الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

من الانتداب إلى الوصاية

بقلم : د. عقل صلاح – *كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تهدف هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على الانتداب البريطاني على فلسطين في 11أيلول/سبتمبر 1922 حيث أقرت عصبة الأمم الانتداب بشكل رسمي على أساس وعد بلفور سنة 1917. وغطت منطقة الانتداب المنطقة التي تقع فيها اليوم كل من (دولة الاحتلال الإسرائيلي) وقطاع غزة، بالإضافة إلى منطقة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية). وفي 22 تموز/يوليو من نفس السنة أعلنت شروط الانتداب البريطاني لفلسطين، وجاء فيها أن الانتداب مسؤول عن تنفيذ إعلان وعد بلفور. لم يكن وعد بلفور جزءاً من سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين فقط، وإنما أصبح جزءاً أصيلاً من مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها الخاصة بالقضية الفلسطينية. وتناقش المقالة الوصاية الجديدة والمتمثلة في مشروع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أعلن عنه تحت مظلة المشروع الأمريكي حول السلطة الانتقالية الدولية في القطاع والذي يريد له أن يأخذ الموافقة والشرعية الدولية، وكأن التاريخ يعيد نفسه على شكل الوصاية بدلًا من الانتداب ويكرر حصول الوصاية الأمريكية الجديدة على التبني من قبل الأمم المتحدة كما حصل الانتداب البريطاني عليها. والأمريكي ترامب يسعى أن يصبح هذا المشروع جزءًا من صفقة القرن التي تعد الوعد الثاني بعد التي تم الإعلان عنها في 6كانون الأول/ديسمبر2017 وبناء عليها تم الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال-إسرائيل- وتم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس المحتلة.

المعنى الجوهري لهذا المشروع يكمن في أنه وصاية دولية جديدة على غزة، ولكن هذه المرة الوصاية من خلال الإدارة الأمريكية وليست البريطانية كما حصل أيام الانتداب البريطاني، بعد وعد بلفور الذي انتهى في احتلال فلسطين سنة 1948. في الوقت الحاضر يهدف مشروع ترامب لوصاية من أجل إنهاء القضية الفلسطينية وتأبيد الاحتلال وإضفاء صبغة قانونية دولية على ممارسات إسرائيل بحق القضية الفلسطينية، ولعل إقرار القرار رقم “٢٨٠٣” في مجلس الأمن في 17تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يؤكد الوصاية الجديدة على القطاع وينص على تجريد غزة من السلاح، وهذا ليس الحل الذي يطمح له شعب تحت الاحتلال، فالقرار لا يعطي الشعب حق تقرير المصير، ويتآمر على مصير تضحيات القطاع.

وتشكل بنود هذا المشروع الكثير من المخاطر على القضية الفلسطينية، أولها، أنها قد تصل لمرحلة الوصاية ليس على غزة لوحدها وإنما تصل لمرحلة الوصاية على السلطة الفلسطينية من خلال بند يحدد أن مرجعية أي بند أو قرار هو القوة واللجنة التي تسعى إلى إعفاء الاحتلال وتجميل وجهه القبيح، ستعمل أمريكا على تحقيق أهداف بعيدة لإسرائيل منها توسيع عملية التطبيع مع الدول العربية والخليجية بالإضافة إلى محاولة تحويل الملف الفلسطيني إلى ملف مفاوضات على المفاوضات “مقايضة”. والخطر الثاني، يتمثل في شطب الدور السياسي الفلسطيني والتعامل مع القطاع باستقلالية عن الشأن الفلسطيني العام، واقتصار الدور الفلسطيني للسلطة الفلسطينية بالدور الخدماتي بالتنسيق مع مسؤول القوة.

أما الخطر الثالث، يكمن بأن جميع الحلول والاقتراحات على مدار المفاوضات الدائرة من قبل الوسطاء وبالتحديد من قبل الإدارة الأمريكية تنص على تحويل الحلول المؤقتة إلى مشروع دائم، وحتى الانتداب البريطاني الذي من المفترض أن يكون مؤقتًا استمر أكثر من عقدين وأفضى بإقامة الدولة اليهودية. والخطر الرابع، يتجسد في أن جميع البنود الواردة في المشروع الأمريكي بحاجة إلى شروحات وبعضها مبهم ومتروك لتفسيرات رئيس المجلس، وهو القائد السياسي الأعلى والمتحدث باسم الهيئة وهذا يعني أن الدور السياسي هو بيد قائد الوصاية الأمريكية وليس بيد السلطة الفلسطينية. والخطر الخامس، لهذا المشروع والمهم هو قطع الطريق على الدور الدولي والقانون الدولي الذي يطالب بحل جذري من خلال الاعتراف في الدولة الفلسطينية، والمشروع لا يضع سقفًا زمنيًا لتجسيد الدولة، وربط دور السلطة الفلسطينية بتنفيذ عملية الإصلاح المطلوبة منها أوروبيًا. وهل يمكن للسلطة إنجاز الإصلاح خلال سنتين وما هو المطلوب إصلاحه بعد رواتب الأسرى وتعديل مناهج التعليم، والإبقاء على الملف الفلسطيني باليد الأمريكية التي لا تريد إنهاء الاحتلال وتريد حلول ترقيعية وترحيلية وانتقالية وتشريع هذا المشروع دوليًا، بدلًا من تشكيل قوة دولية لحماية الشعب الفلسطيني من الممارسات الاحتلالية، وتكوين قوة مراقبة للحدود والتهيئة لحل سياسي جذري بدلًا من التآمر المستمر على تضحيات الشعب الفلسطيني منذ ثورة البراق عام 1929 مرورًا بثورة الـ 1936 والثورة الفلسطينية 1982 والانتفاضة الأولى 1987والثانية 2000 وانتهاء بمعركة الطوفان 2023.

والخطر السادس، يتمثل في الترتيبات الميدانية التي تجريها جهات أميركية في قطاع غزة، عبر التعاون مع المليشيات العميلة المسلحة إسرائيليًا، بهدف توفير الأمن في بعض المناطق التي تشهد انتشارًا عسكريًا إسرائيليًا وتدخلًا لوجستيًا دوليًا من بينها ميليشيا أبو شباب وميليشيا حسام الأسطل لخلق بديل عن حركة حماس؛ ويكمن الخطر في القيام بعملية تغيير لبعض بنود أو مهام ما تسمى “قوة الاستقرار الدولية” وصياغة بروتوكول يمنح المليشيات شرعية أمريكية في مواجهة حماس.

والخطر السابع، يكمن في المشروع الذي قدمته الإدارة الأمريكية لمجلس الأمن من أجل تحقيق ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه خلال سنتين من حرب الإبادة والتجويع والتدمير لإجبار المقاومة على نزع سلاحها وتفكيك بنيتها التحتية وبالتحديد شبكة الأنفاق، وهي محاولة التفافية على المقاومة ومحاولة لقتل الصمود الأسطوري والمنقطع النظير لشعب غزة. فبعد الفشل الذريع للحرب، هرع ترامب لإنقاذ إسرائيل وللبحث عن نصر لها بعد الهزيمة المدوية من خلال المشروع السياسي الذي طرحه، وكأنه يريد إعادة تجربة خروج الثورة الفلسطينية من بيروت سنة 1982.

الخطر الثامن، يكمن في استمرار الحصار المطبق على القطاع منذ عقدين تقريبًا وذلك من خلال هذا المشروع الذي يحاول منح الشرعية للحصار وجعله قانونيًا ودوليًا، حيث يصبح كل رد فعل للمقاومة على الاحتلال خرقًا للشرعية الدولية. وبظل هذا التوجه يصبح الحق المشرع دوليًا بمقاومة الاحتلال تهديدًا لمشروع ترامب المغطى دوليًا، والمطلوب من التحالف الدولي مواجهة المقاومة وتجريدها من عناصر قوتها، وهنا تأخذ الحرب شكل المواجهة العلنية من خلال القرارات الأمريكية وليست القنابل والصواريخ الأمريكية.

ليس هذا فقط، بل تسعى إسرائيل لضمان أن يمنح مجلس الأمن الدولي القوة الدولية المزمع نشرها في قطاع غزة تفويضًا واسعًا، بما يسمح لها باستخدام القوة ضد حماس ونزع سلاحها، وطالبت إسرائيل بأن يُمنح التفويض بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بما يتيح للقوة الدولية العمل على “إحلال السلام” باستخدام القوة عند الضرورة، وليس مجرد “حفظ السلام” وفق البند السادس.

في الحقيقة التي لا تريد إسرائيل سماعها أو تطبيق بنودها، أن هناك العشرات من القوانين الدولية التي تدعوا إلى إنهاء الاحتلال وليس البند السابع فقط، فهناك العديد من البنود التي تدعو إلى تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية ومحاسبة الاحتلال وعدم ارتكاب جرائم الإبادة والتجويع والقتل والحصار وغيرها من الممارسات الاحتلالية التي تتعارض مع جميع القوانين الإنسانية والشرعة الدولية.

الخطر التاسع لهذا المشروع، هو استهداف غزة التي كبدت إسرائيل هزيمة شاملة أمنيًا وإعلاميًا وأخلاقيًا وعسكريًا، وأذلت الأمن الإسرائيلي وقوتها العسكرية الخارقة الدفاعية والهجومية على مدار سنتين؛ فقد حاول ويحاول ترامب إعادة الصورة العسكرية لإسرائيل إلى ما قبل السابع من أكتوبر، فهذا المشروع هو ضربة لغزة التي شكلت رأس حربة المقاومة وخلقت فكراً مقاومًا جديدًا قادرًا على توجيه ضربة لإسرائيل.

الخطر العاشر والأخير، وهو تحويل القضية من قضية حق واحتلال إلى قضايا إنسانية ومساعدات وخلق إدارات غزاوية منسجمة مع ترامب والاحتلال، واستخدام قضية الإعمار لابتزاز المقاومة والشعب الفلسطيني، وهذه الخطة تسعى لضرب أي تفكير في مقاومة الاحتلال وردع أي تحرك مستقبلي لمقاومة إسرائيل وتحميل الضحية الفلسطينيين المسؤولية وإعفاء المجرم الاحتلال، وتأمين وحماية إسرائيل لخمسة عقود قادمة.

وهنا يبرز سؤال حول هل يمكن مواجهة هذا المشروع؟ نعم يمكن مواجهته، وهذا يتطلب موقفًا فلسطينيًا موحدًا في الدرجة الأولى، وموقفًا عربيًا ودوليًا في الدرجة الثانية من خلال طرح مشروع فلسطيني موحد قائم على الوحدة الوطنية الإسلامية على أرض الواقع من خلال الاتفاق على إدارة الشأن الفلسطيني في القطاع، ورفض الوصاية الجديدة وإعادة الملف الفلسطيني إلى نقطة البداية، والعمل الفوري على تشكيل حكومة وفاق فلسطيني تتجسد مهامها بإدارة الشأن الفلسطيني وبالتحديد القطاع، والترتيب للانتخابات التشريعية والرئاسية خلال سنة ونصف. غير ذلك سيكون تدميرًا للقضية الفلسطينية ومشاركة في تمرير مشروع الوصاية الكبير الذي يقزم القضية الفلسطينية ويحولها لقضية إنسانية خدماتية وليست قضية سياسية أو قضية الخلاص من الاحتلال.

فالانتداب والوصاية وجهان لعملة واحدة، الهدف منهما هو عدم إنهاء الاحتلال وتثبيت إسرائيل من خلال التآمر المستمر على تضحيات الشعب الفلسطيني، والتآمر على الثورات والانتفاضات والطوفان من خلال منع تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها، وهذا بجهد الغرب والموقف الأمريكي الداعم على جميع الصعد والمستويات من أجل بقاء إسرائيل وتسييدها على الشرق الأوسط، أملًا منهم بتسليم الشعب الفلسطيني بسياسة الأمر الواقع ورفع الراية البيضاء والتأقلم مع الاحتلال، لكن التاريخ يوضح لإسرائيل ومن خلفها أمريكا أن المقاومة مستمرة مادام الاحتلال قائمًا.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى