العلوم البينية وإعادة تشكيل الفعل السياسي: دراسة في التسويق السياسي والإعلام الرقمي
Interdisciplinary Studies and the Reconfiguration of Political Action: A Study in Political Marketing and Digital Media

اعداد : عبد الرحمن محمد محمد غزالة – إشراف : د. رجب الطلخاوى
- المركز الديمقراطي العربي
المستخلص:
إن العلوم الاجتماعية قد تكون منفصلة من الجانب الأكاديمي إلا أن الظواهر التي ندرسها ليست كذلك بأى شكل من الأشكال لذلك وجب سد هذا الفراغ بشكل أو بآخر لذلك نجد العلوم البينية تأتى بالحل وعلى رأسها التسويق السياسى الذي أصبح يلعب دور مهم في تشكيل الرأي العام وتوجيهه والتأثير على سلوك الناخبين وبل على صورة المرشحين الذهنية لدى الناخبين وستعرض هذه الدراسة نشأت هذا العلم وما هي أصوله وما المواضع التي طبق فيها وما نتائج التطبيقات الخاصة به.
Abstract
Although the social sciences may appear distinct in their academic domains, the phenomena they study are inherently interconnected and inseparable. Hence, it becomes necessary to bridge this gap through interdisciplinary approaches. Among these, political marketing stands out as a key field that plays a significant role in shaping and directing public opinion, influencing voter behaviour, and constructing candidates’ mental images among the electorate. This study explores the origins of this field, its theoretical foundations, the contexts in which it has been applied, and the outcomes of its practical implementations.
المقدمة:
باتفاق جميع العلماء والمنظرين والفلاسفة فإن الإنسان هو كائن اجتماعى بطبعه فمنذ العصور القديمة لاحظ الفلاسفة أمثال أرسطو أن الإنسان يميل بفطرته إلى التجمع وإنشاء الجماعات مع بنى جنسه من بنى البشر فنجده شكل أول وحدة هي الأسرة والأسر شكلت قرى والقرى تجمعت لتشكل الدولة المدينة الإغريقيّة قديما ولم يكن أرسطو هو وحده من لاحظ مثل هذا الأمر، بل أكد على ذلك بن خلدون في مقدمته الشهيرة حيث أشار إلا أن الإنسان مدني الطبع أي أنه يميل لتشكيل المجموعات، وسواها ارتأيت أن الأمر فطري أو أنه يتطبع بالإنسان منذ نشأته كما يقول علماء النفس التطوريون ، ولكن هنالك أأمر وحيد لايمكن إغفاله أو طمسه ألا وهو أن (الإنسان والمجتمع والدولة ) جميعها ظواهر متلازمة النشأة ولا تستقيم الواحدة دونما الأخرى ولعل هذا ما دفع فلاسفة العقد السياسى (هوبر ،ولوك ،وروسو ) إلى الربط بين المجتمع ونشأة المجتمع وهذا يعطينا مؤشراً على مدى فهم أولئك بأن الظاهرة السياسية لا تعدو أن تكون سوى جزء لا يتجزأ من الظاهرة المجتمعية الأولى وأنه رغم الفصل الذى حدث بشكل أكاديمى إلا أن الظاهرة المجتمعية تعد من أكثر الحقول صعبة الدراسة حيث أنها تنشأ من رحم تفاعل الإنسان مع بيئته ومع غيره من بنى جنسه مما يجعلها من أكثر الظواهر تعقيدا وتشابكا وديناميكية فعلى الرغم من الانفصال الحادث أكاديميا نجد أنه لم نجد مهرب من إنشاء فروع جديدة تجمع بين علمين أو أكثر من العلوم الاجتماعية معا وذلك لمساعدتنا على تفكيك الظاهرة وفهم عناصرها بشكل أعمق وبل تقديم تحليل دقيق لها ومن يعلم من الممكن أن تنبأ ببعض الظواهر مستقبلا لذلك نرى علوم مثل علم الاقتصاد السياسى الذى يجمع بين علم الاقتصاد والسياسة وعلم اجتماع السياسة والذى يجمع بين علم الاجتماع والسياسة والجغرافيا السياسية والتي تجمع بين علمي الجغرافيا والسياسة كل هذه العلوم وغيره فهمت قصورها إذا اعتمدت فقط على تحليل الظاهرة الاجتماعية من منظور واحد وبمعزل عن الدراسات الأخرى ونحن في هذه الدراسة سنتناول أحد هذه الأفرع التي نشأت من هذا التداخل ألا وهو علم التسويق السياسى والذى يربط بين أكثر من علم معا أولهم بالتأكيد علم السياسة والإعلام والنفس.
المشكلة البحثية:
شهدت العقود الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في توظيف أدوات التسويق في المجال السياسي، سواء في الحملات الانتخابية أو إدارة الصورة العامة للأنظمة والحكومات. وقد أدى هذا إلى ظهور مجال التسويق السياسي كأحد أبرز ميادين التفاعل البيني بين العلوم السياسية وعلوم الإعلام والإدارة وعلم النفس الاجتماعي.
إلا أن هذا التداخل يطرح إشكالية علمية حول حدود العلاقة بين العلوم السياسية والتخصصات الأخرى، ومدى قدرة هذا التفاعل على تفسير وتحليل السلوك السياسي المعاصر، لا سيما في ظل تحولات البيئة الاتصالية وصعود الإعلام الرقمي.
ومن هنا تنبع المشكلة البحثية في التساؤل الآتي:
إلى أي مدى يُمثل التسويق السياسي نموذجًا تطبيقيًا ناجحًا للدراسات البينية في العلوم السياسية، وما انعكاساته على العملية الديمقراطية وتشكيل الرأي العام في المنطقة العربية؟
ما موقع التسويق السياسي ضمن منظومة الدراسات البينية في العلوم السياسية، وكيف أسهم هذا التداخل في تطوير فهم جديد للعلاقات بين الحاكم والجمهور في العصر الرقمي؟
التساؤلات الفرعية:
- ما المقصود بالدراسات البينية؟ ومتى بدأ الاهتمام بها في حقل العلوم السياسية؟
- كيف نشأ مفهوم التسويق السياسي، وما أبرز مقوماته وأدواته؟
- ما أوجه التداخل بين العلوم السياسية والإعلامية والإدارية والنفسية في دراسة التسويق السياسي؟
- كيف ساهم التسويق السياسي في إعادة تشكيل العلاقة بين النخب السياسية والجمهور؟
- ما أبرز التحديات الأخلاقية والسياسية المرتبطة بتوظيف أدوات التسويق في المجال العام؟
أهداف الدراسة:
- توضيح مفهوم الدراسات البينية وأهميتها في تطور حقل العلوم السياسية.
- تحليل التسويق السياسي كنموذج تطبيقي للتفاعل بين العلوم السياسية وغيرها من العلوم الاجتماعية.
- دراسة أثر أدوات التسويق السياسي في تشكيل الاتجاهات العامة والسلوك الانتخابي.
- تقييم دور التسويق السياسي في ترسيخ أو إضعاف الممارسات الديمقراطية.
- استشراف مستقبل العلاقة بين الإعلام والسياسة في ضوء التحولات الرقمية.
منهج الدراسة:
تعتمد الدراسة على المنهج الاستقرائي، الذي يقوم على تتبّع التطور التاريخي والفكري لمفهوم التسويق السياسي ضمن الإطار العام للدراسات البينية في العلوم السياسية، مع تحليل كيف أثّر هذا التطور في صياغة فهم جديد للعلاقات بين الفاعلين السياسيين والجمهور.
ويتيح هذا المنهج استنتاج الاتجاهات العامة في تطور التسويق السياسي من خلال رصد المراحل المختلفة التي مرّ بها، والوقوف على التحولات النظرية والتطبيقية التي شكّلت ملامحه الراهنة في البيئة الرقمية المعاصرة.
الإطار الزمني:
تمتد الدراسة من عام ١٩٥٢ (مع بروز استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في الحملات السياسية عالميًا) حتى عام ٢٠٢٥، وهي مرحلة شهدت تطورًا كبيرًا في أدوات التسويق الرقمي والسياسي.
الإطار المكاني:
تركّز النماذج الغربية المقارنة بهدف استخلاص الدروس حول فعالية التسويق السياسي في بيئات ديمقراطية.
مباحث الدراسة:
المبحث الأول: الإطار النظري للدراسات البينية والتسويق السياسي
- المطلب الأول: مفهوم الدراسات البينية وأهميتها في العلوم السياسية.
- المطلب الثاني: النشأة النظرية للتسويق السياسي وأبرز اتجاهاته الفكرية.
المبحث الثاني: التداخل بين العلوم السياسية وعلوم الإعلام والإدارة في التسويق السياسي
- المطلب الأول: دور الإعلام الرقمي ووسائل الاتصال الجماهيري في تشكيل الخطاب السياسي.
- المطلب الثاني: التسويق السياسى وبناء الصورة الذهنية بالعالم العربى
الخبرة العلمية والعملية:
تستند الدراسة إلى خبرات الباحث الأكاديمية والعملية في مجال العلوم السياسية والإعلام، بما في ذلك:
- المشاركة في محاكاة سياسية ومناظرات جامعية تناولت موضوعات مثل الاتصال السياسي وصناعة القرار.
- التدريب في مؤسسات بحثية ومجتمعية تُعنى بالتواصل المجتمعي وصياغة الرسائل التوعوية.
- المساهمة في إعداد مبادرات شبابية وإعلامية استخدمت أساليب تسويقية رقمية للتأثير في الرأي العام.
- الاطلاع الأكاديمي على أدبيات الدراسات البينية والتسويق السياسي ضمن مقررات العلوم السياسية والإدارة العامة
المبحث الأول: الإطار النظري للدراسات البينية والتسويق السياسي
المطلب الأول: مفهوم الدراسات البينية وأهميتها في العلوم السياسية.
لكي نستطيع فهم لما العلوم البينية تلعب دورا حيويا فيما يخص العلوم السياسية يجب علينا المتغير التابع في هذه العملية وتحديده بشكل دقيق نوعاما ألا وهو العلوم السياسية.
فالعلوم السياسية تعرف بأنها إحدى فروع العلوم الاجتماعية التي تهتم بدراسة الدولة والحكومة والسياسة. وقد عرّفها أرسطو بأنها “دراسة الدولة”. يهتم هذا التخصص بشكل واسع بنظريات السياسة وتطبيقها، وتحليل النظم السياسية والسلوك السياسي. يرى علماء السياسة أنهم يسعون إلى كشف العلاقات الكامنة خلف الأحداث والظروف السياسية، ويحاولون من ذلك استخلاص مبادئ عامة تفسر كيفية عمل العالم السياسي.
وكنا قدعرضنا في المقدمة أنه رغم الفصل بين العلوم الاجتماعية أكاديميا إلا أن الظواهر الاجتما نفسها لم تنفصل عن بعضها البعض فنجد أن العلوم السياسية تتكامل مع علوم أخرى مثل الاقتصاد، القانون، علم الاجتماع، التاريخ، الأنثروبولوجيا، الإدارة العامة، السياسات العامة.[1]
وهذا يقيدنا إلى وجهة نظر المهتمين بمجال العلوم السياسية كيف يرون أثر التخصصات البينية على حقل العلوم السياسية فعلى سبيل المثال:
الباحث “دي شاليت” يعتبر أن التخصص البيني ضروري لمستقبل الفلسفة السياسية، لكنه يشك في إمكانية تحوله إلى تيار سائد بسبب الخلفية التاريخية لهذا الفرع.
أما “أشوورث” فيشير إلى أن العلاقات الدولية (International Relations) نشأت في الأصل كتخصص بيني، وأن فترتها الأقل تداخلاً كانت هي فترة ضعفها. ويرى أن انفتاحها على التخصصات الأخرى دليل على حيويتها ومرونتها.[2]
وبعد ما سردنا وجهة نظر منظران من منظرين علم السياسة هذا يقودنا إلى التعريف بالعلوم البينية
الجمع بين مجالين أو أكثر في نشاط واحد، مثل البحث العلمي. يقوم هذا النهج على تخطي الحدود التقليدية للتخصصات وخلق معرفة جديدة من خلال دمجها.[3]
وهنا نستشف من هذا التعريف أمر بغاية الأهمية أن العلوم البينية هي ترتبط باتجاهين من العلوم وذلك لخلق معرفة جديدة والوصول لتحليل أدق وأعمق للظاهرة محل الدراسة لذا لايمكن القول مثلا أن علم اجتماع السياسة هو نفسه علم السياسة أو علم الاقتصاد السياسى هو نفسه علم الاقتصاد وإلا سنبتعد كل البعد عن الموضوعية والحيادية العلمية فلكل علم مرجعيته المختلفة، ولكن هنالك تساؤل يطرح نفسه ما أهمية العلوم البينية بالمجمل؟
- فهم المشكلات المعقدة بصورة شاملة:
فالقضايا الكبرى مثل الفقر، التغير المناخي، العدالة الاجتماعية، أو الأمن العالمي تتداخل فيها عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، مما يستدعي تحليلًا متعدد الأبعاد.
- تجاوز محدودية التخصص الواحد:
فكل علم ينظر إلى الواقع من زاوية معينة، بينما المنهج البيني يربط بين هذه الزوايا لتكوين رؤية متكاملة.
- إنتاج معرفة جديدة:
الدمج بين تخصصات مختلفة لا يقتصر على جمع المعلومات، بل يؤدي إلى إبداع أفكار ونظريات جديدة ناتجة عن التفاعل بين هذه المجالات.
- تعزيز مهارات التفكير النقدي والإبداعي:
إذ يتيح للباحث تجاوز القوالب التقليدية، وفهم العلاقات المعقدة بين الظواهر المختلفة.
- أهمية تطبيقية متزايدة:
تُستخدم المقاربة البينية في ميادين مثل البيئة، الصحة العامة، دراسات النوع الاجتماعي، دراسات التنمية، والاستدامة، مما يجعلها أداة أساسية في مواجهة تحديات العصر.[4]
أما الأهمية المرتبطة بعالم السياسة:
- تكامل السياسة مع علم الاجتماع:
لفهم تأثير البنية الاجتماعية والقيم والعلاقات الطبقية على السلوك السياسي والمشاركة في الحياة العامة.
- ارتباط السياسة بالاقتصاد:
لأن القرارات الاقتصادية مثل الضرائب والميزانية والتوزيع العادل للموارد هي بطبيعتها قرارات سياسية.
- العلاقة مع التاريخ:
فالمؤسسات والنظم السياسية هي نتاج تطور تاريخي طويل، ولا يمكن تفسيرها دون معرفة سياقها الزمني.
- الترابط مع الجغرافيا:
فالعوامل الجغرافية مثل الموقع والمناخ والموارد الطبيعية تؤثر على السياسة الداخلية والخارجية للدول، وهو ما يُعرف اليوم بعلم الجيوبوليتيك.
- العلاقة مع علم النفس:
إذ يسهم في تفسير سلوك القادة والجماهير والدعاية السياسية وصناعة الرأي العام.
- الترابط مع القانون:
فالقوانين والدساتير هي الإطار الذي تنظم به السياسة علاقتها بالمواطنين، ومن هنا يظهر التفاعل الوثيق بين الفكرين القانوني والسياسي.
- توسيع أفق التحليل السياسي:
المقاربة البينية تجعل الباحث السياسي أكثر قدرة على تحليل الظواهر الواقعية بعمق، لأنها تربط النظرية بالممارسة وتكشف العلاقات الخفية بين السياسة والمجتمع والاقتصاد.[5]
وفى الحقيقة ان علم التسويق السياسى يعتبر من العلوم التي جمعت بين علم السياسة وعددا من العلوم الاجتماعية الأخرى والتي سنتعرف عليها في المطلب التالى.
المطلب الثانى: النشأة النظرية للتسويق السياسي وأبرز اتجاهاته الفكرية.
ان نقطة الانطلاق الأساسية لعلم التسويق السياسى كانت في القرن ال ٢٠، وولد هذا العلم من رحم علم التسويق الإقتصادى أو التجارى وكان أول من استخدمه بشكل فعلى كان الرئيس الأمريكي آيزنهاور في انتخابات ١٩٥٢م فقد استعان الجمهوريون بشركة إعلانات محترفة (BBDO) لتصميم رسائل الحملة التلفزيونية.
كان ذلك أول استخدام واسع للإعلانات السياسية على التلفاز، واعتُبر خطوة ثورية في الاتصال السياسي
وبهذا أصبحت الإعلانات التلفزيونية والمناظرات التي تعقد على القنوات الفضائية جزء من رسم صورة المرشح وسنتطرق لهذا الأمر فيما بعد، ولكن نستطيع أن نقول إنه منذ هذا الوقت لم يعد الأمر لايعتمد فقط على الخطابات الحماسيّة وفن الإقناع فقط، بل أصبح الأمر يعتمد على الصورة التي يرسمها كل مرشح لنفسه.
وهذا ينقلنا إلى التعريف بعلم التسويق السياسى: ساسو آيبلا من كلية الأعمال جامعة آلتو، كلية الأعمال بأنه: “استخدام مفاهيم وأساليب التسويق التجاري في العمليات السياسية بهدف تحقيق تبادل ذي منفعة متبادلة بين السياسيين والناخبين.”[6]
في هذا الإطار، يُفهم التسويق السياسي على أنه الأساس النظري والمفاهيمي الذي تُبنى عليه أنشطة إدارة التسويق السياسي، مثل:
- وضع الاستراتيجية السياسية للحزب،
- تحديد التوجّه التسويقي السياسي،
- إدارة الحملات الانتخابية،
- تحليل نتائج بحوث السوق السياسية.
ويُفرّق المنظرون بين مستويين من التنظير:
- نظرية إدارة التسويق السياسي: تدرس السلوك الإداري للفاعلين السياسيين وكيفية إدارتهم للتبادل السياسي، والأدوات التي يستخدمونها بنجاح.
- نظرية التسويق السياسي: تبحث في الأسئلة الأوسع مثل تأثير التسويق على الديمقراطية أو على النظم الانتخابية، دون الاقتصار على الإدارة العملية.[7]
ومن هذه المعطيات يمكننا أن نستشف الآتى أن علم التسويق السياسى جمع بالمجمل بين (علم السياسة والتسويق الإقتصادى والإدارة، وعلم النفس، الإعلام أيضا) مما يجعل من الصعوب وضع تعريف واحد جامع لعلم التسويق السياسى حيث ان كل متخصص في مجال من هذه المجالات ستناوله من منظوره هو.
ولكن بما أن النشأة الأولى كانت من التسوي الاقتصادى إذا يجب علينا دراسة السوق السياسى وماهية التفاعلات التى تتم به.
فالسوق السياسى يتكون من عناصر أساسية وهي:
- الأحزاب والمرشحون (العرض)
- الناخبون (الطلب)
- وسائل الإعلام (الوسطاء)،
- ومجموعات المصالح، والمنظمات غير الحكومية، والبيروقراطية.
كل هذه العناصر تشكّل معًا سوقًا معقدة تتحكم فيها التفاعلات والاتصالات المتبادلة، وليست مجرد عملية بيع بسيطة
أي يمكن القول بأن السوق السياسى يشمل كل التفاعلات السياسية وأطرافها المؤثرين عليها والذين يسعون للحصول على أقصى مكاسب وهي الأصوات الانتخابية.
ولا يسعنا التحدث عن التسويق السياسي دونما الحديث عن التوجه نحو السوق، أي بناء الاستراتيجية السياسية على دراسة متعمقة لاحتياجات الناخبين.
وقد طوّرت جين ليز-مارشمنت (Lees-Marshment) نموذجها الشهير الذي يصنّف الأحزاب إلى ثلاثة أنواع:
- الحزب الموجَّه نحو المنتج (Product-Oriented Party):
يعتمد على أيديولوجيا ثابتة ولا يغيّر سياساته استنادًا إلى الرأي العام.
هذا الشكل أكثر شيوعا بالنظم الشمولية التي تسعى لتطبيق أيدولوجية معينة مثل (النظام السياسى الصيني)
- الحزب الموجَّه نحو المبيعات (Sales-Oriented Party):
يحافظ على منتجه السياسي لكنه يغيّر طريقة عرضه وترويجه.
هذا الشكل يكون موجود بالنظم السلطوية حيث لا يجبروك على تبنى المنتج أو البرنامج الخاص بهم، ولكن يقنعوك به (روسيا في عهد بوتين)
- الحزب الموجَّه نحو السوق (Market-Oriented Party):
يطوّر سياساته نفسها بناءً على احتياجات وتفضيلات الناخبين.[8]
وهذا يشبه السوق الحر الذي يصحح نفسه تلقائيا وهذا يوجد في الدول الديموقراطية
ولكن في الحقيقة فكرة هو ملاءمة المنتج للسوق وتطلعات الناخبين خاصة بالدول الديموقراطية يفتح الباب أمام العديد من الانتقادات والردود كذلك وسنعرض بعضها:
الانتقاد الأول: المال لا يشتري الانتخابات
يُنتقد التسويق السياسي أحيانًا باعتباره يجعل الانتخابات قابلة للشراء، إذ يُظن أن من يملك أموالًا أكثر يستطيع الفوز من خلال الحملات الدعائية والإعلانات واستهداف الناخبين.
لكن المنظّرين يؤكدون أن هذا الطرح مبالغ فيه؛ فارتفاع الإنفاق لا يعني بالضرورة تحقيق الفوز، كما أظهرت انتخابات بريطانيا عام 2001 حين أنفق المحافظون أكثر من العمال ومع ذلك خسروا. فالنجاح الانتخابي يعتمد على جودة الاستراتيجية والرسائل والتوقيت والبيئة السياسية، لا على المال وحده.
الانتقاد الثاني: تغليف بلا مضمون
يُقال إن التسويق السياسي حوّل السياسة إلى شعارات وصور على حساب الأفكار والمضامين، كما عبّر “فرانكلين” بقوله: الصورة حلّت محل الجوهر.
إلا أن المختصين يوضحون أن البلاغة والإقناع كانا دائمًا جزءًا من الخطاب السياسي منذ القدم، والجديد اليوم هو الاحترافية العالية في إدارة الصورة العامة عبر مستشارين مثل “ألاستير كامبل” و“كارل روف”. هؤلاء لم يعودوا مجرد خبراء تواصل، بل صار لهم تأثير مباشر في صنع القرار، ما يثير تساؤلات حول الشفافية والمساءلة. ومع ذلك، جعل هذا التطور العملية السياسية أكثر تنظيمًا وكفاءة.
الانتقاد الثالث: الشعبوية وغياب القيادة
يُتَّهم السياسيون المعاصرون بأنهم صاروا يتبعون الرأي العام بدل قيادته، نتيجة الاعتماد المفرط على استطلاعات الرأي ومجموعات التركيز وما نراه الآن في السياسة الأمريكية الآن ووصول دونالد ترامب ولعبه على العصبية القومية ورفع شعار (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)، وذلك أنه قبل نهاية فترته الرئاسية الأولى سبب حالة من البلبلة وحرص مؤيديه على اقتحام الكونجرس
لكن المنظّرين يرون أن التسويق السياسي الفعّال لا يعني الخضوع للجمهور، بل فهم احتياجاته وتوجيهه نحو رؤية سياسية واضحة. فالمشكلة ليست في التسويق ذاته، بل في سوء فهم مفهوم “التوجّه نحو السوق”.
ويُستشهد بتوني بلير مثالًا، إذ اتُّهم أحيانًا باتباع الرأي العام وأحيانًا بتجاهله، ما يعكس التناقض الدائم الذي يواجهه القادة السياسيون.
الانتقاد الرابع: السياسة ليست عملية بيع
يرى بعض النقاد أن تشبيه السياسة بالتجارة أمر خاطئ، لأنها تتعلق بمصائر الشعوب لا ببيع السلع.
إلا أن المختصين يشيرون إلى وجود تشابه جزئي، فكلا المجالين يقوم على الوعود والعلاقات طويلة الأمد بين “المزوّد” (السياسي) و“المستفيد” (الناخب).
فالسياسات والبرامج الحكومية تشبه الخدمات غير الملموسة في التسويق الخدمي، التي تعتمد على الثقة والتجربة، مما يجعل العلاقة بين السياسي والناخب أقرب إلى علاقة طويلة الأمد لا إلى معاملة بيع وشراء.
الانتقاد الخامس: الناخبون لا يصوّتون بعقلانية كاملة
يتهم النقاد التسويق السياسي بأنه يضلّل الناخبين من خلال التركيز على الصورة والعاطفة بدل تقديم المعلومات.
لكن المنظّرين يوضحون أن الناخبين، مثل المستهلكين، لا يتخذون قراراتهم بعقلانية تامة، بل يستخدمون “اختصارات ذهنية” مثل صورة المرشح وشخصيته كمؤشرات على الثقة والكفاءة.
ومن الخطأ افتراض وجود “ناخب مثالي عقلاني”، لأن السلوك الانتخابي في الواقع أكثر تعقيدًا وإنسانية.
الانتقاد السادس: تصاعد السلبية في الحملات الانتخابية
تُنتقد الحملات الانتخابية الحديثة لأنها أصبحت أكثر هجومية وشخصية.
ويُفرّق المختصون بين نوعين من السلبية:
1.السلبية الموضوعية التي تركز على نقد السياسات، وهي مفيدة أحيانًا لأنها تساعد الناخبين على فهم الفروق بين المرشحين.
2.السلبية الشخصية التي تستهدف الأفراد وتشوه سمعتهم، وهي مرفوضة لأنها تفسد النقاش العام.
ويرى بعض الباحثين أن السلبية الموضوعية، إذا أُديرت باحتراف، يمكن أن تؤدي دورًا إيجابيًا يشبه الإعلانات المقارنة في التسويق التجاري.
وما رأيناه في المناظرات الرئاسية الأمريكية قبل الانتخابات السابقة كانت خير دليل سواءا هجوم دونالد على شخص بايدن وكاميلا هاريس مما يؤكد هذا الادعاء.[9]
ولكن شئنا أم أبينا فأن التسويق السياسى أصبح جزء من المعادلة السياسية حتى أن الدول الأوروبية مع بداية التسعينات أخذت بها وذلك على الرغم من الجمود الأيديولوجي الذي كانت تتمتع به تلك الدول في فترة الحرب الباردة [10]
وما أدلل عليه هنا هي المناظرة الشهيرة لجون كينيدي وريتشارد نيكسون فعلى الرغم من أن من سمعو هذه المناظرة عبر الإذاعة قالو بفوز نيكسون إلا أن الصورة كانت أصدق من الصوت حيث ظهر كينيدي بمظهر الواثق من نفسه كل حركة لها حسابها لا يتلعثم حينما يتكلم يعرف إلى أي كاميرا ينظر بالضبط على عكس نيكسون الذي كان يتصبب عرقا، ملامحه الجامدة، ونبرة صوته التي ليس فيها أي مشاعر أعطت لكينيدي فوزا مؤزرا على خصمه[11]
مما يخبرنا كم أن هندسة الصورة الرئاسية مهمة وكيف أن تحقيق تصورات الشعب عن الرئيس تلعب دورا حاسما بهذا الأمر.
وهذا يقودنا إلى معرفة دور الإعلام وتحديدا الإعلام الرقمم في الاتصال السياسى وهندسة الصورة الذهنية وهذا ما سيتم تناوله في المبحث الثانى المطلب الأول
المبحث الثانى: التداخل بين العلوم السياسية وعلوم الإعلام والإدارة في التسويق السياسي.
المطلب الأول: دور الإعلام الرقمي ووسائل الاتصال الجماهيري في تشكيل الخطاب السياسي.
يعرف الإعلام الرقمى بأنه في أبسط حالاته عبارة عن أي محتوى، مرئي أو صوتي، نص أو رسم، تم إنشاؤه باستخدام التكنولوجيا وتوزيعه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المواقع الإلكترونية. يستخدم المبدعون الأجهزة الإلكترونية والتكنولوجيا لتصميم الوسائط الرقمية وتحديثها ونقلها. وتتضمن الأمثلة ما يلي:
- منشورات وسائل التواصل الاجتماع
- المواقع الإلكترونية وصفحات الويب
- الكتب الإلكترونية والبودكاس
- الصوت الرقمي مثل البث و mp3
- التسويق عبر البريد الإلكتروني والمدونات
- تطبيقات الهاتف المحمول[12]
ويتميز الإعلام الرقمى بعدة أمور منها:
المرونة وسهولة الوصول:
يُعدّ من أهم مزايا الفضاء الرقمي أنه يتيح المرونة للمشاركين في الوصول إلى المحتوى والمناقشات في أي وقت ومن أي مكان يتوفر فيه اتصال بالإنترنت.
فالأفراد لم يعودوا مقيدين بوسائل الإعلام التقليدية أو مواعيد نشر محددة، بل يستطيعون التفاعل والتعبير بحرية وفي أي لحظة.
ومع ذلك، فإن هذه الحرية قد تُقابل بنقص في التفاعل الإنساني المباشر، مما يجعل التواصل عبر الإنترنت أحيانًا أقل عمقًا من النقاشات التقليدية في المساحات الواقعية.
بيئة المشاركة والتفاعل:
تلعب طبيعة البيئة الرقمية دورًا مهمًا في تحديد فاعلية التواصل السياسي.
فالمنصات الرقمية تتيح للمستخدمين المشاركة الفورية والتفاعل المباشر مع القادة السياسيين، لكنها في المقابل قد تؤدي إلى سطحية النقاشات بسبب سرعة التبادل وغياب السياق الكامل.
تعمل الأدوات التفاعلية مثل البث المباشر، والتعليقات، والمحادثات الجماعية، على تعزيز المشاركة، لكنها أيضًا قد تصبح مساحات للجدال الحاد أو نشر الكراهية.
التكلفة والموارد:
تتميز وسائل التواصل الاجتماعي بانخفاض تكلفتها مقارنة بالإعلام التقليدي الذي يتطلب موارد كبيرة للنشر والتوزيع.
تُعدّ هذه الميزة عاملاً حاسمًا في تمكين الأفراد والجماعات من التعبير عن آرائهم بحرية.
لكن في الوقت ذاته، تُستخدم هذه الميزة أحيانًا في حملات التضليل التي تستغل الطبيعة المجانية للمنصات لنشر محتوى زائف أو مسيّس على نطاق واسع.
ويمكن تلخيص أثر الإعلام الرقمى على العملية السياسية في الآتى:
- الاستقطاب وغرف الصدى:
تعتمد خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي غالبًا على تعزيز المحتوى الذي يثير التفاعل، بغض النظر عن دقته أو حياده.
هذا يؤدي إلى تكوين غرف صدى رقمية تغذي الانقسام الأيديولوجي، وتُضعف فرص التواصل البنّاء بين أصحاب الآراء المختلفة.
تتحول المنصات إلى فضاءات مغلقة حيث يتبادل المستخدمون الأفكار نفسها دون مساءلة أو تنوع فكري، مما يؤدي إلى تصلّب المواقف السياسية وصعوبة الوصول إلى التفاهم المشترك.
- المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة:
يشكل الانتشار السريع للمعلومات الزائفة تهديدًا مباشرًا للخطاب السياسي الواعي.
تسمح الطبيعة المجهولة لبعض الحسابات وسرعة انتشار المحتوى في الفضاء الرقمي بخلق بيئة خصبة للتلاعب بالرأي العام.
ويستغل الفاعلون السياسيون هذا الواقع لبناء روايات مضللة، مما يضعف الثقة في الصحافة والمؤسسات الرسمية ويغذي نظريات المؤامرة.
- المشاركة العامة والتعبئة السياسية:
على الرغم من المخاطر، تظل وسائل التواصل الاجتماعي أداة قوية لتعزيز المشاركة السياسية.
فقد مكّنت الأصوات المهمشة من التعبير عن نفسها، وسهّلت إنشاء حركات شعبية مستقلة، وأسهمت في تعزيز الصحافة المواطنية التي تُسهم في مراقبة السلطة ونشر الوعي.
كما أصبحت وسيلة فعالة في الاتصال بين الحكومات والمواطنين وفي الحملات الانتخابية الرقمية، التي باتت جزءًا أساسيًا من الاستراتيجيات السياسية الحديثة.
- التأثير الثقافي والسياقي:
يختلف أثر وسائل التواصل الاجتماعي باختلاف السياق الثقافي والسياسي الذي تُستخدم فيه.
فمستوى الوعي الإعلامي، ودرجة الوصول إلى الإنترنت، وأنماط المشاركة السياسية التقليدية، كلها عوامل تؤثر في الكيفية التي تُستخدم بها هذه المنصات.
في المجتمعات ذات مستويات منخفضة من الثقافة الإعلامية، تصبح وسائل التواصل أداة سهلة للاستغلال والتضليل، بينما في المجتمعات الأكثر وعيًا، يمكن أن تكون وسيلة لتقوية الحوار الديمقراطي.
وأما عن الأثر على الخطاب السياسى والعملية السياسة:
فقد شهدت الولايات المتحدة واحدة من أكثر البيئات السياسية استقطابًا في العالم، وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا جوهريًا في تعزيز هذا الانقسام.
إذ تؤدي الخوارزميات التي تدير محتوى المنصات مثل “فيسبوك” و” تويتر” إلى إنشاء ما يُعرف بـ غرف الصدى، حيث يتعرض المستخدمون فقط للمحتوى الذي يتماشى مع معتقداتهم السابقة، مما يُضعف التفاعل مع وجهات النظر المعارضة.
كما أدت حملات التضليل المتعمدة إلى تقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية وفي وسائل الإعلام التقليدية.
وفي المقابل، ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في تعبئة الحركات الاجتماعية مثل حركة Black Lives Matter و*#MeToo*، مما يثبت أن هذه المنصات تمتلك إمكانات مزدوجة: فهي أداة للتمكين الديمقراطي وأداة للاستقطاب في آن واحد.
وكما تُعدّ البرازيل مثالًا آخر على كيفية تفاعل الثقافة السياسية النشطة مع الفضاء الرقمي.
فقد لعبت منصات مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب دورًا مهمًا في تشكيل النقاش العام خلال الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٨م.
وقد برزت مخاوف جدية بشأن التدخلات الخارجية وانتشار الأخبار الكاذبة، مما أثار تساؤلات حول سلامة العملية الديمقراطية.
في المقابل، أتاحت وسائل التواصل للمواطنين التعبير بحرية عن آرائهم ومساءلة السياسيين علنًا، لكنها أيضًا وفرت بيئة خصبة للتلاعب المعلوماتي والجريمة الإلكترونية التي تهدد نزاهة النظم الديمقراطية.[13]
وهكذا نكون قد انتهينا من عرض دور الإعلام الرقمى في نتائج العملية السياسية وايضاً في تشكيل خطابها واستعراضنا تأثيراته في الفضاء السياسى رصدنا كيف أن دوره آخذ بالتوسع شيئا فشيئا.
المطلب الثانى: التسويق السياسى وبناء الصورة الذهنية بالعالم العربى
الصورة الذهنية مثلها مثل أي مصطلح في علم الاجتماع، ولكن نرى تعريف ياسر محمد الحنيطى هو الأقرب للصواب حيث يعرفها البعض بأنها: مجموعة الانطباعات والأفكار التي تتكون في أذهان الجمهور عن شخص، أو حزب، أو مؤسسة، أو فكرة سياسية، وتشمل القيم والمعتقدات والسلوكيات التي تُدرك من خلال وسائل الإعلام المباشرة وغير المباشرة.
والصورة الذهنية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية:
- المكون المعرفي (Cognitive): المعلومات والمعارف التي يمتلكها الجمهور عن الجهة المعنية أو الشخص سواء كان برلماني أو رئيس أو حتى رئيس حزب او جماعة مصلحة.
- المكون العاطفي (Affective): المشاعر والانفعالات المرتبطة بها (كالإعجاب أو الرفض).
- المكون السلوكي (Behavioural): كيفية استجابة الجمهور أو تصرفه تجاهها.[14]
وهنا تظهر وظيفة التسويق السياسى في تضخيم الصورة الذهنية وترسيخها شيئا فشيئا لاعبة على العناصر الثلاثة التي عرضناها سابقا وسوف نختار نموذجا من العالم العربى للتطبيق عليه ألا وهو جمال عبد الناصر.
في الحقيقة اعتمد جمال عبد الناصر على عدة أمور لبناء الصورة الذهنية له كزعيم ليس لمصر فقط، بل للعرب أجمع وذلك عن طريق الطرق الآتية:
أولًا: دمج الكاريزما بالإعلام
عبد الناصر كان لديه حضور شخصي قوي، لكن قوة تأثيره لم تكن طبيعية فقط، بل صُنعت إعلاميًا. مقالات هيكل وخطب عبد الناصر لم تكن مجرد رأي أو نقل أحداث، بل كانت أدوات مدروسة لخلق صورة الزعيم الذي يوجه المنطقة ويحاسِب الحكام الآخرين. مجرد هجومه على حاكم عربي كان يُفهم كرسالة تهديد سياسي.
ثانيًا: السيطرة الكاملة على تدفق المعلومات
منذ تأميم الصحافة عام 1960، أصبحت وسائل الإعلام تحت سيطرة الدولة بالكامل. لم يعد هناك نقد أو رأي مستقل. الأخبار كانت تُصاغ لدعم السلطة، وتقديم عبد الناصر كصاحب القرار والحكم النهائي في القضايا العربية والمصرية.
ثالثًا: خطاب مباشر عابر للحدود
الخطب الجماهيرية كانت تُنقل على الهواء في مصر والعالم العربي، وهذا أعطاه حضورًا مستمرًا في وعي الناس. لم يكن الحديث موجهًا لدولة واحدة، بل للأمة كلها، مما رسّخ صورته كقائد للعرب وليس لمصر فقط.
رابعًا: خلق سردية قومية مرتبطة بشخصه
وسائل الإعلام ربطت كل إنجاز أو وعد بالإنجاز بشخص عبد الناصر. سواء مشاريع التنمية، القومية العربية، أو مواجهة الاستعمار، تم تقديمه دائمًا باعتباره صاحب الرؤية والتنفيذ. حتى عندما لا توجد نتائج ملموسة، كانت الوعود تُقدَّم على أنها خطوات فعلية.
خامسًا: إسكات البدائل وتوجيه الرأي
أي معارضة وُصفت بالخيانة أو التآمر. الإخوان، المثقفون، أو الأقليات لم يُدمَجوا في الصورة القومية، بل عُرضوا كخصوم لمشروع الأمة. هكذا بقي عبد الناصر هو الصوت الوحيد المتاح للجماهير.
سادسًا: تكرار الرسائل دون تغذية راجعة
ان الاتصال كان من أعلى لأسفل فقط، أي لا مشاركة ولا رأي مقابل. الإعلام لا ينقل ما يفكر فيه الشعب، بل ما يجب أن يقتنع به. وهذا عزز صورته كمرجعية وحيدة[15]
ختاما:
تُظهر الدراسة أن التسويق السياسي لم يعد مجرد أداة دعائية مرتبطة بالانتخابات أو الحملات المؤقتة، بل أصبح إطارًا معرفيًا ومنهجيًا يعكس تفاعلاً عميقًا بين العلوم السياسية وحقول أخرى كالإعلام، والإدارة، وعلم النفس والاجتماع. وقد أثبت التحليل أن هذا التداخل لم يكن ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة فرضتها التحولات الاتصالية وتغير طبيعة العلاقة بين الحاكم والجمهور في العصر الرقمي.
أولاً: النتائج الرئيسية
1.التسويق السياسي نموذج فعّال للدراسات البينية
أثبتت الدراسة أن التسويق السياسي يجمع بين مفاهيم مستمدة من الإدارة والتسويق التجاري وعلم النفس الاجتماعي والإعلام، مما يجعله أحد أبرز تطبيقات التفاعل المعرفي بين العلوم.
2.تطور مفهوم الصورة الذهنية غيّر طبيعة العمل السياسي
لم تعد الصورة القيادية تُبنى تلقائيًا أو اعتمادًا على الخطاب فقط، بل على استراتيجية متكاملة تشمل التحكم في الرسائل، إدارة الانطباع، القياس المستمر للرأي العام، وصناعة الهوية السياسية.
3.الإعلام الرقمي أعاد تشكيل المجال السياسي
تحول الفضاء الإعلامي من وسيط ناقل إلى فاعل مؤثر، قادر على صناعة رموز، وتوجيه السلوك الانتخابي، وإعادة تعريف العلاقة بين النخب والجماهير.
4.نموذج عبد الناصر أثبت مبكرًا قوة التسويق السياسي قبل ظهوره كمصطلح
تبيّن من الدراسة التطبيقية أن بناء صورة جمال عبد الناصر اعتمد على:
- احتكار تدفق المعلومات
- الدمج بين الكاريزما والبث الجماهيري
- خلق سردية قومية مرتبطة بالشخص
- إسكات البدائل وإعادة تشكيل الوعي الجمعي
كل ذلك يعكس جوهر التسويق السياسي حتى قبل ظهوره كعلم مستقل.
5.التسويق السياسي أعاد تعريف العلاقة بين الحاكم والجمهور
لم يعد الجمهور مجرد متلقٍ، بل طرف في عملية تبادل رمزي-سياسي، تُصاغ رسائله وتُوجه اتجاهاته وفق اعتبارات مدروسة لا عشوائية.
6.المجال العربي يشهد تحولات غير مكتملة
رغم تصاعد توظيف أدوات التسويق السياسي في المنطقة العربية، إلا أن ضعف المشاركة السياسية، واحتكار الإعلام، وغياب التعددية الفكرية تحدّ من فاعليته الديمقراطية الحقيقية.
ثانياً: خلاصة تركيبية
تؤكد الدراسة أن التسويق السياسي يمثل نقطة التقاء بين النظرية والممارسة، بين الدولة والمجتمع، وبين الإعلام والسياسة. وهو ليس مجرد تقنية انتخابية، بل تحوّل معرفي في فهم السياسة نفسها كعملية تواصل، ورمزية، وإدارة إدراك جمعي. كما أن نمو الدراسات البينية مكّن من قراءة الظاهرة السياسية بعمق أكبر، بعيدًا عن العزلة الأكاديمية التقليدية.
لذلك يمكن القول إن مستقبل دراسة السياسة لا يمكن أن ينفصل عن أدوات التسويق وإدارة الرأي العام والصورة الذهنية، كما لا يمكن فصل الديمقراطية المعاصرة عن طبيعة الاتصال السياسي والإعلام الجديد.
المراجع الأجنبية:
- Äijälä, Sasu. The Evolution of Political Marketing and Its Possible Effects on Liberal Democracy. Bachelor’s thesis, Aalto University School of Business, 2019.
- Mishra, Ashutosh, and Navneet Kaur. Political Science: Interdisciplinary Relevance. Student project submitted to Ms. Shveta Dhaliwal, Rajiv Gandhi National University of Law, Punjab, Patiala, B.A. LL.B (Hons), First Year.
- Ormrod, Robert P., Stephan C. Henneberg, and Nicholas J. O’Shaughnessy. Political Marketing: Theory and Concepts. London: SAGE Publications Ltd, 2014.
- Price, Katie. “What Is Digital Media.” Sessions (blog), January 13, 2025. Accessed October 14, 2025.https://www.sessions.edu/notes-on-design/what-is-digital-media/.
- Repko, Allen F., and Rick Szostak. Introducing Interdisciplinary Studies. 3rd ed. Thousand Oaks, CA: SAGE Publications, 2017.
- Warleigh-Lack, Alex, and Michelle Cini. “Interdisciplinarity and the Study of Politics.” European Political Science 8, no. 1 (2009): 4–15.
- Zahra, Fatima. “The Role of Social Media in Shaping Political Discourse: A Comparative Analysis.” Islamabad: Institute of Social Sciences, 2020.
- YouTube. “مناظرة كينيدي ونيكسون لحظة غيّرت مستقبل أمريكا.” Published October 13, 2025.https://youtu.be/hIU1fnkM3P8.
المراجع العربية
- الحنيطي، محمد ياسر محمد. “دور وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في التسويق السياسي وصناعة الصورة الذهنية.” مجلة اتحاد الجامعات العربية للبحوث في التعليم العالي، المجلد 44، العدد 3 (سبتمبر 2024): 125–143.
- عبد الرحمن، أسعد. “القيادة الكاريزمية، ووسائل الإعلام، والتعبئة السياسية في مصر: حقبة الناصرية.” المجلة العربية للعلوم الإنسانية. تم الاطلاع في 15 أكتوبر 2025.https://journals.ku.edu.kw/ajh/index.php/ajh/article/view/831/265.
[1] Political Science: Interdisciplinary Relevance, excerpt on the definition of political science and interdisciplinarity, student project submitted to Ms. Shveta Dhaliwal, Rajiv Gandhi National University of Law, Punjab, Patiala, by Group I (Ashutosh Mishra and Navneet Kaur), B.A. LL.B (Hons), First Year.
[2] Warleigh-Lack, Alex, and Michelle Cini. “Interdisciplinarity and the Study of Politics.” European Political Science 8, no. 1 (2009): 4–15.
[3] مرجع سبق ذكره في الصفحة السابقة
[4] Allen F. Repko and Rick Szostak, Introducing Interdisciplinary Studies, 3rd ed. (Thousand Oaks, CA: SAGE Publications, 2017), 5–9.
[5]مرجع سبق ذكره، ص ٥
[6] Sasu Äijälä, The Evolution of Political Marketing and Its Possible Effects on Liberal Democracy (bachelor’s thesis, Aalto University School of Business, 2019), 7–10.
[7] Robert P. Ormrod, Stephan C. Henneberg, and Nicholas J. O’Shaughnessy, Political Marketing: Theory and Concepts (London: SAGE Publications Ltd, 2014), 3–4.
[8] مرجع سبق ذكره، ص ٩
[9] مرجع سبق ذكره، ص ١٠
[10] مرجع سبق ذكره، ص٩
[11] مناظرة كينيدي ونيكسون لحظة غيّرت مستقبل أمريكا,” YouTube video, (accessed October 13, 2025), https://youtu.be/hIU1fnkM3P8.
[12] Katie Price, “What Is Digital Media,” Sessions (blog), January 13, 2025, accessed October 14, 2025, https://www.sessions.edu/notes-on-design/what-is-digital-media/.
[13] Fatima Zahra, “The Role of Social Media in Shaping Political Discourse: A Comparative Analysis” (Islamabad: Institute of Social Sciences, 2020), pp. 1–7.
[14] محمد ياسر محمد الحنيطي، دور وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في التسويق السياسي وصناعة الصورة الذهنية مجلة اتحاد، الجامعات العربية للبحوث في التعليم العالي، المجلد 44، العدد 3 (سبتمبر 2024)، ص. 125–143
[15] Abdul-Rahman, Asad. “Charismatic Leadership, Mass Media and Political Mobilization in Egypt: The Nasserist Era.” Arab Journal for the Humanities (المجلة العربية للعلوم الإنسانية) رقم. Accessed October 15, 2025. https://journals.ku.edu.kw/ajh/index.php/ajh/article/view/831/265.



