قراءة في سياسات إصلاح وتطوير نظام الإدارة العامة الكيني منذ الاستقلال لغاية 2024
Interpretation of the policies for reforming the Kenyan public administration system from independence to 2024

اعداد : نِهاد محمود – باحثة دكتوراه – كلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
- المركز الديمقراطي العربي
مُلخص :
سعت هذه الدراسة إلى بيان أثر التجربة الاستعمارية البريطانية (التي استمرت في البلاد منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى عام 1963) على بنية النظام الإداري الكيني، لاسيما بعد خروج المُستعمر، بما له من مزايا ومثالب، مع إلقاء الضوء على أبرز التحديات التي واجهت لاحقًا نظام الإدارة العامة بالبلاد والتي كان أبرزها استشراء ممارسات الفساد. كما سلّطت الدراسة الضوء على جهود الدولة الكينية لمكافحة تلك الممارسات المتفشّية، والتي تتضافر خلالها الجهود الحكومية؛ سواء من قِبَل الحكومة والنخبة أو الأجهزة والمنظمات غير الحكومية المعنيّة ذات الصلة. وتوصلت الدراسة في الأخير إلى أن الدولة كينيا تأثرت كثيرًا على نحو سلبي بما رسّخه المُستعمر بنظامها الإداري، لكن الدولة حاولت لاحقًا إبقاء ما يلائم سياساتها من هذا الإرث الاستعماري، وعملت على التخلص مما يُلحِق بها الضرر من ذلك الإرث بنظام الإدارة ككل.
Abstract
This paper seeks to demonstrate that the British colonial experience (which lasted in the country from the late 19th century to 1963) provided the initial foundation for the Kenyan public administration system and had an impact on the subsequent structure of the entire administrative system. Even after the colonists left, it had its pros and cons. While we highlight the main challenges facing the country’s public administration system, the most significant among them is the prevalence of corrupt practices, as is the case in many countries across the continent. The study also sheds light on the Kenyan government’s efforts to combat these practices, which combine national efforts. Whether from governments and elites or relevant authorities and NGOs. The study ultimately concluded that the Kenyan state was deeply influenced by the administrative system established by the colonizers. However, the state then sought to retain from this colonial legacy those parts that suited its policies and worked to undo the damage this legacy had caused to the entire administrative system.
مُقدمة:
مثّلت إشكاليّة إصلاح الجهاز الإداري والقطاع العام هدفًا مُلحًا ومُستمرًا في سياسات العديد من بلدان القارة الأفريقية وخاصة بعد حصولها على استقلالها، ومن بينهم كينيا محور هذه الدراسة. لذا عكف النظام الكيني –كإحدى البلدان النامية بالقارة الأفريقية- على إصلاح نظامه الإداري من أجل تلبية حاجات كل من الحكومة والمواطنين على نحو يسمح بتقديم الخدمات العامة بالشكل المطلوب الذي يعمل على الحدّ من الفقر وتحسين سبل العيش وغيرها من الانعكاسات الايجابية لإصلاح النظام الإداري وترسيخ مبادئ الحكم الرشيد. وعلى الرغم من أن المحاولات الأولى لإصلاح القطاع العام في كينيا كانت قد بدأت منذ عام 1965 إلا أن الجهود الجادة الحقيقية والثمار الملموسة للإصلاح والتغيير بالبلاد لم تظهر إلا مع حلول فترة التسعينات.([1])
وفقًا لما سبق تسعى هذه الدراسة إلى عرض تاريخ سياسات تطوير الإصلاح الإداري بكينيا، الواقعة شرق القارة الأفريقية، تلك المُستعمرة والمحمية البريطانية السابقة، التي ظلّت تحت سيطرة المُستعمر البريطاني منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الاستقلال في الثاني عشر من ديسمبر من عام 1963،([2]) ما ترك آثاره بالطبع بشكل كبير على الدولة بكل مناحيها وأصعدتها، وبشكل خاص على المؤسسات العامة والجهاز الإداري للبلاد كما سيتكشّف خلال الدراسة التي تتكون من ستة محاور رئيسية تتمثل في:
- التجربة الاستعمارية في تأسيس الإدارة العامة وتداعياتها على بنية الإدارة العامة بعد الاستقلال.
- سياسات الإدارة العامة الخاصة بالتطوير والإصلاح منذ الاستقلال وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين.
- سياسات إصلاح وتطوير الإدارة العامة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين وحتى الوقت الراهن.
- أبرز التحديات والعقبات التي واجهت سياسات إصلاح وتطوير الإدارة العامة.
- سياسات مكافحة الفساد في جهاز الإدارة العامة مع توضيح أبرز ملامحها ومجالات نجاحها أو إخفاقها.
- رؤية تقييمية لتجربة إصلاح الإدارة العامة بالدولة الكينية وأهم الدروس المستفادة منها.
مُشكلة الدراسة:
مع خضوع الدولة الكينية للاستعمار البريطاني طوال الفترة من أواخر القرن الـ19 حتى عام 1963، كان من المهم بمكان التطرق إلى معرفة ما تركه هذا المُستعمر من سياسات وممارسات على نُظم ومؤسسات الحُكم بالداخل الكيني، لاسيما الشق الإداري منها، وبناء عليه تتمثل المشكلة الرئيسية لتلك الدراسة في: إلى أي مدى أثّرت السياسات الاستعمارية البريطانية على بنية الإدارة العامة في كينيا؟
التساؤلات البحثيّة:
تدور تلك الدراسة حول عدد من التساؤلات الفرعيّة، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
- كيف تعاملت الدولة الكينية مع سياسات المُستعمر البريطاني وتأثيرها على النظام الإداري للدولة؟
- ما السياسات والقرارات التي اتبعتها كينيا من أجل تطوير وإصلاح النظام الإداري للدولة؟
- ما أبرز جهود الدولة الكينية لمكافحة سياسات الفساد؟
- إلى أي مدى نجحت كينيا في التخلص من السياسات الاستعمارية ذات التأثير السلبي على النظام الإداري لها؟
فرضيّات الدراسة:
تعمل الدراسة على اختبار صحة عدد من الفروض التالية:
- هناك علاقة بين سياسات المُستعمر البريطاني وشكل نظام الدولة الإداري الكيني وما واجهه من تحديات حتى بعد خروج المُستعمر البريطاني.
- كان للتدخل السياسي المباشر من قِبَل الحكومة المركزية الكينية أثره على سياسات وجهود تطوير نظام الإدارة العامة.
- كلما تضافرت الجهود الحكومية وغير الحكومية في سياسات مكافحة الفساد كانت النتائج أكثر تأثيرًا وفعالية.
منهجيّة الدارسة:
تعمّد الدراسة إلى تبني نظرية “تحليل النظم” لديفيد إيستون، ومحاولة معرفة درجة تأثر الدولة الكينية بالبيئة الداخلية وكذلك الإرث الاستعماري، وكيفية تعاملها مع تلك الضغوط القادمة من البيئة المحيطة من أجل إحداث بعض التغييرات على نظامها الإداري بما يحقق أهدافها وسياساتها والتعامل مع متطلبات البيئة المُحيطة.
بشكل أكثر تفصيلًا فيما يتعلق بنظرية تحليل النظم؛ تُعدّ واحدة من أبرز الأطر الفكرية استخدامًا في دراسة النشاط السياسي الداخلي والخارجي. وتتبنى هذه النظرية مفهوم النظام كوحدة للتحليل، فالنظام هو التفاعل بين وحدات معينة، كما أنه مجموعة من العناصر المترابطة والمتفاعلة. وقدّم “إيستون” في خلال ذلك إطارًا لتحليل النظام السياسي يرى فيه دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي تبدأ بالمدخلات وتنتهي بالمخرجات، مع قيام عملية التغذية الاسترجاعيّة بالربط بين المدخلات والمخرجات.([3]) كما يوضح من خلال الشكل التالي:
شكل رقم (1)
إطار تحليل النظم لديفيد إيستون
المصدر: د. كمال المنوفي، مناهج وطرق البحث في علم السياسة (القاهرة، 2006) ص 36.
المحور الأول: التجربة الاستعمارية في تأسيس الإدارة العامة وتداعياتها على بنية الإدارة العامة بعد الاستقلال:
بالنطر إلى نظام الإدارة العامة بدولة كينيا- المعنيّة بها هذه الدراسة؛ نجدها كالعديد من الُمستعمرات السابقة للإمبراطورية البريطانية كانت قد ورثت على نطاق واسع النظام الإداري الذي تم اتباعه إبان الحقبة الاستعمارية البريطانية. وقد ظهر ذلك أيضًا بشكل واضح خلال تطوير الدستور الأول للبلاد والذي تمت صياغته على غرار أسلوب وستمنستر، وهو نظام حكم بريطاني يتميز بوجود رأس للدولة ممثلًا للسلطة التنفيذية ورئيسًا للحكومة وجهاز للخدمة لمدنية، وغيرها من الأجهزة والسلطات التي عملت كينيا على محاكاة بعض منها.([4])
ونظرًا لأن نظام الإدارة العامة في كينيا كما ذكرنا كان موروثًا من النظام الاستعماري البريطاني (الذي تأسس في أواخر القرن التاسع عشر)، فقد كان النظام الإداري العام الأصلي الذي بناه البريطانيون يتميز بالضعف وركز فقط على تأمين وتعزيز المصالح الاستعمارية البريطانية داخل المنطقة. من خلال إنشاء شركة للإمبراطورية البريطانية بشرق أفريقيا عرفت باسم Imperial British East Africa Company (IBEAC) من خلال الميثاق الملكي لعام 1888. وكان وقتها التركيز الأساسي على النواحي التجارية التي تحقق المصالح البريطانية في المنطقة.([5])
على نحو آخر فقد تميزت الإدارة العامة بكينيا إبان الاستعمار البريطاني بعدة سمات وملامح يأتي أبرزها التعقيد والمركزية، وحتى بعد خروج المُستعمر ورغم نص الدستور-حين تأسيس الدولة في ديسمبر 1964- على اللامركزية إلا أن الواقع العملي أثبت أن البلاد أصبحت تتسم بمركزية شديدة أكثر مما كانت عليه خلال عهد الاستعمار.([6])
حتى نهاية الحكم البريطاني هيمنت النظم السياسية القائمة بالدولة الكينية على المحسوبية.([7]) وقد أحدثت هذه الأنظمة ضررًا بالغًا في الحفاظ على المؤسسات الفعَّالة وأهمها لاشك الجهاز الإداري للدولة. ومثلما كان شائعًا في دول ما بعد الاستعمار، فقد أَعدَّت الحكومة الكينية طبقة حاكمة يهيمن عليها الجماعة الاثنية الكيكويو.(Kikuyu)([8]) وقد ضمِنَ هذا النظام من المحسوبية لأعضاء هذه الجماعة الاثنية أن يحكموا بدون معارضة، ويحتفظوا باحتكارهم للموارد؛ مثل: مُخصَّصات الأراضي والمُخصَّصات السياسية، كما سنرد لاحقًا على نحو أكثر تفصيلًا. وقد استمر ذلك حتى إدخال انتخابات متعدِّدةِ الأحزاب عام 1991.([9])
وفيما يتعلق بالسنوات الأولى التي تلت استقلال كينيا مباشرة؛ كان بعضها ذو طابعٍ دستوري وقانوني، وكغيرها من الأنظمة السياسية بالقارة الأفريقية في بداية تحررها عن المستعمر تم رفع شعارات الديمقراطية والحكم وفقًا للقانون، إلا أنه بعد استقرار الأمور والسيطرة على السلطة وضمان وجودها يبدأ في الظهور نظام غير رسمي يقوم على المُحاباة والوساطة والمحسوبية، يوازي في الوقت ذاته النظام القانوني القائم في الدولة، ما يوسع من سلطة أصحاب المناصب العليا بالجهاز الإداري. وبالتبعية فقد تمتع الرئيس بسلطة واسعة هو وعائلته على نحو لا يمكن مواجهته أو تحديه بأي شكل من الأشكال.([10])
استكمالًا لما سبق، فقد شرّع القادة الكينيين عقب الاستقلال بالعمل على توطيد سلطاتهم على كافة الأصعدة، الأمر الذي ساهم بشدة في تدهور المعايير الأخلاقية بنظام الإدارة العامة، وليس ذلك فحسب بل أدى إلى تدهور مستوى الكفاءة والفعالية في تقديم الخدمات العامة للمواطنين، وتزامن ذلك مع تراجع معدل النمو الاقتصادي للبلاد، ما أدى لانتشار الفقر والبطالة في أرجاء الدولة الكينية. ولهذا ظهرت الحاجة لقوانين وتشريعات للمساءلة ومكافحة الفساد وبخاصة بين الموظفين العموميين.([11]) وهو ما سيحدث بالفعل في مراحل تالية كما سيرد، وإن لم تخلو أيضًا من العيوب والثغرات؛ فلم تتمكن أغلب هذه التشريعات من منع ممارسات الفساد بشكل تام. وتأكيدًا على ذلك فحتى بعد سن عدد من الصكوك والقوانين لتعزيز المساءلة والشفافية بأجهزة ومؤسسات الدولة وهياكلها الإدارية وتبني الدولة لنظام التعددية الحزبية، فإن أداء المؤسسات العامة من قبل كبار الموظفين وذوي المناصب العليا لم تتحسن، وكذلك مستوى تقديم الخدمات العامة للمواطنين؛ فوفقًا لتقارير منظمة الشفافية الدولية([12]) فقد ظلت كينيا منذ عام 1997 ضمن الدول العشر الأكثر فسادًا في العالم، وقد بدأ المعدل بالانخفاض في أعوام 2001 و2002 ليصبح 2.0 ثم 1.9 على الترتيب.([13])
وفيما يتعلق بالمناصب العليا والرفيعة بأجهزة الدولة فخلال عهد الاستعمار اعتمدت بريطانيا على الموظفين البيض في كل هذه الوظائف الكبرى، في حين تولى السكان الأصليون “الكينيون” الوظائف الدنيا بنظام الإدارة. وعقب انتهاء الاستعمار وفي محاولة لاستمالة المواطنين من قبل الأنظمة الوطنية الحاكمة فقد اتبعت الحكومة المستقلة الأولى استراتيجية “الأفرقة” والتي لم تتبعها كينيا فقط بل عدة دول أفريقية في الفترات الأولى التي تلت الاستقلال؛ بمعنى إحلال الموظفين الكينيين محل الموظفين البيض المستعمرين. وهو ما ظهرت مثالبه فيما بعد بشكل واضح على بنية الجهاز الإداري؛ إذا قوَّضت استراتيجية الأفرقة من المساءلة والمحاسبة، وبخاصة لأن من تم تعيينهم وقبولهم لم يكونوا مؤهلين لشغل هذه الوظائف ولم تتوافر بهم الخبرات الملائمة بالمجالات التي تم تعيينهم بها، بل تم تعيينهم وفقًا لاعتبارات أخرى كالمحاباة والمحسوبية والقرابة والصلات العرقية وغيرها؛ فعلى سبيل المثال كان أول من تم تعيينهم بالمناصب الكبرى من ينتمون إلى قبيلة الكيكويو، وكذلك من لديهم صلات جيدة مع النظام الحاكم. ما أثر في نهاية المطاف على مستوى تقديم الخدمة العامة وقوَّض من أي محاولات لمحاسبة هؤلاء الموظفين الكينيين الجدد.([14])
المحور الثاني: سياسات الإدارة العامة الخاصة بالتطوير والإصلاح منذ الاستقلال وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين:
فيما يتعلق بسياسات الإدارة العامة الخاصة بالتطوير والإصلاح بالدولة الكينية منذ حصولها على استقلالها من الامبراطورية البريطانية وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين؛ ففي الفترة التي تلت استقلال كينيا عن الامبراطورية البريطانية لوحظ تأثر الدولة الكينية بشدة بدور المنظمات الدولية والقوى الكبرى فيما يتعلق بتحقيق سياسات إصلاح الجهاز الإداري واعتمادها على هذه القوى ومساعداتها من أجل تنفيذ تلك الإصلاحات، وفيما يتعلق بالقوى الكبرى فقد ظهر تأثر كينيا الشديد -كما ذكرنا- بالأساليب البريطانية للحكم وقيام أنظمة الحكم الكينية فيما بعد في مرحلة الاستقلال بتبني الكثير من هذه السياسات التي اتبعتها بريطانيا خلال حكمها لكينيا. ورجوعًا لدور المؤسسات والمنظمات الدولية فقد لعبت دورًا كبيرًا في تطوير أجهزة الدولة وذلك منذ مرحلة مبكرة من الاستقلال وبخاصة مع ظهور الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية، وكانت تحظى هذه المؤسسات والمنظمات الدولية بالسلطة والقوة التي تمكنها من تغيير الكثير من السياسات الكينية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، جنبًا إلى جنب مع المنظمات غير الحكومية، وبخاصة مع قيام هذه المؤسسات بربط هذه التغييرات ووضعها كشرط لتلقي البلدان النامية ككينيا المساعدات والتمويل لمشاريع البنية التحتية وبناء القدرات، إضافة إلى الخدمات الأساسية مثل توصيل المياه وإمدادات الصرف الصحي، وكذلك الاستجابة لحالات الطوارئ مثل الجفاف والمجاعات والكوارث الناجمة عن الصراعات، وغيرها من المشروعات اللازمة لهذه البلدان. لكن المثير للجدل في ذلك أن هذه الإصلاحات الهيكلية كانت تتم في كثير من الأحيان بشكل طارئ وعاجل ولا تُثمر عن نتائج ملموس آثارها بشكل جيد على الدولة الكينية وأجهزتها، بل أحيانًا لا تعدو أن تكون سوى تغييرات وإصلاحات شكلية فقط من أجل إرضاء المؤسسات والمنظمات الدولية المانحة وكذلك القوى الكبرى (التي تسيطر بشكل كبير على هذه المؤسسات)، من أجل الحصول على المساعدات التنموية والقروض وغيرها من المساعدات التي يتم ربطها بحزمة من الشروط والسياسات، بل وتصل إلى حد المساءلة والمحاسبة للدول المتلقية لهذه المساعدات، فكانت أشبه بمراقب لما يحدث داخل الدول وما تتخذه الحكومة من سياسات تتم محاسبتها إزائها من قبل هذه المؤسسات، ما زاد الأمر خطورة هو اكتشاف فساد بعض من هذه المنظمات، الأمر الذي شكك في دوافع محاسبتها لهذه البلدان، كما يحد من سلطاتها ومصداقيتها تجاه هذه الدول، مثل كينيا بالطبع.([15])
وبشكل عام فإن العلاقة بين الدولة الكينية والمنظمات الدولية تشهد جدلًا وخلافًا داخل الأوساط الكينية، وبخاصة مع ممن يدور حولهم شبهات بالفساد وعدم النزاهة والشفافية والتلاعب. وفيما يتعلق بنسبة المساعدات الخارجية التي تحصل عليها كينيا كنسبة مئوية من الدخل القومي الإجمالي لها فيمكننا أن نرى أنه خلال منتصف وأوائل التسعينيات من القرن الماضي كانت الدولة الكينية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساعدة الإنمائية من قبل المنظمات والمؤسسات الرسمية الدولية، وقد وصلت هذه المساعدات إلى ذروتها؛ حيث شكَّلت 16.98٪ من الدخل القومي الإجمالي للبلاد وذلك في عام 1993.([16])
أما في أواخر عام 1990 ومع تركيز الدولة الكينية على عمل إصلاحات بالحكومة المحلية بالبلاد والعمل على تطويرها وحل المشاكل الداخلية بها فقد تبنت برنامج إصلاح الحكومة المحلية عرف باسم Local Government Resourcing Partnership أو المعروف اختصارًا بـ (LGRP)، والذي دشنه البنك الدولي لعدة مهام أهمها تحقيق اللامركزية داخل الحكومة المحلية، وهو ما جعل على سبيل المثال بعض الوظائف وتقديم الخدمات تتسم باللامركزية بدلًا من المركزية الشديدة لسلطة الحكومة المحلية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى زيادة معدلات إيرادات الحكومة. لكن ما حدث أن التشريعات الواجب سنها لتسهيل عمل ذلك البرنامج وليتم تدعيم هذه الإصلاحات لم يتم تشريعها خلال ذلك الوقت. لكن إجمالًا فقد هدفت سياسة هذا البرنامج إلى أن يكون هناك تفويض حقيقي للمهام والصلاحيات والوظائف وذلك من قبل السلطات المحلية المعنية.([17])
إضافة لذلك فقد تم إنشاء الخدمة المدنية بكينيا بعد الاستقلال ضمن إطار مؤسسي هدف إلى تعزيز كل ما يتعلق بثقافة أداء الدولة في تقديم الخدمات. وكانت الطريقة التي تعمل بها الدولة في هذا الإطار فعالة ومثمرة للغاية؛ بحيث أنه تم تصنيفها ضمن أفضل الخدمات العامة بدول أفريقيا جنوب الصحراء، ولكن بحلول نهاية السبعينات بدأ أداؤها في الانخفاض بسبب زيادة أعداد الموظفين (فكما ذكرنا من قبل أن غالبية دول أفريقيا بعد الاستقلال وبالطبع كينيا قامت بتعيين الكثير من مواطنيها داخل الجهاز الإداري للدولة فيما عُرف بسياسة الأفرقة، على نحو ساهم بشدة في تضخم الجهاز الإداري الكيني) كما تدهورت الخدمة المقدمة للمواطنين، وانخفضت دوافع الموظفين نظرًا لانخفاض أجورهم، فضلًا عن تدني سلوكياتهم ومواقفهم غير المنضبطة وغير الأخلاقية. ولهذه الأسباب مجتمعة فقد خرج الوضع بالخدمة العامة عن السيطرة بأواخر السبعينات، ما دفع إلى الحاجة الملحة للإصلاحات.([18])
وبالفعل ولبدء هذه الإصلاحات فقد تبنت الدولة الكينية بأجهزتها برامج التكيف الهيكلي، والتي تضمنت أربعة مراحل أساسية لإصلاح القطاع العام؛ حيث شهدت المرحلة الأولى تنفيذ برنامج إصلاح الخدمة المدنية في الفترة (1993- 1998)، وركز البرنامج على تقليص أعداد الموظفين بالجهاز الإداري للدولة من خلال التقاعد المبكر. أما المرحلة الثانية لإصلاح الخدمة المدنية فكانت في الفترة (1998 – 2002) وذلك بتحويل المؤسسات المملوكة للحكومة إلى الأفراد “أو ما عٌرف بسياسة الخصخصة” وذلك من أجل تحسين أداء هذه المؤسسات، مع تقليل حجم القطاع العام في الوقت ذاته.([19])
المحور الثالث: سياسات إصلاح وتطوير الإدارة العامة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين وحتى الوقت الراهن:
شهدت هذه الفترة استكمالًا لسياسات برامج التكيف الهيكلي وتحديدًا المرحلة الثالثة والتي بدأت من (2003- 2008) وتضمنت إصلاحًا شاملًا للقطاع العام، وتم تنفيذ البرنامج من خلال اتباع طريقة الإدارة العامة الجديدة The New Public Management Approach.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة والتي استمرت من (2008 – الآن)، فقد شملت برنامج رؤية كينيا 2030 ودستور كينيا 2010، وتضمنت التركيز على تحويل القطاع العام إلى تقديم خدمات تلائم متطلبات ورغبات المواطنين.([20])
على صعيد آخر وأيضًا خلال هذه الفترة (التي تستمر منذ مطلع القرن الحادي والعشرين وحتى الوقت الراهن) فقد شهدت تطورًا هامًا للغاية وهو قيام البرلمان الكيني بإصدار قانون عٌرف بـ “قانون أخلاقيات الموظف العامPublic Officer Ethics Act ” أو اختصارًا بـPOEA””، وذلك في عام 2003. وجدير بالذكر أن هذا القانون -أخلاقيات الموظف العام- كان هو الأول من نوعه في كينيا، وكان بهدف مختلف عن غيره من القوانين والتشريعات التي تم تمريرها من قِبل البرلمان الكيني؛ حيث تمثل الهدف الأساسي من هذا القانون في دفع وتعزيز القواعد الأخلاقية للموظفين العموميين من خلال سن قانون يحكم سلوكياتهم وأخلاقياتهم. وكان هذا جزءًا من سياسة مكافحة الفساد الواسعة التي تبنتها الحكومة الكينية مع بداية الألفية الجديدة.([21])
وقد كان قانون أخلاقيات الموظف العام (POEA) انعكاسًا لما اتفقت عليه الدول الأفريقية طبقًا لاتفاقية مكافحة الفساد بالاتحاد الأفريقي؛ حيث ألزمت هذه الاتفاقية الموظف العام بتقديم إقرار الذمة المالية عند توليه الوظيفة، بل وأثناء فترة عمله، وفي نهاية الخدمة. كما يقوم قانون أخلاقيات الموظف العام بإخضاع الأفراد للمساءلة عن مصدر ثرواتهم (مبدأ: مِن أين لك هذا؟)، وذلك من خلال ما يقدمونه من إقرار الذمة المالية، وأن الإدلاء بمعلومات خاطئة أو مضللة في الإقرار قد يؤدي لفرض العقوبات الخاصة لقانون مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية([22])ANTI-CORRUPTION AND- ECONOMIC CRIMES ACT أو المعروف اختصارًا بـ-ACECA على هؤلاء الأفراد. ومن الجدير بالذكر أنه إذا كان الهدف من إقرار الذمة المالية هو مراقبة الموظف العام وعدم استغلاله لوظيفته في التكسُّب بالإثراء غير المشروع، فمثل تلك المعلومات تعتبر سرية ولا يمكن الوصول إليها من قِبَل أي شخص غير مُخوَّل بهذا، ولذلك تعتبر هذه الإقرارات وسيلةً ضعيفة في ترسيخ الأخلاقيات في الحياة العامة؛ لكونها ليست متاحة لقطاع واسع من الجمهور، حيث إنها في النهاية لا تَعدُو إلا أن تكون سِجِلاً للأسرار عِوَضًا عن كونها إقرارًا للذمة المالية.([23])
حول الدستور الكيني لعام 2010 وأهم مبادئ إصلاح الإدارة العامة التي نص عليها:
في إطار الخطوات التي تبنتها الدولة الكينية لإصلاح لقطاع العام- الخدمة المدنية، والإدارة العامة ككل فقط نص الدستور الكيني من خلال عدة مواد على ما يُعزز هذه الإصلاحات، نذكر منها ما يلي:
(1) نص الدستور الكيني في المادة 76 على النزاهة المالية لمسئولي الدولة، والتي تنص على:
- تعد أية هدية أو تبرع لأي من مسئولي الدولة في مناسبة عامة أو رسمية في هدية أو تبرع للدولة ويتم توصيلها للدولة ما لم يكن معفيًا بموجب قانون برلماني.
- لا يقوم أي من مسئولي الدولة بالاحتفاظ بحساب مصرفي خارج كينيا، ولا يسعى للحصول على قرض شخصي أو ميزة شخصية في ظروف تشكل تهديد لنزاهة مسئول الدولة.
(2) كما نصت المادة 77 على القيود المفروضة على أنشطة مسئولي الدولة والتي منها:
- ألا يشارك أي من مسئولي الدولة العاملين بدوام كامل في أي وظيفة مربحة أخرى.
- لا يشغل أي من مسئولي الدولة المعينين منصب بأي حزب سياسي.
- لا يحصل أي مسئول دولة متقاعد على أجر من الأموال العامة إلا إذا كان مديرًا أو موظفًا لشركة تمتلكها أو تسيطر عليها الدولة أو أحد أجهزة الدولة.([24])
(3) أما المادة 79 فنصت على تأسيس لجنة مستقلة للأخلاقيات ومكافحة الفساد.([25])
(4) نصت المادة 232 على قيم ومبادئ الخدمة المدنية والتي تضمنت:
- معايير رفيعة من الأخلاقيات المهنية.
- الاستخدام الكفء والفعال والاقتصادي للموارد.
- توفير الخدمات بصورة مستجيبة وسريعة وفعالة ومحايدة ومنصفة.
- إشراك الجماهير في عملية صنع السياسة.
- المسائلة بشأن الأعمال الإدارية.
- الشفافية وتقديم معلومات سريعة ودقيقة إلى الجماهير.
- المنافسة العادلة والاستحقاق باعتبارهما أساس التعينات والترقيات.
- تمثيل مجتمعات كينيا المتنوعة.
- توفير فرص كافية ومتكافئة للتعيين والتدريب والترقي على كل مستويات الخدمة المدنية للرجال والنساء وكل أبناء الجماعات العرقية والأشخاص ذوي الإعاقة.([26])
(4) وفي المادة 236 نص الدستور على ضرورة حماية الموظفين العموميين؛ ففي الفقرة (أ) نص على أن أي موظف عمومي لا يتم التضحية به أو ممارسة التمييز ضده لأداء مهام منصبه طبقًا لأحكام هذا الدستور أو أي قانون آخر. كما نصت الفقرة (ب) على ألا يتم استبعاده أو عزله من منصبه أو تقليل درجته أو إخضاعه لأي إجراء تأديبي دون اتباع الخطوات القانونية السليمة.([27])
(5) أما المادة 201 فنصت على مبادئ المال العام والتي من أبرزها:
- تبني الانفتاح والمساءلة وهو ما يتضمن المشاركة الشعبية في الأمور المالية.
- يعزز نظام المال العام مجتمع منصف، كما يتم التشارك في عبء الضرائب بصورة عادلة.
- تتشارك الحكومات الوطنية والخاصة بالمقاطعات فيما يتم جمعه من إيراد على المستوى الوطني وبصورة منصفة.
- يعزز الإنفاق من التطوير المنصف للمقاطعة وهو ما يتضمن وضع نص خاص بشأن الفئات والمناطق المهمشة.
- تتشارك الأجيال الحالية والمستقبلية في أعباء ومزايا استخدام الموارد والاقتراض العام بصورة منصفة.
- يُستخدم المال العام على نحو حصيف ومسئول.
- تتولى الإدارة المالية المسئولية على أن تتسم التقارير المالية بالوضوح.([28])
المحور الرابع: سياسات إصلاح نظام الإدارة العامة الكيني.. تحديات وعوائق
فيما يتعلق بأبرز التحديات والصعوبات التي وقفت عائقًا أمام سياسات الإصلاح والتطوير للإدارة العامة في كينيا؛ لابد أن نوضح بداية بأنه لا توجد دولة بالعالم أجمع لا تعاني من مشكلات وتحديات، سواء كانت تحديات للدولة دور بتواجدها أو تحديات أخرى فُرضت عليها، ومن ثم فإن كينيا كأي كغيرها من بُلدان العالم كان عليها أن تواجه عدة إشكاليات وبخاصة مع تواجدها ضمن بلدان العالم النامي فضلًا عن مشكلاتها الخاصة بها والتي ساهمت الدولة بنفسها في إبرازها وخروجها؛ ونذكر منها التدخل السياسي غير المبرر من قبل الحكومة المركزية، وعدم اتساق السياسات والقرارات التي تصدر من قبل أجهزة الدولة ورأسها، أضف إلى ذلك الفساد والمحسوبية وانعدام الإرادة السياسية، وغياب الثقافة السياسية والوعي، وانتشار اللامبالاة بين المواطنين الكينيين، فضلًا عن نقص الإمكانات والموارد اللازمة للتطوير والإصلاح (تحديات مفروضة عليها)، ما عرقل بالطبع في نهاية المطاف الكثير من سياسات التطوير وحتى التي تمت منها لم تُرى نتائجها على النحو المأمول.([29]) والمثير للجدل هنا أن الدستور الكيني المعدل عام 1986 لعب دورًا كبيرًا في تصاعد هيمنة السلطة التنفيذية على مؤسسات الحكم ومنها بالطبع الجهاز الإداري للدولة؛ وإضافة لذلك فقد سيطرت السلطة التنفيذية على التشريع، والقضاء، وأجهزة الدولة الأمنية، تحت ذريعة حفظ النظام الذي يشير إلى جهود الأنظمة السياسية لضمان بقائهم ولا يقبلون أية ادعاءات أخرى من أجل الحفاظ على مقاعدهم وسلطاتهم وصلاحياتهم الشرعية. وظهرت أبرز صور ذلك التحكم الرئاسي في مؤسسات الحكم من خلال سلطة العزل والتعيين بصورة غير منظمة وعشوائية ولا تستند إلى أية معايير متعارف عليها في هذا الشأن؛ فالرئيس حظى بكل الصلاحيات التي تخٌّول له أن يُعَّين ويعزل الموظفين العموميين بكامل إرادته ورغبته، وبالإضافة إلى حصول رئيس البلاد على موارد كبيرة عن طريق المحاباة، فإن هذه السلطات مكَّنته من ضمان أن هذه المؤسسات ستنفذ ما يراه فقط من سياسات وقرارات، وكنتيجة لذلك فإن الموظفين العموميين أصبحوا يَرُون أنهم مُحاسَبون فقط تجاه الرئيس، ولم يعتقدوا أنهم محاسَبون تجاه الشعب لممارستهم سلطاتهم.([30])
وقد ارتبط التحكم الرئاسي في مؤسسات الدولة بتسييس الأجهزة الإدارية وتفشي ظاهرة الشِلَلِيَّة، كما أحاط الرئيس نفسه بسماسرة سلطة لا غنى عنهم، ولم يكن لأحد سلطات عليهم، وقد انتشر رجال الرئيس وأعوانه بالمؤسسات الاستراتيجية للدولة، وأصبحوا عملاء موثوقاً بهم كتجار ومخططين سياسيين يعقدون صفقات بأعلى درجة من الفساد، وقد تمتعوا بنفس الحصانة التي تمتع بها الرئيس نفسه؛ الأمر الذي خلق قنوات لاستغلال النفوذ والسلطة والمناصب العامة وذلك من أجل تحقيق أهداف شخصية، وخاصةً من خلال المحسوبية والمحاباة. وكانت لهم سلطة تعيين الموظفين أو ترقيتهم أو فصلهم، وتحديد من الذي يستحق عقود الحكومة أو مَن تُخصَّص له قطعة أرض أو مَن يُعطَى له ترخيص. وقد تمخض عن ذلك عدم كفاءة من تم تعيينهم بدواوين الحكومة، كما مَهَّد ذلك الطريق أمام الإهمال وتردي الأوضاع والأداء وتقديم الخدمة العامة وهو ما كانت تحميه المحسوبية.([31])
المحور الخامس: سياسات مكافحة الفساد في جهاز الإدارة العامة.. بين إنجازات مُحققة وإخفاقات تلوح في الأفق
في إطار حرص الدولة الكينية على مكافحة الفساد بجهاز الإدارة العامة فقد قامت الحكومة الكينية بإصدار قانون لمحاربة الفساد والجريمة الاقتصادية وذلك في العام 2003، والذي حدد الإطار العام للفساد واشتمل على الرشوة وسوء توظيف المال العام وسوء استخدام السلطة واستغلال المناصب الإدارية.([32]) وبالرغم من ضعف العمل علي محاربة الفساد بالبلاد، إلا أنهم كانوا علي وعي بضرورة الاستمرار بوضع سياسات لمحاربته، حتى وإن كان بخطوات لم تكن شاملة وكبيرة كما ينبغي وكما يستدعي الوضع القائم، ولكن رغم ذلك فقد أتت هذه السياسات بنتائج ملموسة، ولا تزال الدولة الكينية مستمرة بطريقها وسياساتها لمكافحة الفساد.([33]) ونشير هنا إلى أن مكافحة الفساد لا تؤثر فقط على الجهاز الإداري بل على كافة الأصعدة في الدولة بأكملها؛ إذ يتابع المجتمع الدولي والقوى الكبرى والمؤسسات الدولية عن كثب ما يجري ببلدان أفريقيا والذي لاشك يؤثر على العلاقات الخارجية للدولة ومن ثم استثماراتها وانتعاش اقتصادها، فمثلًا في فبراير من عام 2020 أشاد الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، بجهود كينيا في مكافحة الفساد، مشجعًا الرئيس الكيني أوهورو كينياتا على مواصلة هذه الجهود؛ وذكر شتاينماير عقب محادثات مع كينياتا أنه من المهم أن تكون مكافحة الفساد من أولويات القيادة السياسية الكينية، مثلما أعلن كينياتا، وأضاف: “أن أي تقدم يتم كبير في مكافحة الفساد يصب في مصلحة الطرفين”.([34])
ولكن ذلك لا يعني بأنه لا توجد جوانب سلبية وإخفاقات لجهود وسياسات مكافحة الفساد بكينيا؛ وبخاصة فيما يتعلق بالدستور الكيني، فتأكيدًا على ما ذكرناه من قبل فيما يتعلق بالتحديات التي وقفت عائقًا أمام أي إصلاح حقيقي للإدارة العامة بكينيا، فلم يغلق الدستور بشكل صارم كافة منافذ ممارسات الفساد؛ بل أنه ساعد على بعض من أشكال هذه الممارسة، وذلك من خلال السلطات الواسعة التي منحها الدستور لرئيس الدولة، والتي جعلت منه شخصًا فوق القانون والمالك لموارد الدولة الأساسية. فضلًا عن غياب الأساس الدستوري للجان مكافحة الفساد في كينيا والذي كان يترك شكوكًا بشأن صلاحياتها. أضف إلى ذلك تحكم القيادات السياسية والبرلمانات في تشكيل هذه اللجان وتحديد صلاحياتها ما كان يؤثر سلباً لا شك على عمل هذه اللجان.([35])
كما أن القوانين التي أَنشأت لجان مكافحة الفساد في كينيا لم تُخّول سلطة الادعاء العام لهذه اللجان، الأمر الذي يجعل هذه اللجان في نهاية الأمر غير ناجحة في التحقيق بقضايا الفساد، ما يضطر هذه اللجان إلى إحالة قضايا الفساد إلى مكتب المدعي العام. وقد أثبتت الممارسة والتاريخ الطويل في مكافحة الفساد تهرب المدعي العام في معظم القضايا المتعلقة بالفساد، خاصةً عندما يكون المتهمين من الشخصيات المسئولة في الحكومة، ومثال ذلك تهرب النائب العام وعرقلته لتحقيقات عمل لجان مكافحة الفساد في قضيتي جولدنبرج Goldenberg والأنجلو- ليسنج Anglo-leasing.([36]) كما أن عدم ديمومة رئيس الهيئة الخاصة بمكافحة الفساد في منصبه، والذي يتم تعيينه أو إقالته حسب رغبة القيادة السياسية والنخبة الحاكمة وبما يحقق مصالح هذه النخبة، قد أثر بشكل سلبي على جهود مكافحة الفساد في كينيا.([37])
المحور السادس: رؤية تقييمية لتجربة إصلاح نظام الإدارة العامة الكيني وأهم التجارب المستفادة:
لعل أبرز ما يمكن ملاحظته بتجربة كينيا هو ما يتمثل في محاولة الدولة دومًا –رغم الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الداخلية والإقليمية والدولية، تغيير الأوضاع المعرقلة للإصلاح الإداري باتخاذ الملائم من سياسات وقرارات وتشريعات شيئًا فشيئًا، حتى وإن بدت في البداية بهذه السياسات والإصلاحات بعض من المثالب والثغرات وتعرضت للانتقادات إلا أنها تحاول المضي قُدمًا للأفضل وبخاصة فيما يتعلق بمكافحة الفساد ومساءلة الموظفين العمومين الكبار وهي واحدة من كبرى المعرقلات لأية محاولات للإصلاح الإداري ليس فقط بكينيا بل بالقارة الأفريقية والعالم بشكل عام، ورغم ذلك فبعض من هذه المحاولات الإصلاحية يؤتي ثماره حتى وإن لم يكن على النحو المأمول المكتمل، فمثلًا عند تتبع أرقام ومراتب كينيا بمؤشر مدركات الفساد فنجد أنها تتنقل إلى مراتب أفضل عن تلك التي كانت قد احتلتها في التسعينات على سبيل المثال، ففي السابق بأواخر التسعينات كانت ضمن الدول العشر الأكثر فسادًا بالعالم، أما الآن ووفقًا لآخر تقديرات مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2021، فهي باتت تحتل المرتبة 128 من أصل 180 دولة.([38]) نعم هي ليست المرتبة المثالية المأمولة ومازال أمامها الكثير والكثير، ولابد هنا من الإشارة إلى أن مثل هذه الإصلاحات الإدارية لابد وأن تأخذ الوقت الكافي، فالدولة بالطبع حتى وإن أرادات التغيير فلن تتمكن من إصلاح أخطاء استمرت لسنوات وسنوات بدأت منذ الحقبة الاستعمارية وفترات ما بعد الاستقلال.([39]) ولكن مقارنة بأوضاع سابقة بالقرن الماضي فلاشك أنها خطت ومازالت تخطو خطوات إيجابية يمكن بوضوح رؤية آثارها ونتائجها الإيجابية الملموسة على أرض الواقع.
على صعيد آخر نستعرض ما توصلت إليه إحدى الدراسات الصادرة عام 2012 بإحدى الجامعات الخاصة بكينيا United States International University-Africa؛ والتي قامت بعمل استطلاعات رأي لعينة مكونة من 125 فرد من موظفي الخدمة المدنية الذين يعملون بالقطاع العام الكيني. أوضحت نتائج الدراسة أن الموظفين بالخدمة العامة يعتبرون إصلاح القطاع العام عاملًا هامًا للغاية لتحسين ما يُقدم من خدمات للجمهور، لكن لوحظ أن هؤلاء الموظفين لم يكونوا راضيين تمامًا عن مستوى الإصلاحات التي تتم من قبل الدولة على الأرض. لكنهم في الوقت ذاته أعربوا عن رضاهم على عدد من الإصلاحات الإدارية كتلبية خدمات المواطنين بشكل جيد ووفاء الموظفين بالتزاماتهم تجاههم، إضافة إلى تقليل وقت الانتظار داخل الهياكل الإدارية وتخفيف الإجراءات البيروقراطية. كما أنهم كانوا راضون بشكل متوسط عن أدائهم لعملهم. كما أعربوا عن اهتمامهم الكبير بكل السياسات التي تعزز من نقل السلطة واللامركزية. وأخيرًا فقد خلصت الدراسة إلى ضرورة تكييف برامج وسياسات الإصلاح التي يتم جلبها من الخارج- المؤسسات الدولية المانحة والقوى الكبرى- بحيث أن تكون ملاءمة ومتسقة والخصوصية الكينية، وألا يتم تطبيق مثل هذه السياسات والبرامج بقوالبها الجامدة كما هي دون أي مراعاة للوضع والسياق الكيني.([40])
وأخيرًا نشير إلى أنه رغم أهمية الشركاء والمنظمات الدولية للمساعدة في تنفيذ هذه البرامج والسياسات إلا أنه لابد وأن يتم ذلك بأيدي مواطني الدولة أنفسهم ومن خلالهم، فهم الأقدر فهمًا على واقعهم والأكثر إدراكًا للكيفية التي سيتم بها ذلك الإصلاح، وذلك لا يمنع بالطبع من وجود المساءلة والمحاسبة إزاء ما يتم لإرساء قيم الشفافية والنزاهة والتأكد من مواكبة ما يتم من برامج للدولة الكينية.([41])
خاتمة وتوصيات:
في الأخير توصي الدراسة بضرورة اتخاذ عددًا من السياسات التي قد تساهم في مكافحة الفساد بكينيا وذلك كما يلي:
أولًا على مستوى الداخل الكيني:
- لابد من العمل علي إعداد خطة استراتيجية متكاملة لمكافحة الفساد بكافة المستويات بالجهاز الإداري.
- إعداد آلية إلكترونية آمنة لتبادل المعلومات حول جرائم الفساد، وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، مع التوسع في نشر جهود الأجهزة المعنية.([42])
ثانيًا: على المستوى الإقليمي:
- وجوب تضافر الجهود بالقارة ككل من أجل وضع مؤشر أفريقي لقياس الفساد بالقارة، بحيث يكون نابعًا من الدول الإفريقية، ومعبرًا عن واقع الحال في القارة، وخصوصية وطبيعة كل دولة من الدول الإفريقية وكذلك الإرث الخاص بها .
- ضرورة تدشين منصة قارية تتولي متابعة تطورات قضايا الفساد، ونتائج جهود المكافحة، ومتابعة التزام دول القارة الموقعة علي اتفاقيتي الأمم المتحد والاتحاد الإفريقي لعام 2003، من حيث قيام كل دولة باتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات وفقا لنظامها القانوني ومبادئها الدستورية للحد من ظاهر الفساد .
- ضرورة إجراء مراجعة مستمرة لآليات مكافحة الفساد والعمل على تطويرها لتتماشي وخصوصية الدول التي ستطبق فيها، مع التأكيد علي الأهداف المشتركة للدول الإفريقية في تحقيق مستوي عالٍ من الشفافية، علي أن يتم ذلك في المؤتمر السنوي لاتحاد هيئات مكافحة الفساد .
- لابد من تكثيف الجهود الرامية لتعزيز جهود مكافحة الفساد، خاصة دعم دور المجتمع المدني والقطاع الخاص في مواجهة الفساد بإفريقيا، وتنمية الموارد البشرية بمختلف أوجه مكافحة الفساد بالقارة الإفريقية.
- التأكيد علي ترسيخ مبدأ “الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية”، فالقارة الإفريقية هي الأكثر قدرة علي فهم تعقيدات مشكلاتها وخصوصية أوضاعها، ومن ثم فهي الأقدر علي إيجاد حلول ومعالجات جادة وملائمة للواقع، لتحقيق مصالح شعوبها وحمايته من التدخل الخارجي بشتى مظاهره وأنواعه.([43])
([1]) Kempe Ronald Hope, Managing the Public Sector in Kenya: Reform and
Transformation for Improved Performance, Journal of Public Administration and Governance, (Vol. 2, No. 4, 2012), p128
([2]) Jason Deegan, Public Administration in Kenya, On: https://jasondeegan.com/kenyan-public-administration/jason/
([3]) د. كمال المنوفي، مناهج وطرق البحث في علم السياسة (القاهرة، 2006) ص 36.
([6])Cherry Gertzel, The provincial administration in Kenya, Journal of Commonwealth Political Studies, (1966), p201.
([7])عَرَّف تشيروتي “Cherotich” شبكة المحسوبية بأنها علاقة غير متكافئة من الاعتماد المتبادل والمعاملة بالمثل.
([8]) قبيلة الكيكويو.. قبيلة ذات ثقل سكاني ونفوذ سياسي واقتصادي واسع، أفريقيا قارتنا (العدد 27، يوليو 2018) ص ص 53-54.
([9]) مكافحة الفساد السياسي في كينيا، وحدة دراسات حوض النيل، مجلة الدراسات الأفريقية والعربية، (29 مايو 2018)، على الرابط: shorturl.at/hquxI
([11]) C. Odhiambo-Mbai, Public Service Accountability and Governance in Kenya Since Independence, African e- Journal Project, (Vol8 No. 1, 2003), p113.
([12]) تعمل منظمة الشفافية الدولية بأكثر من 100 دولة حول العالم للتصدي للفساد وتعمل على كشف الأنظمة والشبكات التي تُعزز الفساد وممارساته. كما أنها تصدر مؤشر سنوي لمدركات الفساد يحتوي على قوائم مقارنة للفساد حول العالم.
لمزيد من المعلومات حول منظمة الشفافية الدولية انظر الرابط: https://www.transparency.org/en/about
([13]) C. Odhiambo-Mbai, Op.cit, p114.
([15]) Jason Deegan, Op.cit
([17]) Erunke Canice Esidene, Local Government Administration in Kenya: Problems and Prospects, (Nigeria, Nasarawa State University, February 2011), p7.
([18]) Alfred Ong’era and Beverly Muthoki Musili, Public Sector Reforms in Kenya: Challenges and Opportunities, (Kenya Institute for Public Policy Research and Analysis, No. 29, 2019), p3.
([20]) Idem.
(([21] لمزيد من المعلومات حول قانون أخلاقيات الموظف العام انظر الرابط: http://kenyalaw.org/kl/fileadmin/pdfdownloads/Acts/PublicOfficerEthicsAct.pdf
([22]) لمزيد من المعلومات حول قانون مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية انظر الرابط:https://rb.gy/x78sv4
([23]) مكافحة الفساد السياسي في كينيا، مرجع سبق ذكره.
([24]) الدستور الكيني الصادر عام 2010، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2010، ص ص 40-41.
([26]) دستور كينيا الصادر عام 2010، مرجع سبق ذكره، ص 105.
([27]) المرجع السابق، ص ص 107- 108.
([28]) المرجع السابق، ص ص 92-93.
([30])Erunke Canice Esidene, Op.cit, p14.
([31]) مكافحة الفساد السياسي في كينيا، مرجع سبق ذكره.
([32]) عبد الفتاح طارق، الفساد في إفريقيا.. التجربة الكينية، مجلة دراسات مجتمعية، (مركز دراسات المجتمع، 2008) ص 178.
([33]) ياسمين مجدي، جهود مكافحة الفساد في أفريقيا والدور المصري، السياسة الدولية، 9 نوفمبر 2021، متاح على الرابط: http://www.siyassa.org.eg/News/18177.aspx
([34]) الرئيس الألماني يدعو كينيا لمواصلة جهود مكافحة الفساد، موقع جريد الشروق الجديد، 24 فبراير 2020 متاح على الرابط: https://rb.gy/8sjt2q
([35]) مكافحة الفساد السياسي في كينيا، مرجع سبق ذكره.
([36]) تعد من أبرز قضايا الفَساد الكبير في كينيا، والتي تورط فيها كبار مسئولي الدولة والعديد من الوزراء خلال عهد الرئيس “موي”، وقد انطوت كلتا القضيتان على مدفوعات تقدمها الحكومة لشركات وهمية، والتي عادةً ما تكون واجهة لقيادات عليا في النظام الحاكم، مقابل تقديم خدمات وهمية؛ مما شكَّك في جدوى تقديم المعونات لكينيا.
([37]) مكافحة الفساد السياسي في كينيا، مرجع سبق ذكره.
([38])Transparency International Kenya, Transparency International, 2021, On: https://www.transparency.org/en/countries/kenya
([39]) Alfred Ong’era and Beverly Muthoki Musili, Op.cit, p6.
([40]) Lavender Otega, A Critical Analysis of Public Sector Reforms in Kenya: Challenges and Success, (United States International University-Africa, 2012) On: http://erepo.usiu.ac.ke/handle/11732/6488
([41]) Bertil Odén, Why are Public Sector Reforms so slow in Africa? (The Swedish International Development Cooperation Agency (Sida) 16 May, 2005). On:
https://www.sida.se/en/publications/why-are-public-sector-reforms-so-slow-in-africa