شمال شبه جزيرة سيناء علي نحو خاص , ولأنها معركة إستنزاف لا معركة نتائج حاسمة فإن إستمرارها مُحتمل , هذا بالإضافة إلي أن إخفاق الولايات المتحدة في تكوين ما يُسمي بالحلف السني علي غرار أو المرتبط بحلف شمال الأطلنطي NATO تضافر مع السلوك السياسي غير المُعتاد من القاهرة خاصة في قضايا إقليمية أخري ليطرح لدي واشنطن تساؤلات عن المدي الذي يمكن للقاهرة أن تذهب إليه في إختلافها مع بعض الرؤي السياسية الأمريكية وعلي سبيل المثال فقد إمتنعت القاهرة عن التصويت لدي طرح الولايات المتحدة علي مجلس الأمن في 23 ديسمبر 2016 مشروع قرار لحظر السلاح علي جنوب السودان الذي وقع في براثن حرب أهلية مُستمرة منذ ديسمبر 2013 للآن وإقتراب مصر من روسيا في دعم نظام الأسد ألخ  .

ربما كان هناك ثمة أوجه شبه في تعاطي المؤسسة العسكرية الأمريكية مع الحالتين الإثيوبية والمصرية فالعسكرية الأثيوبية أخفقت في الصومال مما حدا بالولايات المتحدة للتدخل المباشر وإعادة التمركز بكتيبة من اللواء101 المحمول جواً , كما أن العسكرية المصرية لم تسجل حتي الآن نصراً حاسماً علي عناصر ولاية سيناء وغيرها في شبه جزيرة سيناء بالرغم من دعم الولايات المتحدة ومعها إسرائيل التي تري في عدم الحسم العسكري المصري للمعركة التي في سيناء تهديداً مباشراً لأمنها خاصة مع التهديد القائم لحماس في غزة , بمعني أن هناك تهديدين ضد إسرائيل أحدهما في بطنها والآخر تحت قدميها وهو وضع مُقلق بقدر ما هو حرج ومُكلف للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي عليها لوقت طويل أن تظل هكذا في حالة إستعداد Alert , وفي الحالة الإثيوبية إستغنت العسكرية الأمريكية عن الوجود العسكري الإثيوبي بالصومال , لكن في الحالة المصرية لابد من طرح هذا السؤال : ماذا علي الولايات المتحدة أن تفعله من أجل صيانة أمن إسرائيل علي ضوء إستمرار عدم الحسم العسكري المصري لما يُوصف بالمعركة مع الإرهاب في شبه جزيرة سيناء ؟ , البدائل الأمريكية في الحالة المصرية  تكاد وأن تكون معدومة أو قاصرة أو يائسة إزاء هذا الوضع مما قد يكون قد حمل الإدارة الأمريكية – بصفة أساسية البنتاجون الداعم الرئيسي للنظام القائم حالياً بالقاهرة – علي تمرير قرار الكونجرس بأقل مقاومة ممكنة كنوع من أنواع الغزل العنيف مُوجه من البنتاجون نفسه قبل غيره من المؤسسات الأمريكية كالخارجية للمؤسسة العسكرية المصرية بسبب الموقف المتدهور غير الحاسم عسكرياً في شبه جزيرة سيناء , وهو غزل لأن المبلغ المُستقطع من المعونة العسكرية وهو نحو 90 مليون دولار تأثيره معنوي مساو لتأثير الغزل العنيف إن صح التعبير , وهو غزل أيضاً لأن المعونة العسكرية قوامها الأضخم The Bulk مازال سارياً مُتدفقاً بإتجاه مصر , لكنه عنيف لأنه إستهدف الجانب العسكري في العلاقة الأمريكية المصرية وهو الجزء المفضل لانه سلس غير مُكلف لإدارة مصائر الدول كمصر وباكستان وغيرهما , فالولايات المتحدة تفضلهم عسكريين فبحكم تكوينهم السلوكي تجدهم بقدر ما هم مُتعطشون للسلطة والسيطرة فهم أيضاَ مستعدون تماماً لتحري الإنضباط والنظام Discipline فيصدعون للأوامر , فالأنظمة العسكرية دائماً ما تكون كذلك , ومن بين من يؤكدون هذه النظرة رئيتشارد هاس وميجان أوسوليفان في كتابهما المُعنون ” العسل والخل ” المُشار إليه , إذ قالا ما نصه : ” وأخيراً فإن الأشكال المحدودة من الإرتباط العسكري مفيدة علي الدوام تقريباً في تحقيق أهداف السياسة الخارجية  , سواء كانت هذه الأهداف متواضعة أو طموحة وبصفة خاصة في مجتمعات مثل باكستان حيث المؤسسة العسكرية مؤسسة أساسية في الحياة السياسية واليومية , فإن تعظيم الإتصال بالقوات المُسلحة أمر له جدواه وحتي لو كان لنقل الأسلحة أو التكنولوجيا ذات الإستخدام المزدوج مردود عكسي , فإن برامج مثل التدريب للتوعية بالمعايير العسكرية الدولية تعادل الإستثمار السليم ولا ينبغي أبداً إلغاؤها كعقوبة فهي لا تمكن الولايات المتحدة من التأثير علي سلوك المؤسسة العسكرية حالياً فحسب بل تسمح أيضاً لأمريكا بإقامة إتصالات مع القادة العسكريين الذين قد يصبحون شخصيات سياسية مهمة في مسيرة بلادهم” , وما قالاه هو ما حدث بالضبط في مصر .

4- سبق الإعلان عن القطع والحجب الجزئي للمعونة العسكرية الإعلان في 7 أغسطس 2017 عن تعيين David Satterfield مُساعداً لوزيرالخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدني إعتباراً من سبتمبر 2017, وهو من قدامي الدبلوماسيين الأمريكيين وخدم في البعثات الدبلوماسيىة الأمريكية في عدد من الدول العربية منها السعودية وتونس وسوريا ولبنان , وفي عهد الرئيس George W. Bush كان كبير المستشارين لوزيرة الخارجية Condoleeza Rice وكذا منسق الخارجية للعراق , كما أنه تعامل وبشكل مُكثف مع الملف العربي / الإسرائيلي عندما عُين عام 2009 مديراً عاماً للقوة متعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء مما مكنه  بطبيعة الحال من الإطلاع علي الملف السيناوي , إلي أن عاد لواشنطن عام 2014 , وقد علق Dan Shapiro السفير الأمريكي السابق لدي إسرائيل علي إختياره لهذا المنصب قائلاً ” إن لديه خبرة وإطلاع كما أنه مبتكر وكان يحظي بالإحترام بالمنطقة إذ ساعد مصر وإسرائيل علي تجنب سوء الفهم وتعامل مع القضايا الأمنية بسيناء ” , وبالرغم من أنه من الضروري تطبيق القاعدة المهنية التي تقول بأولوية تعيين دبلوماسي مطلع وذا خبرة بدول المنطقة التي تتضمنها الإدارة السياسية أو الإقتصادية هذه وتلك , وهو ما جري تطبيقه في حالة السفير Satterfield , إلا أن تولي Satterfield منصب مدير عام القوة متعددة الجنسيات والمراقبين بسيناء لأربع سنوات متتالية يشير – وليس منصبه الجديد – بصفة أولية أن ملف سيناء سيكون مُسيطراً علي العلاقة المصرية / الإسرائيلية / الأمريكية وأن هذا الملف بالذات الذي يتم تناوله في كل المؤسسات الأمريكية ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي بإعتباره ملف فرعي للملف الرئيسي وهو ملف أمن إسرائيل وأنه أي ملف سيناء يكتسب الآن أهمية إضافية بسبب توقيت تناوله مًجدداً من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل في إطار التطبيق الأمين لإتفاقيات التفاهم الإستراتيجي بينهما ( كل ما بين مصر والولايات المتحدة حوار إستراتيجي وليس إتفاقيات مكتوبة عنوانها العريض ” التفاهم الإستراتيجي ” كحالة إسرائيل) وأتوقع بناء علي ذلك وبالإستدلال علي تطوير الولايات المتحدة النوعي لملف سيناء بتعيين Satterfield أن يكون هذا التطوير إطاره العام تصفية القضية الفلسطينية من خلال قناتين أمنية وسياسية وللسيد Satterfield خبرة نوعية فيهما كما أشرت , ولذلك فإني علي يقين من أن ملف سيناء هو السبب الرئيسي في إعتقادي لإكتفاء الولايات المتحدة بقطع وحجب جزئي وبسيط نسبياً لمعونتها العسكرية لمصر .

يعلم القاصي والداني أن الولايات المتحدة تستخدم المعونات العسكرية والإقتصادية في سياستها الخارجية لتحقيق الأهداف العليا لأمنها القومي ولذلك فهي بالقدر الذي يُتاح لها تستخدمها إما كزواجر أو حوافز حسب الحالة , لكن وللأسف ربما لا يعلم الكثيرون أن هناك ملف آخر تستخدمه ويمكنك أن تصفه بأنه في النهاية بأنه بمثابة فرع من فروع المعونة العسكرية لمصر , وهو ملف القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء التي تولي السيد Satterfield إدارتها سابقاً , وهي القوة التي نشأت نتيجة رفض مجلس الأمن الدولي بموجب كتاب رسمي من رئيسه لوزير الخارجية المصري مُؤرخ في 18 مايو 1981 أكد فيه عدم إستطاعة مجلس الأمن التوصل إلي الإتفاق اللازم في هذا الصدد ولأسباب مختلفة , لذلك وبصفة إستباقية بدأت الولايات المتحدة في فبراير1981 إتصالات مع مصر وإسرائيل للتوصل لإتفاق حول طرق وأساليب إنشاء قوة لحفظ السلام في سيناء علي أساس من إلتزام قطعته الولايات المتحدة علي نفسها عند توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 مارس 1979 , وبالفعل جرت مفاوضات ثلاثية بين الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل حتي تم توقيع بروتوكول إنشاء قوة متعددة الجنسيات والمراقبين في واشنطن في 3 أغسطس 1981(تتكون وفقاً للبروتوكول المُوقع من : مقر قيادة وثلاث كتائب مشاة لا يزيد مجموع أفرادها عن 2,000 فرد ووحدة دوريات ساحلية ووحدة مراقبين وعنصر ملاحة جوية ووحدات شئون إدارية وإشارة) , وقد ساهمت الولايات المتحدة في مستهل إنشاءها بنحو ثلاثة أخماس تكاليفها ثم تحملت فيما بعد ثلث ميزانيتها السنوية وكانت المشاركة الأمريكية بالأفراد وفقاً لما ورد بكتاب وزير الخارجية الأمريكي لمدير عام القوة رداً علي خطاب الأخير المُؤرخ  في 26 مارس 1982 عبارة عن كتيبة مشاة مكونة من 800 فرد ووحدة إمداد مكونة من حوالي 350 فرد وإداريين ومراقبين, وفي الواقع كانت الولايات المتحدة كلما أرادت تطويعاً للإرادة السياسية المصرية في مسألة خلافية بينها وبين القاهر لجأت إلي إستخدام ملف القوة متعددة الجنسيات في سيناء , وفي الغالب كان لجوءها لهذا الملف يتناسب مع الهدف المُراد تطويع إرادة مصر من أجل تحقيقها إياه , ولذلك تجد الولايات المتحدة تثير مسألة رغبتها في تخفيض حجم مشاركتها في القوة بين الحين والآخر , ففي لقاء وزير الخارجية المصري بمدير عام القوة آرثر هوجيز نشرت صحيفة الأهرام في 20 فبراير تصريحاً للوزير أشار فيه ” إلي أن المطروح هو تعديل هيكلة المشاركة الأمريكية في القوة وهو موضوع طرحه وزير الخارجية الأمريكي وأنه مازال محل مناقشات داخل الإدارة الأمريكية , وأكد الوزير أن هذا التوقيت غير مناسب لإتخاذ مثل هذا الإجراء ” في أغسطس عام 2002 وجرت محادثات رسمية ثلاثية في 4 أغسطس 2002 عبرت خلالها مصر وإسرائيل عن تفهمها  للمتطلبات الأمريكية في عدة مناطق بالعالم وصرح وزير الخارجية المصري آنئذ ” إن واشنطن تري أنه ليس لهذه الخطوة أي مدلول سياسي وأنها ترتبط بإعادة هيكلة القوات الأمريكية ودورها في الخارج , وأن هذا لا يقلل من الإلتزام الأمريكي بدعم السلام المصري / الإسرائيلي ” , ثم نشرت صحيفة الأهرام في 22 نوفمبر 2002 بالإحالة علي مسئول أمريكي كبير بالخارجية قوله ” أن العلاقات المصرية الأمريكية تتعرض من وقت لآخر إلي ضغوط ونقاشات جادة بسبب بعض القضايا الخلافية ” – لكنه وبحسب الأهرام – شدد علي أن الخلاف في وجهات النظر شيئ طبيعي في العلاقات السياسية وأن هناك إقتناعاً أمريكياً بضرورة الحفاظ علي علاقة قوية مع مصر بالرغم من وجود هذه الخلافات والضغوط  , ونفي وجود مساع أمريكية لسحب القوات الأمريكية العاملة في قوة حفظ السلام متعددة الجنسيات في سيناء و ” أن كل ما نتحدث عنه هو إجراء تعديلات ” , وكشف عن أن وزارة الدفاع الأمريكية تنظر حالياً إلي حاجاتها العسكرية في العالم وتحاول أن تدقق في إنتشار قواتها في البلدان الأجنبية في ضوء الوجود الأمريكي في أفغانستان حيث يحمل البنتاجون هناك أعباء إضافية وبالفعل جري تخفيض ما بالمشاركة الأمريكية هناك , لكن وفي عام 2003 مضت الولايات المتحدة مرة أخري إلي طريق التخفيض في القوة وهو إتجاه كانت مصر تقاومه حرصاً منها – كما كانت تقول – علي إستقرار القوة وكفاءتها , لكن الولايات المتحدة جددت عام 2006 إتجاهها إلي تخفيض مساهمتها المالية في القوة لأسباب تتعلق بالميزانية الأمريكية , ولا أعني من وراء ذلك الإشارة إلي تخيفض قادم بقدر ما أريد أن أُؤكد أن ملف القوة متعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء أحد أوراق الضغط الأمريكية قد يُستعمل في الوقت الذي يناسب الإدارة الأمريكية , وقد إنتقلت هذه القوة من جنوب سيناء إلي شمالها بالجورة وفقاً للتطور الحالي في الوضع العسكري بسيناء , التي يتوفر للسيد David Satterfield ميزة إضافية فيه قياساً علي أقرانه وهي إطلاعه علي تاريخ تحريك الولايات المتحدة لهذا الملف الضاغط علي مصر , لكن ملف القوة في هذه المرة سيُدمج في ملف أكبر وهو سيناء كمسرح لتصفية القضية الفلسطينية فيما يُعرف بصفقة القرن التي توقف الحديث المصري الرسمي عنها فجأة , وكان الرئيس المصري قد صرح بهذه الصفقة علناً وبإبهام  في عبارة واحدة مُقتضبة قالها أمام الإعلام في حضور الرئيس الأمريكي Trump , ولذلك فإن الحديث عنها بعد هذا التصريح لم يعد إستنتاجاً يمكن الجدل بشأنه , لكنه حقيقة مؤسفة , ومن هنا فإن تعيين Satterfield له علاقة مباشرة وسببية بملف سيناء من مدخل محاولة تصفية القضية الفلسطينية , ولما كان الحديث الرسمي المصري قد توقف بشأن ما يُعرف بصفقة القرن التي ستتم علي حساب سيناء – إن تمت – فسيكون والحالة هذه من الضروري إستخدام الولايات المتحدة لسلاح المعونة العسكرية ضد مصر إن تعثرت الخطوات المصرية في سبيل تصفية القضية الفلسطينية من المدخل السيناوي الذي لدي السيد Satterfield إلمام كاف بشأنه من الجانبين المصري والإسرائيلي .

5- يأتي القرار الأمريكي في ظل إستمرار الأزمة الخليجية تلك التي نشبت بين قطر و3 من دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلي مصر عندما أعلنوا في 5 يونيو 2017 عن فرض المقاطعة والحصار علي دولة قطر متهمينها بدعم ورعاية الإرهاب ,  هذا الرباعي 13 مطلب إلي الدوحة لتنفيذها حرفياً وإلا فسينظر هذا الرباعي في إجراءات أقسي مع أن المطالب الثلاثة عشر كانت هي القسوة بعينها , ولذلك إعتبرتها قطر مساساً بسيادتها , وربما لاحظت الإدارة الأمريكية وهي تحاول جاهدة تسوية هذه الأزمة تارة بمبعوثين خاصين وتارة بإيفاد وزير الخارجية الأمريكي ومؤخراً بتدخل شخصي من الرئيسTrump  , أنه منذ نشوب الأزمة ومصر الدولة غير العضو بمجلس التعاون الخليجي المُهدد جراء هذه الأزمة بالإنشطار , تستغل عضويتها في رباعي الحصار علي قطر لتوسيع رقعة الأزمة خدمة لسياستها الخاصة , فقد نشر موقع MIDDLE EAST MONITOR في 14 يونيو 2017 تصريحاً للرئيس المصري يحث فيه قادة الخليج علي توسيع المقاطعة حتي تتخلي تركيا عن دعمها لقطر لأنه يري أن من شأن ذلك زيادة الضغط علي الدوحة حتي تستجيب ويساعد ذلك علي الإسراع في وضع نهاية للحصار الإقليمي , وأشار الموقع نقلاً عن مصادر لم يسمها قولها أن الرئيس المصري طرح الموضوع خلال لقاءه مع ملك البحرين بالقاهرة في 8 يونيو 2017 وأنه دفع بإتجاه تصعيد الحملة العربية مُتهماً تركيا بتمويل وإستضافة مجموعات مُصنفة علي أنها إرهابية مثل الإخوان المسلمين ومنظمات سورية أخري , ووفقاً لهذه المصادر فإن الرئيس المصري لم يتلق إستجابة علي مقترحه , ذلك أن دول الخليج مُتحمسة لإبقاء تركيا علي الحياد وأن لا تعين قطر في هذه الأزمة , ويبدو أن إنحياز مصر لتوظيف الأزمة الخليجية لتحقيق تجاوز نقاط حرجة في علاقاتها الخارجية كان من قوة الميل لدرجة غفلت عن إدراك ما تعنيه عضوية تركيا في حلف شمال الأطلنطي للولايات المتحدة المُهيمنة علي ممالك وإمارات الخليج وقوة التيار الإسلامي النسبية في الشارع التركي فلا يمكن تجاهل العلاقة بين إفشال الإنقلاب العسكري في تركيا في 15 يوليو 2016 وبين قوة هذا التيار وكذلك بين موقف المؤسسة العسكرية المصرية من هذا الحدث الذي لم تكن تتوقعه ولا تتمناه , كما أن مصر كلما تكثفت الجهود الدولية لتسوية الأزمة الخليجية بشكل أو بآخر سارت في الإتجاه العكسي لإبقاء الأزمة قائمة , رغم أن من يراقب الموقف الأمريكي يجده – بالرغم مما قيل من أن دول رباعي الحصار تلقت الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي في زيارته للرياض في 20 مايو 2017 – إلا أن التطورات اللاحقة في العلاقة القطرية الأمريكية حتي لو كان ذلك صحيحاً , مضت في إتجاه قوي ساعد قطر حتي الآن في الأزمة وجعلها أكثر تحملاً لتداعياتها التي بدأت بخطة التدخل العسكري في قطر لدول الرباعي- كما أكد ذلك مؤخراً أمير الكويت والوسيط في هذه الأزمة – بالتزامن مع تقديم المطالب السيئة الثلاث عشر , إلا أن تركيا سارعت في نفس اليوم بإيفادها قوة عسكرية لقطر فأفشلت هذ الخطة , فالولايات المتحدة كان موقفها من الأزمة مُلغزاً في بدايتها وسعت لإعادة توازن ووحدة حلفاءها في الخليج من أجل إستعادة مصفوفة مجلس تعاون دول الخليج العربي الذي كلما مر الوقت كلما تناقص هذا الإحتمال وتعلم واشنطن ذلك , وفي تقديري أن دول الخليج سواء أكانوا في مصفوفة داخله أو مبعثرين خارجه إلا أن تبعيتهم للولايات المتحدة كانت بنفس القوة بل أكثر قبل إنشاءه بعد أزمة الغزو العراقي للكويت , وربما فسر هذا الموقف تعمد واشنطن توقيع بروتوكول بشأن مكافحة الإرهاب مع قطر بعد الأزمة وأرسال قطعتين بحريتين عسكريتين إلي سواحل قطر للقيام مع البحرية القطرية بمناورات في 15 يونيو 2017 وذلك بعد أن عقدت قطر مع الولايات المتحدة صفقة مشتريات سلاح أمريكية قيمتها 12 بليون دولار , كل هذا وحصار الرباعي مضروب حول قطر , فما الذي يعنيه ذلك سوي المساندة الأمريكية لقطر أفضل لاعب خليجي مع الولايات المتحدة ؟ لا يمكن أن نتصور أن أي من دول الحصار الرباعي لم تقرأ هذه الرسالة الأمريكية الواضحة ,  إن الرسالة قُرأت لكن الرد الإيجابي عليها سيتأخر بحثاً عن مخرج ما يحفظ للرباعي ماء الوجه القليل الذي لديها خاصة وأن الشحن الإعلامي المُضاد لقطر كان كثيفاً ولم يترك لهم ثغرة ما للرجوع القهقري , لكن يظل السؤال الأهم : لماذا أقحمت مصر نفسها في هذه الحكاية الخليجية التي عانت منها الكويت عندما كانت لديها قبل غزو العراق منصة إعلامية وثقافية مشرعة النوافذ والأبواب مما أثار حفيظة باقي دول الخليج والعراق معاً ؟ الإجابة بإختصار أن قطر كثفت قوتها الناعمة في قنوات الجزيرة وخاصة الإخبارية فنجحت إلي حد كبير جداً في توفير المعرفة السياسية وبحرفية عالية للمواطن العربي , في الوقت الذي ليس لدي معظم الدول العربية وخاصة رباعي المقاطعة إلا إعلام كسيح مُثير للسخرية , لكن هذا جزء من الإجابة , الجزء الأكثر أهمية أن مصر منذ إخفاق محاولتها لدمج نفسها في ترتيبات أمن الخليج فيما سُمي – عقب فشل غزو العراق للكويت – بإعلان دمشق بعد إنسحاب القوات العراقية من الكويت إثرعملية عاصفة الصحراء التي شاركت فيها هي وسوريا ودول خليجية تحت القيادة الأمريكية , وربما تكون مصر لديها تقدير بأن دول الخليج في حاجة إلي عسكريتها في المواجهة القائمة منذ وقت طويل مع إيران , ولذلك تحاول إستعادة حلم الإندماج في ترتيبات أمن الخليج وهو حلم عصي علي التحقيق إذ لن تسمح به العسكرية الأمريكية لأسباب مختلفة منها عجز العسكرية المصرية حتي الآن في حسم التمرد المُسلح في سيناء وهو إختبار وبيان عملي للقدرات , كما أن تدخل مصر ربما أدي إلي إرتفاع مُضطرد لوتيرة المواجهة الإيرانية / الخليجية في الخليج العربي فستراه إيران مزيداً من الإستفزاز لها , كما أن دول الخليج من بين مبررات أخري لا ولن تميل إلي ذلك , لكن الترسانة التسليحية التي تتراكم الآن في مصر جعلت من هذا الطموح مُتصوراً ومن هنا كان الميل المصري لإبقاء أزمة الخليج ساخنة فربما يؤدي ذلك إلي تحقيق هذا الهدف , ومن هنا أيضاً رأت الولايات المتحدة أن العسكرية المصرية تريد لعب أكثر من مباراة في ملاعب مختلفة ومتباعدة بل وبقواعد لعب غير أمريكية , خاصة وأن العسكرية المصرية تحاول ترميم جدار الثقة لدي الروس المُصابين بعقدة طرد خبراءهم بقرار مفاجئ للرئيس السادات قبل حرب 6 أكتوبر 1973 وهو الرجل الذي وقع مع الرئيس السوفيتي بودجورني إتفاقية صداقة بعد طرد هؤلاء الخبراء , وفي سبيل إستعادة خطوطها مع موسكو وقعت مصر إتفاقيات تسليح وقامت بتدريبات عسكرية مع الروس في غرب مصر , كل هذا مُضاف إليه الروابط العسكرية المصرية مع كوريا الشمالية , مما جعل الأمريكيين ينظرون إلي مصر بريبة بنفس الدرجة التي كانت إبان تعاملهم مع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بل أكثر , خاصة وأنه قياساً علي وضع مصر الإقتصادي البائس حالياً كان من المنطقي أن تكون الأولوية لشعب مصر قبل أسلحته خاصة وأن أسلحته ذوت وصدأت بعد توقيع مصر لمعاهدة السلام مع إسرائيل , ولو كان المصريون يعلمون أن حرباً تنتظرهم مع إسرائيل لهان عليهم الأكل والشرب لولا أن عقيدة جيشهم تحولت من الشرق إلي الغرب فالجنوب فماوراء جبال الحجاز وأستبدلوا الإتجاه الإستراتيجي الجنوبي النيلي بالإتجاه الجنوبي البحري بالبحر الأحمر , وكلما أبقت السياسة المصرية علي أزمة الخليج ساخنة , كلما عمل الأمريكيون علي قص أجنحة العسكرية المصرية , وأقولها مخلصاً : أزمة الخليج لا ثمرة لها لمصر فأزمات الصحراء كنباتاتها مرة وغير مُستساغة , ومن المتصور أن قرار الكونجرس بالقطع والحجب الجزئي للمعونات العسكرية لمصر له صلة بموقف مصر من أزمة الخليج وهذه الصلة ليست صلة بالموضوع أكثر من كونها صلة بالتوقيت , أعني أن إستمرار الحماس المصري المندفع للإبقاء علي غليان الموقف بالخليج  جعل عملية إتخاذ قرار القطع والحجب الجزئي للمعونة أسرع عل ذلك يُوقف هذا الميل المصري , وضعاً في الإعتبار أنه قد لوحظ كثافة الإتصالات الأمريكية مع الكويت ومع السعودية ومع الإمارات العربية في شأن تسوية الأزمة وإلي حد قليل وبروتوكولي مع البحرين أما مصر فلا إتصالات ذات معني تجريها الولايات المتحدة معها في هذا الصدد , لعلمها أنه بمجرد تداعي عمودي الإمارات والسعودية تداعي وأنهار رباعي الحصار , وللأسف فمصر هي من سيتلقي أكبر أنصبة الخسارة من أزمة الخليج وليست الدوحة أو الرياض أو ابو ظبي أو المنامة , فهي أزمة عقيمة .

علاقة الأزمة الحالية للمعونة الأمريكية بمراحلها السابقة مع مصر:  

يوفر الرجوع القهقري لمسير “حكاية المعونة الأمريكية لمصر ” درجة أعلي قليلاً من وضوح الرؤية لمدي النفاذ الأمريكي في مصر من خلال المعونة الأمريكية في مرحلتها الأولي حتي وصلت لمرحلة الإلحاق الحالية , وأفضل الإشارة قبل تفصيل المراحل إلي أن هناك وبوجه عام تقسيمات عدة للمعونات من بينها التي وضعها JOHN WHITE في كتابه المُعنون ” سياسات المعونة الأجنبية وفيه قسمها إلي قسمين رئيسيين الأول من زاوية النظريات الإقتصادية فقال أنه وفقاً لذلك تنقسم سياسات المعونة إلي نوعين الأول تتجه وفقاً له المعونة لتكون تكميلاً أو إضافة لموارد الدولة المُتلقية وتهدف إلي توخي علاقات إيجابية بين المعونة والحجم الإجمالي للموارد المُتاحة لعملية التنمية , فيما الثاني يستهدف إقامة علاقة إيجابية بين الإضافة وبين النسبة التي رصدتها الدولة المُتلقية للإنفاق علي عملية التنمية  بحيث تكون الزيادة الإجمالية في الإنفاق علي التنمية أعظم من حجم الموارد المُحولة كمعونة , ومن زاوية النظريات السياسية قسم  JOHN WHITE المعونة إلي قسمين رئيسيين الأول وهما المانح للمعونة كمُستخدم لها وبموجب ذلك فهي معنية بالمعونة كأداة للسياسة الخارجية , والثاني يركز علي المُتلقي كمستخدم لهذه المعونة وهو معني بإستخدامها كأداة في سياسته الداخلية .  * (JOHN WHITE . THE POLITICS OF FOREIGN AID .ST .  MARTIN,S PRESS . NEW YORK . 1974 . page104 )

قبل تقييم رد الفعل المصري الأخير علي القرار بالخفض والحجب الجزئي الذي يعبر عنه بيان الخارجية المصرية في 23 أغسطس 2017 , يُلاحظ أنه لا رئيس الجمهورية ولا وزير الدفاع ولا رئيس هيئة الأركان المصرية أدلوا بتصريح يعلقون فيه علي القرار الأمريكي الذي حمل إليهم رسالة سلبية ,  إذ لم يكن القطع ولا الحجب الجزئي مُتعلقان بتنفيذ سياسة عامة لخفض المعونات الخارجية بقدر ما هو أسلوب عقابي لما ذيلت به الإدارة الأمريكية قرارها عندما بررته بإنتهاكات حقوق الإنسان في مصر والحد من عمل منظمات العمل المدني بموجب القانون المصري , لذلك سأسوق المراحل الرئيسية للمعونة الأمريكية لمصر حتي يمكن النظر علي مدي أوسع قليلاً للمرحلة الحالية لهذه المعونة ولرد الفعل المصري علي القرار الأمريكي بقطع وحجب جزئي للشق العسكري منها  :

(1) مرحلة النفاذ 1950- 1959 :

– هناك معلومات مُتضاربة تشير إلي أن تاريخ بدء المعونة الأمريكية لمصر يبدأ 1948 ولا أعتقد أنها معلومات يُؤسس عليها فهناك حاجة لتوثيق هذه المعلومة بدقة كافية , وعلي كل الأحوال يمكن الإشارة إلي أن الولايات المتحدة كانت تتقدم نحو مصر  منذ أن أصدر الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان القانون رقم 175 لعام 1951 القاضي بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 1936 وملحقاتها وبإحكام إتفاقيتي 19 يناير 1899 و10 يوليو 1899وهي المعاهدة التي حددت كما لم تحدد من قبل وثيقة سابقة عليها العلاقات المصرية البريطانية , وهي المعاهدة التي أشارت إلي التواجد العسكري البريطاني في قاعدة قناة السويس, وبموجب إلغاءها فإن التواجد العسكري البريطاني في هذه القاعدة يصبح لاغياً هو الآخر ,  وهو تطور عمل الأمريكيون علي الإستفادة منه للتقدم نحو مصر في إطار عملية إحلال أمريكي بمناطق نفوذ الأمبراطورية البريطانية التي آلت إلي أفول , ثم وفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي إجتهدت الدبلوماسيتين البريطانية والأمريكية في تأمين إقامة حائط صد قوي في منطقة الشرق الأوسط المُتاخمة للإتحاد السوفيتي بطرح مشروع إقامة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط لمنع وردع ومواجهة المد الشيوعي المُتجه إلي هذه المنطقة وحاولت الولايات المتحدة وبريطانيا من خلال هذا المشروع إغراء مصر للإندماج في الترتيبات العسكرية الغربية لدمج الشرق الأوسط في داخل الإستراتيجية لحلف NATO وجواره الأهم أي منطقة الشرق الأوسط خط التماس مع الخطر الشيوعي ,  مصر الملكية والجمهورية عارضتا هذا الإنضمام وقدمتا قضيتي الجلاء البريطاني عن مصر والسودان عن ما عداها من قضايا بالإضافة إلي أن هذه المنظمة وفقاً للرؤية الأمريكية تشمل إسرائيل وهو ما لم توافق عليه مصر مبدئياً عندما كانت مصر هي مصر , ومع ذلك واصلت الولايات المتحدة خطواتها نحو مصر لإستكمال عملية الإحلال من خلال ضمها إلي مشروع برنامج ” النقطة الرابعة ” الذي صدر قانون أمريكي بتأسيسه في شهر يونيو 1950 , وهو البرنامج الذي تحدث عنه الرئيس  Trumanفي رسالته للشعب الأمريكي خلال شهر يناير 1952 ووصفه بقوله ” ليس في سائر نواحي سياستنا الخارجية ناحية أخطر ولا أهم من هذه النقطة , إذ لا شيئ أكثر منها إيضاحاً لما نعمل , وبياناً لما نناضل وشرحاً لما نريد أن نحققه ” ثم قال ” إن هدفنا من هذا البرنامج أن نمكن غيرنا من مشاركتنا في المعرفة التي أُوتيناها والخبرة الفنية التي إكتسبناها ونطبقها بروح التعاون وهو برنامج طويل الأمد …” ثم أوضح الهدف الرئيسي من البرنامج عندما قال ” ولا يخفي أن خطر الشيوعية في أكثر مناطق العالم التي بدأ برنامج النقطة الرابعة يُطبق عليها ليس عسكرياً قبل أي شيئ آخر , ولكنه في الغالب مُتصل بالشقاء البشري والقلاقل التي تتغذي الشيوعية منها وتحاول جاهدة إستغلالها ” , وكان جزءاً من تمويل برنامج ” النقطة الرابعة ” يُوجه لتمويل للأمم المتحدة , وكان يشمل تقريباً كل ميادين التعمير الإقتصادي وكان من أبرز معالمه التشجيع علي إستثمار رؤوس الأموال وتوظيفها في الأماكن المختلفة , وفي أواخر عام 1951 كانت المشروعات الجديدة قد بدأت فعلاً في 33 دولة وبلغ عدد من تلقوا تدريبات في الولايات المتحدة من خلال البرنامج 342 مُتدرب وبات من المتوقع خلال العام المالي1952 أن يزيد هؤلاء فيما وراء البحار من 900 مُتدرب إلي حوالي 2800 * (سياسة أمريكا الخارجية في عام 1952 . ترجمة الأستاذ عباس حافظ . حلقة من سلسلة كتب عن السياسة الخارجية تتولي إدارة النشر الأمريكية طبعها . مارس 1952)  .

لم تكن هناك ثمة معونة عسكرية لمصر في عقد الخمسينات من القرن الماضي , ففي 27 أغسطس 1952 أعلنت الولايات المتحدة أن حصول مصر علي أسلحة أمريكية رهن بإشتراكها في منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط , وفي الوقت نفسه صرح متحدث بلسان وزارة الخارجية البريطانية أن حكومته لم تتلق أي طلب رسمي من الحكومة المصرية بشأن رفع الحظر المفروض علي تصدير الأسلحة لمصر * (أحمد عطية الله . حوليات العالم المُعاصر / أحداث وخفايا وأسرار عام 1952 . دار الشعب) , لكن برنامج النقطة الرابعة كان مُطبقاً في مصر إذ أن رئيس خبراء برنامج النقطة الرابعة أجري محادثات في 28 سبتمبر 1952 مع المسئولين المصريين بشأن إجراء مسح جيولوجي بالصحراء المصرية وإنشاء صناعات لإستخلاص المعادن , (المرجع السابق) , وعندما طورت الولايات المتحدة من وسائلها للنفاذ للشرق الأوسط ومناطق أخري بالعالم من خلال المشروع الذي أعلنه الرئيس الأمريكي أيزنهاور في 5 يناير 1957 وسُمي بأسمه , بادرت مصر بالإعلان في يناير 1957عن رفضها إياه , فالمشروع تضمن جانبين إحداهما عسكري أوضحه وزير الخارجية دالاس في تصريح له في 17 يونيو 1957 عندما قال ” إن في وسع الولايات المتحدة أن تساعد دول الشرق الأوسط علي إنشاء قوات أمن مناسبة خاصة بها دون أن يؤدي ذلك إلي بدء سباق التسلح بين الدول العربية وإسرائيل , وذلك لأن مثل هذه القوات المحلية المحدودة المُجهزة أحسن تجهيز والموالية لأمريكا عنصر أساسي من عناصر الدفاع ولاسيما ضد أعمال التخريب ” وكان قد أشار في تصريح آخر في 8 يناير 1957أن المشروع يهدف إلي منع السيطرة الشيوعية بالوسائل الإنقلابية بضمان الإعتماد علي القوات الأمريكية لمقاومة العدوان السافر ” , أما الجانب الآخر فإقتصادي أوضحه أيضاً وزير الخارجية دالاس في تصريح له في 15 يناير 1957 أشار فيه إلي ” إن الولايات المتحدة تؤمن أن معونتها العسكرية والإقتصادية ضرورية لتفادي ضياع الشرق الأوسط , فضياع هذه المنطقة الإستراتيجية يعد أعظم إنتصار يمكن للشيوعيين الروس أن يحققوه لأنه يمهد لإستيلائهم علي غرب أوروبا دون أي حرب ” , وكان من المنطقي جداً رفض المشروع خاصة أنه دعوة سافرة للتدخل ودمج مصر – إن قبلته – في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي , كما أن مصر آنئذ كانت معنية بالصراع العربي / الإسرائيلي , ولم يكن مشروع إيزنهاور معنياً به , ولهذا نظرت مصر للمعونة الأمريكية طيلة عقد الخمسينات علي أنها وسيلة تدخل يجب رفضها , وأنتهي عقد الخمسينات من القرن الماضي وأبواب المعونة الأمريكية لمصر مُوصدة بسبب الإعراض والرفض المصري لها بإعتبارها تدخلاً ., وقد أعترضت عملية النفاذ الأمريكي بعض الصعوبات أهمها أن النتائج السياسية لحرب العدوان الثلاثي 29 أكتوبر 1956 بالرغم من الهزيمة العسكرية لمصر وإحتلال إسرائيل لسيناء أشاعت ما يمكن وصفه بتعميم الرؤية العدائية للعرب ضد إسرائيل , وبالرغم من الجهود الأمريكية التي بُذلت ونجحت في إرغام إسرائيل علي الإنسحاب من سيناء في مارس / ابريل 1957 إلا أن مصر ظلت علي رفضها للإنضمام لأي ترتيبات عسكرية في الشرق الأوسط تقودها الولايات أو غيرها , إلا أن أنبوب المساعدات وإن كان ناقلاً للمعونة الأمريكية لمصر , إلا أنه لم يكن مُؤثراً حتي يوجه العلاقات المصرية / الأمريكية إلي ما هو أبعد من مستوي العلاقات غير العدائية بينهما , فقد أهتمت مصر بمحيطها العربي تصوراً منها أنه يمكن تكوين حائط صد وجبهة صلبة لصراعها مع إسرائيل وبدأ الجهد المصري لتحقيق ذلك منذ أن دعت مصر الدول العربية لوضع معاهدة دفاع عربي مُشترك وُقعت بالفعل في 17 يوليو 1950ثم وُقع الإتفاق السوري / الأردني في 10 أبريل 1956 لتنسيق الجبهة العسكرية ضد إسرائيل , وفي 21 أبريل 1956 وُقع إتفاق عسكري ثلاثي بين مصر واليمن والسعودية , وفي 5 مايو 1956 وقعت مصر والأردن بياناً مُشتركاً يتعلق بنتائج المباحثات العسكرية بينهما , ثم وفي 19 أبريل 1957 إنتهي إجتماع القادة العرب بالقاهرة بتوقيع إتفاقية التضامن العرب وملحقها المُكون من أربع مواد الأولي منها تتعلق بالمساهمات في الإلتزامات العربية المنصوص عليها في المادة (2) من إتفاقية التضامن وكانت ” مساهمة مصر فيها خمس ملايين جنيه مصري ومساهمة السعودية خمسة ملايين جنيه مصري وسوريا مليونان ونصف المليون جنية مصري ” , أي أن مصر لم تكن هي مصر إبنة اليوم تعيش علي إحسان دولة تشبه النتوء في السياسة العربية تعيث فساداً في عالم العرب والمسلمين تمول التخريب والهدم , ولذلك لم يكن للمعونة الأمريكية لمصر أو غيرها مبرر ولا تأثير يُذكر …. لكن بقاء عبد الناصر في السلطة مُستبداً غير خاضع للحساب وبقاء ما يُسمي بالبرلمان في كفنه كان كافياً لإنحدار مصر حتي تصل إلي أن تتنتظر الكونجرس حتي يمرر المعونة والمن الأمريكي , فما نحن فيه اليوم ثمرة أعمال الأمس واليوم وغداً .

(2) مرحلة كانت فيها المعونة أداة إتصال رئيسية :

كانت قيادة مصر للصراع ضد إسرائيل سبب كاف للإهتزازات المُستمرة في العلاقة الأمريكية المصرية إضف إلي ذلك رفض مصر المبكر لمشروع منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط وكذا مشروع إيزينهاور وتوثيقها وتشجيعها للتنسيق العسكري العربي ضد إسرائيل وهو ما تذرعت الولايات المتحدة تجاهه بالصبر السياسي من أجل مصلحة إسرائيل , رغم أن الصراع العربي / الإسرائيلي في عقد الخمسينات من القرن الماضي كان قد وصل إلي ذروته بالوحدة الإندماجية بين مصر وسوريا وبداية تحول مصر إلي النهج الإشتراكي بعد إصدار عبد الناصر لما يُسمي بقرارات يوليو1961 الإشتراكية التي دمرت الإقتصاد المصري وأشاعت جواً من الرعب في المجتمع الإقتصادي المصري وقتلت روح المبادرة الفردية بالتأميمات التي آحالت كبري الشركات الإقتصادية التي أسسها رجال أعمال مصريون مخلصون بعرقهم ودأبهم إلي خراب بأيدي من تولوا إدارة هذه الشركات بعد تأميمها وكان منهم عسكريون ومدنيون إستخلصتهم السلطة الناصرية لخدمة نظامها  الإشتراكي النزعة في مجتمع مُشبع بروح الملكية الزراعية الخاصة ,  وكانت هذه الإشتراكية المزعومة أهم عوامل فشل الوحدة الإندماجية بين مصر وسوريا , بينما أرتبط تبني مصر للنهج الإشتراكي لدي الإدارة الأمريكية بصفقة الأسلحة التشيكية لمصر عام 1955 وبتمويل الإتحاد السوفيتي لمشروع السد العالي بعد إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي في 19 يوليو 1956 عن سحب عروض تمويلهم  , ومن ثم فقد رأت الولايات المتحدة إبقاء المعونة لمصر كأداة إتصال مع مصر بالرغم من التباعد السياسي بينها وبين مصر / الإشتراكية , فأبقت باب المعونة  مفتوحاً قليلاً حتي نكبة 5 يونيو 1967, ففي عهد الرئيس الأمريكي جون كينيدي شهدت العلاقات المصرية / الأمريكية إنفراجاً نسبياً وفي سياق هذا الإنفراج الذي إستمر حتي بعد إغتيال الرئيس كينيدي بقليل وتولي الرئيس ليندون جونسون , فنجد مذكرة مُؤرخة في 26 فبراير 1964من Robert Komer عضو مجلس الأمن القومي موجهة إلي الرئيس Johnson تشير إلي إقتراح وزير الخارجية الأمريكي Rusk بعمل تحركات ودية تعوض الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل , ومن بين هذه التحركات عقد إتفاق بقرض وفقاً لبعض الشروط لصالح الجمهورية العربية المتحدة (مصر) بالتزامن مع تقديم قرض آخر لإسرائيل , ثم وفي وثيقة أخري مُؤرخة في 15 أبريل 1964بملف العلاقات الخارجية للولايات المتحدة عن الفترة من 1964 حتي 1968 تتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي 1964- 1967نجد في الخلاصة هذه الإشارة عن المعونة الأمريكية لمصر : ” إن برنامج معونتنا يقدم الجزرة التي يمكن ان تكبح من قدرتنا علي الفعل , لكن بدونها سوف لا يكون بمقدورنا المحافظة علي علاقات ذات شأن بالجمهورية العربية المتحدة (مصر) , وبدونها أيضاً سننشط الميل العسكري العربي بإتجاه إسرائيل ونعرض حقوقنا الأساسية لما قد يكون ضغطاً هائلاً في وقت الحاجة ” …. وأضافت  ” يجب علينا أن نبحث عن إقامة تبادل بناء مع الجمهورية العربية المتحدة وإعادة التأكيد علي نطاق مصالحنا وترحيبنا بالإستمرار في المعونة الإقتصادية … ”  , وبنفس سلسلة وثائق الصراع العربي / الإسرائيلي وتحت رقم 108 نجد مذكرة عمل لمجلس الأمن القومي برقم 319/1 / من واشنطن بتاريخ 20 نوفمبر 1964 وقعها McGeorge Bundy  وجهها إلي وزير الخارجية ووزير الزراعة ووكالة التنمية الدولية USAID تشير إلي ما نصه ” وضعاً في الإعتبار نقد الكونجرس  وآخرين للمعونة للجمهورية العربية المتحدة , فإني أعتقد أنه سيكون من المرغوب فيه أن ندع الرئيس يُراجع سياستنا بشأن هذا الموضوع قبل إتخاذ أي قرار جديد , ولا أعني بذلك أن أقترح أنه غير راض عن سياستنا الحالية , لكنه يجب أن يكون علي علم تام فحسب عن الحالة تحسباً لأي تدابير جديدة بشأن المعونة , خاصة وأنها تستتبع ردود فعل محتملة داخلياً . لذلك أقترح أن تمدون السيد الرئيس وفي الوقت المناسب بتوصياتكم بشأن المعونة الأمريكية عن السنة المالية 1965 – 1966 بما فيها المُتعلقة بالقانون P.L 480 معاً مصجوبة بتحليل لما نتوقع أن نكتسبه من مثل هذه المعونة أي أثر إيجابي Leverage سيعود علينا , ربما أيضاً سيكون مفيداً أن نناقش أي بدائل أخري مُتاحة أمامنا . سيكون منتصف ديسمبر تاريخاً طيباً نستهدفه بشأن ذلك الأمر ” , ونأتي لوثيقة من أهم وثائق هذه الفترة وربما تكون أكثرها تعبيراً عن المرحلة الحرجة في العلاقات الأمريكية / المصرية , فبتاريخ 30 نوفمبر 1964 وتحت رقم 111 نجد برقية مُرسلة من سفارة الولايات المتحدة بالقاهرة إلي وزارة الخارجية الأمريكية نص جزء منها كالتالي : ” مسلسل 1904 – إستدعاني صباح اليوم رئيس مجلس الوزراء علي صبري بناء علي طلبه , وبدأ حديثه معي بقوله إنه ليس من الضروري أن يكرر كل الأشياء التي قالها فوزي لي ( وزير خارجية مصر محمود فوزي آنئذ) وعندئذ كان مشوقاً بإستخدام عبارة ” مع سبق الإصرار والترصد ” في ملاحظته وفي حديثه , وسألني أن أعطيه أي دليل لدينا عن هذه النقطة (التي لم يُوضحها )  , قلت له يمكن ألا يكون هناك ثمة شك في أن هناك ترتيب مُسبق إذا ما إختبر المرء طبيعة الحالة ونجاحها من وجهة نظر أولئك الراغبين فيها . قلت أنه إذا ما قرأ بعناية بياني وملاحظتنا , فسيري أنني لم أقل نصاً عن أيهم رُتب الأمر وأني إمتنعت وبحرص عن توجيه أي إتهام عن تورط مصري ….. ” ثم أشار إلي ما يمكن وصفه بالكشف عن طبيعة موضوع النقاش فقال وهو يحدث السيد علي صبري ” لقد تجنبت وبحرص المُغالاة بشأن هذه الإشاعات خشية تفاقم الموقف , وأني الآن مُخول لقبول مذكرة الجمهورية العربية المتحدة التي تعبر فيها عن عميق الأسي والإستعداد للتفاوض بشأن التعويض ” ويبدو أن المشكلة كانت مُتعلقة بالتلاسن الإعلامي من الصحافة المصرية والأمريكية ويبدو أن الأمر كان مُتعلقاً بدور البعثة العسكرية المصرية العاملة في إطار قوة الأمم المتحدة بالكونجو  إذ أنه وفي برقية سابقة لنفس هذه السفارة وتحت رقم  1886 بتاريخ 28 نوفمبر 1964 أشارت إلي ما نصه ” كرر صبري الرغبة التي عبر عنها الرئيس عبد الناصر في خطابه الأخير وهي المحافظة علي العلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة و وقلت له إن هذه أيضاً رغبتنا وكررت مرة أخري أنه شارع ذو إتجاهين ومالبثنا أن إلتزمنا الصمت للحظات ولم أبد أي إيماءة لإنهاء الحديث , عندئذ كرر رغبته الشديدة في علاقة قوية وقلت له قبل أن أتركه وأغادر مكتبه إنني أود أن أخبره أن البعثة الإنسانية المُرسلة إلي الكونجو إكتملت وأن العدد الكبير من الرهائن تم إجلاؤه وأن القوات البلجيكية والطائرات الأمريكية تنقلهم الآن خارج المنطقة .” , ومع هذا ففي نص ” مذكرة حديث ” شارك فيه 7 من كبار المسئولين بالإدارة , مُؤرخة في 23 ديسمبر 1964موضوعها العلاقات الأمريكية المصرية نجد أن Philip Talbot ( مدير إدارة الشرق الأدني بالخارجية الأمريكية في الفترة من 1961 حتي 1965) اشار في ملاحظته بأن إجابة وزير الخارجية التي قالها في وقت مبكر اليوم رداً علي سؤال عن مفاوضات المعونة الأمريكية لمصر ( وكان السؤال تحديداً عن قطع الولايات المتحدة لمعونتها لمصر من خلال برنامج (قانون) P.L 480 والملاحظات المضادة للأمريكيين التي أبداها الرئيس عبد الناصر في خطابه ببورسعيد ووجه فيه أقسي الإنتقادات للولايات المتحدة منذ حرب العدوان الثلاثي عام 1956, والتي تلقاها وزير الخارجية بعد المؤتمر الصحفي والتي فسرتها الصحافة الأمريكية علي أنها مواجهة مباشرة بين الرئيس ناصر والولايات المتحدة , وأن الوزير يعتقد أنه  مصلحتنا الأوسع مدي ستعاني إن كان رد فعلنا حاداً علي ملاحظات الرئيس المصري , وهو يعتقد أن علينا أن ننتظر كما نحن الآن , وأقترح أن نعلق أي عمل بشأن أي معونة إقتصادية جديدة للجمهورية العربية المتحدة , بما في ذلك طلب إرسال كميات إضافية من الذرة للكميات التي سبق الإتفاق عليها في الأعوام الثلاث الماضية  إنتظاراً لقرار بشأن السياسة المختلفة , وقد أشار أحد المتحدثين   Mr Harriman)) إلي أن مجموع المعونة الأمريكية من خارج برنامج P.L 480 تبلغ حوالي 15 مليون دولار , وأشار (Mr Macomber) في النقاش أن الكويت أقرضت مصر 100 مليون دولار وأن الإتحاد السوفيتي هو الآخر أقرضها 280 مليون دولار وأن هذا يعني أن الأثر الإيجابي للمعونة الأمريكية محدود ماعدا ما يُرسل لمصر من خلال قانون P.L 480 , وفي نهاية النقاش أُشير إلي أن وزير الخارجية قرر مواصلة المعونة من خلال قانون P.L 480 وأنبوب المعونة ماعدا مشروع صوامع الغلال وأنهم أي الأمريكان لن يمضوا في تقديم كميات إضافية من الذرة في إطار قانون  P.L 480 ولا في إتفاقات جديدة للمعونة لمصر , وأقترح وزير الخارجية Rusk أنه إذا ما رغب المصريون في التوجه للولايات المتحدة لمناقشة المعونة فإن علينا ( الأمريكان) أن نشير إلي مواصلة التعاون ولكن أيضاً التحدث مع مصر عن تصرفاتها التي جعلت من الصعوبة بمكان تبرير حصولها علي معونة إضافية للشعب الأمريكي وللكونجرس .

كانت مصر في هذه الفترة نظراً لوضع الإستقطاب السياسي الدولي تستفيد من علاقاتها بالمعسكر الشرقي بالحصول علي قروض وتعهدات تمويلية , وهو ما كانت توليه الولايات المتحدة إعتباراً في مواصلة معونتها – بالرغم من ضآلتها لمصر – وتشير مذكرة من وزير الخارجية D . Rusk وُجهت للرئيس Johnson في الأول من فبراير 1965 وتضمنت عرضاً لعدة مسائل منها ما تعلق بالأردن والإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط ووضع توصيات بشأن ذلك إحداها في البند e ونصه ” في السنة الماضية حصلت الجمهورية العربية المتحدة علي معدات عسكرية وتعهد جديد عبارة عن قروض إقتصادية قيمتها 280 مليون دولار من الإتحاد السوفيتي ووعداً بقرض بمبلغ 60 مليون دولار من الصين الشيوعية , وقرضاً بمائة مليون دولار من الكويت , وعلي النقيض من ذلك لم تقدم الولايات المتحدة  معونة عسكرية كما لم تقدم قروض للتنمية منذ 1963, وأبقت فقط علي برنامجاً صغيراً للمساعدة الفنية قيمته 2,3 مليون دولار وظلت مُلتزمة للسنة الثالثة والأخيرة بإتفاق P.L 480 المُبرم مع مصر عام 1962″ .

أشارت مذكرة سرية أمريكية أخري عن العلاقات المصرية الأمريكية مُؤرخة في 28 نوفمبر 1966 إلي طلب   السفير المصري لدي واشنطن مقابلة عاجلة مع ووزير الخارجية الأمريكي D . Rusk  تمت في 27 نوفمبر ” أشار فيها السفير إلي الصدع في العلاقات المصرية الأمريكية في وقت تمر فيه منطقة الشرق الأدني بأزمات وأن السبب الرئيسي لقلقه إزاء ذلك هو المأزق المحتمل أن يواجهه إتفاق البلدين بشأن قانون  P.L 480 , مُعرباً عن أن إستمراره  وسريانه أمر رئيسي للسلام والإستقرار في الشرق الأدني مُشيراً إلي أن النقاش الفني بشأنه بدأ قبل نهاية هذا العام , وأشار إلي أن الجمهورية العربية المتحدة تتلقي معونة عسكرية وإقتصادية ضخمة من الشيوعيين بينما تحافظ (مصر) علي إتباع سياسات مُستقلة ووطنية  وهذا يمكن أن يكون لإن هناك ثمة إرتباط بالإمداد الغذائي من الغرب . وأوضح السفير في هذا الصدد أن Kosygin أخبر ناصر أن روسيا تود الوفاء بمتطلبات مصر الغذائية إن كان ذلك ضرورياً , وأشارت المذكرة إلي أن السفير كامل يعتقد أنه لو حدث  ذلك فإن الجمهورية العربية المتحدة ستنزلق بلا رجعة نحو المعسكر السوفيتي ولذلك نتائج رهيبة للسلام وإستقرار الشرق الأدني  ”  .

ورد في نص برقية من سفارة الولايات المتحدة بالجمهورية العربية المتحدة مُوجهة للخارجية الأمريكية في الأول من فبراير 1967تحت رقم 1051Z عن زيارة Donald C. Bergus (القائم بأعمال السفارة الأمريكية بعد قطع العلاقات الأمريكية المصرية عقب حرب 5 يونيو 1967 ما نصه : ” 2-  كان(أي Bergus) مُتفائلاً بمستقبل العلاقات الأمريكية / المصرية ويعتقد أن الجمهورية العربية المتحدة قامت بإسهام ملموس فيما يتعلق بإحتواء النزاع العربي/ الإسرائيلي , ويعتقد كذلك أن الجمهورية العربية بينت أن هدفها هو أن تبقي مُستقلة حقيقةً وفي موقف غير مُنحاز , وأن الجمهورية العربية رحبت بالمصالح الإقتصادية الأمريكية في مجال تنمية مواردها النفطية علي الأقل طيلة عدة سنوات , وأن الجمهورية العربية شأنها شأن الدول العربية الأخري بحاجة إلي رأس المال الأمريكي وكذلك إلي المعرفة أو Know – how  والنفاذ إلي الأسواق الغربية ” وفي البند 5 أشارت المذكرة إلي إقرار Bergus ” بأن الوضح الإقتصادي المصري ليس طيباً وأن أخطاء خطيرة بشأنه قد أُرتكبت في الماضي وأن العامان التاليان لن يمرا بسهولة ” ثم اوضح ” أن مصر ستستخدم مواردها الشحيحة من العملة الصعبة لشراء القمح ” .

أشارت مذكرة من Rostow المساعد الخاص للرئيس الأمريكي وُجهها للرئيس Johnoson بتاريخ 14 فبراير 1967 كان عنوانها مناقشة علي الغداء بشأن الجمهورية العربية المتحدة . أشار فيها Rostow من بين أمور أخري إلي حاجة مصر من الغذاء فقال ” بالرغم من إحتياجات مصر من الغذاء , فإن السؤال الحقيقي هو ما إذا كنا نحاول الإبقاء علي علاقتنا بعبد الناصر , ففي الصيف الماضي مددنا إئتماناً بنحو 70 مليون دولار لكنه إنتهي , فالإتحاد السوفيتي إرتبط مع عبد الناصر بتوريد 250,000 طن من الحبوب تكفي لواردات 5 أسابيع  ويظهر أنه أيضاً تقدم للمساعدة بما مجموعه 400,000 طن , وبالرغم من هذا فإن الجمهورية العربية المتحدة تظل في حاجة إلي ما لا يقل عن 600,000 طن وهو ما يمثل النقص في إحتياجات مصر من الحبوب في العام المالي 1967 , ولكن وبعيداً تماماً عن إحتياجات الغذاء فإن ناصر ينظر إلي قرارنا بإعتباره المؤشر الرئيسي علي ما إذا كنا أو لم نكن في وارد الإلتقاء معه , وليس أمامنا من شيئ آخر بالنسبة لنا , لإن مساعدتنا الإقتصادية تقلصت ووصلت إلي حد تقديم مساعدة فنية محدودة والتغذية في المدارس  ” ….. , وفي موضع آخر ترد هذه العبارة ” بما أن جهدنا علي مدي الخمس سنوات الماضية للإقتراب من ناصر لم ينتج عنه إلا القليل مما هو إيجابي , فقد صار من المغري أن نجرب الأسلوب الأخشن , ولكنا تلقينا من الإشارات ما يكفي من Bob Anderson وأمريكيين آخرين (ممن ليسوا مسئوليين حكوميين) جعلتنا نتعجب عما إذا كان مازال علي وشك إستكمال إستقلاله عن موسكو وتحمله لذلك , ومن وقت قريب جداً دعت أعلي شخصية عسكرية رجال أعمال أمريكيين لزيارة الجمهورية العربية المتحدة في عيد الفصح .

مما يؤكد أن المعونة كانت أداة إتصال بين القاهرة وواشنطن , أنه علي الرغم من المعونة التي كان يتلقاها الرئيس عبد الناصر من الإتحاد السوفيتي فقد حاول أيضاً الإبقاء علي بعض الروابط مع الغرب  , فبالإضافة إلي خط المعونة علي ضآلتها كان هناك أيضاً إعتماده علي شركات البترول الأمريكية في التنقيب عن البترول في مصر , كما أنه نصح الزعيم الليبي معمر القذافي بأن يتجه إلي فرنسا وليس للإتحاد السوفيتي من أجل الحصول علي الأسلحة . *(روبرت أوين فريدمان . السياسة السوفيتية في الشرق الأوسط منذ عام 1970.  الهيئة العامة للإستعلامات . كتب مُترجمة رقم 723 .صفحة 49)

لا توجد بيانات مصرية مُحددة أو علي الأقل مُطابقة للواقع عن حجم المعونة الأمريكية في عقد الستينات  (قضية عدم التطابق في تسجيل أرقام المعونات والقروض والمنح وأوجه إنفاقها لمستها بنفسي في القرض الذي قدمته مصر لغينيا كوناكري في مستهل ستينات القرن الماضي , إذ لم يكن هناك تطابق في رقم الدين بفوائد تأخيره مع أرقام البنك المركزي الغيني ولا مع أرقام السفارة) , لكن هناك بيان أمريكي عن حجم المعونة الأمريكية لمصر عن الفترة من 1960 وحتي 1965 , إذ بلغت 142 مليون دولار, فيما بلغ متوسط الإلتزامات الامريكية بالمعونة 67 مليو دولار سنوياً عن الفترة من 1954 وحتي 1968 * (JOHN WHITE . THE POLITICS OF FOREIGN AID .ST .  MARTIN,S PRESS . NEW YORK . 1974 . page 72) , أما مجموع المعونة الأمريكية في الفترة المُتبقية وهي 1965 حتي يونيو 1967 فقد أشرت إليها آنفاً وبعدها توقفت المعونة الأمريكية عن مصر بسبب حرب 5 يونيو 1967 والدور الأمريكي المُساند بقوة لإسرائيل عسكرياً ودبلوماسياً  .

(3) مرحلة المعونة هي الثمن :

عندما إتخذ الرئيس السادات قراره الشجاع بلا أدني شك بضرورة إقتحام حاجز الخوف وعبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف كان الأمر القتالي لحرب أكتوبر 1973 الصادر والمنشور في ملحق كتاب ” البحث عن الذات ” الذي كتبه الرئيس السادات نصه ” عبور القناة لتحريك الموقف” , فالحرب لم تكن حرب تحرير بقدر ما كانت حرب تحريك للموقف السياسي في ضوء إتفاق القوتين الأعظم الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي علي تسكين النزاعات الإقليمية والركون إلي ما سُمي بسياسة الوفاق “Detente ” , وكانت الجبهة الداخلية قبل الحرب هشة لا ثقة فيها تجاه القيادة السياسية بعد أن مني عبد الناصر في خلال 11 عاما بهزيمتين عسكريتين فقدت فيها مصر شبه جزيرة سيناء بإحتلال الجيش الإسرائيلي أحدث جيوش الشرق الأوسط لها , لكن إنتصار الجيش المصري بقيادات عسكرية محترفة وتحقيقها للهدف الإستراتيجي بعبور قناة السويس وإحتلال البر الشرقي أوجد حقائق سياسية وعسكرية جديدة بالمنطقة  سرعان ما أذابتها معاهدة السلام الإسرائيلية / المصرية الموقعة في 26 مارس 1979 , يُضاف إلي ذلك أن الرئيس مبارك قام فيما بعد بمهمة تصفيتة القيادات العسكرية المحترفة أو ما يُوصف بجيل أكتوبر  وإخراجها من الحياة العسكرية وعدم إبقاءها لتكوين عسكرية مصرية مختلفة محترفة غير التي كانت عاراً علي مصر إبان عهد ناصر , فقضي بذلك علي المكسب المُتبقي لمصر من هذه الحرب المُتمثل في رجال وروح أكتوبر مُستسلماً لمقتضيات تسلم المعونة العسكرية الأمريكية لمصر والتي كان ومازال أخطر إجزاءها هو المُتعلق بتدريب ضباط مصريين ترشحهم القوات المُسلحة المصرية بالولايات المتحدة , هناك لا يعطيهم الأمريكان شيئاً سحرياً يُضيف إليهم كل ما في الأمر وكثيرين يعلمون ذلك أنه يتم هناك إنتقاء وتأطير بعضهم Stuffing وتجهيزهم , أنهي مبارك روح أكتوبر من العسكرية المصرية التي خاض جيشها الحرب وخزانة مصر خاوية لكن الهدف كان عظيماً وكان خوض هذه الحرب عملاً شاقاً إعترضته عراقيل ليست بالسهلة , فقبلها أعلن الرئيس السادات عن عزمه خوضها لكنه تراجع فقد وقعت الحرب التي أدت إلي إنفصال باكستان الغربية عن الشرقية وكان الوفاق الدولي قد تأسس فآثر تأجيلها وبدأ اليساريين المصريين الذين هم في الواقع الصوت الأعلي في دعم الإستبداد (رغم تنكيل ناصر بهم لكن علاقتهم بناصر كانت نوعاً من السادية فقد أحبوا الألم علي يده , ومن بين أهم الخرافات التي روجها هؤلاء وأنطلت علي البعض الآخر حتي الآن أن الرئيس السادات أطلق الإسلاميين لكي يلتهموا اليساريين في الجامعات وغيرها من مؤسسات الدولة , وللأسف الحقيقة هي أن اليساريين عددهم في مصر محدود ومتناقص وسمعتهم ملوثة بمعظم أصناف الملوثات وقيمتهم السياسية متدنية ولا جذور لهم بالمجتمع المصري الذي في معظمه مُتحيز لهويته الإسلامية , أما هذه الخرافات فقد إكتسبت نذراً يسيراً من الحقيقة لكثافة ترديدها في الإعلام الذي سيطر عليه يساريون متلونون) , وبعد أن حقق الجيش المصري وقيادته هدف حرب أكتوبر بتحريك الموقف السياسي , بدأت الإتصالات  الأمريكية مع مصر للبحث عن تفاوض يؤدي للتسوية السياسية وخلال ذلك إثر رفعت الولايات المتحدة مجموع مساعداتها الإقتصادية لمصر إلي ثلاثة أضعاف فوصلت إلي أكثر من 800 مليون دولار بما في ذلك المساعدات السلعية والحبوب .

بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 بدأت مباحثات مكوكية بواسطة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر , نتج عنها في النهاية توقيع إتفاق عسكري بين مصر وإسرائيل في 18 يناير 1974 في إطار مؤتمر جينيف للسلام سُمي إتفاق فض الإشتباك الأول علي الجبهة المصرية , وفي أول سبتمبرعام 1975 وُقع بالأسكندرية الإتفاق العسكري الثاني لفض الإشتباك , وبذلك  وكما أُشير في المادة الأولي من الإتفاق الثاني فقد أعتبر ذلك الإتفاق ” خطوة أولي نحو سلام عادل ودائم وفقاً لأحكام قرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر في 22 أكتوبر 1973″ , وقد أعطت الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لمصر في 12 يونيو 1974 زخماً للإتصالات الأمريكية / المصرية علي صعيدين مُتوازيين هما المُضي قدماً في عملية سلام وإستعادة مستوي مُتقدم للعلاقات الثنائية , فقد تم التوقيع علي بيان مبادئ التعاون بين مصر والولايات المتحدة أثناء الزيارة في 14 يونيو وأدي ذلك إلي إنشاء اللجنة المصرية / الأمريكية المُشتركة التي تضمنت العمل علي خمس محاور للتعاون الإقتصادي هي الإستثمار والتنمية المحلية والتصنيع والتجارة الخارجية والزراعة وإعادة بناء وتطوير قناة السويس * (مجلة المجال . العدد 94 يناير 1979 . الصادرة عن وكالة الإتصال الدولي للولايات المتحدة) , وربما أمكن إعطاء صورة مبكرة ومبدأية عما تتوقعه مصر بشأن المعونة الأمريكية لمصر مما قاله الرئيس السادات لشبكة كولومبيا بالتليفزيون الأمريكي في 23 يونيو 1974 حيث قال ما نصه ” ” بالنسبة للمعونة الإقتصادية , فإنني في الواقع أتعجب لإثارتكم هذه المسألة , فبينما أعطي الكونجرس خلال أسبوع واحد لإسرائيل 2,2 بليون دولار , فإن المبلغ الذي تم الإتفاق علي أن نحصل عليه وهو إتفاق طويل الأجل عبارة عن 2 بليون دولار أو نحو ذلك , وسيُدفع علي أجل طويل جداً , وهو ليس علي غرار المبلغ الذي أُتفق عليه مع إسرائيل خلال أسبوع واحد وهو 2,2 بليون دولار  , ولذلك فإنني آمل أن يكون ذلك مفهوماً هناك في أمريكا وبين الشعب الأمريكي … وأنتم تعرفون أننا – أنا والرئيس نيكسون – قد توصلنا في مناقشاتنا خلال المفاوضات إلي نتيجة وهي أن السلام يعني التعمير والبناء , وأنه شرط للتعمير والبناء , وعلي هذا فإنه إنطلاقاً من هذه النقطة أو من هذه الفلسفة عقدنا إتفاقنا الإقتصادي من أجل التعاون بين بلدينا ” وعندما سأل مراسل الشبكة عن رقم 2 بليون دولار الذي يغطي فترة من الوقت قائلاً : ” هل تتوقعون أن يكون الرقم 2 بليون وأن يكون حينئذ في شكل مساعدات إقتصادية مباشرة , أم أنكم تتوقعون أن يكون علي شكل إستثمارات خاصة ؟ ” , أجاب الرئيس السادات : ” إنه سيكون علي شكل مساعدات إقتصادية وإستثمارات تشمل جميع مجالات العمل ” ثم سال المراسل : ” ما هو شكل المساعدات الإقتصادية المباشرة التي تتوقعونها ؟ ” أجاب الرئيس : ” لم يتحدد ذلك بعد , كل ما أتوقعه هذا العام هو 250 مليون دولار فقط , ولكن هذا لا يمكن مقارنته بما أعطيتموه لإسرائيل ” , فسأله المراسل : ” كيف ؟ ومن ستطالبونه ؟ ” الرئيس السادات : ” سأُطالب الولايات المتحدة ” , المراسل : لكن كيف يتم رفع المبلغ إلي 7 بلايين ؟ ” , الرئيس : ” إن المبلغ هو 2,1 بليون أو نحو ذلك ” سؤال : ” من أجل البترول المفقود؟ ( الذي إستخرجته إسرائيل من سيناء) الرئيس  : ” من أجل البترول المفقود ” سؤال : ” هل ناقشتم ذلك مع نيكسون ؟ ” الرئيس : ” كلا إنني لم أناقش ذلك حتي الآن ” سؤال : ” وهل ستتم مناقشة ذلك قريباً ؟ ” الرئيس : ” بالتأكيد سيتم ذلك إنني أبلغ الشعب الأمريكي قبل أن أخبر به الرئيس نيكسون ” سؤال : ” لقد ذُكر في البيان أنه بُحثت مشروعات كبري في مجال التعاون المصري – الأمريكي في مجال الإستثمارات الخاصة , فهل تستطيعون أن تذكروا شيئاً عن بعض هذه المشروعات ؟ ” الرئيس : ” حسناً … هناك المشروع الذري الذي تم الإتفاق عليه بيننا والمساعدات من أجل الزراعة وإقتصادنا يقوم حتي الآن علي الزراعة ……. ” وظلت المساعدات الأمريكية عند هذا المستوي إلي ان وقعت مصر وإسرائيل معاهدة السلام في 26 مارس 1979 ….. بعدها إختلفت صورة المعونة الأمريكية لمصر فتبدلت ألوانها وشخوصها ومفهومها فبعد أن كانت وسيلة تعارف وإرتباط وإتصال إبان عهد الرئيس جمال عبد الناصر أصبحت بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ثمناً .

(4) مرحلة الإلحاق والترويض والتوجيه  : 

مضت فترة الثمانيات من القرن الماضي والمعونة الأمريكية تتحرك بثبات وإنتظام لتصبح جزءاً تلازمياً للعلاقات الأمريكية المصرية بل إن القيادة السياسية التي إستوطنت في فضاء السياسة المصرية دون أن تملأه بل وأفرغت حتي الهواء النقي الذي كان بهذا الفضاء أعطت إنطباعاً آمنت به وحاولت تصديره إلي الخارج بأن هناك علاقة خاصة بين مصر والولايات المتحدة , وفي الواقع أن الولايات المتحدة كانت فقط تتناول مصر ” كحالة خاصة ” وليس ” كعلاقة خاصة ” إذ لا ندية ولا دور لمصر فبعد أن وزعت الدبلوماسية الأمريكية أوراق ملف الصراع العربي / الإسرائيلي إلي أجزاء تم تناولتها بالتنسيق مع إسرائيل تفاوضياً بالقطعة لا بالجملة , كان أول هذه الأجزاء الجزء الخاص بالصراع بين مصر وإسرائيل الذي بإنتهاءه بموجب التوقيع علي معاهدة السلام المصرية / الإسرائيلية في 26 مارس 1979 إنتهي مبرر إضطلاع مصر بقيادة العالم العربي فهي قادته صراعاً ولم تقده تفاوضاً , وبالتالي فقد تعرضت المعونة الأمريكية لمصر لآشعة شمس مصرية تخبو تدريجياً في تسعينات القرن الماضي إلي أن أفلت في بداية الألفية الثالثة وتحديداً في عام 2002 وهو ما سأعرضه تالياً .

بدأت المعونة الأمريكية  لمصر في تسعينات القرن الماضي تتموضع في أقوي مراكزها في الحالة المصرية إذ أن الأمريكيين يعلمون أن من يحكم مصر في هذه المرحلة رجل بلا ماض أو خلفية سياسية يدير أقوي دولة عربية أو شرق أوسطية إدارة موظف أحيل إلي التقاعد وهو لذلك يريد أيام السلطة مُستقرة هادئة بلا أمواج وبالتالي بلا حركة مد أو جزر وقد إكتسبت سياسة مصر الخارجية هذه المعاني فلم تكن سياسة دولة ولا كانت سياسة حركية أو إبتكارية والأدلة أكثر من أن تُحصي وقد خضت تجارب واقعية بنفسي في موضوعات سياسية معينة أوصلتني ليقين بأن مصر فقدت دورها طواعية , نري ذلك مثلاً في تماهي مصر مع السياسة الأمريكية إزاء العراق منذ غزوه الكويت في الأول من أغسطس 1990 ثم الإنضمام لعاصفة الصحراء التي كانت عرضاً تمهيدياً لغزو العراق فيما بعد في أبريل 2003 وبغزوه أُزيل أكبر حائط صد ضد إسرائيل من خريطة العالم العربي وبقيت قطع خشب مُسندة تحكم الدول العربية من خليجها حتي محيطها , ثم تركت مصر السودان ليلقي مصيره الذي سعت إلي تحقيقه الدبلوماسية والإدارة الأمريكية بمؤسساتها العسكرية والأمنية بل والمالية وهو مصير الإنفصال في 9 يوليو 2011 عندما أعلن إستقلال دولة جنوب السودان , وضحت مصر بأمنها المائي بل والأفدح بعمقها البري الذي أسمته العسكرية المصرية ” الإتجاه الجنوبي” نحو منابع النيل لحمايتها لصالحها ولصالح السودان ألخ , ومن بين أسباب الفقدان كانت ومازالت المعونة الأمريكية التي دخلت بمصر منذ تسعينات القرن الماضي إلي مرحلة الإلحاق , وأصبحت هذه المعونة بهذا المعني بالنسبة لمصر نوعاً من الحصانة إذ أنها في نظر الضعيف الذي حكمها  إلتحاق بأقوي الأقوياء ولذلك كان أي حديث ولو مُكرر وممل عن خفضها قليلاً أو الإقتراب منها مثير للرعب لدي أسد مصر الكسيح إلا علي شعبه , فمثلاً نجد أنه في فبراير 1995 بدأت اللجان المختلفة في مجلسي النواب والشيوخ بالكونجرس الأمريكي في مناقشة ميزانية المساعدات الخارجية الامريكية لعام 1996 , وطلبت الإدارة تخصيص 815 مليون دولار لمصر كمساعدات إقتصادية دون إجراء أي تخفيضات علي مستويات المعونة الإقتصادية التي تحصل عليها مصر  سنوياً , وقد أشار تقرير إقتصادي تلقته وزارة الإقتصاد والتجارة الخارجية المصرية من المكتب التجاري المصري بواشنطن ” أن جملة هذه المساعدات الإقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة لمصر خلال الفترة من عام 1975 حتي 1994 حوالي 19 مليار دولار وثلاثمائة مليون دولار ” , وأشار التقرير كذلك من بين تفصيلات مُتعددة لجوانب مختلفة للمعونة الإقتصادية الأمريكية إلي ” أن ميزانية المساعدات الإقتصادية لمصر لعام 1995تضمنت تقديم  معونات إقتصادية لمصر بنفس المستويات السابقة أي 815 مليون دولار سنوياً وأنه منذ بداية عام 1993 وحتي الوقت الحالي لم تستخدم مصر التسهيلات المُقدمة لها في إطار قانون فائض الحاصلات الزراعية P.L 480 حيث يتم شراء الدقيق والقمح الأمريكي المُورد لمصر نقداً ومن خلال برنامج تنشيط الصادرات الأمريكية EEP كذلك لم تحصل مصر منذ عام 1993 علي منح لتوريد سلع زراعية وغذائية في إطار قانون 416 B section ” * ( صحيفة الحياة بتاريخ 22 أغسطس 1995) , وبالرغم من أن العلاقة الأمريكية / المصرية في هذه الأثناء لم تكن تعاني من مآزق حرجة كالتي تكثر في وقتنا الحاضر , إلا أن صحيفة الحياة في العدد المُشار إليه عنونت تغطيتها للمعونة الأمريكية لمصر هكذا : ” إقتصاديون مصريون يتخوفون من إقدام الكونجرس علي تخفيض المساعدات لمصر ” وأشارت في متن التغطية إلي ” أن هؤلاء ينتابهم الخوف علي المعونة بسبب الضغوط الداخلية الحالية ولمواجهة عجز الميزانية الأمريكية , حيث أن لدي الكونجرس نية لخفض ميزانية المساعدات الدولية للعام القادم والبالغ قدرها 21,2 مليار دولار ” , وهو نفس ما تردده إدارة الرئيس Trump الآن ومن قبله إدارات أمريكية أخري , لكن وفي كل الأحوال يُلاحظ أمران علي الأقل في شأن موضوع المعونة الأمريكية لمصر هما : أن الدولة المصرية بمؤسساتها ذات الصلة بالمعونة الأمريكية سواء الإقتصادية أو العسكرية تعاني من خوف مزمن يصل إلي درجة الرعب من أي تخفيض يسري علي المعونة بشقيها خاصة العسكري , كما أن أي حديث عن تخفيض للمساعدات الدولية للولايات المتحدة لا تتأثر إسرائيل به لسبب بسيط أن إسرائيل بحسب الوثائق الأمريكية ذات الصلة بالأمن القومي الأمريكي تعد جزءاً من أمن الولايات المتحدة القومي وعلي رأس أولوياته وهي سياسة ذات أبعاد إستراتيجية للولايات المتحدة عبر مختلف الإدارات , فعلي سبيل المثال سأنتقي واحدة من أكثر الفترات حرجا في الصراع العربي / الإسرائيلي لأؤكد ذلك وهي فترة الرئيس نيكسون ففي الفترة من عام 1969وحتي 1972 تلقت إسرائيل من المساعدة العسكرية 20 مثلاً لما تلقته طوال السنوات العشرين السابقة , فبينما كان الحجم الكلي لتلك المساعدة من 1948 حتي 1968 يبلغ في قيمته 200 مليون دولار , فإن المبلغ الإجمالي وصل في السنوات الخمس تلك إلي 3,7 مليار دولار , كما أننا نجد في الميزانية الأمريكية للعام 1972 أنه قد خُصص نصف إجمالي المساعدات الخارجية لإسرائيل أي 2.6 مليار دولار من مجموع 5,8 مليار دولار , ومنذ حرب 1973 بلغت تلك المساعدة الأمريكية لإسرائيل 1,5 مليار دولار مقابل 300 مليون دولار في السنوات الثلاث السابقة لهذه الحرب , كما لم يكن بالإمكان إبرام إتفاقية فض الإشتباك الثاني في سيناء عام 1975 دون إلتزام الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بمساعدة قيمتها 2,5 مليار دولار وهو مبلغ لم يكن له سابقة في تاريخ المساعدات الأمريكية لإسرائيل , هذا مع العلم أن سياسة المزيد من المساعدات الأمريكية لإسرائيل لم تؤد إلي مرونة إسرائيلية حقيقية في عملية التسوية السلمية بل زادتها عناداً ولهذا نجد أن الضفة الغربية وجولان سوريا مازالا تحت قبضة إسرائيل وسيناء تكاد وأن تكون منزوعة السلاح فهي تسوية بالتورية .

إن مقومات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتضمن فيما تتضمنه (1) تحقيق سلام دائم وعادل ” بالمقاييس الأمريكية طبعاً ” بين إسرائيل وجيرانها العرب و(2) تحقيق وتنمية أمن إسرائيل وخيرها و(3) وضع إطار أمني في الخليج العربي يكفل الوصول الأمريكي لموارد الطاقة و(4) وضع حد للإرهاب المدعوم من الدول والكيانات الأخري , وهو ما يعني بصفة غير مباشرة أن المعونات الأمريكية لمصر تُدار وتُوجه للسيطرة علي مصر , فيما المعونة الأمريكية لإسرائيل تُدار بآليات تحقق ” تنمية أمن إسرائيل وخيرها ” , وهو ما يعلمه المصريون لكنهم لا يدركون ألي أي مدي تصل أمواج إدراك هذا المعني , فأحد نقاط وصول هذا المعني هو الكرامة الوطنية , لكن وببالغ الأسف تجد الدولة المصرية كل عام مالي أمريكي تقف مُنتظرة علي محطة قطار المعونة الأمريكية والقلق والخوف يمزقانها , بالرغم من أنه منذ تدفق المعونة الأمريكية وإلي اليوم لم يشعر المواطن المصري المتوسط بأي تنمية أو صعود أو حتي توقف وجمود لمسلسل تداعي مستويات التنمية بكافة أوجهها , وهو ما أكدته دراسات جادة لقضية المعونة الأمريكية لمصر , إلا أن الدولة المصرية يبدو أنها عثرت في قلب المعونة الأمريكية علي معني إقتصادي إيجابي لم يعثر عليه غيرها , مع أن الواقع الإقتصادي المصري يتحرك منذ زمن طويل وللآن بين نقطتين في غاية السلبية هما الديون الخارجية التي بلغت حالياً نحو 71 مليار دولار والمعونة الأمريكية بشقيها الإقتصادي والعسكري وهي الآن تستخدم لإرهاب الدولة المصرية وتعييناً إرهاب القابضين علي السلطة بها من العسكريين , فالقطع والحجب الجزئي إستهدف المعونة العسكرية وليس الإقتصادية لمصر  والمعني من وراء ذلك يتضح يوماً بعد يوم .

نأتي إلي عام 2002 فقد أثير بشدة في منتصفه موضوع خفض المساعدات الأمريكية لمصر , صحيح أن ويلارد بيرسون رئيس الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID صرح في 18 يوليو 2002 لصحيفة الأهرام القاهرية بأن ” الإدارة الأمريكية مررت مشروع ميزانية المساعدات المُقدمة لمصر للعام المُقبل  إلي الكونجرس , وأنه لا نية حالياً في تغيير حجم المساعدات الإقتصادية ” , مُوضحاً ” أن قيمتها تبلغ لعام 2003 حوالي 615مليون دولار بخلاف المساعدات العسكرية , وعلي جانب آخر أشار إلي أن المساعدات التي تعهدت بتقديمها بلاده لمصر خلال مؤتمر الدول  المانحة في شرم الشيخ  في 5 فبراير 2002 كانت 1,8 مليار دولار خلال العامين الماليين 2002 و2003 قدمت منها بالفعل 430 مليون دولار كمساعدة سريعة منها 100 مليون دولار خلال شهر يناير 2002 في إطار برنامج الدعم التنموي الأول و200 مليون دولار خلال يونيو 2002 في إطار برنامج دعم السلع للقطاع الخاص و200 مليون دولار في نفس الشهر في إطار برنامجي الدعم التنموي الأول والثاني ”  , إلا أن الصحيح أيضاً من جهة أخري هو أن ما صرح به المسئول الأمريكي كان به القدر الأقل من الحقيقة , إذ أن الواقع آنئذ كان سائداً فيه الحديث عن خفض للمعونة الأمريكية لمصر , ففي صحيفة الأهرام القاهرية عدد 26 مايو 2002 وفي متن مقابلة صحفية مع د . حسن سليم وكيل أول وزارة التعاون الدولي ورئيس قطاع التعاون مع الولايات المتحدة علي مدي 12 عاماً مُتصلة , طُرح ملف المساعدات الأجنبية عليه وفي صدارة هذه المقابلة نقرأ العنوان الآتي : ” هل يستطيع الإقتصاد المصري الإستغناء عن المعونات الأمريكية ؟ ” وعنوان فرعي نصه : ” 70% من المساعدات الإقتصادية الأمريكية لمصر يعود كمردود مباشر علي الشعب الأمريكي ” و عنوان فرعي آخر هو : ” حتمية تفعيل التعاون الإقتصادي العربي المُشترك وزيادة تنافسية الإقتصاد المصرية ” , ومما قاله د . حسن سليم نصاً العبارات التالية : ” في الواقع أن الوقت الحالي والظروف الإقتصادية التي تمر بها البلاد لا تستطيع بسهولة القول أن قطع المعونات الإقتصادية الأمريكية عن مصر لن يكون له أثر سلبي علي الإقتصاد القومي ولكن من الممكن الإعتماد علي النفس ولكن بشروط تتطلب الكثير من العمل المُضني والتخطيط الفعال والإدارة الإقتصادية الحكيمة (وهي شروط أفتقدها النظام القائم لسبب بسيط أنه لم يُنتخب وفقاً لمعايير الشفافية ومن ثم فهو لا يُحاسب لأنه يعيش برفقة برلمان مُدجن) و” من المعروف أن مصر كانت تحصل منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد علي منح إقتصادية أمريكية تُقدر سنوياً بمبلغ 815 مليون دولار وبالتحديد كان ذلك إعتباراً من 1982 / 1983 وكانت المعونات كلها في شكل منح لا تُرد ….. ومن الواجب القول أن هذا البرنامج وأيضاً برنامج التحويلات النقدية له آثار إيجابية   .

كانت القيادات السياسية والإقتصادية إبان عهد مبارك تقوم علي خدمة نظامه بتفاني وإخلاص فأنت تري د . حسن سليم يرد علي سؤال بنفس المقابلة الصحفية التي أجرتها صحيفة الأهرام معه في 26 مايو 2002 فيقول ما نصه : ” فرضياً …. إذا حدث قطع المعونة الأمريكية  , فما هي الخطة والإستراتيجية المصرية للنمو الإقتصادي دون معونة ؟ ” وكان رد د . سليم نصه : ” إن مصر بثقلها الكبير يمكن أن تؤثر بدرجة كبيرة في صانع القرار الأمريكي أو الأوروبي , فالمصالح مُتشابكة  ووزن مصر كدولة رائدة في العالم العربي وفي أفريقيا وعضويتها في المنظمات الدولية يجعلها قادرة وبكفاءة علي التأثير علي مجريات الأمور, والسياسة التي ينتهجها الرئيس حسني مبارك في هذا الإطار صحيحة , ولكن يجب أيضاً أن يُساند ذلك الوعي العام والمنظمات غير الحكومية وجمعيات رجال الأعمال وأيضاً الأفراد كل حسب قدرته وطاقته , إن اللوبي الصهيوني مُتغلغل في أمريكا بدرجة كبيرة ونحن بإمكانياتنا المحورية لم نقم بالدور الذي كان يجب عمله لمواجهة هذا التيار , فالشعب الأمريكي لا يفهم إلا مصالحه ويتأثر بالإعلام الذي يسيطر عليه هذا اللوبي الصهيوني ” , والمُثير للتأمل في هذا الرد أن المسئول المصري عقد علاقة بين المعونة الأمريكية لمصر وثقل مصر , مع أن المعونة في اللغة لا تُقدم إلا للمعوزين وليس للموسرين والمعوزين وزنهم النسبي أقل بالطبع , وما قاله هذا المسئول كان عبارة متلازمة لفظية يرددها مبارك نفسه ورددها رئيس مجلس وزراءه د . عاطف عبيد أمام مجلس الشعب المصري وهو يُلقي بيان الحكومة المصرية  في 29 ديسمبر 2002علي أعضاءه إذ قال نصاً : ” المنح والمعونات مُتاحة في العالم وتُخصص للدول التي لها مكانة خاصة وتتمتع بعلاقات مُتميزة وفر لنا الرئيس هذه المكانة فحصلنا خلال العشر سنوات الماضية علي 1091109 مليون دولار منحاً , أُستخدمت جميعها في مشروعات التنمية والتحديث والتطوير ” *  (صحيفة الأهرام القاهرية بتاريخ 30 ديسمبر2002) , وإني لمندهش وفق أي منطق يتحول من يتلقي الإحسان ويقدم التنازل تلو التنازل من مركز الضعة إلي أن يكون ذا مكانة خاصة ؟ كيف ؟ , ثم أن اللوبي الصهيوني نظراً لسياسات نظام مبارك التي كانت معظمها مواتية لإسرائيل ومصالحها وللمصالح الأمريكية أيضاً لا توفر مبرراً كافياً للقول بأن اللوبي الصهيوني كان يضغط لتخفيض هذه المعونات لسبب بسيط إضافي وهو أن د . حسن سليم نفسه قال ما نصه : ” أما الجانب الثالث من المعونات (الأمريكية لمصر) فهو منح لتمويل مشروعات تبلغ قيمتها 415  مليون دولار , وفي النصف الثاني من التسعينات ومع بداية برنامج الشراكة المصرية الأمريكية الذي إعتمد في مضمونه علي أن الهدف هو جعل العلاقة بين مصر والولايات المتحدة علاقة شراكة ندية في الإستثمار والتجارة وليست علاقة المانح بالممنوح , وقد صاحب ذلك قرار من الإدارة الأمريكية بتخفيض المساعدات الإقتصادية لمصر لتصل إلي النصف في مدة عشر سنوات بمعدل 5% تخفيضاً سنوياً , وبالتالي فإنه في نهاية 2007 / 2008 ستحصل مصر علي نصف مبلغ المعونات الإقتصادية التي كانت تحصل عليها , وفي هذه الحالة سيكون 407,5 مليون دولار سنوياً يثبت عند ذلك , وتجدر الإشارة إلي أن حكومة إسرائيل هي التي أخذت المبادرة في ذلك وطلبت من الإدارة الأمريكية تخفيض المعونات الإقتصادية إليها لتنتهي في عشر سنوات مع زيادة المساعدات العسكرية إليها لتعويض ذلك , ….. ” , وفيما يتعلق بإحتمال قطع الولايات للمساعدات الإقتصادية لمصر قال د. حسن سليم : ” ليس في صالح الولايات المتحدة قطع المساعدات الإقتصادية عن مصر لأن ذلك يعود علي أمريكا نفسها بالنفع ” .

تزامن مع كثافة الحديث المصري عن إحتمال خفض المعونة لمصر إنعقاد مؤتمر إستراتيجية التنمية والتكامل الإجتماعي لدول البحر المتوسط في 28يونيو 2002 , وفيه أعلنت الدول الأوروبية المُشاركة فيه أنها إستناداً إلي إخفاق عملية برشلونة التي إنطلقت في منتصف تسعينات القرن الماضي لسد الفجوة الإقتصادية بين دول شمال المتوسط وجنوبه فسيقوم الإتحاد الأأوروبي بتخفيض معوناته لدول جنوب المتوسط بنسبة 20% , ولم يتوقف هذا الحديث المصري عن الخفض عند حد التلفظ به , بل تعداه عندما دعت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب الولايات المتحدة إلي مراجعة موقفها بربط منح مصر مساعدات إقتصادية إضافية بالحكم الذي أصدره القضاء المصري علي د . سعد الدين إبراهيم رئيس مركز أبن خلدون (الأمريكي الجنسية والمصري الأصل) , وأعربت اللجنة عن دهشتها من هذا الموقف الأمريكي بإعتبار أن الولايات المتحدة تدعو دائماً إلي سيادة القانون , وقد اصدرت اللجنة بياناً تفصيلياً بهذا المعني في 21 أغسطس 2002 , أشار   إلي ” الدور التاريخي الضخم الذي لعبته مصر ومازالت من أجل السلام والأمن والإستقرار في الشرق الأوسط ” , وبررت الحكم القضائي ضد د. سعد الدين بالقول بأن : ” محكمة أمن الدولة هي نوع من الدوائر المُتخصصة في محكمة الجنايات معنية بالنظر في القضايا التي تُحال إليها  كما أن قضاتها قضاة عاديون ينتمون إلي السلطة القضائية المصرية وليست إستثنائية ” .

وصل أمر المعونة الأمريكية لمصر إلي مستوي الأزمة إذ صرحت السيدة فائزة أبو النجا وزيرة الدولة للشئون الخارجية في 25 يونيو 2002 ” أن مصر لم تطلب مساعدات إضافية من الولايات المتحدة , ولكنها مارست “حقها” في الحفاظ علي التوازن في المساعدات الأمريكية لمصر وإسرائيل تنفيذاً للإتفاقات والقرارات ذات الصلة بمعاهدة كامب ديفيد , وأن المساعدات تحقق فائدة مُتبادلة لكل من الدولة المانحة والدولة المُتلقية , ونحن نتفهم العواطف التي تقف وراء المطالبة الشعبية (المصرية) بالإستغناء عن المعونة الأمريكية خوفاً من إستخدامها كورقة ضغط , ولكن لابد أن ننظر إلي هذا الأمر نظرة موضوعية تتعلق أساساً بمصلحة مصر , خاصة أن أي دولة نامية تحتاج إلي أن تعتمد في جزء من مواردها علي المعونات الخارجية ” , وأضافت : ” إن الكونجرس قد وافق منذ عدة شهور علي منح إسرائيل 200 مليون دولار مساعدات إضافية , وبالتالي أصبح من حق مصر طبقاً لنصوص كامب ديفيد أن تُطالب الولايات المتحدة بالموازنة بين المساعدات الممنوحة للبلدين وهو ما يستوجب إضافة 130 مليون دولار لمصر , وهو توازن إرتضته الولايات المتحدة ” * ( صحيفة الأهرام في 26 أغسطس 2002) , وفي الحقيقة أن هذا التصريح إمعان في الرضي بذل المعونات الأمريكية لمصر , كما أنه مليئ بالمغالطات منها مثلاً أن التوازن في المعونات الأمريكية لمصر وإسرائيل لم ولن يتحقق يوماً – كما تفترض السيدة فائزة – لسبب بسيط هو طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وهي طبيعية أساسها ديني توراتية مجيئية , وبالإضافة إلي هذا الأساس التوراتي الصلب ,  تمثل إسرائيل منصة ثابتة ذات أعمدة سياسية / إقتصادية مُشتركة مع العالم الغربي الذي يعتبرها واحة للديموقراطية ومن ثم لا تواجه المعونات إليها جدلاً ما , فيما يتعلق بمعياري الحوكمة وحقوق الإنسان , فيما تواجه المعونات لمصر هذا الجدل سنوياً عند إعتماد الكونجرس للمعونة إليها , كما أن الوزيرة فائزة أبوالنجا تتكلم بملئ فاهها عن المعونة بإعتبارها حقاً غير قابل لا للجدل أو التغيير وهو تعبير مُستفز لأي رشيد إن كان الأمر أمر إسداء معونة , ولابد هنا من الإشارة إلي أن مصر عندما قايضتها الولايات المتحدة وأرتضت بتقديم تنازلات لا شك في كونها كذلك في نصوص معاهدة السلام مع إسرائيل نظير تدفق معونة عسكرية وإقتصادية سنوية لم يكن ذلك برضي شعبي حتي يمكن للوزيرة فائزة أن تشير وهو واثقة بأن هناك مطالبة شعبية مصرية بالإستغناء عن المعونة الأمريكية , مالم تكن تعني بذلك أن نواب مجلس الشعب المصري جاءوا بملأ الإرادة الشعبية وبإنتخابات شفافة , وهو أمر لا يُطابق الحقيقة فهم جاءوا من قناة أمنية ضيقة ليندمجوا في كتلة نظام فاسد غير مُؤهل , وقد كرر المجلس المصري للشئون الخارجية بعض ما ورد بتصريح الوزيرة فقال رئيسه السفير محمد إبراهيم شاكر في تصريح له نُشرته صحيفة الأهرام في 25 أغسطس : ” أن المجلس يرفض التهديد بإستخدام المعونة الأمريكية كسلاح لفرض آراء معينة وأن مصر لها مواقف مُستقلة في سياستها الخارجية ولا يمكن أن يكون هناك إتفاق كامل مع الولايات المتحدة في كل شيئ حيث أن لكل بلد خصوصياته وشئونه , وأنه إذا كان يهم الإدارة الأمريكية إستقرار مصر والمنطقة فإن مجرد التلويح بإستخدام المعونة الأمريكية كسلاح هو أمر غير مقبول , ومهما تكن عظمة وقوة الولايات المتحدة بإعتبارها القوة الأوحد في عالم اليوم , فإننا نعتز بوطننا وكرامتنا ونرفض التدخل في شئون سيادتنا الداخلية , وأن هذا التهديد والتلويح بإستخدام المعونة كسلاح يأتي في الوقت الذي بدأت فيه الحكومة تخطط لإيجاد وسائل بديلة تعويضاً أو مقدمة للإستغناء عن المعونات الأمريكية ” , لكن رئيس مجلس العلاقات الخارجية يبدو أنه لم يدرك أن العلاقة دائما ما تكون عكسية بين تلقي المعونة خاصة من القوة الأوحد الأعظم في العالم وبين الكرامة الوطنية , كما وأنه كسفير سابق وله مكانته في الخارجية المصرية وكان مجال تخصصه الهيئات الدولية لابد وأنه يعلم أن المعونات الخارجية نظام بوجهين معونات وعقوبات , حوافز وزواجر , ومن ثم فإستخدام الولايات المتحدة للمعونات لتكون عقوبات وزواجر أو تهديد بهما أمر منطقي ومُتوقع وعلي من يتلقاها من الولايات المتحدة أن يكون راضياً بذلك ولا يأخذه الغضب يوماً ,  ولا يخالجني إلا القليل من الشك في أن كلمات رئيس مجلس الوزراء المصري والوزيرة وبيان لجنة الشئون الخارجية ومتولي ملف المعونة الأمريكية بوزارة التعاون الدولي تشكل جميعاً المفهوم العام والتقليدي للدولة المصرية إزاء المعونة الأمريكية لمصر , وهو علي أية حال  مفهوم يدعو للأسي مُستولد من تراث الثقافة المصرية للأسف فمن بين الأمثال الشعبية المصرية مثل يقول ” إن كان لك عند الكلب حاجة فقل له : يا سيدي” . لذلك كانت المعونة الأمريكية لمصر سبباً ونتيجة معاً حتي أن مستوي الإستقلال السياسي والكرامة أصبحا تحت خط الحد الأدني المُتعارف عليه حتي بين الدول المُتلقية لها , لكن ما يجب أن أشير إليه أنه وإذا إفترضنا أن جزءاً من الشعب المصري كان مقتنعاً بالمفهوم الذي يردده هؤلاء المسئولين – لأسباب وظيفية بحته – , فهو معذور بسبب إنهيار منظومة التعليم المصري وماكينة الضلال التي تمد الإعلام المصري بطاقته الحركية للكذب والتمويه وتلوين الحقائق بغير ألوانها الطبيعية فهو إعلام بائس علي أية حال , إلا أن السؤال الأولي هو : ألا يعلم هؤلاء المسئولون وبعضهم علي درجة مُعتبرة من التعليم والثقافة السياسية أن المعونات الأمريكية أو سواها   لابد وأن تقتطع جزءاً مهماً من الكرامة وإستقلال الإرادة السياسية والإقتصادية والإجتماعية بل والتعليمية المصرية ؟ إنهم يعلمون لكنهم ويا للأسف لا يكترثون .

كانت أزمة المعونة الأمريكية لمصر التي وصلت إلي ذروتها في شهر أغسطس 2002 في تقديري مرجعها طلبات أمريكية من مصر تتعلق بأزمة العراق , فقد تصورت مصر أن دورها في خدمة الإستراتيجية الأمريكية لتدمير العراق ستتوقف عند حد إمداد الولايات بمعلومات ثبت بهتانها فيما بعد أشارت إلي إمتلاك العراق لأسلحة دمار شامل تلك التي إستخدمها كولين باول  وهو يتكلم في مجلس الأمن الدولي قبل غزو العراق في أبريل 2003 لإستخلاص قرار دولي لغزو العراق بذريعة إمتلاكه هذه الأسلحة , ومما يؤكد ذلك تلك المقالة التي نشرتها صحيفة الأهرام أيضاً في 28 أبريل 2003 وفيها أشار كاتبها الصحفي طارق الشيخ تحت عنوان ” المعونات جسر الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها في الشرق الأوسط ” إلي ما نصه ” ولم يكن بالأمر المُفاجئ أن يقر الكونجرس بمجلسيه يوم 4 أبريل الحالي النفقات الإضافية التي طلبها الرئيس بوش بقيمة هي الأكبر في تاريخ  إتخاذ قرارات النفقات الإضافية وهو ما أعطي الرئيس الأمريكي بوش ما يقرب من 80 مليار دولار لمواجهة تكاليف الحرب ضد العراق والإرهاب …. , أما أبرز أوجه إنفاق هذا المبلغ فكانت مُوجهة لتقديم دعم خارجي إضافي لبعض الدول في منطقة الشرق الأوسط وهو ما يُعد دعماً تمويلياً واضحاً طالب به الرئيس الأمريكي لتفعيل دور أداة المساعدات الخارجية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط , ومن المبلغ الذي قُدر بنحو 80 مليار دولار تم تخصيص مبلغ قُدر بنحو 15,58 مليار دولار للمساعدات الخارجية وكان نصيب الشرق الأوسط كبيراً , وتأكيداً لتلك الرؤية تولدت آلية جديدة إضافية ولكنها في تلك المرة جاءت عبر وزارة الخارجية الأمريكية وهي المُتمثلة في المبادرة التي دشنها وزير الخارجية كولين باول في 12 ديسمبر 2002 تحت مُسمي ” مبادرة المشاركة للشرق الأوسط ” لتسير بالتوازي مع ما تقدمه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID من مساعدات ومعونات لدول الشرق الأوسط ” , ويُلاحظ أن كاتب المقال لم يذكر الدول المُستفيدة من مبادرة المشاركة للشرق الأوسط لكن مما لاشك فيه أن من بين هذه الدول وفي مقدمتها مصر والأردن فكلاهما أعان الأمريكيين علي غزو العراق بالوسائل المُتاحة لديهما , ولم يكتف الأمريكيون بإستخدام سلاح المعونة لمصر لإجبار مبارك علي الخضوع بل لقد إستعملوا سلاح التخويف بالإنقلابات العسكرية , فقد نشرت صحيفة الأهرام في 31 يوليو 2002 ما أعلنه دونالد رامزفيلد وزير الدفاع الأمريكي من أن المناورات العسكرية الواسعة الجارية في ولاية فيرجينيا  تهدف إلي التعرف علي التقدم الذي اُحرز في مجال تحويل القوات المسلحة إلي قوة قادرة علي مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين , وأشارت الأهرام في متن الخبر إلي أن وحدات من الجيش والبحرية والقوات الجوية ومشاة البحرية قد بدأت مناورات مُشتركة وواسعة النطاق للتدريب علي سيناريو إفتراضي لمواجهة إنقلاب عسكري يديره قائد بجيش إحدي الدول الشرق أوسطية لإستغلال ظروف زلزال مُدمر تعرضت له تلك الدولة ويشارك في هذه المناورات 13,500 جندي , وأن مسئولون بالبنتاجون قالوا إن هذه المناورات أطلق عليها أسم  “تحدي الألفية ” وتفترض وقوع تهديد حقيقي في دولة ما تملك واشنطن معلومات عسكرية تفصيلية عن أوضاعها , ولكن المسئولين رفضوا الإفصاح عن أسم هذه الدولة ” , لكن هناك من جهة أخري ما يؤكد أن الأزمة التي أثارها الامريكيين مع مصر ملوحين بخفض المساعدات إنتهت بقيام مصر / مبارك بالدور المُكلف به وهو تقديم التسهيلات العسكرية للأمريكيين لضرب ثم غزو العراق , ففي لقاء رئيس مجلس الوزراء المصري بديفيد وولش السفير الأمريكي بالقاهرة في 14 نوفمبر 2002 قال السفير للصحافة ونشر في اليوم التالي للقاءه أنه ناقش مع رئيس مجلس الوزراء د عاطف عبيد خلال جلسة المباحثات وجهات النظر حول تأكيد المساعدات الأمريكية لمصر وتنفيذ البرنامج الخاص بها , مُؤكدا إستمرار البرنامج لمساندة خطط التنمية المصرية , وأضاف أيضاً أنه ناقش أفكاراً تشمل مساندة برنامج التعليم في المحافظات خاصة الصعيد , وبعد كل ذلك عاد المسئوليين المصريين إلي إستخدام لغة إيجابية بشأن المعونات الأمريكية بعد أن حُلت الأزمة مع الرئيس , ففي صحيفة الأهرام بتاريخ 27 ديسمبر 2002 وقبل غزو العراق بنحو أربعة أشهر صرحت السيدة فائزة أبو النجا بأنها تحدثت مع المسئوليين الأمريكيين خلال زيارتها الأخيرة لواشنطن حول أجندة عمل برنامج المساعدات الأمريكية وأشارت إلي أهمية الدور الذي لعبته هذه المساعدات والتي بلغ إجماليها 30 مليار دولار عبر العقود الثلاثة الماضية في مساندة الإقتصاد ودعم التنمية بمصر , وأشارت إلي المحاور الرئيسية الواردة بمبادرة وزير الخارجية الأمريكي بشأن الشرق الأوسط وأنها عرضت وجهة النظر المصرية التي تري أن توقيتها غير ملائم للظروف التي تعيشها المنطقة .

وبعد أن دمرت الولايات المتحدة العراق بمساعدة ممالك وإمارات وجمهوريات الشرق الأوسط تجاوزت مصر موجة خفض المعونات الأمريكية عام 2002 , لكن بعد فترة عادت الولايات المتحدة لتتكلم مع نظام مبارك عن التفاضل والتكامل والإتصال والإنفصال بين الإصلاح السياسي والإصلاح الإقتصادي في مصر ومكافحة الإنفاق وإغلاق المعابر من وإلي غزة لخنق أهلنا في فلسطين هناك , ثم وإتصالاً بهذه المرحلة … مرحلة الإلحاق بدأت الولايات المتحدة حديثاً تواصل حتي عامي 2008 / 2009عن المعونات التي تسديها إلي مصر لكن هذه المرة بإستخدام إصطلاح جديد للتهديد فبدلاً من الحديث عن التخفيض كان هناك حديث عن “المشروطية ” , صحيح أن مصر رفضت إستخدام هذا الإصطلاح حتي لو كلفها الأمر الإستغناء عن المعونة كما قال مسئولييها الذين كرروا وهم يرفضون المصطلح الجديد نفس النغمة وهي أن المعونة الأمريكية تصب في مصلحة الطرفين وهو قول حق لكنه مُؤد في النهاية إلي باطل , ومع وفي أعقاب ثورة 25 يناير 2011 طورت الولايات المتحدة من نظرتها للمعونة فتكلمت عن أسس جديدة للمساعدات مع مصر الديموقراطية , وهو مالم يحدث بالطبع فالتطورات اللاحقة أكدت أن الولايات المتحدة لا تريدها ديموقراطية إنها تريد مصر كياناً إفتراضياً Dummy خاويا وتكون أفضل لو أصبحت منطقة عازلة كما فعلت بسيناء في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية .

 رد الفعل المصري علي قرار القطع والحجب الجزئي للمعونة :

كان رد الفعل المصري مباشراً وسريعاً إذ إشار بيان الخارجية المصرية الصادر في 23 أغسطس  2017 إلي أن ” مصر تعتبر هذه الخطوة مُجحفة إن قيست بالطبيعة الإستراتيجية التي تربط البلدين عبر عقود , وهي كذلك تعكس نقص في تفهم أهمية دعم الإستقرار ونجاح مصر , إنها كذلك إساءة تقدير لحجم وطبيعة التحديات الإقتصادية والأمنية التي تواجه الشعب المصري مما يدل علي خلط للأوراق الأمر الذي قد يؤدي إلي تداعيات علي تحقيق المصالح المصرية / الأمريكية المُشتركة ” .

لكن سرعان ما أستوعب مُتخذ القرار السياسي الصدمة الأمريكية , إذ بدأت مصر بتصحيح أو لنقل توفيق حركتها السياسية في الملف الكوري الشمالي والذي تعلم أنه المبرر والدافع الأهم لقرار القطع الجزئي للمعونة , وكان ذلك التصحيح سريعاً فهو ملف ضاغط علي الإدارة الأمريكية  , لكن ربما ما لا تعلمه القاهرة أو تعلمه لكنها ماضية في التصحيح , أن إماطة وكالات الأمن الأمريكية اللثام من علي العلاقات العسكرية المصرية / الكورية الشمالية لا يعني إن تراجع مصر عن التقدم في هذه العلاقات  سيعني أن جرحاً أصاب العلاقات المصرية / الأمريكية سيندمل , فذلك التعبير يصلح للإستخدام بين الأصدقاء , لكنه لا يصلح مطلقاً لعلاقة أصلاً غير متوازنة فهي علاقة بين مانح ومتلق , وبناء علي ذلك فتراجع مصر سيعرضها لمزيد من الضغوط الأمريكية فالثقة التي إستودعها الرئيس الأمريكي Trump في الرئيس المصري تناقصت ولن تجدي الضغوط الإسرائيلية المُحتملة لرأب صدع العلاقات بين واشنطن والقاهرة , فسوف تمضي هذه العلاقات في نفس المسار السابق لكن مع تربص وحذر أمريكي كاف لإثارة الخشية لدي مصر من إظلام مفاجئ لفضاء هذه العلاقات التي لطالما وُصفت بالخاصة ,  وكان أحري بمصر إن كانت واثقة من متانة العلاقة الخاصة مع واشنطن أن لا تصدر عنها في هذا التوقيت السيئ إشارات مُتضاربة كانت في غني , فعلي حين سارعت القاهرة بعد عشر أيام من قرار القطع الجزئي للمعونة الأمريكية بإصدار بيان رسمي في  4 سبتمبر 2017 نشرته وكالة Associated Press , أدانت فيه التجربة النووية  السادسة لكوريا الشمالية وعبرت عن قلقها العميق من تكرار التجارب النووية الكورية الشمالية والتي لا تمثل فحسب تحدياً لقرارات مجلس الأمن الدولي , وإتفاقيات حظر الإنتشار النووي , بل تشكل تهديداً خطيراً للأمن والإستقرار العالمي , وأضاف البيان أن مصر تؤكد الحاجة إلي الإلتزام بقرارات مجلس الأمن ومبادئ القانون الدولي للعمل علي معالجة هذه الإنتهاكات التي تقوض السلام والإستقرار في شبه الجزيرة الكورية وشمال شرقي آسيا , ومواصلة الحوار والدبلوماسية كجهد يؤدي إلي خفض التوتر والحفاظ علي السلام والأمن الدوليين ” , والبيان رغم أنه متأخر بعض الشيئ إلا أنه في النهاية خطوة عكسية في مسير العلاقات المصرية / الكورية الشمالية , وفي إتجاه إيجابي بالنسبة للموقف الأمريكي من الأزمة النووية مع بيونج يانج والذي يركز علي عزلها سياسياً وإقتصاديا علي الصعيد الدولي , ففي 27 أغسطس 2017 أعلن Heather Nauert الناطق باسم الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة شددت علي مصر  بضرورة عزل كوريا الشمالية , ولذلك نجد إن مصر مضت لمسافة أبعد لنفي تميز ما لعلاقاتها مع كوريا الشمالية وبدأت وكأنها تتنصل من جريمة قتل , ففي 9 سبتمبر 2017 نشرت وكالة الأنباء الصينية Xinhua خبر مغادرة وزير الدفاع المصري القاهرة مُتوجهاً إلي كوريا الجنوبية لإجراء محادثات مع مسئوليها تتناول التعاون العسكري بين البلدين  , وفي الواقع فإن علاقات مصر بكوريا الشمالية أكثر تجذراً من علاقاتها بكوريا الجنوبية وتبادل العلاقات الدبلوماسية معها يعود إلي عام 1961 عندما حضر وفد كوري شمالي لفتح سفارتهم بالقاهرة  , وتوطدت العلاقات المصرية مع بيونج يانج بسبب التأييد السياسي والدعم العسكري الشمالي لمصر قبل وبعد حرب 6 أكتوبر 1973وقام الرئيس الأسبق مبارك خلال فترة حكمه بأربع زيارات لبيونج يانج وقامت مصر بالإستثمار هناك , ومن أهم ما ميز العلاقات المصرية مع بيونج يانج في فترة الرئيس السادات أنه أذن ببيع صواريخ  Scud-Bالسوفيتية إلي كوريا الشمالية في الفترة من 1976 حتي 1981 وفي مقابل ذلك ساعدت الصناعة العسكرية الكورية الشمالية نظيرتها في مصر بتقديم العون الفني لإنتاج صواريخ Scud-B في مصر مما قلل إعتمادية مصر علي الولايات المتحدة وروسيا في هذا المجال , وظلت مصر مشتر رئيسي للتقنية العسكرية لبيونج يانج التي باعت لمصر أيضاً في تسعينات القرن الماضي صواريخ Scud-C  والتي قدم الكوريون الشماليون من خلالها عونهم الفني للصناعة العسكرية المصرية لإنتاجها محلياً طيلة الفترة من عام 2990 حتي بداية عام 2000 , أما كوريا الجنوبية فقد شاركت في إفتتاح القنصلية العامة لمصر بسيول في أغسطس 1990 ووقتها ترددت مصر كثيراً في إفتتاح سفارة حفاظاً علي علاقتها الأهم مع بيونج يانج , فالعلاقة مع سيول كانت إقتصادية بحتة ونهض بها القطاع الخاص المصري , ولهذا فزيارة وزير الدفاع المصري لكوريا الجنوبية ما هي إلا جزء من رسالة إستجابة مصرية لمتطلبات السياسة الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية فلا سجل سابق لتعاون عسكري ما بين سيول والقاهرة  .

ومن الإشارات المُتضاربة في هذا التوقيت الحرج ما نشره موقع MIDDLE EAST NORTH AFRICA  FINANCIAL NETWORK  في 2 سبتمبر 2017  بالإحالة علي وكالة الأنباء الرسمية الروسية TASS التي نقلت عن وزارة الدفاع الروسية إعلانها بدء تدريبات عسكرية مصرية / روسية تحت مُسمي ” جسر الصداقة ” في سبتمبر 2017 بمنطقة Krasnodar الواقعة علي نهر Kuban بروسيا وهي الأولي من نوعها بين الجيشين علي الأراضي الروسية , وأن هدفها تدريب الطيارين المصريين علي طائرات الهليوكوبتر الروسية طراز Ka-52 Alligator الهجومية , وكانت الدورة الأولي لهذه التدريبات بمصر في الفترة من 6 إلي 14 يونيو 2015 وكانت بحرية , ومن الجدير بالذكر أن تدعيم العسكرية المصرية لعلاقاتها مع روسيا بدأ بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي  , كما أن كثافة التحركات الصينية في مصر وفي المنطقة الإقتصادية لقناة السويس علي نحو خاص أثارت وتثير مخاوف متنامية لدي الولايات المتحدة , خلاصة الأمر أن مصر عادت للسياسات المزدوجة القابلة للقسمة علي أكثر من طرفين , لكنها تقوم بذلك بعد إختفاء ما يُسمي بحركة عدم الإنحياز تلك التي إستخدمها قادة العالم الثالث المتخلفين كحائط  عال يتخفون وراءه ويموهون إنحيازاتهم ومواقفهم المُتذبذبة بين الشرق والغرب إبان الحرب الباردة التي إنتهت بإنهيار الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو عامي 1990 / 1991 , ومن ثم  كان علي مصر في أزمة المعونة العسكرية الحالية  الإختيار ما بين الإعلان عن التخلي عن المعونة الأمريكية المُذلة أو البقاء حليفاً إقليميا مُستقيم السلوك السياسي مع الولايات المتحدة , وكل خيار له ثمنه . إن الأقوياء لديهم حاسة وقوة الإرادة علي الإختيار , أما الضعفاء فتظل حركتهم حركة ثبات في الموضع وإختيارهم النهائي هو عدم الإختيار والمضي نحو الحيرة , إن المعونة الأمريكية هي نقطة الضعف الأساسية في العلاقة الأمريكية / المصرية وبدونها كان في إمكان مصر إستخدام أصولها السياسية الثابتة والقوية وهي رأس مال سياسي لا ينفذ لولا أن غباء حكامها جعلهم يُؤثرون السلامة علي النضال , ويفخرون بالتبعية تحت مُسمي العلاقة الخاصة علي الإستقلال الحقيقي . مصر دائماً أكبر ممن حكموها .

