قرى الجنوب المغربي: منبع العلم ومهد الحضارة، تيمسورت نموذجا
بقلم: الحسن الفرياضي – المركز الديمقراطي العربي
قد يكون المرء مضطرا للكتابة أو البحث في تاريخ منطقته أو قبيلته أو قريته، وذلك بدافع الغيرة، بحيث عند البحث عن تاريخ الجنوب المغربي، وتاريخ مناطق باب الصحراء واد نون يصاب الباحث – خاصة المبتدئ – بخيبة أمل وذهول شديد باعتبار أن هذا التاريخ مازال بكرا ولم يلق أي اهتمام ولو في جوانبه العامة، فبالأحرى في جزئياته الخاصة، على الرغم من أن هذه المناطق الغير النافعة حسب قول “الجنرال ليوط”، كانت دائما مسرحا لأحداث عظام، ومجال شاسع يضم أكبر وأقدم القبائل بالمغرب، وخير دليل على ما أقول قبائل: “واد نون”.
فنحن أبناء قبائل واد نون لا نتوفر على دراسات مفصلة لتاريخ قبائلنا، صحيح أن هناك بعض المؤرخين الذين تناولوا بعض الأخبار المتعلقة بهذه المناطق، أمثال كل من: (البيذق في: (أخبار المهدي و المقتبس)، وابن خلدون في (تاريخ العبر)، والحسن الوزان في (وصف إفريقيا)، وابن زيدان في (إتحاف أعلام الناس)، والناصري في (الإستقصا)….)، إلا أن هذه الكتب والدراسات لم تتناول لكل حيثيات الحياة اليومية لهذه القبائل، بل انها تكتفي في غالب الأحيان بعرض تاريخ الأحداث التي تمت الصلة بالسلطة المركزية، وتاريخ البلاط والسلاطين والزوايا، وبأسلوب فقهي سردي، وبالتالي انعدام ما يشفي غليل الباحث في محاولة استجلاء معالم تاريخ قبيلته.
ومن جانب آخر، وأثناء البحث في الكتب والدراسات الانثروبولوجيا التي تهتم بالمجال القروي نجد أنها لا تبرز لنا الوجه الحضاري المشرق للقرية المغربية من تاريخ وغنى تراثي وطبيعي، بل انها تكتفي غالبا برسم صورة نمطية حول العالم القروي، يغلب فيها الجانب السلبي والواقع المتأزم من البؤس المادي والحياتي، في حين أنه لو أعدنا النظر في تاريخ القرى والبوادي المغربية سنجد أن هذا العالم كان إلى يوم الأمس القريب منبع العلوم ومهد الحضارات.
إن النموذج القروي الذي سأحاول أن ارصد صورته في هذا المقال هو من قبائل واد نون، وأكثر تحديدا قرية تيمسورت، التي تتميز بثرائها المادي واللامادي، والتي تعيش على ضوء روافدها الثقافية والفنية والتي تجعل منها قرية فريدة من نوعها، وإن لم يكن اسمها متداولا كثيرا بين الناس.
قرية تيمسورت هي قرية أمازيغية مغربية صغيرة جدا لا يتجاوز مجموع عدد سكانها 500 نسمة، تنتمي لدائرة بويزكارن على مشارف السفوح الجنوبية للأطلس الصغير، يرتبط تاريخها ارتباطا وثيقا بتاريخ القرى المجاورة، وعن ذلك يشير المستشرق (كولفن) إلى أن قبر يوسف بن ميمون، الموجود بالمقبرة اليهودية بافران الاطلس الصغير هو أقدم وثيقة تدون لتاريخ هذه المناطق، حيث يعود وجوده الى سنة 3756 عبرانية، أي السنة الرابعة قبل الميلاد، مما دفع في الآونة الأخيرة ببعض أبناء المنطقة الغيورين الى إجراء دراسات تاريخية واجتماعية وقانونية بشكل جدي حول هذه المناطق.
إن الرقعة الجغرافية المشار إليها آنفا شهدت عدة طوائف كانت تتواجد بها، وهم الامازيغ واليهود والعرب والزنوج والعبيد والسود والحراطين، وهو ما يعكس تفشي سلوك التعايش والتضامن والتلاحم الموجود بين السكان في الأفراح والأتراح، بالإضافة إلى ذلك، تزخر هذه المنطقة بتراث شفهي غني يمثل ذاكرتها الشعبية كالأمثال والحكم والأقوال الشعبية، وهي الأخرى تعكس روح المجتمع التيمسورتي وسلوكه في مختلف مواقف حياته وفي مختلف المناسبات الاجتماعية والدينية.
ان سكان قرية تيمسورت مثل جميع الامازيغيين بصفة عامة، يتميزون بأخلاق وسلوك حسنة، فالعادات القبيحة لم تكن معروفة لديهم منذ القديم، فمعظم الكتابات التاريخية كانت تشيد بهذه الاخلاق الحميدة، ونأخذ مثلا شهادة المؤرخ الكبير عبد الرحمن ابن خلدون (ت.ق 14 م) الذي يقول في الجزء السادس من كتابه المشهور: (العبر، ص: 136): (وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الاخلاق الحميدة، وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة للشرف والرفعة بين الأمم، ومدعاة المدح والثناء من الخلق، من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الذمة والوسائل، والوفاء بالقول والعهد، والصبر على المكاره، والثبات في الشدائد، وحسن الملكة، والاغضاء من العيوب، والتجافي في الانتقام، ورحمة المسكين، وبر الكبير، وتوقير اهل العلم، وحمل الكل وكسب المعدوم، وكرم الضيف، والإعانة على النوائب وعلو الهمة، واباية الضيم، ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب، وغلاب الملك، وبيع النفوس من الله في نصرة دينه، وفي ذلك اثار نقلها الخلف عن السلف، لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون اسوة لمتتبعيه من الامم، وحسبك ما اكتسبوه من حميدها، واتصفوا به من شريفها، ان قادتهم الى مراقي العز، واوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الايدي ايديهم، ومضت في الخلق بالقبض والبسط احكامهم، فكانوا من ارسخهم في تلك الخلال قدما، واطولهم فيها يدا، واكثرهم لها جمعا).
وفي حقهم كذلك يضيف العلامة حسن الوزان المشهور باسم (ليون الافريقي) (ت، ق 16 م)، في كتابه: [وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الاخضر، ص 86]، حيث يصف الامازيغيين: (وهم ذوو تربية فائقة وكياسة متناهية، وإحسان كثير حتى لا تكاد تصدر عنهم إساءة، تكن افئدتهم الحق وتنطق بها السنتهم، وهم غاية في الاقدام والشجاعة ولا سيما الجبليون منهم، يوفون بالعهد فوق كل شيء، ويؤثرون الموت على اخلاف الوعد، ولا حد لغيرتهم على النساء، حتى انهم ليهبوا ارواحهم بدل ان يتحملوا العار في حق نسائهم، كما لا حد لحرصهم على المال والشرف، اضف الى هذا انهم دوو حشمة وأمانة في حديثهم، لا يجهرون بالسوء من القول البثة، يحترم صغيرهم كبيرهم، سواء في الكلام أو في اية مناسبة أخرى، حتى أن الشاب منهم لا يجرؤ على أن يتحدث عن الحب أو عن الفتاة التي يهواها بمحضر ابيه أو عمه، كما يستحي أن ينشد اغنية غرامية بمجرد ما يرى من هو اكبر منه).
ولعله من المفيد هنا الاشارة الى ان فكرة الحق والقانون كانت موجودة عند سكان القرية منذ زمن بعيد، وذلك من خلال وضع مجموعة من البنود القانونية المنظمة للعديد من المرافق السياسية والاجتماعية والأمنية، والمتعلقة اساسا ببعض المخالفات وما يقابلها من العقوبات، حيث نجذ في الالواح العرفية من ديوان ايت تيمسورت عقوبة جنائية تصل الى حد الإعدام أو أداء غرامة مالية تقدر ب 500 ريال مع أداء الانصاف ازواك (النفي) في حق من تمت ادانته بجريمة القتل ولم يستطع أداء الغرامة، كما يعاقب بمائة ريال كل من نهب المساجد او سلب تلميذا ثيابه، ومن عاد ليسرق، يعاقب ب 500 ريال.
كما أن في دوار تيمسورت رأس مالي بشري مهم لا يمكن التغاطي عن قيمته، سواء على المستوى المحلي أو الوطني أو الدولي، حيث، كان يوجد في القرية ابطالا ضحوا بأموالهم وأرواحهم في سبيل عزة وحرية هذا الوطن، وعلى رأسهم المناضل المقاوم مبارك اوتيمسورت (1914 – 1988)، هذا بالإضافة الى ابناء اخرين أنجبتهم القرية استطاعوا أن يحضروا في أكبر المحافل الدولية بمقر الامم المتحدة بنيورك، وما قلناه عن تألق أشاوس المقاومة والسياسة من رجال قرية تيمسورت، فان الامر كذلك ينطبق على باقي ابناء القرية في مختلف المجالات التي يشتغلون فيها كالتجارة والتعليم والصحافة والفنون.
ان ما يجعل قرية تيمسورت فريدة من نوعها هو أن سكانها استطاعوا ابتكار لغة جديدة أطلقوا عليها اسم “تقجميت” ويمزجون بينها وبين تاشلحيت، وهي عبارة عن كلام غامض ومرموز غير مفهوم، ويرجع الفضل في تأسيسها إلى مؤسسي كل من فرقة البهلوانيين ” اهياضن” والحلايقيين والروايس ومروضي الأفاعي وكانت الغاية من ابتكارها في البوادر الأولى هي الاسترزاق وجني الأموال في الأسواق والمواسم السنوية الكبرى، وقد استطاعت هذه اللغة مع مرور الوقت أن تخرج من حصنها المنيع إلى المجتمع الفسيح فجعلت لنفسها مكانا ضمن اللغة الأصلية تاشلحيت، حيث أصبحت تتم بها عملية السمسرة والتجسس والأخبار عن قدوم أعوان السلطة (المخازنية، الدرك الملكي…).
وكان من بين الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه اللغة دخول الاستعمار الفرنسي إلى قبائل واد نون، ممثل في شخصية “يوجين ميكائيل ” الذي يطلق عليه محليا ب: (بولحيا: ولد سنة 1913 من أصل تونسي يهودي، حاكم منطقة بويزكارن – الأخصاص ما بين 1945 – 1952، توفي بالجزائر سنة 1953)، حيث وجد هذا العميل الاستعماري بعض المعارضين لسياسته، ونظرا لكون “بولحيا” يتقن لغة تاشلحيت والدارجة ولكنه لا يتقن لغة “تقجميت” الشيء الذي جعل هؤلاء المعارضين يتخذون هذه اللغة نقطة ضعف “بولحيا” من اجل تنفيذ مخططاتهم أو الهروب من جحيم “بولحيا”.
ان الذي يهمنا نحن في هذه الاطلالة القصيرة حول المؤهلات المادية والبشرية التي تتوفر عليها قرية تيمسورت ليس التشهير بهذه القرية في حد ذاتها، بقدر ما يهمنا اعادة الاعتبار الى العالم القروي للمناطق الجنوبية، ومحاولة البحث في مختلف جوانب الحياة اليومية لقرى منطقة واد نون بصفة خاصة.