الاقتصاديةالدراسات البحثية

الإصلاح في إسرائيل: قراءة في حتمية تقوية الاقتصاد والتطلع للدين

اعداد : بن ميهوب نسرين – باحثة دكتوراه تخصص دراسات آسيوية  قسم العلوم السياسية، جامعة الجزائر 3 –

  • المركز الديمقراطي العربي

 

 

تمهيد:

تعد إسرائيل من أكثر الدول إثارة للجدل و النقاش حول سبب عدم تأثر اقتصادها بالأزمات الاقتصادية العالمية الكبرى، و استقرار نظامها السياسي و استمراره رغم تمركزه في محيط إقليمي يتّسم بالفوضى. و رغم أنّها طرف في صراع إقليمي غير محسوم. فقد تمكن صانع القرار الإسرائيلي من التأقلم و توظيف إمكانياته المحدودة و إدخال إصلاحات اقتصادية وسياسية أكّدت السمة الديمقراطية للنظام في علاقاته مع مواطنيه.

وعليه ستحاول هذه الدراسة تفسير سبب حصانة و قدرة إسرائيل في المحافظة على بقائها، من خلال استمرار نظامها الاقتصادي في النمو و التطور رغم الأزمات الداخلية و آثار الأزمات العالمية، و استمرار نظامها السياسي رغم الخلاف العميق حول هوية الدولة.

تركز هذه الدراسة على محورين، الأول يتعلق بالاقتصاد الإسرائيلي ومدى تأثره بالأزمات المالية العالمية، و الثاني يتطرق إلى الإصلاح الداخلي، و ذلك من خلال طرح تساؤلين رئيسيين:

  • ما سبب عدم تأثر الاقتصاد الإسرائيلي بالأزمات الاقتصادية الكبرى؟.
  • هل الإصلاح في إسرائيل كدراسة حالة يتم بالاعتماد على المنطلقات الدينية، أم على الأفكار الوضعية مع الادعاء أنّها لا تتعارض مع الاجتهاد؟

ويتفرع عنهما السؤالين الآتيين:

  • ما هي خصائص الاقتصاد الإسرائيلي وما هي ركائزه؟
  • هل هناك توافق فعلي بين المعتقد الديني و الفكر العلماني في إسرائيل؟

المحور الأول: أثر الأزمات الاقتصادية العالمية الكبرى على الاقتصاد الإسرائيلي.

تمكنت الحركة الصهيونية Zionism منذ تشكيلها في أواخر القرن التاسع عشر من توظيف إمكانياتها المحدودة في كسب الدعم السياسي والمالي للقوى الدولية الأوروبية المسيطرة آنذاك، لصالح خدمة مشروع إنشاء الدولة القومية اليهودية، واستمرّت على هذا النوع حتى بعد إعلان قيام دولة إسرائيل على أراضي فلسطين في 15 ماي 1948 من طرف “داوود بن غوريون”. وبفضل حسن التسيير والتخطيط الاستراتيجي المحكم، تحول اليهود من الشتات إلى دولة ديمقراطية متقدمة اقتصاديا ومتفوقة علميا وتكنولوجيا و عسكريا، و ذات تأثير فعال في السياسات العالمية.

ومن المفيد أن نذكر هنا، أنّ مساحة إسرائيل Israel لا تتعدى 22.145 كم2 و يبلغ عدد سكانها 8.380.400 مليون نسمة (سنة 2015) حسب بيانات البنك الدولي[1]. وتنقسم تركيبتها السكانية إلى عدة أيديولوجيات (شرقيين وغربيين/ متدينين وعلمانيين/ اشتراكيين وليبراليين)، و أعراق (عرب ويهود). كما تعدّ دولة استعمارية تحتل الشعب الفلسطيني بالقوة، وتواجه مقاومة مسلحة داخلية (المقاومة الفلسطينية) وخارجية (حزب الله اللبناني).

رغم أنّ المعطيات السابقة تشير في مدلولها المادي التجريدي إلى نقاط ضعف كانت لتجعل من إسرائيل أضعف كيان في “الشرق الأوسط” و ربّما كانت عوامل تؤدي إلى زوالها. لكن صانع القرار الإسرائيلي وظّف كل القدرات و طوّرها وهو ما جعل إسرائيل تصنّف في المرتبة (16) عالميا من حيث القوة العسكرية والثالثة (03) في منطقة “الشرق الأوسط” بعد تركيا و مصر[2]. و من أقوى الدول اقتصاديا و أكثرها تفوقا في مجالي التكنولوجيا و البحث العلمي.

وهنا يمكن التلميح إلى أن قدرة صانع القرار في تطوير القدرات مكّنت إسرائيل من السيطرة على الأزمات الاقتصادية، فقد نجحت في التعافي من أزمة ما بعد حرب أكتوبر 1973 وأزمة البورصة في 1983، وحققت نمو اقتصادي بلغ 5.4 % سنة 2007.

ومن هذه النقطة، تعاملت إسرائيل بنفس السياسة الحكيمة مع آثار الأزمة المالية في 2008 (أزمة الركود العالمي). حيث لم تتراجع وتيرة النمو أكثر من 1% [3]، وهذا ما أثار العديد من التساؤلات، خاصة إذا علمنا إن إسرائيل تعد ثاني أكبر بلد – بعد كندا – كمستثمر برؤوس الأموال في بورصة نيويورك.

سنحاول تفسير عدم تأثر الاقتصاد الإسرائيلي بالأزمات العالمية الكبرى، من خلال ما يلي:

  • أولا: أسس الاقتصاد الإسرائيلي قبل تأسيس الدولة، عن طريق رؤوس الأموال المنقولة من طرف اليهود القادمين من أوروبا و روسيا، إلى جانب الزراعة بعد الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين ومزارعهم ما سمح لها بتحقيق الاكتفاء الذاتي. كما سيطرت نقابة العمال “الهستدروت” على الاقتصاد واكتسب صفة اشتراكية في بدايته.

لكن، شهد الاقتصاد تحولا نسبيا مع العام 1952، حيث ساهمت التعويضات الألمانية لليهود على حادثة الهولوكست، في ازدهار مجال الصناعة و إنعاش الصادرات إلى الكثير من الدول الأوروبية. وبعد الستينيات أسست إسرائيل صناعة حربية ليس فقط للدفاع الذاتي و إنما للتصدير الخارجي أيضا، وبذلك أصبحت دولة منتجة و مصدرة للأسلحة الثقيلة و المتطورة بفضل الاعتماد على التكنولوجيا التقنية الحديثة.

لنقل إذن، أن إسرائيل طورت اقتصادا متنوعا يعتمد على عدة قطاعات (الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا والبحث العلمي)، إلى جانب الركيزة الأساسية التي تتمثل في المعونات المالية الخارجية خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والجاليات اليهودية في الخارج.

  • ثانيا: نجحت الحكومة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة في إيجاد حد أدنى للتفاهم و الحوار مع مختلف فئات وشرائح المجتمع الإسرائيلي لوجود قناعة راسخة بأولوية المصلحة العليا للدولة وبقائها، فخلال أزمة 2008 على سبيل المثال و نتيجة لهذا التفكير الإيجابي قبل اللاعبون الرئيسيون في سوق العمل الإسرائيلية – وأولهم “الهستدروت” – تخفيض الأجور لفترة قصيرة في المراحل المبكرة من الأزمة[4]، والتي رفعت من جديد بعد التعافي السريع سنة 2009.

ومن نافلة القول، أنه وبالرغم من توجه إسرائيل نحو تقليص دور الحكومة وتحرير السوق والخصخصة منذ 1985 في إطار العملية الإصلاحية؛ إلا أنّ القطاع المصرفي يخضع لإدارة محافظة وتقاليد بنكية معتدلة وجهاز تنظيمي قوي[5]، وهو ما شكل عامل استقطاب للاستثمارات الأجنبية.

إذن، يمكن تفسير عدم تأثر اقتصاد إسرائيل بالأزمات العالمية إلى عدم تأثر الجهاز المالي في إسرائيل الذي تشرف عليه إدارة حكيمة و عقلانية، واستمرار تدفق الأموال من الخارج. فحصانة سوق المال وأداءه الفعال منعا حدوث أزمة اقتصادية.

المحور الثاني: الإصلاح في إسرائيل بين الدين و العلمانية.

يركز هذا الجزء من الدراسة على جانب مهم وهو الإصلاح السياسي في إسرائيل من خلال البحث في علاقة الدين بالدولة.

يعدّ النظام السياسي الإسرائيلي نظاما ديمقراطيا، تختلف مصادره الفكرية بين الاشتراكية والقومية واليهودية التي تكمل تكوين الحركة الصهيونية المؤسسة للدولة. يتكون من ثلاث سلطات (تنفيذية، تشريعية و قضائية).

وعليه، فمن مميزات هذا النظام أنّ البرلمان الذي يصطلح عليه بـ (الكنيست) يتمتّع بأعلى سلطة فهو الذي يشكل الحكومة (المجلس الوزاري) ويختار الرئيس الذي يملك منصب شرفي رمزي، مقابل رئيس الوزراء الذي يتمتع بصلاحيات واسعة. ولعلّ أهم ميزة للنظام السياسي في إسرائيل، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بموضوع هذا الجزء من الدراسة، هي عدم وجود دستور مكتوب وإنّما مجرد قوانين أساسية، حيث يرجع السبب في هذا إلى رغبة صانع القرار الإسرائيلي في تجنب تعميق “أزمة هوية الدولة” وحتى لا تكون هذه الأزمة بدورها سببا في تصدع الدولة و انقسامها وبالتالي إمكانية تقلصها أو زوالها، و سنوضح في الفقرات التالية ماهية هذه الأزمة وسببها.

وما يمكن الإشارة إليه هنا، هو أن الحركة الصهيونية اعتمدت على النزعة الدينية في إقناع اليهود المشتتين بالهجرة إلى “أرض الميعاد” أي فلسطين، لكن هذا لم يمنعها من تقديم نفسها كحركة علمانية ولم ينف حقيقة عدم تمسك مؤسسي و أعضاء الحركة بتعاليم الديانة اليهودية وفي مقدمتهم “ثيودور هرتسل Theodor Herzl “، مما أفرز جدلا عميقا رافق نشأة الدولة يتمثل في دور العامل الديني في مؤسسات الدولة وفكرها وسياستها.

يندرج هذا الجدل ضمن المفاوضات بين الأحزاب السياسية الدينية والقيادة العلمانية للحركة الصهيونية حول هوية الدولة، التي أرادها الطرف الأول دينية Religious ، في حين دعا الطرف الثاني إلى جعلها علمانية secularism. والدليل على ذلك ما وقع عشية إعلان قيامها في 14 ماي 1948، فقد جرى نقاش عميق حول إدراج عبارة “الحصول على الاستقلال بمساعدة الرب و بقوته الكبرى” في نص الإعلان. وسُوِّيَ الأمر باقتراح من “بن جوريون”، حيث اقترح النص التالي على المجتمعين: (بثقتنا برب إسرائيل نوقع بأيدينا كشهود على إعلاننا هذا في دورة أعضاء مجلس الدولة المؤقت بمن فيهم أعضاء الحكومة المؤقتة هنا في المدينة العبرية تل أبيب في هذا اليوم مساء السبت 14 ماي 1948م)[6]. و لعدم تعميق الخلافات بين المتدينين و العلمانيين بالشكل الذي يؤثر على تماسك الدولة واستمرارها، تجنب المؤسسون وضع دستور مكتوب يحدد صفة الدولة الحقيقية وطبيعتها.

وتجب الإشارة هنا، أن “بن غوريون Ben-Gurion ” بعد قيام الدولة كتب يقول : “على اليهود من الآن فصاعدا ألا ينتظروا التدخل الإلهي لتحديد مصيرهم بل عليهم أن يلجؤوا إلى الوسائل الطبيعية العادية مثل الفانتوم والنابالم”[7]. وبعد اعتزاله العمل السياسي صرح بقوله: “كنت مصمما على أن تكون إسرائيل دولة علمانية تحكمها حكومة علمانية وليست دينية”[8].

ومن هذه النقطة، فإنه وبالرغم من أن هذه التصريحات مؤسسة فكريا، إلا أنّ صانع القرار لم يتمكن واقعيا من تجسيد الفصل الفعلي للدين عن الدولة وعلمنتها. وعلى النقيض من ذلك؛ تم إملاء الحياة الدينية على جميع المواطنين الإسرائيليين، مثل فرض حرمة يوم السبت على جميع مؤسسات الدولة والمرافق العامة، وفرض تناول الطعام المعدّ حسب الشريعة اليهودية، ولا يعترف إلا بالزواج الذي يعقد في المحاكم الدينية، زيادة على هذا فإنّ هذه الأخيرة تملك صلاحيات واسعة في البث بالعديد من القضايا خاصة الأحوال الشخصية[9].

الجدير بالذكر، أنه برغم الصراع بين المتدينين و العلمانيين في الداخل الإسرائيلي، إلا أنّ الدولة لم تملك خيارا سوى في التّمسك بالدين، لأنّ تغيير توجهها قد يفقدها أساس شرعيتها والعامل الذي تحافظ من خلاله على التفاف الرأي العام الداخلي حولها لمساندة القرارات و القضايا التي تعزز قوة إسرائيل وتوسّعها. فنظرا للتنوع العرقي و الأيديولوجي وظّفت إسرائيل الدين كعامل “لم الشمل”؛ و”قومنة”[10] اليهود لتحافظ على التماسك و البقاء.

في هذا السياق، حاول النظام الإسرائيلي بحكوماته المتعاقبة إقامة نوع من المهادنة والتوافق بين المتدينين والعلمانيين من خلال تشكيلة الحكومة التي تمثل الطرفين وإعطاء الحق لكل مواطن بالمشاركة في إدارة الدولة وبالتالي تعزيز الإحساس بالانتماء، كما رسّخت واجب الدفاع عن الوطن كمهمة مقدسة يتمّ بموجبها انخراط الشباب و الفتيات في المؤسسة العسكرية و التجنيد في الجيش، وتشجيع هؤلاء الجنود على تعلم التكنولوجيا لإنشاء مؤسساتهم الاقتصادية الصغيرة الخاصة.

الاستنتاج:

ما يمكن استنتاجه من خلال ما سبق، أنّ إسرائيل تمكنت من بناء اقتصاد قوي متنوع وسوق مالي عالي الأداء محصّن ضد الأزمات العالمية، لكن هذه الحصانة ليست دائمة فرغم التطور التكنولوجي الموظّف في الاقتصاد إلاّ أنّه في حالة توقف المعونات المالية الخارجية ودخولها في أي حرب إقليمية مباشرة قد يتراجع النمو.

أما فيما يخص الإصلاح السياسي، فرغم محافظة صانع القرار على المنطلقات الدينية وتعاليم الشريعة اليهودية في تنظيم الحياة اليومية، إلا أنّ أغلب القوانين الوضعية تتعارض مع تلك التعاليم مثل تجنيد النساء في الجيش وأيضا عدم تحديد وضعية المتدينين في صفوف الجيش. وبالتالي، وجود صراع و صدام بين ما هو ديني وما هو وضعي، قد يصعّب نجاح الإصلاح، وتعدّ إسرائيل أكبر دليل على هذا الطرح، حيث أنّ الخلاف بين المتدينين والعلمانيين أحدث تصدّعا اجتماعيا وانقساما داخليا، وتحوّل إلى أزمة هوية – في حال تطورها – قد تهدّد استمرار الدولة و وجودها.

قائمة المراجع:

[1] Israel. The World Bank. At : data.worldbank.org/country/israel.

[2] Countries ranked by military strength. (2016). At : www.globalfirepower.com/countries-listing.asp

[3] شموئيل ايفن و نتسان فيلدمان. دراسة: الأزمة الاقتصادية العالمية و تأثيراتها في دول المنطقة وفي إسرائيل. وكالة فلسطين اليوم الإخبارية، 29 نوفمبر 2009. على الرابط:

https://paltoday.ps/ar/post/64262/إسرائيل-وفي-المنطقة-دول-في-وتأثيراتها-العالمية-الاقتصادية-الأزمة-دراسة

[4] الاقتصاد الإسرائيلي. موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية. على الرابط:

www.gov.il/MFAAR/informationaboutIsrael/Economy/Pages/economy%20-%20introduction.aspx

[5]  نفس المرجع.

  [6] تيسير خروب، “الدين و الدولة في إسرائيل.” الحوار المتمدن، العدد 1067، 3 جانفي 2005. على الرابط:  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=29142

[7] نفس المرجع.

[8] نفس المرجع.

[9] غادة عايش خضر. “أسرار نجاح النظام الإسرائيلي.” مدونة أكتب. على الرابط: https://oktob.io/posts/1518

[10] ماجد الكيالي، “إسرائيل الدينية وإسرائيل العلمانية.” صحيفة العرب، العدد 10305، 13 جوان 2016، ص8. على الرابط: www.alarab.co.uk

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى