أزمة التنظير في السياسة العالمية: الأسباب والمعيقات
Theoretical crises in global politics: Causes and obstacles

اعداد : هيثم بالخضير – باحث في العلاقات الدولية، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب
المركز الديمقراطي العربي : –
- مجلة الدراسات الاستراتيجية للكوارث وإدارة الفرص : العدد السادس والعشرون حزيران – يونيو 2025 – المجلد 7 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا- برلين.
- تعنى المجلة مجال الدراسات التخصصية في مجال إدارة المخاطر والطوارئ والكوارث ،قضايا التخطيط الاستراتيجي للتنمية، الجيوبولتيك، الجيواستراتيجية، الأمن الإقليمي والدولي، السياسات الدفاعية، الأمن الطاقوي والغذائي، وتحولات النظام الدولي، والتنافس بين القوى الكبرى، إضافة إلى قضايا التنمية، العولمة، الحوكمة، التكامل الأقتصادي ، إعداد وتهيئة المجال والحكامة الترابية , إضافة إلى البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –
ملخص :
حاول هذا المقال البحثي تقديم صورة معرفية لإبراز النظريات الطارئة في عالم التنظير وبمدى ارتباطه بالمتغيرات في طبيعة وأنظمة السياسة الدولية، بحيث انصب على إظهار الأفكار التي تناولتها المنظورات السائدة وكذا الأحداث الدولية المتفاعلة وتأثيرها على الحقل الأكاديمي لسياسة الدولية.
ونظرا لزخم النظري والثراء الفكري في الحقل، تزايدت جهود الباحثين في تقديم إجابات مقنعة في الإطار النظري لتجاوز صدمات الانتقال في الهيكلة التنظيمية الدولية، وقد ساهم غياب النظرية العامة التوافقية والمستجدات الحديثة أهم عقبة في العملية التنظيرية، إذ أعاق بناء المنظور الفكري الجديد، واطلع المقال على البيئة الدولية السابقة لما في ذلك من ضرورة منهجية لفهم سياق الأحداث الدولية، فقد خلفت الأزمات الجيواستراتيجية أزمة في التنظير مما أثر على القراءة الفكرية وهو ما دفع لبناء أفكار جديدة لإعادة صياغة فهم جديد ومسلمات للواقع الدولي.
Abstract
This research article tried to present a cognitive image to nightlight emergency developments in the world of theorizing and the extent of its association with the Variables in the nature and systems of international politics, so that it focused on Showing the ideas dealt with by the interactive international events and its impact on the academic field of international policy.
The article was briefed the previous international environment. And this was not a methodological necessity to understand the context of international events. The Geo-Gises- a crisis strategy in theorizing, which affected intellectual reading. Which prompted to build new ideas to reformulate a new and Muslim understanding of the international reality.
مقدمة
شكل استقلال حقل العلاقات الدولية عن العلوم الاجتماعية نقلة نوعية في الفكر السياسي، لامتلاكه مواضيع خاصة به مصحوبة بنظريات تسييرية في كل مرحلة تطورية وأدوات بحثية تميزت بداياتها بسعي الليبرالية الكلاسيكية لتأسيس الأكاديمي للحقل بجامعة أبروسويث، مرورا بالنبرة الواقعية التي أثرت في الواقع التفسيري، ومحاولة لما بعد الوضعية إعادة هدم وبناء ما سبق من نظريات فكرية.
كل هذه الإسهامات لم تشبع حالة البحث لدى علماء السياسة، ففي كل مرة كانت هناك عملية تمحيص ونقد لما سبق من نظريات ودراسة التحديات الجديدة لتقف عندها الدراسات الأكاديمية للوصول لمقاربات نظرية جديدة تناسب الواقع.
ورغم ارتباط حقل السياسة الدولية بالظواهر السياسية، إلا أنها كغيرها من العلوم الاجتماعية والإنسانية تتأثر بالسلوك البشري الذي يتميز بالديناميكية، مما ينتج زخما تاريخيا ثقيلا وتسارعا في الأحداث البارزة في التراكم الفكري والنظري المفسر لكل فترة. ويجد المهتمون بالظواهر السياسية صعوبة في فهم الواقع السياسي الدولي نظرا لضخامة الإنتاجات الأكاديمية للباحثين انطلاقا من الرؤى والإدراكات التي أسست فيما بعد مدارس فكرية أو تصورات عقائدية أو منظورات نتيجة الارتباط بالاتفاق حول طبيعة الظواهر السياسية ومجالاتها.
ونظرا لتداخل الأبعاد الموضوعية والمنهجية، أدى إلى عدم الإجماع في عملية التنظير حول الموضوع وحول المنهج، مما صعب التمييز بين المواضيع المرتبطة بحقل السياسة الدولية وغير المرتبطة بها. ولذلك، ركز الباحثون والمنظرون على استعمال النظرية كنظارة لرؤية العالم وأداة لتفكيك تعقيدات مواضيع السياسة الدولية ومدخلا لدراسة الطبيعة التفاعلية للسياسة الدولية، ولما لها من قدرة على التمييز والتفسير والتنبؤ، وبالتالي التحكم في النتائج والمصير.
ويعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية وبروز نظام دولي جديد حدثا استراتيجيا في العلوم السياسية لما تبعه من تدمير لقدسية النظريات السائدة، حيث أصبح من الصعب التنبؤ بالأحداث لتشابكها وتعقيدها وتحولها إلى اللاخطية. كما تغير محتوى مواضيع السياسة الدولية من كلاسيكية كالأمن والقوة والمصلحة إلى أفكار حداثية جديدة كالعولمة وإدارة الأزمات والبيئة والأمن السيبراني، كما تغيرت طبيعة تلك المواضيع من الطرح القومي إلى الطرح الشمولي، مما أثر في استيعاب التحولات المعاصرة.
ساهم هذا العجز التنظيري في احتواء التغيرات الدولية في تحول النقاشات الفكرية والانتقالية من مستوى التحليل القومي إلى مستوى التحليل الشمولي ما فوق القومية لدراسة التفاعلات الداخلية والدولية، وبالتالي إعادة صياغة وفهم الأهمية التنظيرية والدور الذي تلعبه في تحسين المعرفة بالواقع الدولي.
- إشكالية الدراسة
حقل الدراسات السياسية الدولية أصبح يمتاز بالتمددية والتوسعية الموضوعاتية التي تعبر عن الزخم النظري والثراء الفكري والتنوع العقائدي. ورغم جهود الباحثين في تقديم إجابات في الإطار النظري والقدرة على الاستشراف والتفسير لتجاوز الصدمات التي فرضتها حالة التحول الجيوستراتيجية من القطبية الثنائية إلى الأحادية ثم إلى التعددية، نجد تحديات لا تزال عالقة في السياسة الدولية في جانبها التنظيري. فما هي أسباب الأزمة التنظيرية في السياسة الدولية ومعيقاتها؟ وما هي أهم المفاهيم والمصطلحات المساعدة في فهم الصراعات الدولية ونظرياتها وأزمات التنظير السياسية دوليا؟
- أهمية الدراسة
جاء موضوع المقال في إطار هام، بحيث أن الاستمرارية في اعتماد النظريات كمداخل لتحديد طبيعة التفاعلات الدولية وتحليلها تبقى مرتبطة بتحديد الأفكار والمفاهيم والتحديات. فما كان مسلما به أصبح موضوعا لنقاش على الطاولة، مثل عملية تداركية ونقدية لاستمرار العطاء في المجال. وفي ظل هذه التحولات والكثرة الوقائعية، أعطت قدرا أكبر من الفهم في الأنطولوجية والإبستمولوجية النظرية لإيجاد رابطة منطقية لظواهر الحديثة بالسابقة.
- أهداف الدراسة
اكتشاف مفاهيم مثل الجيوبوليتيك وعلاقتها بالصراعات الدولية، ومعرفة طبيعة الأزمة النظرية التي تتخبط على مستوى السياسة الدولية والتعرف على أسبابها وعوائقها.
- أسباب اختيار موضوع الدراسة
الرغبة التوسعية والإدراكية لموضوع السياسة الدولية والاصطلاح الجيوبوليتيكي وربط أزمة التنظير بالعوامل الدولية.
- المنهج المعتمد في الدراسة
المنهج الوصفي التحليلي، إذ تم التطرق لمفهوم الجغرافية وتحليله لأقسام من الجغرافية التي تهم موضوع السياسة الدولية وتحدي التنظير وكما وصفت أزمة التنظير في السياسة الدولية لعدة أسباب وعوائق.
المحور الأول: الجغرافية: إطار مفاهيمي
بليغة هي الجغرافية عندما تحدثنا دون وسيط… في ثنايا هذا المحور سنحاول تفسير مصطلحات الجغرافية المعقدة والمتداخلة، لنقف أولا على المصطلح العام للجغرافية ثم نفككه لمصطلحات ظهرت في عالم السياسة الدولية.
أولا: الجغرافية
علم يدرس الأرض وما يتعلق بها كالتضاريس والمناخ ولنبات… وعندما ننظر إلى الأرض نجدها منقسمة لقسمين مهمين هما، الأول يسمى بالجغرافية الفيزيائية وهي تندرج ضمن إطار القشرة الأرضية ودراسات حول المياه بأنواعه في الأرض والغلاف الجوي أي كل ما يخص الأرض في جانبها المادي. والقسم الثاني يسمى بالجغرافية البشرية وهي دراسة المجتمع البشري وعلاقاته بالأرض في جوانبه السكانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعندما نصل للجانب السياسي فإننا نجد حقلين مهمين هما، الأول الجغرافية السياسية والثاني الجيوبوليتيك.
الجغرافية لها فوائد كبرى على مستوى السياسة الدولية ومن هذه المنافع:
- فهم التدافع البشري في العالم.
- صناعة القرار والفاعلية السياسية.
- فهم الصراع الإقليمي والدولي.
- فهم آثار المتغيرات الدولية على المجتمعات البشرية.
ثانيا: الجغرافية السياسية
فرع من فروع الجغرافية البشرية، تنظر للعالم من حيث علاقة الجغرافية بالسياسة، والإنسان والأرض والزمن هي الأبعاد الثلاثة الكبرى للجغرافية. فالإنسان بأفكاره وأحلامه وطموحاته وقدراته هو صاحب القرار الذي يعظم من قيمة الأرض كمساحة وموقع وتضاريس ومناخ. في حين يلتقي الإنسان بالأرض ومعطياتها وتحدياتها، تبرز قدراته الإبداعية، وبقدر قدراته الإبداعية واستجاباته يتموضع في التاريخ تقدماً أو تخلفاً.
تقوم الجغرافية السياسية بدراسة المشكلات الاستراتيجية للدول، كدراسة مشكلة الدول المخنوقة التي تتنفس من مسار ضيق، مثل روسيا لعدم توفر موانئها على المياه الدافئة إلا ميناء يتيم على البحر الأسود، والدول الحبيسة مثل أفغانستان وسويسرا. تعنى الجغرافية السياسية بالمعلومات والإحصاءات الدقيقة للموارد الدولية والأنشطة الاقتصادية المؤثرة في السياسة الدولية.
ثالثا: الجيوبوليتيك
إذا كانت الجغرافية السياسية تصف وتستنتج عوامل القوة والضعف كما في الحاضر، فإن الجيوبوليتيك تمثل ضمير الدولة وطموحاتها واحتياجاتها ومصالحها في المستقبل، وكيفية حمايتها والمحافظة عليها، وبالتالي فهي مفتاح السياسة القومية.
فدولة مثل مصر، بسكانها، يمكن توصيف نقاط قوتها وضعفها اليوم، وهذا دور الجغرافية السياسية، أما رؤيتها وآمالها واحتياجاتها ومصالحها التي تتعدى حدودها فهو دور تلعبه الجيوبوليتيك، إنها النظرة للمصالح القومية.
رابعا: النظريات التفسيرية في الجيوبوليتيك
لقد ولد علم جديد، وهو الجيوبوليتيك ليخدم حلم الإمبراطوريات. وعندما نذكر الإمبراطوريات، نتذكر شخصية كان لها حلم السيطرة على العالم، مثل جنكيز خان الذي كان يتحرك من آسيا ويتمدد في فضاء العالم القديم باتجاه الحدود الصينية جنوباً والأوروبية غرباً ليقود واحدة من أكبر الإمبراطوريات التي عرفها العالم قديماً. قد يختلف الباحثون والأكاديميون في تسمية الجيوبوليتيك، ولكنهم لن يختلفوا على أنها العنصر القاعدي في رؤية العالم وأنها تعمل على تشكيل العالم.
لذلك، سنتجاوز الأكاديمية الجامدة لنقدم الجيوبوليتيك في أي مجتمع معاصر على أنه ثقافة سياسية متأثرة بالجغرافية، وهي نظرة للعلاقة بين الجغرافية وقوة الدولة أو ضعفها، وهندسة لسياسة الدولة خارجياً، وشرح مفصل لتحركات الدولية وأنشطتها. وبما أن الجيوبوليتيك علم يفرض نفسه كأساس هام لفهم السياسة الدولية والتحركات الخارجية، فإنه في كل دولة تحدد لنفسها عناصر قوة وضعف، واحتياجاتها الوجودية واستقرارها ونموها، ورؤيتها لذاتها ونظرتها للعالم، إضافة إلى كيفية تنظيم واستعمال قوتها. وفي هذا الإطار، وضعنا أربع نظريات مشكلة للعالم والتي تعتبر من أهم النظريات في علم الجيوبوليتيك: نظرية راتزل، نظرية ماكندر، نظرية ماهان، ونظرية سبيكمان.
1.نظرية راتزل
كتاب راتزل 1904م في الجغرافية السياسية يدور حول الدولة باعتبارها كائنًا عضويًا. ومن خصائص الكيان العضوي النمو، وعند النمو تزداد الاحتياجات. إذا كان الكائن العضوي ينمو باستمرار، فهذا يعني أن الحدود لا معنى لها. الحدود الصلبة هي الحدود الطبيعية، والحدود الشفافة هي مصالح الدولة.
تتمحور نظرية راتزل حول الآتي: الحدود الصلبة لا وجود لها (منطقية البقاء للأقوى). في كتاب الجغرافية السياسية، كانت فكرته في كينونة أن الدولة كائن عضوي يكبر، ومع استمرارية نموه تزداد احتياجاته، وبالتالي تكون الحدود لا معنى لها وتصبح مجرد ثياب تصبح فيما بعد أصغر حجماً مقارنة بالحجم الجديد للكائن العضوي الذي يستمر في النمو والتمدد.
راتزل لم يتحدث من فراغ، فقد كانت ألمانيا آنذاك تتميز بالنشاط الصناعي، وكانت بحاجة للمواد الخام والأسواق، وبالتالي كانت نظرية راتزل في خدمة ألمانيا. إذ أن الحدود هنا ليست نهاية الدولة، بل محطة نمو الدولة، وكلما كبرت احتياجاتها، حق لها أن تلتهم من جاورها لتنمو. كما عبرت النظرية عن مبرر التحرك النازي لاجتياح أوروبا. رغم أن العالم استقر بعد الحرب العالمية الثانية نظرياً على ثبات الحدود وضرورة احترامها، لكن عملياً بقيت الحدود سائلة واستمرت التغيرات الحدودية في الجريان في العالم. تمت استعارة الحدود المادية بالحدود الشفافة، التي تعرف أن الدول تتداخل حيث توجد مصالحها، والسيادة الدولية القانونية لا معنى لها. وبهذا توجد دول عظمى في العالم بحجة أنها تحمي مصالح الدول الضعيفة، تستطيع التدخل في النزاعات الحدودية لدول الضعيفة.
2.نظرية جون ماكندر
يرى ماكندر أن الجزيرة العالمية هي أساس العالم، وأن قلب العالم في الجزيرة العالمية هو روسيا وألمانيا. ونتيجة نظريته ظهرت فكرة وجوب منع أي سلطة من السيطرة على قلب العالم.
طريقة نظر بريطانيا في الماضي للجزيرة العالمية هي: أن أمامها أوروبا الشرقية ومن خلفها الدب الروسي، ومن يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يسيطر على العالم كله.
تموضع نظرية ماكندر حول عنصر: منطقة الارتكاز أو قلب العالم. وضع ماكندر تصورًا فكريًا للعالم كوحدة سياسية قابلة للتحكم، مقدماً مفاتيح للعبة السياسية الكبرى وكيفية إدارتها. ومن أبرز ما بينه ماكندر ما يلي:
أعطى الجغرافية لغة عامة، بحيث أننا عندما ننظر لخارطة العالم بمنظور حديث سنجد قطعة من الأرض عملاقة ومتصلة تحيط بها المياه من كل جانب. هنا يعيد وصف آسيا وأوروبا وأفريقيا باعتبارها قطعة أرض عملاقة متصلة تحيط بها المياه من كل جانب، وسيطلق عليها بالجزيرة العالمية. فهي في الوسط الجغرافي تحيط بها مياه المحيط الشمالي المتجمد والجنوبي المتجمد والمحيط الأطلنتي والهادي. وهناك جزر متناثرة تحيط بهذه الجزيرة العالمية مثل اليابان وبريطانيا. وبالتالي، العالم هو جزيرة عالمية تحيط بها جزر على أطرافها.
استنطاق الجغرافية عبر بوابة التاريخ. ماكندر، في ضوء حركة القوى الإمبراطورية عبر التاريخ، يطرح السؤال الجريء: أين كانت أكثر المناطق حصانة عبر التاريخ؟ ويصل إلى أنها منطقة الاستبس القاري الممتدة عبر روسيا إلى حدود الصين وأوروبا الشرقية، وهي منطقة الارتكاز الجغرافي لتاريخ. يحيط بها هلال ثم يتبعه هلال خارجي ليطلق على المنطقة قلب العالم، التي تمتاز بمواصفات، فهي تنشئ إمبراطورية عظمى لا تعتمد على السواحل، وتستطيع التماسك مستغنية عن البحر. تتميز منطقة قلب العالم بقربها من كل مصادر القوى الموجودة في الجزيرة العالمية، وكل ما تحتاجه للوصول إليها هو وجود الطرق البرية، مما يجعلها قادرة على التحرك العسكري والتجاري والاقتصادي بتكلفة أقل من القوى البحرية. وفي الوقت نفسه، منطقة عميقة وذات حصن عسكري، وهي في نظريته تشمل أوكرانيا وروسيا الغربية ووسط أوروبا، ليطلق عليها قلب العالم. بسيطرتها على القلب العالمي، تكون قادرة على السيطرة على الهلال الداخلي المتمثل في شرق أوروبا وجنوب وشرق آسيا، وبالتالي تتحكم في الجزيرة العالمية التي تعد من أغنى مناطق العالم فيما يخص الموارد والأسواق والزراعة، وبهذا ينهار الهلال الخارجي ويسقط تحت سيطرتها.
3.نظرية ألفريد ثاير ماهان
ماهان، ضابط البحرية الأمريكية (1914)، نظر للعالم من الزاوية الأمريكية. نظرية ماهان (1914-1940) تؤكد أن قوى البحر تتفوق دوماً. وضح ماهان أن القوات البحرية الأمريكية لها أثر كبير في التاريخ، حيث إن قوى البحر هي التي تتفوق دوماً على قوى البر، حيث إن قوى البحر أكثر حصانة لإحاطتها بالمياه من جميع الجوانب، وهي التي تتحكم في حركة التجارة البحرية في السلم والحرب، وهذا يتعارض مع نظرية ماكندر.
في تنظيره لقوة البحر، وضع ماهان شروطاً لإنشاء هذه القوة البحرية، وهي ستة شروط:
- ميزة التموضع الجغرافي.
- شواطئ مناسبة للموانئ وموارد كبيرة ومناخ مناسب.
- مساحة كبيرة من الأرض.
- كتلة سكانية تسمح بالدفاع.
- مجتمع مولع بالبحر والتجارة.
- حكومة راغبة في الهيمنة على البحار.
4.نظرية نيكولاس سبيكمان
وفق نظرية السياسي سبيكمان (1943)، فإنه يرى أنه من الممكن ضبط العالم عبر ثلاث مسارات:
- المسار الأول: عبر صناعة الأمم المتحدة.
- المسار الثاني: عبر السيطرة على أرض الحافة (الأرض المحيطة بروسيا)، وهي التي تشمل أوروبا والعالم العربي وإيران وأفغانستان والصين وجنوب شرق آسيا وكوريا وشرق سيبيريا.
- المسار الثالث: منع تحالف قوى البحر مع أرض الحافة.
وضع سبيكمان نظريته التي تدير السياسة الدولية اليوم على إمكانية ضبط حركة العالم عبر مسارين اثنين هما:
- الأول: صناعة نظام عام لتوازن القوى مثل منظمة الأمم المتحدة.
- والمسار الثاني: يرى أنه من يسيطر على الهلال الداخلي في الجزيرة العالمية يسيطر على العالم.
فهو ينظر إلى أن الهلال الداخلي أهم من قلب العالم، وأن من يسيطر على هذا الهلال يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يسيطر على العالم. وهنا برز مفهوم جديد يسمى بأرض الحافة كأساس للسيطرة على العالم. يبرز سبيكمان أن أرض الحافة تحتوي على كثافة سكانية ضخمة وموارد هامة، فهو يرى أن كل الصراعات التاريخية كانت تقع بين أرض الحافة وقوة البحر، وبالتالي من يسيطر على الحافة يسيطر على أوروبا وآسيا، ومن يسيطر على أوروبا وآسيا يسيطر على العالم.
ونحن اليوم نرى مدى أهمية القارة الصفراء (آسيا) وكذلك القارة العجوز (أوروبا) التي لا تخلو من المفاجآت.
المحور الثاني: التنظير في السياسة الدولية
شكلت التحولات الجيواستراتيجية مساحة ضخمة في التأثير على التنظير مما كسر ظهر النظرية على التنبؤ، وعملت وقائع مثل العولمة والنظام الدولي الجديد وانهيار الاتحاد السوفياتي وتسارع الأحداث مما أضعف النظام الأحادي القطب جراء الثورة الرقمية التي حولت العالم لقطعة جغرافية إلكترونية صغيرة تتبادل فيه الآراء والأفكار مشكلا انصهارا لكافة الأطياف الدولية ومنتجا لعالم جديد يرسم نظاما متعدد الأقطاب، الشيء الذي جعل تفسير العملية التنظيرية غير معتادة على هذا الوضع من السرعة وعدم التقاط الأنفاس، بحيث تعقدت العملية التنظيرية تعقيا كبيرا من تشابك للأفكار والمفاهيم وكثرة المعلومات والمعارف كل هذه الأحداث فتحت أبواب الأزمة التنظيرية على مستوى السياسية الدولية.
أولا: أزمة التنظير الدولية: الأسباب والعوائق
1.انهيار الاتحاد السوفياتي
شكل يوم 26/12/1991 تاريخ نهاية حقبة زمنية تمثلت في تفكك المنظومة الاشتراكية وتصدع الفلسفة الشيوعية، عقب قرار مجلس السوفييت الأعلى تحت رقم (142-H)، الذي نتج عنه تشكيل رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفياتي، وذلك عقب اجتماع مثلته إحدى عشرة دولة مكونة للسوفيات، في غياب دول البلطيق وجورجيا. وقد سبق هذا الإعلان بيوم استقالة رئيس السوفيات ميخائيل غورباتشوف.
وعلى الصعيد الدولي، قدم تفكك الاتحاد السوفياتي معنى لنهاية الحرب الباردة، ونهاية العداء المستمر بين حلف الناتو وحلف وارسو، مما أدى إلى تغير جذري في البنية الدولية للنظام العالمي الذي تحول إلى أحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك.
أما على المستوى الأكاديمي، فقد تأثرت النظريات الكبرى بالأحداث الدولية الناتجة عن هذا التفكك، بالإضافة إلى ثورات 1989، مما جعلها غير قادرة على استيعاب تلك التحولات الجذرية. فقد صعدت عوامل الهوية والثقافة والبنية الاجتماعية إلى الأجندة البحثية، مع تراجع العامل العسكري والاقتصادي.
وعلى المستوى الداخلي، اعتبر الاتحاد الروسي هو الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي. انطلاقًا من هذا، قامت روسيا بتشكيل مجموعات اقتصادية على غرار المجموعة الاقتصادية الأورو-آسيوية، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني، مثل الاتحاد الجمركي الأوراسي. كما كانت هناك محاولات من الجمهوريات المستقلة للانضمام إلى حلف الأطلسي لتعزيز استقلالها عن روسيا بشكل أفضل.
تجسد هذه الأحداث تحولًا كبيرًا في المشهد الجيوسياسي العالمي، حيث أدت إلى إعادة تشكيل التحالفات والولاءات، وأثرت بشكل عميق على العلاقات الدولية في العقود التالية.
2.أثر النقاش الثالث على عملية التنظير
انطلاقًا من البرامج البحثية للمنظور العقلاني والمقاربات التأملية، قام مايكل بانكس بتصنيف هذه الثنائية ضمن النقاش ما بين البرادايمات. أما نيفيس سيلفا، فيصنف هذا الحوار الجدلي على أنه النقاش الثالث ضمن سلسلة النقاشات الكبرى. والفرق بين هذين النقاشين هو أن الأول يشير إلى الجمع بين الواقعية الليبرالية والماركسية بدرجة أقل، حيث لم تكن قادرة على مواكبة النقاشات البحثية للمنظورات السابقة، إذ لم يتم التركيز عليها كثيرًا. بينما يجمع النقاش الثاني بين النظريات الوضعية والمقاربات ما بعد الوضعية.
وعلى العموم، فقد عكست النقاشات الكبرى دائمًا التباين في حقل السياسة الدولية، حيث كانت توصيفًا لحالة الهيمنة للمنظور الواقعي ومواجهتها لجملة من التحديات في تمدد مفهوم الفواعل الدولية نحو التعدد والتنوع. وحتى في شكل بنية النظام الدولي، يرى سميث أن هذا التباين راجع لتنوع الإجابات على الأسئلة التالية: ما هي فواعل العلاقات الدولية؟ وما هي المواضيع البحثية الرئيسية في السياسة الدولية؟ وما طبيعة التفاعلات في السياسة الدولية؟
اعتبر النقاش بين البرادايمات مفهومًا مغلوطًا لدراسة السياسة الدولية، فكل برادايم يحمل أجندة بحثية خاصة به في تفسير طبيعة التفاعلات الدولية. فمن غير الممكن أن تتوافق مع المنظورات الأخرى رغم اتساعها داخليًا في حدود الحقل المعرفي، ورغم انطلاقها من نفس الوقائع في البنية الدولية، إلا أنها تقدم تصورات مختلفة للعالم.
ومن زاوية أخرى، فإن العملية التنظيرية لم تتحرر في السياسة الدولية من هيمنة الأجندات البحثية للواقعية. فرغم أن النقاش كان متعدداً، إلا أنه كان في الأساس بأجندة واقعية. ويعود سبب ذلك إلى أن النقاشات الثلاثة قدمت تفسيرات لعالم مختلف، مما يجعل عدم القابلية للمقايسة، وحتى لو كان لنفس العالم، فقوة تفسير الواقعية للعالم كما هو موجود فرضت ذاتها.
وفي الرؤية التأملية، لا يمكن تقديم مقاربة واضحة كبديل للوضعية الواقعية في حقل السياسة الدولية، لأن المقاربات التأملية لا تتحدث بصوت واحد. ومن جهة أخرى، أثارت عملية التصنيف للدراسات ضمن التفكير التأملي نوعًا من التشويش. على سبيل المثال، يقدم براون قائمة تضم ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين النقديين والنسويين. أما سميث وأوينز، فتشمل أيضًا ما بعد الكولونياليين المعياريين ومنظري سوسيولوجية التاريخ. بينما تتسع قائمة تشرنوف لنقديين ما بعد البنيويين والبنائيين التأمليين.
تظهر هذه الديناميات في النقاشات الأكاديمية كيف أن حقل السياسة الدولية يتسم بالتعقيد والتنوع، مما يتطلب من الباحثين أن يكونوا واعين لهذه التباينات وأن يسعوا لفهمها بشكل شامل. إن هذا التباين في المنظورات يعكس التحديات التي تواجهها الدراسات السياسية في محاولة فهم العالم المعاصر، ويؤكد على أهمية الحوار المستمر بين مختلف المدارس الفكرية.
3.التعقد في السياسة الدولية
نظراً لمستوى النخب السياسية والمجتمعات بشكل عام، نجد أن الأحداث تحمل آثاراً ملحوظة في طبيعة التفاعلات الدولية، إذ تفرز الكثير من مظاهر التعقيد على مستوى بنية الدولة والمؤسسات السياسية والأفراد. لذلك، دعا رواد نظرية التعقيد إلى إعادة صياغة المفاهيم التي حددت طابع السياسة الدولية في الماضي. وقد برر التعقيديون موقفهم بأن نظرية العلاقات الدولية، حسب العلوم المادية، تعاني من نقطة سوداء تجعلها غير قادرة على توقع المخرجات المرغوبة وغير المرغوبة على المستوى الجزئي للنظام الدولي. يدعو التعقيديون إلى التركيز على سلوكية النظام الدولي وبنيته الفوضوية من أجل إيجاد مساحات لمقاربات جديدة قادرة على الوصول إلى حلول لتحديات أو احتواء أنظمة معقدة. حتى أن الأنظمة المعقدة لا تسمح بالتنبؤ، لكنها تصنع مسارات تسمح لصناع القرار بتقييم مستمر لقراراتهم السياسية.
وفي نفس السياق، فرض الفعل السياسي مراجعة لمستوى سياسة الدولة لأجل الاستغناء عنها في السياسة الدولية لتشمل كل الفواعل الخارجية، سواء كانت فوقية أو داخلية، دون مستوى الدولة. أصبح الفعل السياسي يتماشى مع نمط نظرية “أثر الفراشة” من حيث ممارسة قوة التأثير غير المحدود زمنياً، وهي غير مرتبطة بالقصدية ما دام تحمل تداعيات آنية تتخطى الدولة. تسمح نظرية التعقيد بتوسيع مجال البحث ليشمل كل التعارضات والتمييزات النظرية التقدمية. كافا سكي دعا للبحث في حدود الدولة في تشابكية مفهوم الحياة الدولية وليس فقط داخل أو خارج الدولة في السياسة الدولية، بحيث تصبح الطبيعة فاعلاً مثل الفواعل الأخرى، من خلال العوامل الجغرافية والمناخية، وحتى التأثيرات الإيكولوجية والبيولوجية. كما تصف النظرية التعقدية أن الظاهرة الدولية عرضية عابرة تعبر عن تغير طبيعة النظام من جغرافية لأخرى، فهي بذلك أدق من مفهوم النظام.
فسرت نظرية التعقيد صلاحية التنبؤ لنظريات بمدى ارتباطها بالاستقرار، وطرحت مقارنة بين فترة الحرب الباردة وخطية الأحداث الجيواستراتيجية، حيث عرفت النظريات ازدهاراً كبيراً خلال فترة الحرب الباردة، بينما عرفت تقهقراً فيما بعد الحرب الباردة نتيجة لعوامل الاضطراب الدولية.
الخاتمة
منذ بداية تأسيس قسم العلاقات الدولية، كان المسار التاريخي لنظريات السياسة الدولية أو العلاقات الدولية في تجاذبات حول إرث البيئة الويستفالية، بشكل يسمح بدراسة العالم بكيفية أفضل، وبين ما يرى ضرورة تقبل العالم كما هو. شكل النظام الويستفالي ميثاق أوروبا المستند على الدوام إلى مبدأ مناهض للهيمنة، حيث أن الدولة هي حجر الزاوية فيه، مما مهد لنقاشات نظرية مؤطرة لهذا الحقل ضمن فلسفة العلم
في البداية، برزت النظرية المثالية بين الحربين العالميتين ودعوتها إلى السلام عبر ميثاق وودرو ويلسون، بالالتفات نحو كل الفواعل المؤثرة، وهو عكس التيار الواقعي الذي فسر هشاشة الأحلاف والصداقات والجنوح نحو الحرب بحالة الشك والأنانية. تركزت الرؤى حول مركزية الدولة-الأناركية- وكيفية صياغة مفهوم الأمن على ضوء الصراع/التعاون، والدعوة لتأسيس عصبة الأمم كهيئة دولية. سقطت أفكار المثالية في الماء بعد قيام حرب عالمية أخرى، مما أعطى العنان لهيمنة الواقعية في الدراسات الأكاديمية، لكن لم يمنع من بروز رؤى نظرية جديدة بأكثر حدة، مثل الليبرالية والسلوكية، وبدرجة أقل الماركسية.
اصطدمت عملية التنظير في أواخر التسعينات من القرن الماضي مع جملة من التغيرات على مستوى الهياكل الفاعلة، حيث انتقل النظام من ثنائية إلى أحادية ثم إلى متعددة جديدة، وكذلك على مستوى الأجندة البحثية، حيث تراجعت الصراعات العسكرية العقائدية أمام الثورة الرقمية والتنوع الثقافي، وترجمته لكتابات حول التاريخ ونهاية العالم وصدام الحضارات، والشركات الإلكترونية ومحطات الفضاء والأقمار الاصطناعية، إضافة إلى الحروب البيولوجية والطاقة النظيفة وأزمة المياه.
أثرت الأحداث الجيواستراتيجية في أسس القراءات النظرية وأربكتها في جوهرها التنبئي، مما جعل التيار العقلاني غير قادر على استيعاب الأحداث السياسية والمستجدات العلمية. كان هذا بداية النقاش الرابع بين التيار العقلاني على أسس ابستمولوجية وضعية وبين المقاربات التأملية بأسس انطولوجية ما بعد الوضعية. وكان الجدال فيه قائم على إنكار ما بعد الوضعية للمناهج العلمية التجريبية والملاحظة، في دراسة سلوكيات فواعل المؤثرة في النظام الدولي، كما يلاحظ عكس الابستمولوجية الوضعية من الصعوبة فصل الذات عن الموضوع، فلا يمكن إخضاع السلوكيات البشرية للملاحظة والتجريب لأن الإنسان جزء منها كما أن تلك السلوكيات تتميز بالتغير والديناميكية والسرعة والقابلية على التأويل.
قائمة المصادر و المراجع
- Robert Axelrod, The Evolution of Cooperation , NY :basic books, 1984: Robert Axelrod and Robert O. Keohane ,”Achieving Cooperation under Anarchy :Strategies and Institution”, World Politics (38) :1985,226-54.’
- Chris Brown, Understanding international Relation,NY :palgraf Macmillan, third edition, 2005,45-46.
- Steve Smith and Patricia Owens, “alternative approaches to international theory” ,in Baylis and smith (eds.), 274-275.
- Fred Chernoff, theory and metatheory in international Relation :concepts and contending accounts, NY :palgraf macmillan, 2007,131.
- Kissan , moving beyond anarchy, 198.