الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

حق لا امتياز: لماذا يجب أن تهتم الدول بالحق في الصحة؟

A Right not a Privilege: Why States Should Care About the Right to Health

اعداد :  رينا حسن درويش –  باحثة وطالبة دكتوراه في القانون العام في المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية – بيروت

  • المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة :

عُرِف الانسان منذ أقدم العصور، بسعيهِ المستمر ومحاولاته الحثيثة لحماية صحته من مخاطر الأوبئة والأمراض الفتّاكة التي عرفتها البشرية. بدايةً، أخذت هذه المساعي منحًا جماعيًا، مع حقبة المؤتمرات الصحية الدولية التي حاولت من خلالها الدول إلى حماية مجتمعاتها من أمراض العصر آنذاك كالطاعون والحمى الصفراء والسلّ والإنفلونزا الاسبانية. ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة الأمم المتحدة، جرى الاتفاق على إنشاء وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة  تُعنى بصحة البشر ومن هنا، أبصَرَت منظمة الصحة العالمية World Health Organization  النور، ووُلِدَ معها مفهوم الصحة كحقٍّ إنسانيّ،   Human Right to Health والذي تبنتّهُ بوضوح في مقدمة دستورها المُنشئ لها بقولها في الفقرة الثانية: “التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان، دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة السياسية أو الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية”، واعتبرت في الفقرة الثالثة أنّ “صحة جميع الشعوب أمر أساسي لبلوغ السلم والأمن وهي تعتمد على التعاون الأكمل للأفراد والدول”.

وسار إعلان ألما – أتا للرعاية الصحية الأولية Alma Ata Declaration for Primary Health Care (1978) في نفس الاتجاه مُشيرًا في الفقرة الأولى إلى أنّ “الصحة هي حق إنساني أساسي وأنّ الوصول إلى أعلى مستوى يمكن من الصحة هو هدفًا اجتماعيًا عالميًا بالغ الأهمية”.

في العام 2020 كانت البشرية على موعدًا مع التاريخ، حيث اجتاح العالم وباءًا جديدًا، عابرًا للحدود، لا يُرى بالعين المجرّدة ولكنه استطاع أن يُغيّر من معالم الحياة اليومية للبشر، مُحدثًا خسائرًا كبيرة في الأرواح ومُلحِقًا أضرارًا فادحة باقتصادات الدول والتجارة العالمية. هذا الحدث العالمي الذي دخل التاريخ، برزت على إثره هشاشة النظم الصحية حول العالم وضعف استعداد الدول لمواجهة أي شكل من أشكال الطوارئ الصحية، ما أعادَ الحديث الجدّي عن الحق في الصحة وأهميته مُجدّدًا إلى الواجهة.

سنتعرّف في هذا المقال التوعوي على مفهوم الحق في الصحة ودوره التنموي والأمني والالتزامات الوطنية والخارجية التي يفرضها على الدول.

ما هو الحق في الصحة؟

يدخل الحق في الصحة ضمن فئة حقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية والتي تُعرف بالحقوق الإيجابية التي تتطلّب تدخلاً من الدولة وإعمالاً تدريجيًا Progressive Realization وفقًا للموارد المُتاحة.

ولقد جرى التنصيص على الحق في الصحة في متن المواثيق الدولية لحقوق الانسان مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،([1]) والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،([2]) كذلك في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية المرأة([3]) والطفل([4]) واللاجئين([5]) والمُعوقين([6]) وكبار السن([7]) بالإضافة إلى المواثيق الإقليمية لحقوق الانسان المعمول بها في كل من أوروبا([8]) وأميركا([9]) وأفريقيا([10]) والعالم العربي.([11])

ولا يجب أن يُفهم بالحق في الصحة على إنّه الحق في التمتع بصحة جيّدة، بل هو الحق في التمتع بمجموعة متنوعة من المرافق والسلع والخدمات والظروف الضرورية لبلوغ أعلى مستوى ممكن من الصحة. ويُعرف عن الحق في الصحة على إنه حق شامل Inclusive Right، بمعنى إنه يتضّمن طائفة واسعة من الحقوق والحريات والمقومات الأساسية، فهو لا يقتصر على تقديم الرعاية الصحية المناسبة فحسب، بل يشمل أيضًا الحق في الحصول على مياه الشرب المأمونة والإصحاح المناسب والإمداد الكافي بالغذاء الآمن والتغذية والمسكن وظروف صحية للعمل والبيئة والحصول على التوعية فيما يتصل بالصحة، بما في ذلك ما يتصّل بالصحة الجنسية والإنجابية. بالإضافة إلى مشاركة السكان في كامل عملية اتخاذ القرارات المرتبطة بالصحة مجتمعيًا، وطنيًا ودوليًا.([12])

يشمل الحق في الصحة 4 عناصر أساسية وهي توافر المرافق والسلع والخدمات الصحية وإمكانية الوصول الاقتصادي والجغرافي إليها بدون أي شكل من أشكال التمييز ومقبوليتها من حيث مراعاتها للأخلاق الطبية والمعايير الثقافية وأن تكون ذات نوعية جيّدة.([13])

كغيره من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يُرتّب الحق في الصحة التزاماتٍ على الدول لا بدّ من الوفاء بها، وينص ميثاق منظمة الصحة العالمية في هذا الصدد على أنّ “الحكومات مسؤولة عن صحة شعوبها ولا يمكن الوفاء بهذه المسؤولية إلاّ باتخاذ تدابير صحية واجتماعية كافية”.([14])

ويفرض الحق في الصحة نوعين من الالتزامات وهي التزامات ذات طابع فوري مثل ضمان ممارسة الحق بدون تمييز والالتزام باتخاذ خطوات ملموسة وهادفة نحو الإعمال الكامل لهذا الحق، وأخرى ذات طابع تدريجي، تخضع لموارد الدولة المُتاحة وتسمح لها بالتحرّك باستمرار بأقصى قدر من السرعة والفعالية نحو الإعمال الكامل للمادة /12/ من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.([15])

بصورةٍ عامة، تنقسم الالتزامات المنبثقة عن الحق في الصحة إلى ثلاثة مستويات وهي: الالتزام بالاحترام Obligation to Respect والذي يتطلّب امتناع الدولة عن التدخل المباشر أو غير المباشر في التمتع بالحق في الصحة، الالتزام بالحماية Obligation to Protect ويعني أن تتخذ الدول تدابير من شأنها أن تمنع أطرافًا ثالثة من إعاقة ضمانات المادة /12/ من العهد، والالتزام بالأداء Obligation to Fulfill، والذي يفرض اعتماد تدابير قانونية وإدارية وتدابير تتعلق بالميزانية وتدابير قضائية وتشجيعية ملائمة من أجل الإعمال الكامل للحق في الصحة.([16])

الأهمية الاستراتيجية للحق في الصحة

إنّ قيام المجتمعات وتطورّها يعتمد بالدرجة الأولى على الانسان، وصحة الانسان هي العامل الأساسي الذي يؤهلهُ للعمل والإنتاج في المجتمع. في هذا الصدد، يعتبر ميثاق منظمة الصحة العالمية بأن “ما تُحققهُ أيّة دولة في مجال تحسين الصحة وحمايتها أمر له أهميته للجميع”،([17]) من هنا، يكتسب الحق في الصحة أهمية بالغة للمجتمعات ويُشكّل ضرورة حتمية لاستمراريتها وتطورّها، ويمكننا مقاربة الدور الحيوي للحق في الصحة من ثلاث زوايا مختلفة:

تحفيز النمو الاقتصادي: إنّ تمتع المورد البشري بأعلى مستوى من الصحة والسلامة البدنية والنفسية، يُشجّع على النمو الاقتصادي بما أنّ القوى العاملة ستكون قادرة على العمل والقيام بالأنشطة التي تُحرّك العجلة الاقتصادية والعكس صحيح، فإن الانتكاس في صحة القوى العاملة وتراجعها، يُساهم في انخفاض فرص التقدّم الاقتصادي. لذلك، يُعدّ الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي أحد أوجه الاستثمار في العنصر البشري ويساعد في زيادةٍ أكبر في الناتج المحلّي الإجمالي، لأنّ الإنتاجية في المجتمع السليم والصحي ستكون أعلى بكثير من المجتمعات التي تتراجع فيها النفقات الحكومية على الصحة.([18])

في هذا السياق، تُشير الدراسات إلى أنّ البلدان التي أثقلتها الملاريا بشكلٍ كبير، شهدت مستوياتٍ متدنيّة من النمو بين عامي 1965 و1990.([19])

كما تؤثر الصحة في معدّلات الاستثمارات المحلية والأجنبية، والمثال الأبرز على ذلك، هو ما شهدهُ إنشاء قناة باناما Panama Canal من تعثّرٍ في مراحلهُ الأولى نظرًا لوفاة عشرات الآلاف من العمّال في المشروع خلال الأعوام المُمتدّة بين 1882 و 1888 بسبب الملاريا والحمى الصفراء، ما أدّى إلى تأخير في تنفيذ المشروع وخسائر مالية كبيرة، ولم يبصر المشروع النور إلاّ بعد ما جرى التوصل إلى كيفية السيطرة على هذه الأمراض.([20])

وبذلك يكون تمتع الأفراد بحقهم في الصحة عبر توفير الخدمات والمرافق والسلع الصحية وإتاحتها أمام الجميع، دافعًا أساسيًا للقيام بمختلف الأنشطة الإنتاجية التي تساعد على تحقيق معدّلات مُتقدّمة من النمو الاقتصادي.

دعم أهداف التنمية المستدامة: في أيلول/ سبتمبر من العام 2015 تبنّت الأمم المتحدة بحضور ورؤساء وقادة العالم خطة أهداف التنمية المستدامة Sustainable Development Goals 2030، والمؤلّفة من 17 هدفًا، من ضمنها الهدف الثالث وعنوانه “الصحة الجيدة والرفاه”، كما أنّ هناك 12 هدفًا و 33 غاية و59 مؤشرًا يُركز على الصحة أو يتصّل بها.([21])

وتنسجم غايات الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، مع إطار حقوق الانسان ولاسيما الحق في الصحة، الأمر الذي يُسهم إيجابًا في تحقيق خطة التنمية المستدامة. فالغاية الأولى مثلاً (1-3) والمُتمثّلة في خفض النسبة العالمية لوفيات المواليد، ترِدُ في المادة /12/ من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كذلك الغاية الثامنة (8-3) التي تشمل التغطية الصحية الشاملة Universal Health Coverage، والمنصوص عليها في المادة نفسها من العهد المُشار إليه. وبالتالي، فإنّ إعمال الحق في الصحة من شأنه أن يساعد على تحقيق الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة علاوةً إلى الأهداف التالية (1): القضاء على الفقر، (2) القضاء التام على الجوع، (5) المساواة بين الجنسين، (6) المياه النظيفة والنظافة الصحية و (10) الحدّ من أوجه اللامساواة.

تحقيق الأمن الصحي: يُقصد بالأمن الصحي تمكين الانسان من العيش في بيئةٍ تؤمنهُ من الأمراض والأوبئة وتوّفر له الحق في التداوي والاستشفاء وفي الوقاية منها وهو يتمحور حول كيفية حماية أفراد المجتمع من جميع الأخطار الصحية التي تواجههم.([22]) ويختلف الأمن الصحي عن الحق في الصحة في كونه يتعلق بقدرة الدولة على حماية المجتمع والصحة العامة من الأمراض والتهديدات الصحية التي قد تطرأ بصورة مفاجئة، في حين أنّ الحق في الصحة هو حق إنساني يُمكّن صاحبه من الاستفادة من المرافق والسلع والخدمات الصحية للوقاية من الأمراض والعلاج منها وكافة المقوّمات الأساسية للتمتع بصحة جيدة.

وتأسيسًا على ذلك، يدعم الحق في الصحة بشكلٍ لا لبس فيه، تحقيق الأمن الصحي عبر توفير النظم الصحية العادلة والشاملة لخدمات الوقاية والعلاج والرعاية الصحية للجميع بدون تمييز، واعتماد سياساتٍ صحية وقائية تشمل التطعيم عل سبيل المِثال والتوعية وتحسين ظروف السكن والعمل ونوعية المياه والغذاء وإتاحة المعلومات الصحية والمشاركة والمسائلة، ما يُقلّل من احتمالية انتشار الأمراض والأوبئة وتفاقمها.

المسار المنهجي الواجب على الدول اتباعه لتعزيز الحق في الصحة

يتطلّب تعزيز الحق في الصحة نهجًا مدروسًا ومتماسكًا يرتكز على التشريعات والسياسات العامة وآليات الرقابة والمسائلة.