من المرجح أن مصر وهي حالياً عضو غير دائم بمجلس الأمن ستمضي قدماً في التصويت لصالح مشروع القرار الذي تطرحه الولايات المتحدة علي مجلس للتصويت عليه في جلسة 11 سبتمبر 2017 ويتضمن فرض مزيد من العقوبات علي بيونج يانج تتعلق بالبترول وتصدير النسيج والملابس الكورية الشمالية وتجميد ممتلكات الرئيس الكوري الشمالي Kim Kong-un , خاصة , وتكثف الولايات المتحدة حالياً جهودها الدبلوماسية خارج وداخل الأمم المتحدة من أجل ذلك , حتي أن Jens Stoltenberg الأمين العام لحلف شمال الأطلنطي  Nato صرح في 10 سبتمبر 2017 بقوله ” إن البرنامج النووي الكوري الشمالي يمثل تهديداً عالمياً يتطلب إستجابة عالمية ” , ومن غير المعروف للآن الموقفين الروسي والصيني اللذين توافقت معهما مصر وصوتت علي غرارهما في مشروعات قرارات سابقة منها الإمتناع عن التصويت علي مشروع قرار أمريكي بفرض حظر علي السلاح لجنوب السودان طُرح في يوليو 2016 علي المجلس , ومن المرجح أيضاً أن تقاوم روسيا والصين المشروع الأمريكي بشأن عزل وحصار كوريا الشمالية , كل وفقاً لحساباته المعقدة بشأن الملف الكوري الشمالي والتي من بين مكوناتها علاقة المواجهة بينهما وبين الولايات المتحدة بشأن قضايا أخري العقوبات الأمريكية علي روسيا وقضية أوكرانيا ومواجهات بحر الصين الجنوبي مع حلفاء الولايات المتحدة هناك وقضايا أعم كقضية المناخ ألخ)  , وعلي أية حال فسيكون علي مصر التصويت لصالح القرار وليس الإمتناع عن التصويت هذه المرة , فذلك هو الحد الأدني الأمريكي أمام مصر , ومن الواضح أن لدي مصر ميل للخضوع للمتطلبات الأمريكية فيما يتعلق بملف علاقاتها بكوريا الشمالية خاصة وأن القرار الأمريكي بقطع وحجب جزئي للمعونة العسكرية لا يتوقف معناه علي المضمون المادي فالأخطر هو المضمون المعنوي , فالخطوة الأمريكية القادمة إن راوغ متخذ القرار المصري ستكون أوسع مدي وأخطر في تداعياتها , فمصر بالنسبة للأمريكيين ليست هي سوريا حتي يتباطئ متخذ القرارات السياسية والعسكرية في البيت الأبيض أو البنتاجون كما فعل في الحالة السورية , كما أنه وبعد مأزق سوريا الذي يعاني منه الأمريكيون أصبح من غير المسموح لروسيا تخطي حدودها للتمركز عند قناة السويس , ومن ثم أيضاً فلا منطق لتصور ما لدي متخذ القرار المصري بأن روسيا يمكنها تجاوز ما هو مسموح لها من الجانب الأمريكي لتدعمه كما تدعم نظام الأسد الكرتوني في دمشق . إن القرار الأمريكي بقطع وحجب جزئي للمعونة إستراتيجي الطابع ولا يجب أن يُنظر إليه إلا علي أنه كذلك وعدم التجاوب المصري معه سيترتب عليه نتائج وخيمة قد لا يتحملها القابض علي السلطة بالقاهرة وإن تحملها فسيُستنزف ويُستهلك في مدي زمني قصير .

ردت الولايات المتحدة علي الخطوة الإيجابية التي أتفق عليها الطرفين قبل إعلانها , بإستعادة التدريبات العسكرية الأمريكية / المصرية Bright Star 2017 التي كانت قد توقفت منذ عام 2011 وألغاها الرئيس Obama عام 2014 نظراً لما وُجه إلي مصر وقتذاك من إتهامات بإنتهاكات حقوق الإنسان في مصر فأُستأنفتها الولايات المتحدة مع مصر في 3 سبتمبر 2017 وستستمر حتي 20 سبتمبر بقاعدة محمد نجيب العسكرية ببلدة الحمام المُطلة علي البحر المتوسط بغربي مصر وهي كما تشير مصادر إعلامية معنية بمواجهة الإرهاب , إذن نحن الآن أمام تسوية لأحد نقاط الإختناق في العلاقات الأمريكية / المصرية والمُتعلقة بكوريا الشمالية , وربما كان ملف قانون تنظيم عمل المنظمات غير الحكومية هو الملف التالي في التسوية لكنه ملف صعب إذ أنه يتعلق بشكل أو بآخر وربما بصفة غير مباشرة بقضية الحريات وحقوق الإنسان فإذا ما فُتح باب تعديل هذا القانون الذي صدر منذ شهور فإنه سيكون أمام جزء من الرأي العام المصري مكسب إذ يُنظر إلي هذه المنظمات علي أنها مراقب يرصد وضع حقوق الإنسان والحريات السياسية والإقتصادية والإجتماعية , لذلك سيكون من الصعب تسوية هذا الملف وربما لجأت السلطات المصرية للتسويف إلي ما بعد الإنتخابات الرئاسية العام القادم 2018 , أما ملف حقوق الإنسان فهناك تعقيدات كبيرة جداً تواجه تناوله بتسوية ما لأن تسويته ببساطة تعرض النظام القائم للتآكل السريع , لكن وفي تقديري فإن تسوية ملف العلاقات العسكرية / الكورية الشمالية وتضحية مصر بالخبرات العسكرية الكورية الشمالية يؤكد من وجهة النظر المصرية أن الأهم منه إستقرار العلاقات المصرية / الأمريكية التي مؤشرها المعونة الأمريكية التي تعتبرها القاهرة دالة علي الدعم السياسي الأمريكي , فالمعونة في حد ذاتها ليست حاسمة , وقد خسرت مصر في شخص كوريا الشمالية حليفاً حقيقياً تستخلص منه فوائد عسكرية وتسليحية مميزة , إذ يعرف الجميع أن السلاح الامريكي الذي يأتي لمصر عبر قناة المعونة العسكرية دفاعي بحت وبعضه تُنزع منه تقنيات معينة .

تسوية ملف العلاقات العسكرية المصرية مع كوريا الشمالية خدمة للأهداف الأمريكية يمكن أن نراه أيضاً مثلاً من زاوية علاقات كوريا الشمالية مع أنجولا , فعندما كنت سفيراً لمصر لدي أنجولا علمت من مصدر موثوق فيه في أول أبريل 2005 أن كوريا الشمالية ستزود أنجولا بالتقنية الخاصة بالأسلحة النووية , وأن إتفاقاً بهذا الشأن يجري العمل علي إنهاءه وبموجبه سترسل كوريا الشمالية وفداً إلي معهد Sombe العلمي   بمحافظة Cuanza Sul الساحلية جنوب لواندا العاصمة الأنجولية , وأن الوفد سيبقي في مدينة Sombe يتبع ذلك إرسال تقنيين أنجوليين إلي بيونج يانج لتلقي دورات دراسية وتدريبية , ويغطي هذا الإتفاق مدة 5 سنوات , وأشار المصدر إلي الأمريكيين علي علم تام بذلك , وأن هناك خطوط مُتفق عليها بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة تتعلق بشبكة تعاون كوريا الشمالية في هذا المجال , كما أكد لي المصدر أيضاً أن لدي أنجولا التمويل الكافي للولوج إلي هذا المجال النووي وأن القيادة الأنجولية مُصرة علي إقامة هذا التعاون مع بيونج يانج وإن لم يتح لها التمويل وفرته بأي طريقة , والأكثر أهمية أن المصدر لما سألته عن الطرف الذي تخشاه أنجولا حتي تمضي إلي مجال التسلح النووي فقال إنها جنوب أفريقيا , والذي لفت نظري أنه في هذا التوقيت قامLEE PEI YANG HONG  نائب رئيس كوريا الشمالية بزيارة لأنجولا يومي 23 و24 مارس 2005 , فيما كان وزير الخارجية الأنجولي Joao Miranda يقوم في 23 مارس 2005 بزيارة لكوريا الجنوبية , وقد أشار تقرير يقع في 168 صفحة صدر لاحقاً في ديسمبر 2005 عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي شارك في وضعه Anthony Lake و Chester Crocker بشكل مباشر إلي إرسال كوريا الشمالية وفد إلي أنجولا لدراسة إستغلال اليورانيوم الأنجولي وأن مصادر لم يحددها التقرير ذكرت أن أنجولا صدرت عنها إشارة واضحة بالموافقة علي الإستثمار الكوري الشمالي في هذا المجال , وكل ذلك كان في وقت تصاعدت فيه الضغوط الغربية والأمريكية علي نحو خاص لحمل كوريا الشمالية لوضع نهاية لبرنامجها النووي , وبطبيعة الحال فإن أنجولا لا تتلق معونات أمريكية وإستراتيجية تصدير إنتاجها البترولي قائمة علي تنوع الوجهات التصديرية فعلي حين مثل البترول الأنجولي 4% من مجمل الصادرات البترولية للولايات المتحدة من الدول المُنتجة , كانت الصين تستورد يومياً عام 2007 نحو 400,000 برميل / يوم  بالإضافة إلي دول أخري مستوردة .

مبررات القرار الأمريكي :

لابد من أن أقرر طالما تناولنا بصفة مُحددة المعونات الأمريكية لمصر , أنها مؤسسة علي أساس إستراتيجي وهي عندما تُوجه من الولايات المتحدة لإسرائيل فهي معونات غير قابلة للنقاش منذ عهد Truman للآن وتميل دائماً للنمو والتوظيف المُحكم ويُطبق عليها ما نصت عليه إتفاقيات التعاون الإستراتيجي المختلفة المُوقعة بين إسرائيل والولايات المتحدة وهي إتفاقيات لا نجد لها نظيراً بين مصر والولايات المتحدة وهو امر له تداعيات سياسية وقانونية مختلفة , أما المعونات الأمريكية في حالة مصر فأساسها تكتيكي , ولهذا تجد الإدارات الأمريكية تُستخدم المعونات مع مصر (وغيرها) إستخداماً مزدوجاً ومرناً فهي ثواب وهي أيضاً عقاب في أحيان أخري , فهي أي المعونات تتحرك نحو مصر دائماً أو لنقل تزحف إليها ببطئ علي أوراق شجر طافية علي مياه ساكنة , ولذلك ولإختلاف الأسس تجد أن الهدف الأمريكي من المعونة لإسرائيل هو الحفاظ علي التفوق الإسرائيلي وليس علي الأمن الإسرائيلي فالإخضاع والإدماج يمكن تحقيقهما علي نحو أكمل وأمثل بواسطة ذلك  * ( دكتور سمير بطرس . مجلة المستقبل العربي عدد 3 1980 . صفحة 15) فإسرائيل جزء من نظرية الأمن القومي الأمريكي داخلياً وخارجياً , أما مصر فهي جزء من الأمن القومي الأمريكي في فضاءه العالمي وفي أهم مواقعه حيث تجاور مباشرة إسرائيل , وتقوم الولايات المتحدة بعمليات نفسية لدي المسئوليين المصريين لإيهامهم بأهمية متساوية لإسرائيل ولمصر معاً بالترويج لما يُسمي بالحوار الإستراتيجي بينها وبين مصر وهو حوار لا يمكن أن يكون ذا طبيعة إستراتيجية إلا عندما ينشأ بين أنداد لا بين مانح ومُتلق للمعونة الأمريكية , كذلك من بين الأكاذيب السياسية التي تروجها الولايات المتحدة دور مصر المحوري في الشرق الأوسط وللأسف لا دوراً محورياً إلا لإسرائيل فقد فعلنا ذلك بإيادينا نحن العرب تصاغرنا فهان أمرنا  , لكنها كما أشرت مخدرات سياسية إستساغها ساسيون ضالون .

قبل إحالة القرار الأمريكي بقطع وحجب جزئي للمعونة العسكرية لمصر علي سبب أو مبرر آخر غير السبب الظاهري مُتمثلاً في إنتهاكات حقوق الإنسان وفي إصدار الحكومة المصرية قانوناً مُتشدداً مُقيداً يحد من حرية عمل المنظمات غير الحكومية بمصر , فإنه من الضروري أولاً نفي صلة القرار فقط وحصرياً بإنتهاكات حقوق الإنسان في مصر وإصدار السلطات قانون مُتشدداً للعمل المدني , فبالرغم من أن هذا السبب حظي بتركيز نسبي في جلسات الإستماع بالكونجرس في أبريل 2017 وتناوله مجلس الأطلنطي Atlantic Council بتقرير مبكر مُؤرخ في 29 مارس 2016 عنوانه ” الحالة رقم 173 : وضع المنظمات غير الحكومية في مصر” , إلا أنه من الوجهة التأصيلية وطالما أن الأمر يتعلق بقرار واسع المدي في تأثيره وغير مسبوق في العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة , فإنه من الضروري ترتيب الأسباب التي دفعت جهات وسلطات مختلفة بالولايات المتحدة للتضافر في إتخاذ هذا القرار , فبالإضافة إلي القرائن المُشار إليها آنفاً نجد أيضاً دلائل قد ترقي إلي المستوي القطعي بأن القرار الأمريكي ضد مصر ليس مُتصلاً فقط بقضية حقوق الإنسان , فهذه القضية أهملت الإدارات الأمريكية النظر إليها في الحالة المصرية كثيراً فعندما أجري الرئيس المخلوع مبارك في10 مايو 2005 تعديلين دستوريين للمادتين 76 و 192 مكرر المنصوص عليهما بدستور مصر الصادر عام 1971 لتمرير توريث السلطة في مصر لإبنه , وقتئذ لم ترفع الولايات المتحدة عقيرتها كما تفعل اليوم لترفض توريث السلطة بإعتباره تزييفاً للديموقراطية , لكنها أي الولايات المتحدة وحلفاءها إتخذوا مُوقفاً عكسياً حين هاجوا وماجوا وقطعوا معوناتهم المحدودة للنيجر عندما أصدر رئيسها Mamadou Tandja دستوراً جديداً في أغسطس 2009 يتيح له عهدة رئاسية ثالثة لم ينص عليها الدستور السابق للنيجر الصادر عام 1999 , إذن كل ما في الأمر أن إسناد القطع الجزئي للمعونة الأمريكية لمصر لابد وأن يتعلق بمبدأ عام أقره القانون الدولي حتي يكون مقبولاً دولياً علي الأقل , فمصر أحد الدول المُوقعة علي العهد الدولي لحقوق الإنسان وكل المواثيق الدولية ذات الصلة , ومن ثم يمكن الإسناد والحالة هذه علي قضية الإنتهاكات , أما أن تعلن الولايات المتحدة أنه بسبب علاقات مصر العسكرية بكوريا الشمالية وتوسيعها لشبكة علاقاتها العسكرية مع روسيا والصين فهو إسناد – بالرغم من أنه حقيقي وداع لقلق أمريكي – إلا أنه لن يكون مقبولاً إذا ما أعلنت الإدارة عنه لأنها أمور سيادية لا شأن للولايات المتحدة أو غيرها بها , ومما يزيد الأمر تناقضاً أنه في الوقت الذي إستند قرار القطع والحجب الجزئي للمعونة العسكرية لمصر علي إنتهاكها لحقوق الإنسان , نجد إدارة الرئيس Trump في نفس الوقت تستأنف معونتها العسكرية للبحرين التي كانت إدارة الرئيس السابق Obama قد علقتها بسبب إنتهاك البحرين لحقوق الإنسان ومازالت الإنتهاكات بها مُستمرة , إذن فقد تضافر إنتهاك مصر لحقوق الإنسان وإصدارها لقانون عمل مدني مُتزمت مع سبب آخر أقوي منهما ويتصل مباشرة وبقوة مع مُوجبات الأمن القومي الأمريكي ألا وهو العلاقة العسكرية بين مصر وكوريا الشمالية التي تمثل الأزمة المُلحة دولياً للولايات المتحدة بسبب إمتلاكها لسلاح دمار شامل تهدد به الولايات المتحدة وحلفاءها , وقد أشارت New York Times أن مصر تربطها بكوريا الشمالية علاقات صداقة منذ سبعينات القرن الماضي , وأن تقريراً صدر مُؤخراً عن الأمم المتحدة أشار إلي هناك تجارة جارية للمعدات العسكرية تتم تحت الطاولة بينهما , وأشارت إلي أن الخارجية الأمريكية لم تنف أو تُؤكد أن كوريا الشمالية تعد جزءاً من دوافع قرار القطع الجزئي للمعونات إلي مصر , ومع ذلك فهناك قطاع من الإعلام الأمريكي نفسه لم يعترف أو يسلم بسهولة بقبول منطق القطع والحجب الجزئي للمعونة العسكرية الأمريكية لمصر بإحالته علي إنتهاكات حقوق الإنسان أوإفتقاد المعايير الديموقراطية في مصر , ومن بين تعليقات الصحف والمجلات الأمريكية المنشورة علي مواقعها الإليكترونية ما نُشر في 23 أغسطس 2017 بموقع The Slatest حيث قال كاتب التعليق Joshua Keating ” إن هناك قليل من الأشياء نعتقد أننا نعرفها عن سياسة إدارة الرئيس Trump للشرق الأوسط , من بينها أن أول ما تهتم به هو محاربة الإرهاب , فالإدارة تريد تطويق نفوذ إيران والحكومات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين , ولهذا تجدها داعمة بكل مرونة لإسرائيل ولذا أيضاً فهي من الوجهة العملية ليست معنية لا بحقوق الإنسان ولا بالديموقراطية ” , وأضاف ” أن القرار الأمريكي بقطع جزء من المعونة العسكرية لمصر وحجب جزء آخر يأتي من حيث المظهر مُتعلقاً بقضية حقوق الإنسان , ولم يكن من المثير للدهشة أن تنتقد مصر القرار وتلغي لقاءاً كان مُقرراً يوم 23 أغسطس بين وزير الخارجية المصري و Jared Kushner كبير مُستشاري الرئيس الأمريكي Donald Trump ” (وهو اللقاء الذي تم بالفعل في وقته مع الرئيس ووزير الخارجية المصريين) , فيما أشار الصحفي Doug Bandow علي موقع THE NATIONAL INTEREST في 27 أغسطس 2017 إلي ” أن الأثر العملي لهذا القرار لن يكون مُؤثراً علي النظام الإستبدادي بالقاهرة خاصة وأن معظم مبلغ المعونة البالغة 1,3 بليون دولار مازال مرصوداً لصالح مصر هذا العام مُضافاً إليه الدعم المالي السخي من السعودية والإمارات للخزانة المصرية , وأن العسكرية المصرية تفضل إستخدام المعونة العسكرية لشراء دمي باهظة السعر تسبغ عليها مظهراً فاخراً أكثر مما تفي بإحتاجات أمنية مُلحة لشعب مصر التي تخوض حرباً مع نفسها (يعيش نصف المصريين تحت أو علي خط الفقر) , وقد يجد الرئيس المصري الحالي نفسه أمام نفس مصير سابقه حسني مبارك , لذا فمن الأفضل للولايات المتحدة ألا تقترن صورتها بصورة نظام قاس يقتل بدون أن يكترث بقانون ويثري علي حساب شعبه بلا خجل ” . وبالرغم من تواتر وكثافة التعليقات الإعلامية بالولايات المتحدة علي هذا القرار , إلا أن تعليقات الخارجية الأمريكية عليه كانت محدودة .

هناك ثمة توقعات إعلامية بأن الإدارة الأمريكية وضعت 7 شروط علي مصر تلبيتها حتي تواصل الولايات المتحدة معونتها العسكرية بالمعدل المُتفق عليه من قبل , وهي : (1) تعديل قانون المنظمات غير الحكومية أو قانون الجمعيات الأهلية بحيث يكون قانوناً منفتحاً مُيسراً لكافة المنظمات غير الحكومية ومنها الأمريكية (2) إطلاق الحريات السياسية بمصر وتخفيف قبضتها علي المعارضة (3) إطلاق سراح المعتقلين السياسيين سواء أكانوا يساريين أو إسلاميين خشية إتجاه مصر نحو المزيد من الراديكالية (4) تجنب التوسع في العلاقات المصرية مع روسيا وكوريا الشمالية التي تمدها مصر بصواريخ Scud ومعدات عسكرية أخري وفقاً للمصادر الإعلامية الأمريكية (5) إفتقاد الشفافية فيما يتعلق بمعركة مصر مع التمرد (الإرهاب) في شمال سيناء (6) إنخراط أكبر لمصر في عملية السلام الفلسطينية / الإسرائيلية وفي العملية التفاوضية بين الليبيين , إذ تعتقد واشنطن أن مصر فشلت في الملفين في هذا الإطار وأستبدلته بدعم فريق حفتر الخارج عن الشرعية (7) تخفيف قبضة العسكرية المصرية من علي الإقتصاد المصري وفتح المجال أمام مختلف الإستثمارات الأجنبية .

لماذا هي مرحلة الغزل العنيف ؟

من الوجهة المبدئية ففي تقديري أن القرار الأمريكي بقطع وحجب جزئي للمعونة العسكرية صدر بتوافق إرادات مؤسسات الكونجرس والخارجية ووكالة المخابرات المركزية , وكان ذلك علي أساس من عملية مراجعة للسياسة الأمريكية إزاء مصر أي داخل إطار مُحدد , ومن ثم فإن الدواعي الإستراتيجية الأمريكية ذات الصلة الوثيقة بمتطلبات الأمن القومي الأمريكي حدت بالإدارة بإجراء هذه المراجعة لسياستها تجاه مصر فهي وليست مسألة حقوق الإنسان التي دفعت في هذا الإتجاه فقضية حقوق الإنسان أكد لي ذات مرة دبلوماسي أمريكي بشأنها إبان عملي بالخرطوم أن الإدارة الأمريكية تتكلم في شأنها مع مصر بالهمس في آذان مسئوليها أما مع السودان فهي تتعمد إيصال الصوت الأمريكي العالي النبرة بشأنها للعالم , ومن ثم فليس من المُستبعد أن تفضي عملية المراجعة تلك إلي ما لا تتوقعه مصر , خاصة وأن الإدارة الأمريكية عادة ما تلجأ إلي إجراء مراجعات لسياساتها إزاء قضايا أو علاقاتها مع دول , وكمثال حديث  علي ذلك , ما  أعلنه Mark Green مدير وكالة التنمية الدولية USAID بجنوب السودان في 2 سبتمبر 2017 من أن الإدارة تراجع الآن دعمها لجنوب السودان بعد أربع سنوات من إستمرار الحرب الأهلية بها وأنه أخبر بذلك Salva Kiir رئيس جنوب السودان بنفسه عندما سلمه في الأول من سبتمبر رسالة حادة Blunt message  من واشنطن تضمنت الإشارة إلي الأعمال الوحشية وعدم الإستقرار وسوء معاملة السلطات لوكالات الإغاثة (أنفقت الولايات المتحدة 2,7 مليار دولار علي الأعمال الإغاثية في جنوب السودان منذ 2013 حتي اليوم) .

– تستطيع الولايات المتحدة طالما أنها – كما أعلنت ذلك – قطعت وحجبت جزئياً المعونة العسكرية لمصر بسبب إنتهاك حقوق الإنسان وهو الإتجاه الغالب في خطاب وزير الخارجية Rex Tillerson الذي قال ” إننا نعبر عن قيم أمريكا من وزارة الخارجية وإلتزامنا بالحرية والمعاملة المتساوية للشعب علي مستوي العالم وهذه الرسالة لم تتغير أبدأً ” , إلا أن الولايات المتحدة لم تطور حتي الآن موقفها إزاء إنتهاكات حقوق الإنسان في مصر فتطبق قيمها تلك في المؤسسات المالية التي لها القدح المُعلي فيها والصوت المُرجح بحيث تعزز مصداقيتها في الدعوة إلي إحترام حقوق الإنسان بربط تدفق أو إرتباط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بقروض مع تلك الدول حتي تلتزم بإحترام والإنضباط مع مبادئ العهد الدولي لحقوق الإنسان الذي وقعته هذه الدول ومنها مصر , وكان يمكن للولايات المتحدة إن أرادت إشاعة مبدأ حقوق الإنسان ومن أجل ذلك كان مُتوقعاً من الإدارة الأمريكية بالتوازي مع إقرار الكونجرس قطع وحجب جزئي للمعونة الأمريكية لمصر أن تعارض الولايات المتحدة أو أن تطلب مراجعة القروض الممنوحة من قبل مؤسستي بريتون وودز أي صندوق النقد والبنك الدوليين إلي مصر بإعتبارها – كما بررت بذلك قرار القطع الجزئي لمعونتها –  تمارس مخالفات ضد حقوق الإنسان بل وتطوير هذا الموقف الأخلاقي بممارسة ضغوطها علي الدول الرئيسية بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لوقف هذه القروض , لولا أن واشنطن تمارس الغزل العنيف مع مصر حتي تستوعب الرسالة الأمريكية بالتوقف عن الإقتراب من روسيا وكوريا الشمالية ,  ومما يؤكد ذلك أنه في الأزمة المصرية / الأمريكية عام 2002 وكانت مُتعلقة بخفض متوقع لا قطع مع حجب جزئي للمعونة العسكرية كان هناك ثمة إرتباط بين الموقف الأمريكي لخفض المعونة لمصر وتعامل مصر مع صندوق النقد , إذ شن الإعلام المصري في حوالي منتصف عام 2002 هجوماً علي صندوق النقد الدولي ونجد بصحيفة الأهرام مثلاً مقالاً بالصفحة الإقتصادية عنوانه ” مصر والصندوق والشفافية المظلومة ” نجد فيها إستخدام عبارات تحتاج لتفسير منها مثلاً العبارة التالية : ” وبعد أحداث 11 سبتمبر وقبلها كانت أزمة شرق آسيا وإنخفاض أسعار البترول والركود العالمي إلا أن الإدارة المصرية تعاملت مع كل ذلك بوعي كامل للحفاظ علي ما تحقق من إنجازات …. ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر وتأثيراتها السلبية علي الإقتصاد المصري أصبح من حق مصر الحصول علي قروض مساندة تعويضية غير مشروطة وهو ما بادر الصندوق بالإعلان عنه في مؤتمر شرم الشيخ حيث بادر بالإعلان عن تعهدات لمصر بلغت نحو 500 مليون دولار وبدأت المشاورات بين الطرفين إلا أننا فوجئنا بأن الصندوق يرغب في منحنا هذه القروض التعويضية تحت مُسمي آخر يرتبط بشروط منها تخفيض سعر الصرف وغيرها من الأمور التي رأت الحكومة المصرية أنها لا تتفق مع الظروف الإقتصادية السائدة ولا مع الإمكانات الحقيقية للإقتصاد المصري ” ثم أضافت المقالة ” مهما كانت حقيقة الوضع وما إذا كانت هناك ظلال سياسية أم لا نقول أن علاقة مصر بالصندوق علاقة قوية ” ثم أضافت كاتبة المقال السيدة نجلاء ذكري فقالت ” المسألة ليست شفافية ولكنها جزء من الصعوبات التي نواجهها للدفاع عن قناعتنا السياسية والإقتصادية ” * ( الأهرام 26 مايو 2002حداث أ) , كذلك نشرت نفس الصحيفة  ” الأهرام ” في 10 أغسطس 2002 تحت مقالاً عنوان عنوانه “مصر ليست في حاجة إلي قروض مشروطة ” , أي أن هناك تزامناً في هذه الفترة من عام 2002 بين إحتمال مبادرة الإدارة الأمريكية بخفض ما للمعونة إلي مصر وبين علاقة مصر المتوترة آنئذ بصندوق النقد الدولي , وكان كل ذلك – كما أشرت – للضغط علي القيادة المصرية لإتخاذ موقف موات من الضربة الأمريكية للعراق , وقد نجحت الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف في النهاية  .

– كذلك من المُثير للتأمل أن الولايات المتحدة تلك الدولة المُؤسسة علي مبادئ إحترام حقوق الإنسان والديموقراطية والموقعة علي الإتفاقية الأمريكية الخاصة بحقوق الإنسان والميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية , والميثاق الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والتي أيدت وبمنتهي الشدة لإتفاقية عدم إبادة الجنس والميثاق المُضاد للتفرقة العنصرية وتعزيز عمل اللجان المُشتركة الخاص بحقوق الإنسان علي المستوي الثنائي والتي لعبت في بلجراد دوراً هاماً وقيادياً لضمان مناقشة كاملة وواضحة للثغرة الموجودة بين الممارسات التي كانت موجودة وبنود معاهدة هلسنكي , من المثير للتأمل أن تكتفي بالتوقف عند حد القطع والحجب الجزئي اليسير جداً لمعونتها العسكرية لمصر فيما هي موقنة بأن هناك إنتهاك سافر مُستمر ودام لحقوق الإنسان المصري وإنعدام الحريات للشعب المصري قبل أن يكون للمنظمات غير الحكومية , لولا أن الأهم لديها هو هذه المنظمات التي تعد واجهة مخابراتية Front, ما لم يكن هذا القطع والحجب الجزئي اليسير إجراء تكتيكي لعلاج موقف سياسي آني بحت يتعلق فقط وحصرياً بالمصالح العليا الأمريكية وليس بالمبادئ الأمريكية  .

– لم تسع الولايات المتحدة للضغط علي الدول المنتهكة لحقوق الإنسان ومنها مصر للأفراج عن المعتقلين- ما لم يكونوا من حاملي الجنسية الأمريكية – وإنهاء وقف العمل بالدساتير والإنقلاب علي الرؤساء المُنتخبين وسيادة حكم القانون ووضع حد لعمليات التعذيب , بل تحركت في داخل المعني العام لحقوق الإنسان عندما ربطت قرار القطع والحجب  بإصدار مصر قانون يحد من عمل منظمات العمل المدني غير الحكومية مع إن إنتهاك حقوق الإنسان هو المقدمة الطبيعية لإصدار مثل هذا القانون بل إن إحتراماً صارماً لحقوق الإنسان في مصر يرتبط تلازمياً بإصدار قانون منفتح لعمل هذه المنظمات , أعني أن الإنتهاكات لحقوق الإنسان كانت سابقة علي صدور قانون العمل المدني لكن الولايات المتحدة لم تتحرك إلا بعد صدور القانون في 29 مايو 2017, فالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي تعييناً يهمهما أولاً إصدار قانون شديد المرونة لتنظيم العمل المدني والمنظمات غير الحكومية لغرض ما في نفس يعقوب .

– كان مما لابد فيه أن يتسم هذا القرار الأمريكي بقطع وحجب جزئي للمعونة العسكرية لمصر بسمة الغزل العنيف لأنه ذا علاقة مباشرة وأولية بأكثر من دائرة أو هدف من أهداف الأمن القومي الأمريكي ولإن العلاقة الأمريكية / المصرية وليدة دور ومكانة أمريكية عميقة وراسخة في الصراع الغربي / الإسرائيلي أي أنه مازال بها رصيد مُعتبر من الود والتعاون علي مختلف الأصعدة وأولها الصعيد العسكري الذي ينقسم إلي قسمين رئيسيين هما المعونة العسكرية بأفرعها وقوة حفظ السلام والمراقبين في سيناء وقد تقدمت الإشارة إليها , , لذلك كان مما أغضب واشنطن إستمرار مصر في وتيرة منتظمة لعلاقاتها العسكرية مع كوريا الشمالية , وربما تصورت القاهرة أن إدارة Trump ستتعامل مع التجربة النووية لبيونج يانج كما تعاملت الإدارات السابقة مع التجارب الخمس السابقة , الوضع إختلف تماماً , فحالة الصراع القائم حالياً بين الولايات المتحدة والصين وكوريا الشمالية التي تعتبر الجزء الحساس بشبكة العلاقات الخارجية الصينية ولا يدانيها إلا مسألة تايوان هو ما شجع الولايات المتحدة للتأثير علي الصين من النقطة الكورية الشمالية بفتح صراع يبدو عالمياً فالصراع الأمريكي صراع مع الصين وكوريا الشمالية فرع منه , وهو ما جعل أيضاً الولايات المتحدة تستجيب لتصعيده حتي إقترب من أن يأخذ طابعاً عسكرياً صدامياً مع كوريا الشمالية  , وكان علي مصر قراءة الموقف جيداً في علاقة الصراع الصيني / الأمريكي والذي من أهم وأخطر مسارحه شبه الجزيرة الكورية التي خاضت الولايات المتحدة فيها مع حلفاءها ومنهم تركيا حرباً ضروس عام 1950 , ولذلك كان الأمر تستدعي يقظة مصرية مُسبقة لولا أهمية التطوير العسكري لمصر بمساعدة كوريا الشمالية وهو بحق رصيد حقيقي لمصلحة مصر لن تناله من موسكو ولا واشنطن ولا غيرهما , لذلك لُوحظ أن الوفد الأمريكي الذي تزامنت زيارته للقاهرة في 23 أغسطس 2017 مع إبلاغ وزير الخارجية الأمريكي لنظيره المصري بمضمون قرار الولايات المتحدة بشأن الإقتطاع والحجب الجزئي للمعونة العسكرية الأمريكية لمصر قاده Jared Kushner كبير مستشاري الرئيس الأمريكي و Jason Greenblatt مبعوث الولايات المتحدة للمفاوضات الدولية والذي من بين مسئوليات منصبه ملف عملية السلام الإسرائيلية / الفلسطينية والملف الكوبي والإتفاقيات التجارية و Dina Powell نائبة مستشار الأمن القومي (مصرية / أمريكية) , بمعني أن مهمة الوفد كانت شديدة الحساسية والأهمية والخطورة معاً لتطويق أي رد فعل مصري بسبب هذا القرار يخرج عن المدي الذي تتوقعه الولايات المتحدة بحيث يكون رد الفعل المصري داخل دائرة النفوذ الأمريكي بمصر , ولذلك لم يرسل الرئيس الأمريكي مثلاً David Satterfield مُساعد وزيرالخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدني أو غيره , لكنه أراد بسباغ طابع شخصي إلي حد ما عليه بإيفاد قريبه السيد Jared ممارسة العنف مع مصر مُغلفاً بالغزل , فالسيد Jared تكلم بصفته قريب للرئيس الأمريكي فهو يمثل جزئياً الصفة الشخصية للرئيس الأمريكي Trump وهو كذلك تكلم بصفته الرسمية كمستشار رئاسي , وذلك ليؤكد للرئاسة المصرية أن القرار نتاج لمهام الكونجرس التشريعية التي تضافرت مع إستراتيجية الإدارة الأمريكية لخفض المعونات الخارجية (التي لم تطبق في حالة إسرائيل) , لكن من جهة أخري فالوفد من خلال تكوينه كان مُطالباً من قبل الإدارة الأمريكية بتقديم المبرر الحقيقي الذي جعل الإدارة تتفاعل مع ضغوط الكونجرس التي تأسست علي متطلبات أمريكية في ملفي حقوق الإنسان والديموقراطية بالمعني العريض , لكن هذه المتطلبات في الواقع مُتعلقة بالجزء الجوهري المُشترك بين هذين الملفين وهو قانون المنظمات غير الحكومية الذي تراه الولايات المتحدة مُقيداً وأن الحكومة المصرية وضعته وأصدرته  في 29مايو 2017 علي أسس حمائية / أمنية مُتشددة , هذا بالإضافة إلي المبرر الأكثر خطورة للولايات المتحدة والذي يتعلق بالعلاقة المباشرة أو غير المباشرة بين مصر وكوريا الشمالية في المجال العسكري وضرورة وضع مصر لحد لها إما بإنهاءها أو تثبيتها عند الحد الذي وصلت إليه .

 نتيجة :

ستقوم مصر بوضع حد لعلاقاتها العسكرية مع كوريا الشمالية بإعتبار ذلك أحد مبررات واشنطن لإتخاذ للقرار غير المسبوق بالقطع والحجب الجزئي للمعونة العسكرية لمصر , وبإعتبار ذلك المطلب الأكثر إلحاحاً للإدارة الأمريكية في أزمتها الراهنة مع بيونج يانج لتحقيق إجماع دولي شامل قدر إمكانها لفرض مزيد من العقوبات والحصار السياسي والإقتصادي عليها خاصة وأن هناك معارضة صينية وروسية محتملة لمشروع القرار الأمريكي الذي من المُرجح أن تصوت مصر لصالحه  وذلك تأكيداً لجديتها ولمصداقيتها لدي واشنطن   , لكن من المتوقع أن تكون هناك مقاومة من القاهرة في شأن قضيتي إنتهاكات حقوق الإنسان وسريان قانون الجمعيات الأهلية الذي تعترض عليه الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وهما من أكبر مانحي المعونات لمصر , وقد تستجيب الحكومة المصرية فتعدل أو حتي تلغي هذا القانون الذي صدر في 29 مايو 2017 , لكن فيما يتعلق بإنتهاكات حقوق الإنسان فليس من  المتوقع أن تتناوله مصر بإيجابية وقد تلجأ إلي خطوات شكلية وهو ما قد يلقي قبولاً من الولايات المتحدة التي غضت الطرف عن هذا الملف طيلة 30 عاماً هي فترة حكم الرئيس المعزول مبارك , ويقيناً يمكن القول بأن طريق حقوق الإنسان يؤدي مباشرة إلي الديموقراطية , والولايات المتحدة لا تريدها , ولهذا ظلت المعونة العسكرية صامدة أمام التوترات التي طرأت علي العلاقات الثنائية فليس بمقدور بلد ديموقراطي أن يتحمل الإستبداد السياسي والكبر الأمريكي , فبسبب إفتقاد مصر للديموقراطية منذ إنقلاب 23 يوليو 1952 وحتي الآن إستقرت العلاقات المصرية / الأمريكية   عند مستوي يتناسب مع علاقة المانح بالمتلقي للمعونة , وليس مع علاقة الأنداد الأحرار فمنذ أن تولي العسكريين الحكم في مصر عام 1952 وحتي الآن كانت المعونة الأمريكية عبر مراحلها المختلفة قناة ناقلة وقاسماً مُشتركاً بين واشنطن والقاهرة , ولهذا فستظل أداة نفاذ وإتصال وثمن وإلحاق وترويض وتوجيه , وطالما ظلت كذلك فلا حديث عن إستقلال الإرادة المصرية .

 

القاهرة . تحريراً في 13 سبتمبر 2017

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى