لماذا لن يكون خاشقجي “بوعزيزي” السعودية؟!
كتب: شاهر الحسيني – المركز الديمقراطي العربي
الطائف في الأيام القليلة الأولى من اختفاء جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، ظلت القلوب معلقة بأمل بقائه حياً، حتى مع أسوأ سيناريو قد يحدث له حينها، وهو خطفه ونقله إلى السعودية بطريقة أو بأخرى، كما سبق وحصل لأمراء من العائلة الحاكمة تجرأوا وتلفظت ألسنتهم بكلمة انتقاد لسياسات الدولة. ومع تكشّف الحقيقة المرّة لمصيره – رحمه الله – ابتداءً من تسريبات المصادر الأمنية التركية لوسائل الإعلام، وليس انتهاءً بـ “الاعتراف” السعودي الناقص والمُضلّل عبر روايتين متخمتين بالثغرات، تخيّل البعض – بالنظر لهول الجريمة وحجم التعاطي الدولي غير المسبوق معها – أن خاشقجي سيمثّل بالنسبة للسعودية، محمد البوعزيزي الذي فجّرت فاجعة إحراقه لنفسه الثورة التونسية، ليمتدّ لهيبُ النيران في جسده إلى عدد من الدول العربية، القريبة والبعيدة، خاصة وأن فاجعة قتل خاشقجي بالطريقة الوحشية التي تأكّدت، تأتي في ظل ظروف لا تُحسد عليها حكومة المملكة، ممثلة بوليّ العهد محمد بن سلمان، الذي يهيمن وحده على قرار الدولة، وتحيط به أزمات داخلية وخارجية بالغة الدقّة.. أهمّ هذه الأزمات – داخلياً – تربّصٌ للانقضاض يتوقعه محمد بن سلمان من أجنحةٍ يُحسَب لها حسابٌ داخل الأسرة المالكة، بعد أن تجاوز الأمر مجرد تخطّي مَن تراهم الأسرة أحقّ بولاية العهد، إلى إخفاء بعض الأمراء ومصادرة أموال بعضهم الآخر، لدعم الخزينة التي استُنزِفتْ أمريكياً لمصلحته الخاصة، عدا عن دوافعه الانتقامية من خلف ذلك.. أضف إلى هذا أزمة الاحتقان في أوساطٍ نخبوية ودينية سعودية، جراء اعتقال رموز مشيخية وإصلاحية وثقافية، فضلاً عن تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يدرك المواطن أنها تدار بطريقة ارتجالية لا يُسمح بانتقادها كذلك، تَختزل المشكلة في العمالة الأجنبية، باعتبارها الحلقة الأضعف في دولة لا تقيم وزناً لحقوقهم، بالتزامن مع استمرار نهب الأموال العامة تحت مسمّى “مخصّصات الأسرة المالكة”، وتبذير المليارات في مشاريع ترفيهية وإعلامية فاشلة، وفي دعم الثورات المضادة في دول الربيع العربي. أما خارجياً.. فثمة ملفات ضاغطة لا تقلّ سُوءاً عن ملفات الداخل، أبرزها ورطة حرب اليمن التي تجاوزت الأهداف السعودية، إلى أهداف إماراتية عنوانها الهيمنة على موانئ اليمن وتقسيمُه، وإحداث أكبر قدر من الدمار في بنيتيه التحتية والفوقية، لضمان عدم تمكّنه في المستقبل القريب من النهوض، حتى لو استقرّت أوضاعه السياسية وحافظ على وحدته ونال استقلاله.. وبطبيعة الحال يضاف إلى تبعات هذا الملف، الضغط الحقوقي الدولي على السعودية بشأن الكارثة الإنسانية المستمرة في اليمن، والتي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، هذا فضلاً عن الأزمة الناجمة عن حصار قطر، وما جرّت إليه من تصدّع في منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية.. كل هذه المعطيات والملابسات.. دفعت بعض المراقبين إلى توقّع أن تكون جريمة قتل جمال خاشقجي الوحشية، القشة التي ستقصم ظهر البعير المترنّح بثقل الملفات آنفة الذكر، وأن يكون خاشقجي المغدور – بهذا – “بوعزيزي” السعودية.. لكنّ مقارنة بسيطة بين ظروف السعودية الآن، وظروف تونس ما قبل الثورة، تقلّص من حجم التفاؤل بثورة تُحدثها هذه الجريمة في السعودية. فلا تكاد تجد اليوم نظامَ حُكم في العالم، يحظى بمثل هذا الزخم “الولائي” القائم على التفسير الوثني للنصوص الشرعية المتعلقة بطاعة “ولي الأمر”، والمكرّس بهذا المفهوم في عقول أجيال وأجيال.. ولا الانفتاح الثقافي الذي تمتّع به الشعب التونسي ما قبل الثورة، متوفّر في المجتمع السعودي المنغلق والمنكفئ على ذاته، والذي لا يعرف من الانفتاح الثقافي إلا ما تسمح به السلطة عبر أذرعها الإعلامية، ويكاد يقتصر على نشر قيم الترفيه والانحلال والسُّخف.. ولا تبدو القوى الدولية العظمى مستعدةً لغضّ الطرف عن أي اهتزازات عنيفة وعميقة يتعرّض لها نظام الحكم السعودي، نظراً للقيمة المادية التي تشكلها السعودية، باعتبارها أكبر منتج للنفط عالمياً.. ولا المآلات الكارثية لثورات الربيع العربي نتيجة الدعم الخليجي للثورات المضادة، تشجّع على تكرار التجربة، خاصة خليجياً.. هذه الفوارق في ظروف بلاد البوعزيزي وبلاد خاشقجي، تجعل الاكتفاء بإسقاط فرد من نظام الحكم السعودي كمحمد بن سلمان، واستبداله بغيره، كإجراءٍ يمهّد لإغلاق ملف خاشقجي، إنجازاً معتبراً وفق حدود الممكن، وترسّخ قناعة المعارضة السعودية، بأن إحداث تغيير جوهري في بنية النظام، كالتحوّل إلى ملكية دستورية، أو إزالته من جذوره، لن يتهيأ إلا بحراك جريء داخل الأسرة نفسها، وكل ما عدا ذلك أضغاث أحلام ومطاولة أوهام.