التشريعات: وفقًا للمادة /2/ من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أن “تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بأن تتخذ بمفردها وعن طريق المساعدة والتعاون الدوليين، ولاسيما على الصعيدين الاقتصادي والتقني، وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة، ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المُعترف بها في هذا العهد، سالكةً إلى ذلك جميع السبل المناسبة، وخصوصًا سبيل اعتماد تدابير تشريعية”.

كما ينصّ التعليق العام 14/2000 على التزام الدول بـــ “الإقرار الوافي بالحق في الصحة في نظمها السياسية والقانونية الوطنية ومن الأفضل أن يكون ذلك عن طريق التنفيذ التشريعي…”

يُفهم من النصوص السالفة الذكر، بأن الالتزام بالحق في الصحة يبدأ من التشريعات، من خلال الاعتراف به في الدساتير وتنظيمه في القوانين التي يقرّها البرلمان، وبالفعل اتجهت العديد من الدول في العالم العربي نحو تضمين دساتيرها أحكامًا تتعلق بالحق في الصحة مباشرةً مثل الدستور المصري([23]) والتونسي([24]) والفلسطيني([25]) والقطري([26]) والكويتي([27]) والمغربي،([28]) بخلاف الدستور اللبناني الذي يُعتبر من الدساتير العربية القليلة التي تغيب عنها أحكام بعض الحقوق الاجتماعية ولاسيما الصحية،([29]) ويُعدّ الإقرار الدستوري أولى أشكال الاعتراف بالحق في الصحة وأقواها.

بالإضافة إلى ما تقدّم، يجب أن يواكب هذا التكريس الدستوري إقرار قوانين ناظمة للصحة العامة وللحماية الاجتماعية وللخدمات والسلع والمرافق الصحية ولمقومات الصحة المهنية والبيئية والعلمية بما يراعي مبادئ الشفافية وعدم التمييز، والالتزام التام بالأحكام الدستورية باعتباره الوثيقة القانونية الأسمى في الدولة. ولقد أقرّت غالبية الدول قوانينها المتعلقة بالصحة العامة والتأمين والضمان الاجتماعي والأخلاقيات الطبية ولكنها تبقى بحاجة إلى تطوير باستمرار بما يتلاءم مع المتغيرات الصحية والاجتماعية.

السياسات العامة: يحتاج تفعيل الحق في الصحة إلى “اعتماد سياسة صحية وطنية مصحوبة بخطة تفصيلية لإعماله”،([30]) بحيث تتولى السياسات العامة والاستراتيجيات الوطنية وضع النصوص الدستورية والقانونية موضع التنفيذ، مع الإشارة إلى إنه ينبغي لهذه السياسات أن تراعي عناصر التوافر وإمكانية الوصول والمقبولية والجودة وأن تؤمن معايير المشاركة المجتمعية والإنصاف خاصةً تجاه الفئات الأكثر حاجة، وأن تكون واضحة الأهداف وتشتمل على مؤشرات Indicators ومعالم Benchmarks، لقياس التقدّم الحاصل ورصده بدّقة.([31])

آليات الرقابة والمسائلة: بموازاة الاعتراف به وتنظيمه في المواثيق الدستورية والقوانين وصياغة السياسات العامة والاستراتيجيات الوطنية لتفعيله، يجب أن تُمارَس الرقابة الفعلية على مدى امتثال الدولة لالتزاماتها التي يفرضها الحق في الصحة والمسائلة عن انتهاكها وهي وظيفة تمارسها الهياكل القضائية وشبه القضائية والسياسية.

يُعتبر القضاء المحلّي الملاذ الأول لتحقيق الانتصاف الفعّال للأفراد والجماعات، وبإمكان المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها سواء أكانت دستورية، إدارية أم عدلية، معالجة الانتهاكات التي تطال الحق في الصحة.

أمّا الهياكل شبه القضائية فإنه ينبغي أيضًا أن تتصدى لِما يقع من انتهاكات للحق في الصحة مثل أمناء المظالم ولجان حقوق الانسان وجمعيات حماية المستهلك وجمعيات حقوق المرضى وغيرها من المؤسسات المماثلة على المستوى الوطني. كما بإمكانها أن تمارس دورًا فعالاً في مناصرة قضايا الحصول على العلاج وتقديم الخدمات والرعاية الصحية التي قد تُحرم منها الفئات المهمشة.

بالنسبة للأجهزة السياسية، مثل اللجان البرلمانية والمجالس المنتخبة، فإنه يتوجب عليها أيضًا ممارسة دورها الرقابي عبر مسائلة الحكومة والممثلين المنتخبين عن السياسات المُتبّعة.

إن المسار المنهجي الوطني لتعزيز الحق في الصحة والقائم على الأطر التشريعية والسياساتية والرقابية، ينبغي أن يترافق أيضًا مع مسارًا خارجيًا قائمًا على التعاون والمساعدة الدوليين.

البعد الدولي لالتزامات الحق في الصحة

لقد أشار العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى الالتزام الدولي بالتعاون وتقديم المساعدة بقوله “تتعهد كل دولة طرف بأن تتخذ بمفردها وعن طريق المساعدة والتعاون الدوليين..” كما أن التعليق العام رقم 14/2000 لحظ هذا النوع من الالتزام بحيث أوجب على الدول الأطراف في العهد أن تحترم التمتع بالحق في الصحة في بلدان أخرى وأن تمنع أطرافًا ثالثة من انتهاك هذا الحق في بلدان أخرى، إذا كانت تستطيع التأثير على أطراف ثالثة من خلال وسائل قانونية أو سياسية.([32])

وفَرَضَ التعليق المذكور مسؤولية مشتركة وفردية على الدول الأطراف في تقديم الإغاثة والمعونة في أوقات الكوارث بما في ذلك تقديم المساعدة إلى اللاجئين والمشردين داخليًا بالإضافة إلى معالجة مشكلة الأمراض التي تنتقل بسهولة إلى ما وراء حدود الدول، مع تحميل الدول الأطراف المتقدمة اقتصاديًا مسؤولية خاصة في مساعدة الدول النامية الأشد فقرًا في هذا الصدد.([33])

ويمنع التعليق المُشار إليه استخدام الحق في الصحة كوسيلة للضغط السياسي أو الاقتصادي، من خلال فرض حظر أو تدبير يُقيّد امداد دولة أخرى بالأدوية والمعدات الطبية الكافية.([34])

وبالتالي، لا يتوقف إعمال الحق في الصحة على الامتثال للالتزامات الوطنية فقط، بل هناك التزامات ذات بعد خارجي تتمثل في التعاون بين الدول وتقديم المساعدة والمشورة الفنية والتقنية والإنسانية، كما ينبغي للدول أن تطلب مساعدة المجتمع الدولي عند الحاجة والتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا المجال مثل منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصلب الأحمر. ولقد رأينا تجلّيات التعاون الدولي الصحي في خضّم الجائحة الأخيرة خاصةً لجهة توزيع اللقاحات ووسائل الوقاية من الوباء وتبادل الخبرات العلمية والطبية بين الدول وممارسة ما يُعرف بـــ “الدبلوماسية الصحية” Health Diplomacy.

كما أن التطور الهائل والمتسارع الذي تشهده تقنيات الذكاء الاصطناعي وعلوم الانسان، يفتح آفاقًا جديدة لتشديد أواصر التعاون بين الدول بما يخدم صحة البشر ويُعزز من فرص تحسين الحق في الصحة بكافة جوانبه.

في المُحصّلة، إن الصحة ليست خدمة أو امتياز يُمنح للإنسان، بل هي حقٌ جوهريٌ نابعٌ من قيمته الإنسانية يتوجب على الدولة الوفاء به، وعدم تجاهل دوره في تحفيز النمو الاقتصادي والنهوض بالتنمية المستدامة وتحقيق الأمن الصحي. ولا ينبغي أن يتحول الحق في الصحة إلى مجرد شعاراتٍ عابرة ووعود نظرية، بل يجب أن يكون التزامًا قولاً وفعلاً مقرونًا باتخاذ تدابيرٍ ملموسة عبر إدراجه وتنظيمه بموجب الدساتير والقوانين وبلورة السياسات العامة والخطط الوطنية، في ظلّ وجود أسس للرقابة والمسائلة القضائية وشبه القضائية والسياسية. وعلى الرغم من أن الحق في الصحة يخضع لمبدأ الإعمال التدريجي المرتبط بتوفر الموارد، إلا إنه لا ينبغي أن يُستخدم كذريعة لعدم اتخاذ خطوات ملموسة وفعالة نحو الاعمال الكامل لهذا الحق. فالدول مُكلّفة باتخاذ تدابير فورية وعقلانية لضمان الحدّ الأدنى من الحقوق الصحية، مع ضرورة إثبات بذل أقصى ما يمكن من موارد متاحة بِما في ذلك عبر التعاون الدولي. وهنا ندعو الدول العربية أن تضع الحق في الصحة ضمن أولوياتها وأن تؤمن له أسس الحماية الفعالة في النصوص والممارسات العملية بموازاة تحقيق التعاون الوثيق فيما بينها بما يخدم صحة شعوب المنطقة، لأن حقوق الاجتماعية هي مسؤولية جماعية، تتطلب إرادة سياسية واثقة وتخطيطًا مستنيرًا وتضامنًا عالميًا حتى لا يُترك أحد خلف الركب.

***

(1) المادة /25/ من الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948

(2) المادة /12/ من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)

(3) المواد /11/، /12/ و/14/ من اتفاقية سيداو (1979)

(4) المواد /19/، /23/ و/24/ من اتفاقية حقوق الطفل (1989)

(5) المادة /28/ من الاتفاقية الدولية لحقوق العمال المهاجرين وأسرهم (1990)

(6) المادة /25/ من الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (2006)

(7) التوصية /11/ من مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بكبار السن، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/91 تاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 1991

(8) المادة /35/ من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي (2000)

(9) المادة /11/ من الإعلان الأميركي لحقوق وواجبات الانسان (1948) والمادة /10/ من بروتوكول سان سلفادور (1988)

(10) المادة /16/ من الميثاق الأفريقي لحقوق الانسان والشعوب (1986)

(11) المادة /39/ من الميثاق العربي لحقوق الانسان المعدّل عام (2004)

(12) المادة /11/ من التعليق العام رقم 14/2000 المتعلق بالحق في أعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه الصادر عن لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

(13) المادة /12/ من التعليق نفسه

(14) الفقرة /9/ من مقدمة ميثاق منظمة الصحة العالمية (1946)

(15) المادة /31/ من التعليق 14/2000

(16) المادة /33/ من التعليق نفسه

(17) الفقرة /4/ من مقدمة ميثاق منظمة الصحة العالمية

(18) غيداء، العصيمي؛ أثر الإنفاق الصحي على النمو الاقتصادي: دراسة حالة حول المملكة العربية السعودية – الإمارات العربية المتحدة – الكويت، مجلة رماح للبحوث والدراسات، العدد 51، 2021، ص. 48

([19]) David Bloom and David Canning; Population Health and Economic Growth, working paper, No 24, Commission on Growth and Development & The World Bank, p.16

([20]) Jeffrey Sachs; Macroeconomics and Health: Investing in Health for Economic Development, World Health Organization, 2001, p.38

(21) تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030: تقرير من المدير العام، منظمة الصحة العالمية، جمعية الصحة العالمية الرابعة والسبعون، أيار/ مايو 2021، ص.1

(22) مريم، رعد عبد الزهرة؛ تحقيق الأمن الصحي في المجتمع الدولي، مجلة الشرق الأوسط للدراسات القانونية والفقهية، المجلد 2، العدد 2، 2022، ص. 99

(23) المادة /18/ من الدستور المصري

(24) الفصل /38/ من الدستور التونسي

(25) المادة /16/ من القانون الأساسي الفلسطيني

(26) المادة /23/ من الدستور الدائم لدولة قطر

(27) المادة /11/ من الدستور الكويتي

(28) المادة /31/ من الدستور المغربي

(29) يكتفي الدستور اللبناني بالإشارة الى التزام لبنان بمواثيق بالإعلان العالمي لحقوق الانسان ومواثيق الأمم المتحدة وإلى المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات والإنماء المتوازن في كافة المجالات

(30) المادة /36/ من التعليق 14/2000

(31) المادة /43/ الفقرة (و) من التعليق نفسه

(32) المادة /39/ من التعليق نفسه

(33) المادة /40/ من التعليق نفسه

(34) المادة /41/ من التعليق نفس

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى