من النخب التقليدية إلى النخب الرقمية: تحولات السلطة والنفوذ في عصر التواصل الرقمي
From Traditional Elites to Digital Elites: Transformations of Power and Influence in the Age of Digital Communication

اعداد : د.ماجد قروي – باحث في علم الاجتماع، كلية اللآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، تونس
المركز الديمقراطي العربي : –
- مجلة الدراسات الاستراتيجية للكوارث وإدارة الفرص : العدد السادس والعشرون حزيران – يونيو 2025 – المجلد 7 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا- برلين.
- تعنى المجلة مجال الدراسات التخصصية في مجال إدارة المخاطر والطوارئ والكوارث ،قضايا التخطيط الاستراتيجي للتنمية، الجيوبولتيك، الجيواستراتيجية، الأمن الإقليمي والدولي، السياسات الدفاعية، الأمن الطاقوي والغذائي، وتحولات النظام الدولي، والتنافس بين القوى الكبرى، إضافة إلى قضايا التنمية، العولمة، الحوكمة، التكامل الأقتصادي ، إعداد وتهيئة المجال والحكامة الترابية , إضافة إلى البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –
ملخص:
يشهد الجيوبوليتيك تحوّلات عميقة بفعل الرقمنة، حيث لم تعد الهيمنة تقتصر على التفوق السياسي والعسكري والاقتصادي، بل امتدت إلى الفضاء السيبراني عبر النخب الرقمية التي تعيد تشكيل النفوذ باستخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. يدرس البحث صعود هذه النخب وتأثيرها على السياسة والاقتصاد، مستعينًا بحالات مثل استخدام ترامب وماسك لمنصات التواصل والحركات الاجتماعية في الربيع العربي، كما يقارن بين السلطة التقليدية والرقمية، موضحًا كيف تعيد هذه التحولات تعريف السيادة والشرعية السياسية.
Abstract
The geopolitics is undergoing profound transformations due to digitization, as dominance is no longer limited to political, military, and economic superiority. It has extended to the cyber space through digital elites who are reshaping influence by using artificial intelligence and big data. This study examines the rise of these elites and their impact on politics and economics, drawing on cases such as Trump’s and Musk’s use of social media platforms and social movements during the Arab Spring. It also compares traditional and digital power, highlighting how these shifts redefine sovereignty and political legitimacy.
مقدمة
لقد أفضت التحولات الرقمية المتسارعة إلى إعادة صياغة الحقل الجيوبوليتيكي، حيث لم تعد الهيمنة تقتصر على التفوق العسكري أو السيطرة الاقتصادية المباشرة، بل باتت تمتد إلى الفضاء السيبراني، حيث تعاد هندسة معادلات النفوذ وفق أنماط غير تقليدية. في هذا السياق، تبرز النخب الرقمية كفاعلين جدد في إعادة توزيع السلطة، موظفةً أدوات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، والتلاعب الإدراكي لصياغة واقع موازٍ يهيمن على الإدراك الجمعي ويوجه السلوكيات السياسية والاجتماعية.(إيلون ماسك ،مارك زوكربيرغ ،الحركات الاجتماعية في الربيع العربي… )
أضحت القدرة على التحكم في تدفق المعلومات، وتوجيه الأجندات العامة، وإعادة تعريف مفاهيم السيادة والشرعية السياسية جزءًا من صراع أعمق، حيث يتلاشى البعد الإقليمي للنفوذ لصالح هندسات خوارزمية تتجاوز الحدود الجغرافية. تتجلى هذه التحولات في تصاعد دور المنصات الرقمية الكبرى، التي باتت تمارس تأثيرًا يعادل، إن لم يكن يفوق، تأثير الدول القومية، حيث تتحكم في منظومات الخطاب العام، وتعيد تشكيل شبكات الاصطفاف السياسي، بل وتمارس نوعًا من “السيادة الرقمية” التي تتحدى مفهوم الدولة التقليدية.
إلى جانب ذلك، يشهد النظام الدولي تحولًا بنيويًا، حيث أصبحت القوة تُقاس بمدى القدرة على اختراق البنية الإدراكية للمجتمعات، والتأثير على عمليات صنع القرار عبر آليات سيبرانية معقدة، تتراوح بين التجسس الرقمي، والحروب السيبرانية، والهيمنة على البنية التحتية للبيانات العالمية. ولم يعد الصراع الجيوبوليتيكي محصورًا في الجغرافيا الصلبة، بل أصبح يتموضع في الفضاء الافتراضي، حيث تتواجه الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية في معارك رقمية، تتجاوز حدود المعارك العسكرية التقليدية إلى مجالات أكثر تجريدًا، لكنها أشد وقعًا على موازين القوة.
إن هذا التغيير الجذري في منظومة السلطة يستدعي إعادة النظر في المفاهيم الكلاسيكية للسيادة والهيمنة، إذ لم يعد النفوذ مرتبطًا فقط بالسيطرة على الموارد الطبيعية أو الجغرافيا الاستراتيجية، بل بات يتجسد في السيطرة على تدفقات المعلومات، وإعادة تشكيل أنماط التفكير الجمعي، وتحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة من أدوات الهيمنة الجيوبوليتيكية.
- الإشكالية
كيف تعيد النخب الرقمية تشكيل موازين السلطة والنفوذ في العصر الرقمي، وما تأثير ذلك على مفهوم السيادة والدولة القومية؟ - الأسئلة الفرعية
- كيف يعيد التحول الرقمي تعريف مفهوم النخبة وفق مقولات علم الاجتماع السياسي؟
- ما طبيعة الهيمنة الجديدة التي تمارسها النخب الرقمية مقارنة بالنخب التقليدية؟
- كيف يؤثر احتكار البيانات والخوارزميات على إعادة توزيع مراكز السلطة؟
- إلى أي مدى يمكن اعتبار الشركات التكنولوجية الكبرى فاعلين سياديين ينافسون الدول القومية؟
- كيف يؤثر الصراع الجيوبوليتيكي الرقمي على موازين القوى العالمية؟
- منهجية البحث
تعتمد هذه الدراسة على مقاربة تستند إلى نظرية النخبة في علم الاجتماع السياسي لفهم التحولات العميقة التي طرأت على مراكز النفوذ والسلطة، حيث يتم تحليل صعود النخب الرقمية باعتبارها فاعلًا جديدًا يعيد رسم ملامح الهيمنة السياسية والاجتماعية. كما تستند إلى مفهوم الجغرافيا الرقمية في الجيوبوليتيك، الذي يكشف عن انتقال النفوذ من السيطرة على الأراضي والموارد المادية إلى التحكم في تدفقات المعلومات والبيانات الرقمية، مما يعيد تعريف موازين القوى في السياق المعولم.
على مستوى الأدوات التحليلية، تعتمد الدراسة على منهج دراسة الحالة، من خلال تحليل تأثير شخصيات رقمية وسياسية بارزة في إعادة صياغة مفاهيم القوة والتأثير. ويشمل ذلك دراسة نماذج مثل دونالد ترامب، الذي وظف منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما تويتر، كأداة مباشرة لمخاطبة الجماهير وصناعة القرار السياسي خارج الأطر المؤسسية التقليدية، مما أدى إلى تحولات غير مسبوقة في التفاعل بين السلطة والمجتمع. كما تتناول الدراسة شخصيات رقمية أخرى مثل إيلون ماسك، الذي يستخدم نفوذه الرقمي في توجيه الأسواق المالية والقرارات الاقتصادية عبر تغريداته المؤثرة. بالإضافة إلى ذلك، يتم تحليل دور المنصات الرقمية الكبرى في توجيه الحركات الاجتماعية، كما كان الحال خلال الربيع العربي، حيث أصبحت وسائل التواصل فضاءً بديلًا للتعبئة السياسية وإعادة تشكيل الديناميات الاحتجاجية.
ورغم اعتماد الدراسة على مصادر أكاديمية وتقارير بحثية متخصصة، فإنها تواجه تحديات منهجية، أبرزها الطبيعة الديناميكية للفضاء الرقمي، وتعقيد آليات النفوذ السيبراني، مما يتطلب تبني تحليل نقدي متوازن يأخذ في الاعتبار الأبعاد النظرية والتطورات الراهنة. وفي هذا السياق، تسعى الدراسة إلى الإجابة عن إشكالية محورية تتعلق بمدى قدرة النخب الرقمية على إعادة هندسة السلطة في العصر الرقمي، وتأثير ذلك على مفهوم السيادة في العلاقات الدولية الحديثة.
المحور الأول: مفهوم النخبة وتحولات السلطة في سياقات متغيرة
لطالما شكّل مفهوم “النخبة” أحد الركائز الأساسية لفهم بنية المجتمعات السياسية والاقتصادية، حيث تقوم أقلية منظمة ومهيكلة بإدارة الشؤون العامة، سواء عبر الهيمنة المباشرة على أجهزة الدولة، أو من خلال السيطرة على الوسائل الإنتاجية والمعرفية التي تضمن لها إعادة إنتاج سلطتها على المدى الطويل. وقد برزت مقاربات نظرية متعددة حاولت تفكيك بنية هذه النخب وفهم ديناميات عملها، انطلاقًا من الأطروحات الكلاسيكية التي صاغها رواد النظرية النخبوية، وصولًا إلى القراءات الحديثة التي أخذت في الاعتبار التحولات البنيوية التي طرأت على أنماط السلطة في العصر الرقمي.
يُعتبر فيلفريدو باريتو (Vilfredo Pareto) أحد أبرز منظري هذه المدرسة، حيث أسس تحليله على فرضية أساسية مفادها أن المجتمع تحكمه “نخبة” تمتلك مهارات قيادية تؤهلها للهيمنة، بينما تخضع هذه النخبة لعملية تداول دوري تُعيد من خلالها إنتاج ذاتها . ويحدث هذا التغيير نتيجة عوامل عدة، منها تبدل تركيبة الأعضاء، أو افتقار الخلفاء الجدد إلى خصائص أسلافهم، أو تسلل عناصر من الطبقات الدنيا أو مجتمعات أخرى. كما تسهم التحولات القانونية، مثل قوانين المواطنة، في إتاحة الفرصة لغير النخب للصعود. [1]
من هذا المنظور، تبدو النخبة ككيان متغير لكنه في جوهره يظل محتكرًا للسلطة. أما غايتانو موسكا (Gaetano Mosca)، فقد طوّر فكرة “الطبقة السياسية”، حيث اعتبر أن أي مجتمع يتشكل من أقلية منظمة تمتلك أدوات التحكم والسيطرة، وأغلبية غير منظمة تفتقد إلى القدرة على الحكم، مما يجعل السلطة حكرًا على من يمتلك التنظيم الداخلي والقدرة على اتخاذ القرارات. [2]
أما رايت ميلز (C. Wright Mills)، فقد صاغ مقاربته حول “نخبة القوة”، مشيرًا إلى أن السلطة ليست موزعة بين مختلف فئات المجتمع، بل تتركز في أيدي تحالف نخبوي يجمع بين القيادات السياسية، العسكرية، والاقتصادية، بحيث تتحكم هذه الفئات في الخيارات الكبرى وترسم الاستراتيجيات بعيدة المدى وفق مصالحها الخاصة.[3] في المقابل، وسّع بيير بورديو (Pierre Bourdieu) مفهوم النخبة ليشمل ليس فقط من يمتلك السلطة السياسية والاقتصادية، بل أيضًا من يسيطر على رأس المال الثقافي والرمزي، حيث تصبح الهيمنة مرتبطة بإنتاج المعاني وإعادة إنتاج التمثلات الاجتماعية التي تُشرعن موقع النخب داخل المجتمع. غير أن التحولات التكنولوجية الكبرى التي شهدها العالم مع بداية الألفية الثالثة أدت إلى خلخلة هذه الأنماط التقليدية من السلطة، حيث لم تعد الهيمنة مقتصرة على الطبقات السياسية والاقتصادية الكلاسيكية، بل باتت تتجلى ضمن فضاءات رقمية جديدة، ما فرض إعادة النظر في طبيعة النخب وآليات عملها.
إن الثورة الرقمية لم تفكك البنية النخبوية، بل أعادت تشكيلها عبر أدوات جديدة تقوم على تدفق المعلومات بدل احتكارها، وعلى إدارة الشبكات بدل السيطرة المركزية، مما يستدعي مساءلة معمقة لبنية النفوذ في العصر الرقمي.
لذلك فإن ما نقصده بالنخب الرقمية في بحثنا الأفراد والجماعات، بما في ذلك السياسيين وملاك الشركات الكبرى للتواصل الاجتماعي والحركات الاجتماعية والمؤثرين ، الذين يعتمدون على منصات وسائل التواصل الاجتماعي كأداة رئيسية للتأثير على الرأي العام وتوجيه الحوارات العامة. هؤلاء الفاعلون يستخدمون هذه الشبكات ليس فقط للتواصل، بل كآلية استراتيجية لإعادة تشكيل وتوزيع السلطة والنفوذ. من خلال توظيف البيانات الضخمة، وتحليل سلوك المستخدمين، واستراتيجيات التأثير الرقمية، يمكنهم صياغة الرسائل التي تصل إلى جماهير واسعة، متجاوزين بذلك الوسائل التقليدية للسلطة كالمؤسسات السياسية والإعلامية.
وبما أننا نستهدف السلطة كرهان وغاية للنخب التقليدية والنخب الرقمية فسنستعرض طبيعة السلطة في صيغتها التقليدية والسلطة في شكلها المستجد أي الرقمي:
جدول رقم (1): مقارنة بين السلطة التقليدية والسلطة الرقمية
السلطة التقليدية | السلطة الرقمية | العنصر |
تستند إلى التقاليد، الوراثة، أو الشرعية القانونية . | تستند إلى القدرة على التأثير في الفضاء الرقمي، من خلال الشبكات الاجتماعية والمنصات التكنولوجية. | المشروعية |
تعتمد على الهياكل الهرمية، المؤسسات، القوانين، والعلاقات الشخصية. | تعتمد على الخوارزميات، البيانات، الانتشار الفيروسي، والتفاعل الجماهيري المباشر. | آليات الممارسة |
الدولة، الأحزاب، العائلات الحاكمة، النخب التقليدية. | الشركات التكنولوجية، المؤثرون، الذكاء الاصطناعي، المنصات الرقمية. | مصادر النفوذ |
الإعلام التقليدي (تلفزيون، صحف، إذاعة)، الخطاب المباشر. | وسائل التواصل الاجتماعي، التلاعب بالبيانات، الترويج عبر الذكاء الاصطناعي. | وسائل التأثير |
علاقة رسمية، مؤسساتية، قائمة على القوانين والبروتوكولات. | علاقة مباشرة، تفاعلية، قائمة على المشاركة والانتشار السريع. | العلاقة مع الجمهور |
بطيئة التكيف مع المتغيرات، تحتاج إلى إصلاحات مؤسساتية معقدة. | سريعة التكيف، قادرة على إعادة تشكيل السلطة والنفوذ في وقت وجيز. | المرونة والتكيف |
خطاب رسمي، يعتمد على الخطابات السياسية، البيانات الصحفية، والتواصل المباشر عبر المؤسسات. | خطاب غير رسمي، يعتمد على التفاعل اللحظي، الاختصار، والصور والفيديوهات لجذب الانتباه. | طبيعة الخطاب |
تعتمد على القوانين، الأجهزة الأمنية، والمؤسسات الرقابية لضبط المجال العام. | تعتمد على سياسات المنصات، الذكاء الاصطناعي، والتلاعب بالخوارزميات لحجب أو توجيه المعلومات. | آليات الضبط والرقابة |
غالبًا مستقرة على المدى الطويل، لكنها تتغير ببطء عبر الأجيال والإصلاحات. | متغيرة وسريعة الزوال، حيث يمكن لشخص أو كيان أن يكتسب نفوذًا ثم يفقده في وقت قصير. |
مدى الاستمرارية والثبات |
السياسيون، القادة العسكريون، المؤسسات الرسمية. | المؤثرون، شركات التكنولوجيا، نشطاء الإنترنت. | الفاعلون الأساسيون |
استجابات بطيئة ومدروسة، غالبًا عبر اللجان والقرارات المؤسسية. | استجابات سريعة، تعتمد على التوجهات الرائجة (الترند) والضغط الجماهيري. | التفاعل مع الأزمات |
المصدر: من إعداد الباحث.
المحور الثاني: النخب الرقمية: الديناميكيات الجديدة للسلطة والتأثير في عصر المعلومات
في خضم التبدلات الجذرية التي يشهدها النظام العالمي، أضحت النخب الرقمية تشكل طبقة جديدة من الفاعلين القادرين على إعادة تشكيل معادلات القوة والنفوذ، مستندةً إلى أدوات معرفية وتقنية تتجاوز في تأثيرها الأطر التقليدية لممارسة السلطة. لم يعد النفوذ مقتصرًا على المؤسسات السيادية أو النخب السياسية والاقتصادية الكلاسيكية، بل بات يُعاد توزيعه وفق هندسات خوارزمية معقدة، حيث يتحول التحكم في تدفقات المعلومات، واستراتيجيات التلاعب الإدراكي، وآليات التأثير السيبراني إلى ركائز أساسية لإعادة صياغة موازين القوة.
إن هذه النخب لا تستمد سلطتها من الامتلاك المباشر للموارد الطبيعية أو السيطرة المادية على البنى التحتية، بل من قدرتها على توجيه الأنماط الإدراكية للجماهير، وإعادة إنتاج الحقائق الاجتماعية وفق نسق رقمي يتلاعب بالمجال التداولي للمعلومات. فبواسطة الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، يتم تفكيك البنية الإدراكية للمجتمعات وإعادة تشكيلها بأساليب تستند إلى تقنيات متقدمة في التنبؤ السلوكي، مما يتيح لهذه النخب فرض سردياتها الخاصة على الوعي الجمعي، دون الحاجة إلى اللجوء إلى الأدوات القمعية التقليدية.
لقد أصبحت المنصات الرقمية الكبرى أشبه بمؤسسات سيادية غير مرئية، حيث تسيطر على شبكات الاصطفاف السياسي، وتعيد هندسة المجال العام بوسائل تتجاوز في تعقيدها آليات الدعاية السياسية التقليدية. ولعل شخصيات مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ تمثل التجسيد الأكثر وضوحًا لهذا التحول، حيث لا تستند قوتهم إلى سلطة سياسية مباشرة، بل إلى امتلاكهم مفاتيح التحكم في تدفق المعلومات والبنية التحتية الرقمية التي تعتمد عليها الاقتصادات والمجتمعات الحديثة. إنهم لا يمارسون السلطة من خلال الأوامر المباشرة، بل عبر آليات خفية تعيد برمجة السلوك الاجتماعي والاقتصادي على نطاق عالمي.
أصبحت النخب الرقمية فاعلًا مؤثرا في إعادة تشكيل المشهد السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي، حيث تجاوز تأثيرها حدود الفضاء الافتراضي إلى إحداث تحولات جوهرية في البُنى التقليدية للسلطة. فقد أظهرت حركات الاحتجاج في الثورة التونسية (2011)، قدرة النخب الرقمية على توظيف منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك ويوتيوب، في تفكيك الأنظمة السلطوية من خلال إنتاج سرديات بديلة تتجاوز المصفوفة الإعلامية الرسمية، وهو ما تجلى أيضًا في الحراك المناهض لقانون “الأمن الشامل” في فرنسا (2020)[4]، حيث أفضى الضغط الرقمي إلى تعبئة جماهيرية واسعة النطاق ضد السياسات التقييدية.
على المستوى الاقتصادي، بات الفضاء السيبراني يشكل مسرحًا لصراعات مالية غير متمركزة، كما برز في أزمة أسهم GameStop (2021)، حيث استطاع مستثمرون رقميون على منصة Reddit تقويض استراتيجيات صناديق التحوط الكبرى[5]، مما كشف عن إمكانية إعادة هندسة الأسواق المالية من خارج دوائر الهيمنة التقليدية. كما أن تزايد نفوذ الفاعلين الرقميين في السياسات الاقتصادية ظهر جليًا في حالة إيلون ماسك، الذي تمكن عبر تغريداته على تويتر من إحداث تقلبات جوهرية في قيمة العملات الرقمية، على غرار البيتكوين والدوجكوين[6]، مما يؤكد أن التأثير الاقتصادي لم يعد حكرًا على المؤسسات المركزية، بل بات مرهونًا بفاعلين رقميين يمتلكون القدرة على إعادة توجيه التدفقات المالية عالميًا.
في تحليله للسلطة الرقمية على الاقتصاد قدم فاروفاكيس (Varoufakis) مفهوم “التقنية الإقطاعية” في نقده لتحولات الرأسمالية في العصر الرقمي. يمثل هذا الشكل من “الإقطاعية الرقمية” قطيعة مع الرأسمالية التقليدية، إذ إنه لا يعتمد على الأسواق التنافسية، بل يرتكز على الاحتكارات والأوليغارشيات الرقمية التي تستخرج الريوع من سيطرتها الحصرية على البنية التحتية للاقتصاد الرقمي، أي “السحابة” والبيانات المتداولة فيها.[7]
هذه السلطة الجديدة تختلف جذريًا عن الرأسمالية القائمة على السوق الحر، حيث لم يعد رأس المال الحقيقي يكمن في وسائل الإنتاج أو الموارد المادية، بل في البيانات الشخصية التي تحتكرها الشركات بشكل غير مسبوق. في هذا السياق، تتحكم الشركات الكبرى التي تمجّدها الصحافة الاقتصادية ليس فقط في السوق، بل أيضًا في العلاقات الشخصية والاجتماعية، مما يؤدي إلى إعادة تشكيل مفاهيم المواطنة والمشاركة في الاقتصاد والمجتمع.[8]
أما في البعد الجيوسياسي، فقد أصبحت الرقمنة أداة مركزية في إعادة ضبط موازين القوة. ففي الصين، يُعدّ Weibo منصة توجيهية تُستخدم في إنتاج سرديات تتماهى مع التوجهات الأيديولوجية الرسمية، في حين أن السلطات الروسية، رغم محاولاتها السيطرة على الفضاء الرقمي، واجهت تحديات متزايدة من قبل شبكات المعارضة الرقمية، كما حدث مع التعبئة لدعم أليكسي نافالني (2021) عبر يوتيوب وتويتر، والتي شكلت تهديدًا لمنظومة الضبط الإعلامي التقليدية[9].
إن هذا التحول في مراكز النفوذ يفرض إعادة نظر جذرية في مفاهيم الهيمنة والسلطة، حيث لم يعد التأثير حكرًا على الفواعل الدولاتية أو المؤسسات التقليدية، بل أصبح يتوزع وفق أنماط شبكية تتحدى النماذج المركزية للحكم والتوجيه.
تحليلًا لموقع النخب الرقمية ضمن ديناميات السلطة في السياق المعاصر، يمكن القول إن هذه النخب تعيد صياغة الفضاء السياسي والاقتصادي عبر آليات سيبرانية متقدمة، ما يفرض تجاوز مقاربات علم الاجتماع السياسي الكلاسيكية التي ركزت على الدولة والمؤسسات كحاملين حصريين للسلطة[10]. إن الانتقال من السلطة القائمة على التحكم المادي إلى سلطة رقمية قائمة على إعادة تشكيل الإدراك الجمعي يُنتج مشهدًا جديدًا تتحدد فيه موازين القوة وفق شبكات غير متمركزة، تستند إلى القدرة على هندسة المجال العام عبر تقنيات تحليل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.
إن هذه التحولات تعكس إعادة هيكلة للنخبة ذاتها، حيث لم يعد الوصول إلى مواقع النفوذ مقترنًا بالتموقع داخل البيروقراطيات التقليدية أو امتلاك رأس المال الاقتصادي بمعناه الكلاسيكي، بل بات مرتبطًا بامتلاك رأس مال رقمي يمنح صاحبه القدرة على التحكم في تدفقات المعلومات واستراتيجيات التأثير الإدراكي. هذا الانتقال نحو “الأرستقراطية السيبرانية” يُنتج أنماطًا جديدة من التراتبية الاجتماعية، حيث تتحدد مواقع الفاعلين وفق قدرتهم على توظيف المنصات الرقمية كآليات للضبط والإنتاج الرمزي.
وبناءً عليه، فإن السلطة في العصر الرقمي لم تعد سلطة هيكلية فقط، بل أضحت ذات طبيعة متحولة، تتشكل وفق أنماط تفاعلية بين الخوارزميات والمستخدمين، ما يستوجب مقاربات جديدة تفهم السلطة كعملية شبكية متغيرة، حيث يتم إنتاج الهيمنة ليس من خلال أدوات القسر المباشر، بل عبر التحكم في أنماط الإدراك والتفاعل الاجتماعي على نطاق عالمي أو محلي.
المحور الثالث: وسائل التواصل الاجتماعي وتطرف النخب السياسية
لئن لعب الانتشار الواسع للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في إعادة تشكيل ديناميكيات السلطة وإعادة توزيع النفوذ داخل الحقل السياسي، غير أنّ هذا التحول لم يكن مجرد توسيع لمساحات التفاعل، بل أفرز تداعيات غير متوقعة على المشهد الديمقراطي، إذ أعاد تشكيل أساليب التعبئة السياسية، مكرّسًا أنماطًا من التفاعل تقوم على الاستقطاب والتأثير اللحظي والعاطفي بدلًا من الحوار المؤسسي العقلاني حيث بات الخطاب الشعبوي والاستقطابي أكثر قدرة على الانتشار والتأثير، مما أعاد تعريف العلاقة بين النخب والجماهير.
تشير دراسة للباحث بابلو فرانسيسكو أرجوتي تيروني إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، لعبت دورًا حاسمًا في زيادة التطرف الأيديولوجي بين النخب السياسية. يوضح الباحث أن هذا التطرف يحدث من خلال مسارين رئيسيين: الأول يتمثل في تصاعد راديكالية الناخبين، مما يدفع السياسيين إلى تبني مواقف أكثر حدة استجابة لمطالب جمهورهم المتفاعل على المنصات الرقمية. أما المسار الثاني، فهو المكافأة التي تمنحها وسائل التواصل الاجتماعي للخطابات المتطرفة، حيث يحقق السياسيون الذين يتبنون مواقف أكثر تطرفًا تفاعلًا أعلى، ما يعزز استراتيجياتهم الرقمية ويؤثر على سلوكهم السياسي خارج الفضاء الافتراضي[11].
بناءً على تحليل بيانات من البرلمان التشيلي، يثبت الباحث أن السياسيين الذين ينشطون على فيسبوك يتجهون تدريجيًا نحو مواقف أكثر تطرفًا، مدفوعين بالتفاعل الكبير مع جمهور منصاتهم. كما يؤكد أن هذا النمط لا يقتصر على تشيلي، بل ينعكس أيضًا في دول أخرى من أمريكا اللاتينية مثل كولومبيا والبرازيل وبيرو، حيث أدى صعود النخب الرقمية إلى زيادة الاستقطاب السياسي، وأحيانًا إلى تراجع القيم الديمقراطية[12].
في هذا السياق، لا يمكن إغفال دور الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة في تشكيل بيئة سياسية قائمة على الاستقطاب، حيث أظهرت دراسات متعددة أن المحتوى الزائف ينتشر بسرعة أكبر مقارنة بالأخبار الحقيقية، نظرًا لجاذبيته وقدرته على إثارة التفاعل. وقد برز ذلك بوضوح خلال أحداث سياسية كبرى مثل استفتاء بريكست البريطاني والانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، حيث لم يقتصر الأمر على نشر أخبار كاذبة، بل تم استهداف الجماهير من خلال تحليل بياناتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي. وكشفت الأبحاث أن الحسابات الآلية (العقد والروبوتات) ساهمت في تضخيم الأخبار الزائفة وتشويه الحقائق، مما أدى إلى بيئة رقمية تكرّس الخطاب العاطفي بدلًا من الحوار العقلاني. وقد تجلى تأثير هذه الظاهرة في مدى انتشار الأخبار المزيفة، حيث حصدت 20 قصة انتخابية كاذبة على فيسبوك 8.7 مليون تفاعل، مقابل 7.3 مليون تفاعل للأخبار الصادرة عن وسائل الإعلام التقليدية، مما يعكس تأثير الخوارزميات في توجيه النقاشات السياسية وتعزيز التطرف السياسي.[13]
تشكل هذه النتائج دليلًا على أن التحولات الرقمية لم تؤثر فقط على أساليب تواصل النخب السياسية، بل أعادت تعريف آليات النفوذ والشرعية. ففي ظل هذا الواقع الجديد، لم يعد النفوذ السياسي قائمًا فقط على العلاقات المؤسسية والخطابات المعتدلة، بل أصبح مشروطًا بقدرة الفاعلين السياسيين على التفاعل مع جمهور رقمي يبحث عن الإثارة والاستقطاب. وهذا التحول يثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل الديمقراطية في عصر تتحكم فيه الخوارزميات في بروز النخب وصياغة الخطاب السياسي.
ففي سياق البيئة الرقمية المعاصرة، يُلاحظ أن الخطابات المتطرفة، سواء كانت أيديولوجية يمينية أو يسارية، تتمتع بقدرة استثنائية على التأثير والانتشار، حيث تسهم الخوارزميات الموجهة من قبل منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام في انتشار المحتوى الذي يثير العواطف الجياشة، مثل الغضب، الاستياء، أو الحماسة المتطرفة. ليصبح بذلك السياسيون الذين يتبنون مواقف راديكالية، سواء كانت في الاتجاه اليميني أو اليساري، أكثر قدرة على الوصول إلى جماهير واسعة من خلال هذه الديناميكيات الرقمية. وهذا يؤدي إلى تعميق الاستقطاب في الخطاب السياسي، حيث تصبح رسائل السياسيين أكثر حدة، بما يتوافق مع توجهات الخوارزميات التي تحفز التعليقات والردود العاطفية السريعة.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى ظواهر مثل صعود جايير بولسونارو في البرازيل ودونالد ترامب في الولايات المتحدة كمثالين بارزين على كيفية استغلال منصات التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام وتعزيز الانقسام السياسي. وفي كلا الحالتين، لم يُكن الإعلام التقليدي هو الوسيلة الأساسية التي ساعدت على صعود هذه الشخصيات، بل كان التفاعل الرقمي مع منشوراتهم على منصات مثل تويتر وفيسبوك وتيك توك هو المحرك الرئيسي لهذا الصعود. تكمن قوة هذا النوع من الخطاب في قدرته على تجاوز الأنماط التقليدية لوسائل الإعلام، مستفيدًا من التفاعل اللحظي والشخصي الذي تقدمه هذه المنصات، ما يجعل الخطابات المثيرة للجدل أكثر قدرة على توليد ردود فعل واسعة ومعززة للرؤية السياسية المتطرفة أو الشعبوية.
المحور الرابع: من القنوات المغلقة إلى الشبكات المفتوحة: كيف تعيد الرقمنة تشكيل النفوذ السياسي والدبلوماسي؟
إن أحد أبرز تحولات السلطة في العصر الرقمي هو انتقال الدبلوماسية من القنوات الرسمية المغلقة إلى المنصات الرقمية المفتوحة، حيث باتت التغريدات والتصريحات الرقمية تشكل جزءًا أساسيًا من الاستراتيجيات السياسية والدبلوماسية، لكنها في الوقت ذاته تفتح المجال لانزلاقات خطيرة قد تترتب عليها تداعيات واسعة النطاق. وهو ما تؤكده الباحثة فيونا راشيكا بقولها: ” فثورة وسائل التواصل الاجتماعي تغيّر طريقة رؤية الناس للعالم وكيفية تواصلهم. لم تسهل هذه الثورة فقط تفاعل الحكومات والسفراء مع الجمهور، بل جعلت الجميع أكثر وعيًا بالتأثيرات الإيجابية والسلبية التي قد يحدثها مجرد تعليق أو تغريدة أو منشور على فيسبوك أو مقطع فيديو أو صورة في فترة زمنية قصيرة.يمكن أن يؤدي نقص المعرفة حول استخدام تقنيات الاتصال الحديثة، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي إلى عواقب وخيمة، مثل نشوب صراعات حادة، بل وحتى إقالة سياسيين.”[14]
فعلى سبيل المثال، في عام 2012، قام وزير الخارجية السويدي كارل بيلدت بنشر تغريدة ذكر فيها أنه متوجه إلى دافوس لحضور عشاء تابع لبرنامج الغذاء العالمي، مشيرًا إلى أن الجوع في العالم يمثل مشكلة ملحة. ورغم أنه حذف التغريدة لاحقًا، إلا أنها انتشرت بسرعة وأثارت موجة من الانتقادات الحادة، حيث عكست تناقضًا صارخًا بين رمزية المكان (منتدى دافوس، الذي يمثل قمة النخب الاقتصادية العالمية) وبين موضوع التغريدة (محاربة الجوع)، مما كشف عن خطورة الفضاء الرقمي كأداة لمحاسبة الخطاب السياسي وكشف هشاشته أمام الجمهور. لكن الأثر الأكثر عمقًا للنخب الرقمية يتجلى في قدرتها على التأثير الفوري في الأسواق والقرارات الاقتصادية الكبرى، وهو ما ظهر بشكل جلي في تغريدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. ففي ماي 2019، نشر ترامب تغريدة يهدد فيها بزيادة الرسوم الجمركية على السلع الصينية، مما أدى إلى انهيار الأسواق المالية العالمية وخسائر قدرت بما يعادل الناتج المحلي الإجمالي السنوي لأستراليا.[15] لم تكن هذه التغريدة مجرد رأي شخصي أو تصريح إعلامي عابر، بل كانت أداة ضغط دبلوماسي تم توظيفها في سياق المفاوضات التجارية بين واشنطن وبكين.
هنا، يتجسد الفارق الجوهري بين النخب التقليدية، التي كانت تعتمد على التفاوض السري والقنوات الدبلوماسية المغلقة، والنخب الرقمية التي توظف العلنية الفورية للمنصات الرقمية كوسيلة لإعادة تشكيل موازين القوى على الساحة الدولية. ولا تقتصر تداعيات هذه التحولات على البعد الاقتصادي، بل تمتد إلى إعادة صياغة العلاقات الدولية وإثارة الأزمات الدبلوماسية، كما حدث في عام 2018 عندما نشرت وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند تغريدة تنتقد فيها اعتقال الناشطة السعودية سمر بدوي. وقد أدى ذلك إلى أزمة دبلوماسية بين كندا والسعودية، حيث اعتبرتها الرياض تدخلًا سافرًا في شؤونها الداخلية، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات عقابية شملت طرد السفير الكندي وتجميد العلاقات التجارية والاستثمارية.[16]
يكشف هذا المثال عن الطبيعة غير المتوقعة للفضاء الرقمي كأداة لممارسة السلطة، حيث يمكن لتغريدة واحدة أن تعيد رسم المشهد الجيوسياسي وتؤدي إلى تصعيد غير محسوب في العلاقات بين الدول. إن هذا التحول الجذري في ممارسة السلطة السياسية والدبلوماسية يعكس أزمة في ضبط الحدود بين الخطاب الرسمي والتفاعل الرقمي العفوي. فبينما كانت النخب التقليدية تمارس السلطة عبر قنوات منظمة وذات طابع رسمي، باتت النخب الرقمية تعتمد على السرعة الفائقة للفضاء الافتراضي، مما أدى إلى تآكل الفوارق بين ما هو خطاب انتخابي موجه للاستهلاك الداخلي وما هو موقف سياسي يؤثر على العلاقات الدولية. لقد أصبح التحكم في المنصات الرقمية وإدراك آليات انتشار الخطاب وتفاعله في الزمن الفعلي عنصرًا حاسمًا في إعادة هيكلة الحقل السياسي، حيث لم تعد السلطة تُمارس فقط داخل أروقة المؤسسات، بل أصبحت تتشكل في الفضاء الافتراضي، حيث تُصنع الشرعية من خلال التفاعل الجماهيري والقدرة على توجيه الرأي العام في الزمن الرقمي المتسارع.
- استنتاجات
تأسيسًا على ما سبق، تتضح جملة من الاستنتاجات التي تعيد مساءلة المفاهيم الكلاسيكية للهيمنة والنفوذ في ضوء التحولات التي فرضتها الرقمنة، وما تبعها من إعادة هيكلة للحقل الجيوبوليتيكي وفق أنماط جديدة من الصراع والسيادة.
أولًا، يشير التحليل إلى أنّ بروز النخب الرقمية يمثّل إعادة تشكيل جذرية لبنية السلطة، حيث لم يعد النفوذ رهين السيطرة التقليدية على الموارد المادية، بل بات يتجسد في التحكم في تدفقات المعلومات وإعادة صياغة الإدراك الجمعي عبر أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة. وبهذا المعنى، لم تعد الدولة القومية الفاعل الوحيد في النظام الدولي، إذ تشكّل هذه النخب الجديدة مراكز قوى تتجاوز الحدود الجغرافية وتعيد هندسة الاصطفافات السياسية والاجتماعية وفق منطق سيبراني خوارزمي، يستبدل الهيمنة المركزية بالتحكم الشبكي اللامرئي.
ثانيًا، تعكس هذه التحولات تصدعًا في مفهوم السيادة التقليدية، حيث أضحت “السيادة الرقمية” متغيرًا مستقلًا يؤثر في مخرجات السياسة العالمية. فالشركات التكنولوجية الكبرى، بوصفها كيانات فوق-دولتية، باتت تمارس نوعًا من الضبط السياسي والاقتصادي العابر للحدود، سواء من خلال التحكم في تدفق المعلومات أو التأثير على الأسواق المالية، كما يتجلى في قدرة شخصيات رقمية مثل إيلون ماسك على إعادة تشكيل الأنماط الاقتصادية بقرارات تبدو فردية، لكنها تمتلك تداعيات بنيوية على البنية الرأسمالية العالمية.
ثالثًا، يكشف المقال عن أن مفهوم النخبة، كما صاغته الأدبيات الكلاسيكية، قد خضع لتحولات جوهرية، بحيث لم تعد الهيمنة مشروطة بالسيطرة المباشرة، بل أضحت تقوم على القدرة على إعادة إنتاج التمثلات وتوجيه السلوك السياسي عبر آليات غير تقليدية. وبهذا، يبرز صعود أنماط جديدة من السلطة تستند إلى الذكاء الاصطناعي والتحليل السيبراني للمجتمعات، ما يحيل إلى إعادة تشكيل هرمية القوة خارج الأطر المؤسسية التقليدية.
رابعًا، يتضح أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن مجرد وسيط للتفاعل السياسي، بل أصبحت فضاءً لإعادة تشكيل الخطاب العام، عبر تعزيز الاستقطاب وإنتاج أنماط من التطرف السياسي ترتبط بتكثيف التفاعل الرقمي. فقد بات الخطاب الراديكالي أكثر قدرة على الانتشار، ما يدفع النخب السياسية إلى تبنّي استراتيجيات تواصلية تعيد هندسة المجال السياسي وفق منطق الإثارة والتعبئة اللحظية، على حساب النقاش المؤسسي القائم على البراغماتية السياسية.
خامسًا، تبرز الرقمنة كأداة مزدوجة الوظيفة: فهي من جهة تمكّن الفاعلين غير التقليديين من إعادة توزيع النفوذ، كما تجلى في حالات الحركات الاحتجاجية التي استثمرت الفضاء السيبراني كبديل للمجال العام التقليدي، لكنها من جهة أخرى تُستخدم من قبل الأنظمة الحاكمة كأداة للضبط والتحكم من خلال آليات الرقابة الرقمية، مما يفرض مساءلة معمقة حول مستقبل التوازنات السياسية في ظل التنافس المتزايد بين قوى الهيمنة الرقمية والقوى الساعية لتحرير المجال السيبراني من هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى.
ختامًا، يؤكد المقال أن الانتقال من الجغرافيا المادية إلى الجغرافيا الرقمية قد ولّد أنماطًا جديدة من الصراع الجيوبوليتيكي، حيث لم تعد القوة تُقاس بامتلاك الأراضي والموارد، بل بالقدرة على اختراق البنية الإدراكية للمجتمعات والتحكم في تدفق المعلومات. وفي ضوء هذا التحول، يغدو السؤال الأكثر إلحاحًا: هل سيظل النظام الدولي رهينًا للتصورات التقليدية حول السلطة والسيادة، أم أننا بصدد تشكّل نظام جديد تتصدر فيه النخب الرقمية المشهد بوصفها الفاعل المركزي في رسم ملامح المستقبل؟
الخاتمة
تأسيسًا على ما سلف، يمكن القول إنّ إعادة هندسة المنظومة الجيوسياسية في العصر الرقمي تفرض مراجعة جذرية للمفاهيم الكلاسيكية للسلطة والنفوذ والسيادة. فلم يعد الفاعلون السياسيون التقليديون يحتكرون إنتاج القرار، بل أضحت النخب الرقمية تمتلك أدوات إعادة التشكيل الإدراكي والتوجيه السيبراني للسلوك السياسي، مما يستدعي إعادة تأطير نظرية النخب في سياق يتجاوز التقسيمات التقليدية بين الدولة والمجتمع المدني، وبين المحلي والعالمي.
وفي هذا السياق، تتبدى الرقمنة ليس فقط كأداة لتمكين الفاعلين غير الدولتيين، بل أيضًا كآلية ضبط وإخضاع تستند إلى تكامل متزايد بين رأس المال التكنولوجي والمجال السياسي، مما يطرح إشكاليات معقدة تتصل بإعادة إنتاج الهيمنة في أنماطها غير المرئية. إنّ هذا التحول لا يُعيد فقط تشكيل أنماط الشرعية السياسية، بل يُؤسس أيضًا لمسارات جديدة من التفاوض الجيوبوليتيكي، حيث يغدو التحكم في تدفق المعلومات أداة مركزية في صياغة موازين القوى العالمية.
وعليه، فإنّ النظام الدولي يشهد إعادة تشكّل مستمرة في ضوء هذه التحولات الرقمية، مما يفرض مساءلة معمقة حول مستقبل الدولة القومية، ومآلات الفعل السياسي في ظل تمدّد الفضاء السيبراني كحقل للصراع، ليس فقط بين القوى التقليدية، بل بين أنماط جديدة من الفاعلين الذين يعيدون رسم خرائط النفوذ بآليات غير تقليدية. من هنا، يظل التحدي المركزي متمثلًا في مدى قدرة الفواعل المختلفة على استيعاب هذه الديناميكيات المستحدثة، وإعادة تعريف مقولات السلطة والسيادة في سياق باتت حدوده تتداخل بين الواقعي والافتراضي، وبين المادي والرقمي، على نحو يُعيد رسم معالم الجيوبوليتيك المعاصر.
قائمة المراجع
[1] Vilfredo Pareto, The Mind and Society: Jonathan Cape, London, 1935, P.169
[2]Gaetano Mosca, The Ruling Class, Mc Graw-Hill.Book Company, New York and London, 1939, p.54
[3] Charles Wright Mills, The power elite, Oxford University Press, United States of America, 1956, p.1
[4] “مسيرة الحريات.. هاشتاغ يجتاح المنصات.” الجزيرة نت, 28 نوفمبر 2020، تمت معاينته بتاريخ 26/02/2025 على الرابط التالي: https://linksshortcut.com/UVJXe
[5] عمالقة التحوط يخسرون المليارات بعد مراهنة جنونية من المتداولين الأفراد على ريديت.” الشرق بزنس, تمت معاينته بتاريخ 20/02/2025 على الرابط التالي: https://asharqbusiness.com/financial-markets/2741
[6] “إليك مدى تأثير تغريدات إيلون ماسك على العملات الرقمية.” عرب بتكوين, تمت معاينته بتاريخ 25/02/2025 على الرابط التالي: https://linksshortcut.com/JMtyE
[7] Tigani, Eugenio Pablo, Digital Apocalypse: Power and Control in the Age of Technopolitical Elites, Academia.edu, 2024, shorturl.at/PZ4d9. Accessed 23 Feb. 2025, p.6
[8] Ibid, p.6
[9] روسيا تعاقب منصات التواصل الاجتماعي بسبب المظاهرات الأخيرة.” الحرة, تمت معاينته بتاريخ 26/02/2025 على الرابط التالي https://linksshortcut.com/iliYv:
[10] للمزيد حول مفهوم السلطة أنظر:
Michel Foucault, Deux essais sur le sujet et le pouvoir, Parcours philosophique, edited by Hubert Dreyfus and Paul Rabinow, Gallimard, 1988
[11] Pablo Francisco Argote Tironi, The Impact of Social Media on Political Elites, PhD dissertation, Columbia University, 2023, p.1
[12] Ibid.p.2
[13]Semra Gündüç, The Effect of Social Media on Shaping Individuals’ Opinion Formation, Complex Networks and Their Applications VIII, Springer, 2019,p.2
[14]Viona Rashica, “The benefits and risks of digital diplomacy.” Seeu Review 13, no. 1 (2018): 75-89.p.81
[15] BBC. “ترامب يرفع الرسوم الجمركية على سلع صينية بقيمة 200 مليار دولار.” BBC Arabic, 10 May 2019, Accessed 1 Mar. 2025 https://www.bbc.com/arabic/world-48226556.
[16] كندا والسعودية: الرياض تطرد السفير الكندي بسبب تغريدة عن حقوق الإنسان.” BBC Arabic, 6 Aug. 2018. Accessed 1 Mar. 2025: