مقالات

جدلية المثقف والسياسي

بقلم : محمد الهشامي -باحث في المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية،

جامعة الحسن الأول سطات / المغرب

 

المكانة العلمية بينهما لا يمكن أن تكون متساوية، ولكل منهما قدره، لكن يبقى للمثقف هيبته وسلطته، كمثقف له دور كبير داخل المجتمع، كما للسياسي دوره من داخل المجال الذي ينتمي إليه، بما تفرضه عليه قوانين اللعبة المتحكمة فيه. لكن كيف يسمح المثقف لنفسه _ ويفرط في مكانته العلمية ودوره المحدد داخل المجتمع_ ويخضع ويُسيَّر من طرف السياسي الأمي؟.

المثقف مادام دوره إثارة القلائل الفكرية المرتبطة بالمجتمع، وتحديد ما يرتبط به من حقوق وواجبات_مع الحرص على أن تكون خالية من أي إيديولوجية قد تُعرض المواضيع المُثارة إلى التحريف، فما دامت الأيديولوجية غير سليمة، فإن القضايا المثارة لن تسلم كذلك_ (ما دام دوره إثارة القلائل) فكيف ستكون نتائج تلك الإشكاليات المطروحة إذا كان المثقف نفسه تابعا؟

فالمثقف لا يوجه، المثقف لا يخضع، المثقف لا ينحني لنزوات السياسي، المثقف يفترض فيه تحريك القلائل الفكرية المرتبطة بالمجتمع، الإشكالات التي تحول دون تحقيق التنمية، باختلاف أنواعها، اقتصاديا/ اجتماعيا/ ثقافيا/ فنيا…، فالمثقف يشكل المرآة التي تعكس الحقيقة للذين في منأى عن معرفة خبايا ما يدور. ويبقى المثقف متسلحا بالاستقلالية، وليس له ما يخسره، فشرفه مرتبط بطرحه لأسئلة حارقة.

إن المعاناة التي يمكن الحديث عنها اليوم، هي معاناة الصراع الذي يشهده الواقع الثقافي والواقع السياسي، ومدى خضوع كل واحد للآخر، صراع أدّى إلى بروز “أزمة مثقف” وأزمة ثقافة حقيقية. ولا شك أن المتحكم هو المهيمن والمسيطر على الواقع المتداول والمعاش.

اعتبر ادوارد سعيد المثقف” هو اللامنتمي أو الهاوي الذي يعكر صفو الحالة الراهنة”، باستقلالية تامة على كل ما يمكن أن يشكل عائقا قد يوجهه، ويُغيّر وجهة أفكاره.

و صفات المثقف جد واضحة كما اجتمع عليها مجموعة من المفكرين الغربيين، نجد في كتاب “الصفوة والمجتمع “ لبوتومور، بحيث اعتبر المثقف أو جماعة من المثقفين، هم المساهمون في طرح الأفكار، ومحاولة ابتكار إشكاليات وأفكار جديدة، منبثقة من صلب المجتمع ومن قضاياه الراهنة. وقد قسم أنطونيو غرامشي المثقفين إلى نوعين، مثقف تقليدي وأخر عضوي، فالمثقف التقليدي حسب أنطونيو لا يضع نفسه داخل أي طبقة من المجتمع، معتبرا نفسه غير تابع لأي طبقة معينة، يلزم الحياد…، وهذا النوع أكثر من المثقفين الذين لا علاقة لهم بقضايا المجتمع، فهم لا يعبرون عن أي حالة من التعاطف. فيما النوع الثاني، وهو المثقف العضوي، ويبقى هذا النوع من المثقفين الذي يحاول تغيير أوضاع طبقة ما إلى الأحسن. أي أن يُشكل عضوا داخلها، وعلى علم بثقافتها على اختلاف تلاوين هذه الثقافة وتعددها.

هذه الصورة المتداولة، والمرسومة حول “المثقف” بالتحديد، يمكن القول أن ملامحها غير واضحة، ولا تعكس بوضوح وشفافية خصائص المثقف كما هو متعارف عليه، وكما قدمه الفلاسفة والمفكرون. صورة شبه غائبة بعد أن هيمن السياسي وطغى على الثقافي. فظهر على الساحة نوع جديد من المثقفين، لا طائفة لهذا النوع، وليس لديه أي طبقة ينتمي إليها، ولا أفكار قد يطرحها، ولا إشكاليات يساهم في معالجتها…وأقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه “مثقف حربائي”، ينتهز الفرص، ليقتنص أهدافه، يشكل بذلك “مرتزقة فردية”، ودغمائي إلى حد كبير. وبدرجة أعلى يساهم في تعطيل الوعي النقدي الفردي والجمعي.

حسب موريس دوفيرجيه، فأغلبية ساحقة من الأشخاص داخل المجتمع، وبمحض إرادتهم، يغمضون أعينهم بأريحية تامة في المجال المتعلق بالسياسة، غير قابلين، ورافضين بذلك انجلاء الغبار على ما يدور أمامهم، والكثير منهم يقبلون العمل تحت أوامر (القادة) السياسيين، متقبلين غير رافضين منهم كل الأوامر. يسطّرون كل التوجيهات دون مناقشة، وبإذعان تام.

وعلى الرغم من أن هذه الفئة مهادنة، فإننا نجدها ذات الانتماء لطبقة (النخبة)، ومن المسيرين للمراكز العلمية، إذ يتنافى توجههم الأكاديمي العلمي المحض، وبما سيقبلون الخضوع من أجله من بعد إملاءات ووصاية تملى عليهم، فيتغير واقعهم الثقافي بفعل فاعل، والمتمثل في الواقع السياسي صاحب السلطة.

إن السياسي الأمي والجاهل، دائما يحس بخطر يداهمه من طرف المثقف، فيحاول تدجينه، من خلال التحكم فيه من داخل الحزب، أو إقصائه عبر أداة سياسية، وإذا كان مثقفا مهادنا وحربائيا، فإنه من السهل تركيعه، وسرعان ما يتحول ذلك المثقف المهادن إلى أداة يستعملها السّاسـة لكبح ومهاجمة كل مثقف غير خاضع.

إن الفضاء الذي يغيب فيه توازن للقوى والفواعل من المثقفين والفاعلين السياسيين، يبقى فضاءا ضيقا، تغيب فيه الإشكاليات والأسئلة الحارقة، كما غُيّب فيه المثقف ودوره. فكيف سمحوا بقبولهم للسيطرة من طرف ملاَّكي السياسة؟ وبالتالي تخلّيهم عن الدور المنوط بهم داخل المجتمع والمفترض القيام به.

إن السؤال الذي يمكن طرحه يتمثل في مدى إمكانية الواقع الذي نعيشه_ باختلالات توازناته، وهيمنة بعض الفواعل فيه،_ في توليد وإخراج مثقفين لهم القدرة على الحد من إقطاعيي السياسة والمتحكمين في الساحة الثقافية؟ .مولود يمثل مثقفا ليس “بالبراغماتي” ولا “البورجوازي”، مثقف غير “حربائي متقلب”، يبحث على مصالح فئوية، لا تتسع للقضايا المرتبطة بالمجتمع. فعلى هذا النحو يمكن أن تختل الموازين، فتقضي بذلك و_نهائيا_ عن واقع الثقافة، كما هو الأمر بعد أن أصبح المثقف وواقعه صورة شبه قائمة.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى