الشركات العسكرية والأمنية الخاصة وتأثير عملها على تطبيق مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين
Private Military and Security Companies and the Impact of Their Operations on the Application of the Principle of Distinction Between Civilians and Combatants

اعداد : د. علاء الدين بو مرعي – الجامعة الاسلامية في لبنان
المركز الديمقراطي العربي : –
- مجلة مؤشر للدراسات الاستطلاعية : العدد عشرون كانون الأول – ديسمبر 2025 , مجلد 6 , دورية علمية محكمة تصدر عن #المركز_الديمقراطي_العربي “ألمانيا –برلين” في التعاون مع مركز مؤشر للدراسات الاستطلاعية.
-
تعنى بنشر البحوث والدراسات الاكاديمية الرصينة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية , علوم اللغة والترجمة , العلوم الإسلامية والآداب ،العلوم الفنية , علوم الآثار , العلوم التربوية والعلوم النفسية والأرطفونيا, كما , تعنى بنشر نتائج البحوث الاستطلاعية في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
للأطلاع على البحث “pdf” من خلال الرابط المرفق :-
الملخص :
شهدت العقود الأخيرة تزايداً ملحوظاً في اعتماد الدول على الشركات العسكرية والأمنية الخاصة للقيام بمهام عسكرية وأمنية كانت تقليدياً من اختصاص القوات المسلحة النظامية، وذلك في إطار خصخصة الوظائف العسكرية وتخفيف الأعباء البشرية والمادية عن الجيوش الوطنية. غير أن هذا التوجّه أفرز إشكاليات قانونية معقّدة، في مقدمتها صعوبة تحديد الوضع القانوني لأفراد هذه الشركات أثناء النزاعات المسلحة، وما إذا كانوا يُصنَّفون كمقاتلين أم مدنيين، الأمر الذي ينعكس مباشرة على تطبيق مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، بوصفه أحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني.
يناقش هذا البحث الطبيعة القانونية لأفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في ضوء قواعد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول، من خلال تحليل مدى انطباق صفة المقاتل عليهم، أو اعتبارهم مدنيين يرافقون القوات المسلحة، وفقاً لطبيعة المهام التي يؤدونها ومستوى مشاركتهم في الأعمال العدائية. كما يتناول البحث أثر مشاركة هذه الشركات في النزاعات المسلحة على فاعلية مبدأ التمييز، وما تخلقه من غموض في عملية التصنيف، بما يؤدي إلى إضعاف الحماية المقررة للمدنيين، ويُعقِّد مسألة المساءلة القانونية عن الانتهاكات المرتكبة.
ويُبرز البحث أن غياب إطار قانوني دولي ملزم ينظم عمل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة يسهم في اتساع فجوة الإفلات من المسؤولية، سواء على مستوى الدول المتعاقدة أو على مستوى الأفراد العاملين في هذه الشركات. كما يخلص إلى أن تحديد الصفة القانونية لأفراد الشركات يجب أن يتم على أساس كل حالة على حدة، وفق طبيعة النشاط المنفّذ، مع ضرورة التمييز بين المهام ذات الطابع المدني وتلك التي تشكل مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية.
ويخلص البحث إلى التأكيد على الحاجة الملحّة لتطوير قواعد القانون الدولي الإنساني، أو اعتماد آليات دولية أكثر فاعلية، تضمن ضبط أنشطة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، وتحقيق التوازن بين متطلبات الواقع العملي للنزاعات المسلحة المعاصرة، والحفاظ على جوهر مبدأ التمييز، بما يكفل حماية المدنيين، ويضمن المساءلة عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني.
Abstract
In recent decades, states have increasingly relied on private military and security companies to perform military and security functions that were traditionally the exclusive responsibility of regular armed forces. This trend has emerged within the broader context of the privatization of military functions and the reduction of human and material burdens on national armies. However, this development has generated complex legal challenges, foremost among them the difficulty of determining the legal status of personnel employed by these companies during armed conflicts and whether they should be classified as combatants or civilians. This ambiguity directly affects the application of the principle of distinction between civilians and combatants, which constitutes one of the fundamental principles of international humanitarian law.
This study examines the legal status of private military and security company personnel in light of the rules of international humanitarian law, particularly the Geneva Conventions and Additional Protocol I. It does so by analyzing the extent to which combatant status may apply to such personnel, or whether they should instead be regarded as civilians accompanying the armed forces, depending on the nature of the tasks they perform and the degree of their participation in hostilities. The study also explores the impact of these companies’ involvement in armed conflicts on the effectiveness of the principle of distinction, and the ambiguity it creates in classification processes, which in turn weakens the protection afforded to civilians and complicates legal accountability for violations committed.
The study highlights that the absence of a binding international legal framework regulating the activities of private military and security companies contributes significantly to the widening accountability gap, both at the level of contracting states and at the level of individual company personnel. It further concludes that the determination of the legal status of such personnel must be conducted on a case-by-case basis, in accordance with the nature of the activities carried out, with a clear distinction drawn between tasks of a civilian nature and those amounting to direct participation in hostilities.
Finally, the study emphasizes the urgent need to develop international humanitarian law rules or to adopt more effective international mechanisms capable of regulating the activities of private military and security companies. Such measures are essential to striking a balance between the practical realities of contemporary armed conflicts and the preservation of the core of the principle of distinction, thereby ensuring the protection of civilians and guaranteeing accountability for violations of international humanitarian law.
المقدمة
تمتد أصول الشركات العسكرية والأمنية الخاصة عميقاً في تاريخ الأعمال العسكرية والأمنية فقد كانت في أول انطلاقتها مجموعات صغيرة يُكَوِّنها أفرادٌ مرتزقة، وكانت بعض الدول تستأجرها لخوض الحروب ضدّ أعدائها. ثمَّ تصاعد دور تلك مجموعات، وتنامى حتى ظهر على الساحة الدولية ما يُعرَف، اليوم، باسم «الشركات العسكرية والأمنية الخاصة» التي صارت تُشكِّل قوة عسكرية مكوَّنة من أفراد مقاتلين، قادرة على القتال، وفرض السيطرة العسكرية الميدانية أثناء خوض النزاعات المسلحة، وقادرة على فرض الأمن، وحماية الجهات التي تعمل لصالحها.
وبالفعل فإن مشاركة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الأعمال العدائية، تُؤثِّر على تطبيق مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، نظراً إلى أن تلك المشاركة تنعكس على تصنيف أفراد الشركات، خصوصاً أن مشاركتهم في العمل العسكري مهما كان نوعه تجعل من خصمهم غير قادر على تصنيفهم بين مقاتلين وغير مقاتلين، وغير قادر على التعامل معهم.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن العقدة الإجرائية المتصلة بتحديد التكييف القانوني لأفعال الأفراد العاملين ضمن الشركات يحول دون تمكين الطرف المتضرر من إثبات المسؤولية القانونية عن تلك الأفعال. وعليه، تنشأ ضرورة ملحة لتحديد الأطراف المسؤولة التي تتحمل تبعات الانتهاكات المرتكبة من قبل هؤلاء الأفراد.
وفي هذا السياق، فقد أسفرت ممارسات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في عدد من الدول عن خرق قواعد القانون الدولي الإنساني بشكل جسيم، نجم عنه إلحاق الضرر بالمدنيين. وقد أثارت هذه الوقائع تساؤلات جوهرية بشأن النطاق القانوني لعمل هذه الشركات وشرعية وجودها، مما حفز المجتمع الدولي والدول المعنية إلى السعي نحو صياغة صكوك دولية تهدف إلى تنظيم وتقنين أنشطة هذه الشركات، ومن أبرزها المبادرة المعروفة باسم «وثيقة مونترو».
وبالنظر إلى واقع عمل الشركات هذه وأفرادها في ميادين النزاع المسلح، وانعكاس هذا العمل على مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، فإن دراسة هذا الواقع تكتسي أهميةً كبيرة تنبع من أن عمل أفراد الشركات في ميادين النزاع يُشكل علامة فارقة في تطبيق مبدأ التمييز تُظهرها قضية تصنيف هؤلاء الأفراد بين مقاتلين أو غير مقاتلين. وما هذه الدراسة هنا إلا محاولةً للإضاءة على تصنيف هؤلاء الأفراد بين مقاتلين أو غير مقاتلين، ومحاولةً تهدف إلى كشف تأثير عمل هذه الشركات على مبدأ التمييز، وتحديد المسؤوليات الناتجة عن انتهاك القانون الدولي الإنساني.
وانطلاقاً مِمّا تقدم، فإن الشركات العسكرية والأمنية تقوم بدور أساسي في العمل العسكري الميداني مما يُشكل إطاراً عاماً يؤدي إلى خللٍ في تطبيق مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وعليه يمكن طرح الإشكالية التالية: ما تأثير عمل هذه الشركات على تطبيق مقتضيات مبدأ التمييز؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية لا بدّ من تحديد الطبيعة القانونية لأفراد الشركات في حال تطبيق مُقْتَضَيات مبدأ التمييز، ودراسة تأثير عمل هذه الشركات على هذا المبدأ، ومن ثُمَّ تحديد الجهة التي يُمكن أن تتحمل مسؤوليات عن انتهاك أفراد الشركات القانون الإنساني ، وذلك في المبحثين الآتيين:
المبحث الأول: الطبيعة القانونية لأفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أمام مُقْتَضَيات مبدأ التمييز.
المبحث الثاني: تأثير عمل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على مبدأ التمييز والمسؤولية عن انتهاكِ هذه الشركات القانونَ الدولي الإنساني.
1. الطبيعة القانونية لأفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أمام مُقْتَضَيات مبدأ التمييز.
يَفْرِض مبدأ التمييز على أطراف أيّ نزاع مسلح أن يكونوا قادرين على تمييز المقاتلين عن المدنيين، وهذا الفرض يُوْجِب أن يقوم المقاتلون بتمييز أنفسهم عن المدنيين، ويُوْجِب ألّا يُشارك المدنيون مباشرة في الأعمال العدائية.
وتحديد الطبيعة القانونية لأفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أمام مُقْتَضَيات مبدأ التمييز يستوجب تحديد ما إذا كان هؤلاء الأفراد مقاتلين كمقاتلي القوات المسلحة النظامية، أم مدنيين يرافقون القوات المسلحة، فمبدأ التمييز يَفْرِض على أطراف النزاع المسلح تصنيف الأفراد المتواجدين في هذا النزاع، بين مقاتلين، ومدنيين، كي يُستطاع توجيه العمليات العسكرية ضدّ المقاتلين، دون المدنيين، ويَفْرِض على المدنيين عدم المشاركة في الأعمال العدائية كَيْلا يكونوا عُرضةً لِفُقْدانهم الحماية التي يُقِرُّها لهم القانون الإنساني الدولي.
وبما أن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة تُشارك أثناء النزاعات المسلحة في الأعمال العدائية، فإنّ عليها التزام مبدأ التمييز، وعلى أفرادها الذين يُشاركون في هذه الأعمال أن يُميِّزوا أنفسهم عن المدنيين بناءً على ما يقتضيه هذا المبدأ، وعليه لا بدّ من دراسة حالهم أمام مقتضيات هذا المبدأ، وذلك في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: أفراد الشركات العسكرية والأمنية مقاتلون .
المطلب الثاني: أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مدنيون يرافقون القوات المسلحة.
- أفراد الشركات العسكرية والأمنية مقاتلون.
إنّ تحديد كون أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مقاتلين، أم غير مقاتلين يُوْجِبُه ثلاثة أمور: أولها تَمَكُّن القوات المُواجِهَة لهؤلاء الأفراد من معرفة ما إذا كانوا أهدافاً عسكرية شرعية يمكن مهاجمتها بشكل قانوني، أم لا. وثانيها معرفة ما إذا كانوا يشاركون في الأعمال العدائية بشكل قانوني أم لا، وثالثها معرفة ما إذا كان بالإمكان محاكمتهم نتيجة مشاركتهم في الأعمال العدائية، أم لا.
أمّا عملية تحديد وَضْع المقاتل فترتبط بعضويته في القوات المسلحة التابعة لطرف ما في النزاع، أو بعضويته في ميليشيات، أو في وحدات متطوعة تستوفي معايير محددة، وتنتمي إلى هذا الطرف. وعند تقويم حالة أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، من الضروري تقويم اندماجهم في القوات المسلحة، أو قدرتهم على تلبية متطلبات التأهّل ليكونوا كأفراد الميليشيات المنصوص عليهم في الفقرة ألِف (2) من المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة، أو تقويم ما إذا كان قد تَمَّ دمجهم في القوات المسلحة كما هو منصوص عليه في الفقرة ألِف (1) من المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة. ومن الضروري، كذلك، تقويم ما إذا كان أفراد الشركات الخاصة مدمجين في القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع، على النحو المحَدَّد في المادة 43 من البروتوكول الإضافي الأول.
وفي حقيقة الأمر يمكن التصور أنّه إذا تَمَّ دمج جميع أفراد الشركات في القوات المسلحة، فمن شأن ذلك أن يَحُلَّ جميع القضايا المتعلقة بتنظيم أفراد الشركات، ويَحُلّ مشاكل تصنيفهم وفق ما يقتضيه مبدأ التمييز والقانون الإنساني الدولي، ولكن هذا التصور يبدو غير واقعي في ظلّ لجوء الدول إلى خصخصة الأعمال العسكرية الحكومية، ولجوئها إلى الاستعانة بمصادر خارجية للقيام بالمهام العسكرية والأمنية.
وبناءً على ما تقدم يصحّ القول: إنّ أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة يُمْكِن أن يكتسبوا صفة مقاتل بإحدى طريقتين: أُولاهما، بالاستناد إلى المادة 43 من البروتوكول الإضافي الأول([1])؛ وثانيتهما، بالاستناد إلى الفقرة ألِف من المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة([2]).
إنّ أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة يعملون ضمن مجموعة عسكرية متكاملة، ولا يعملون منفردين كُلٌّ على حِدة، وبالتالي فإنّ عليهم احترام قواعد الحرب وعاداتها.
وعلى الرغم من أنّ الامتثال لِشَرط الالتزام بقواعد الحرب وعاداتها ليس صعباً، فإنّ الممارسات العملية التي يقوم بها أفراد الشركات ومجموعاتهم لا تُظهر أنهم مستعدون لتلبية هذا الشرط، ولا للامتثال للقانون الإنساني الدولي. فلقد أظهرت حوادث عديدة أن الشركات وأفرادها لا يلتزمون قواعد الحرب وعاداتها، ولا القانون الإنساني الدولي، فعلى سبيل المثال، تَوَرَّط العاملون في الشركات العاملة في العراق بحوادث إطلاق نار، واعتداءات ضدّ مدنيين. وفي كثير من هذه الحوادث كان هؤلاء العاملون هم مَنْ بدأوا الاعتداء، وإطلاق النار.
ومما تقدم يبدو أن أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة لا يُلَبّون الشروط الواردة في الفقرة ألِف من المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة، بسبب ممارساتهم التي تَحيدُ عن القواعد القانونية السليمة، ولأنهم يُنَفِّذون أعمالهم بطريقة لا يريدون فيها أن يكونوا مسؤولين عن انتهاكات، أو حوادث يسقط فيها ضحايا مدنيون. وبالتالي فهُمْ لا يمكن أن يكونوا مقاتلين شرعيين كمقاتلي القوات المسلحة التابعة للدول ولا مقاتلين كمقاتلي الميليشيات، أو الوحدات المتطوعة المندمجة في القوات المسلحة.
2.1. أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مدنيون يُرافقون القوات المسلحة
يَرِد في الفقرة ألِف (1و2) من المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة مبدأ مفاده أن المقاتلين المؤلَّفين من أفراد القوات المسلحة، والميليشيات، ووحدات المتطوِّعين، المنتمين إلى القوات المسلحة، يحق لهم، وحدهم، أن يتمتعوا بوَضْع أسرى الحرب عند وقوعهم في الأسر، ولكن الفقرة ألِف (4) من المادة نفسها يَرِد فيها استثناءٌ محدود مفاده أن هناك فئة أخرى من الأشخاص الذين يحق لهم التمتع بوَضْع أسير حرب عند وقوعهم في الأسْر هم: «الأشخاص الذين يرافقون القوات المسلحة دون أن يكونوا في الواقع جزءاً منها، كالأشخاص المدنيين الموجودين ضمن أطقم الطائرات الحربية، والمراسلين الحربيِّين، ومتعهِّدي التموين، وأفراد وحدات العمال أو الخدمات المختصة بالترفيه عن العسكريين، شريطة أن يكون لديهم تصريح من القوات المسلحة التي يرافقونها، والتي يجب عليها أن تزوِّدهم لهذا الغرض ببطاقة هوِيَّة»([3]).
أمّا الأمر الذي يفتقر إلى الوضوح الكافي في هذه الفقرة فهو أنها لا تُعطي قائمة شاملة بمقدمي الخدمات الذين يمكن أن يرافقوا القوات المسلحة، لكونها قائمة إرشادية فحسب. وليس في التعليق على اتفاقية جنيف الثالثة ما يُلقي الضوء على حدود الأنشطة التي يمكن لهذه الفئة من الأشخاص القيام بها، فالتعليق يَذْكُر، فقط، أنّ «القائمة المقدمة هي للإشارة، مع ذلك يُمكن لنصّ [الفقرة ألِف (4)] أن يشمل فئات أخرى من الأشخاص الذين قد يُطلب منهم، في ظروف مماثلة، مرافقة القوات المسلحة أثناء أي نزاع»([4]). وهذا يعني أن إدراج فئة من المدنيين المرافقين للقوات المسلحة في الفقرة ألِف (4)، وإدراج أنشطتها التي يمكن أن تقوم بها على سبيل المثال لا الحصر، وإضفاء صفة «غير المقاتل» عليها، أمورٌ تُبَيِّن أن المقصود من هذه الفقرة ألّا تَشْمَلَ فئةُ المدنيين هذه أشخاصاً يقومون بأنشطة تُعَدّ مشارَكة مباشرة في الأعمال العدائية. وأمّا الأمر الذي لا يفتقر إلى الوضوح في هذه الفقرة فهو أنها اشترطت لهذه الفئة من الأشخاص وجوب أن يكون لديها تصريح من القوات المسلحة التي ترافقها، وأن يحمل أفرادها بطاقات هوِيَّة تُعَرِّفُهم.
وفي ما يتعلق بأفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة فإنّ انتماءهم إلى فئة المدنيين الذين يرافقون القوات المسلحة، ومنحهم وَضْع أسير حرب، مرهون بوجود تصريح بمرافقة القوات المسلحة، يُمْنح لهم من قِبَل هذه القوات، ويتضمَّن تحديد الوظيفة التي يؤدونها.
وفي اجتماع حول «مقاولي الشركات العسكرية الخاصة» عَقَده في العام 2005 خبراء قانونيون، جرى نقاشٌ حول أفراد الشركات، رأى فيه أحد الخبراء أن الدول لا يمكنها ببساطة منح وَضْع أسير حرب لأفراد الشركات الذين استأجرتهم بمجرد إصدار بطاقة هوِيَّة لهم؛ فلا بُدّ من وجود صلة بينهم وبين القوات المسلحة، ورأى، أنّه إذا ما تمّ وصف أفراد الشركات بأنهم أشخاص يرافقون القوات المسلحة، فمن غير الواضح ما إذا كان هذا يعني أن على أفراد القوات المسلحة أن يكونوا حاضرين فعلياً حيث تعمل الشركات الخاصة أم لا، ولكن على الأقل، يجب أن يُقَدِّموا نوعاً من الخدمة للقوات المسلحة لا أن يكونوا مجرد مُنَفِّذي عقد للدولة التي تَتْبَع لها هذه القوات([5]). وبالنظر إلى هذا الرأي يمكن القول: إن أفراد الشركات يمكنهم أن يكونوا مدنيين يرافقون القوات المسلحة إذا كانوا يقدِّمون لهذه القوات خدمات ذات طابع مدني، ويحملون تصريحاً بالعمل، وبالتالي يمكنهم التمتع بوَضْع أسير حرب إذا ما وقعوا في الأسْر، شرط ألّا يشاركوا في أعمال عدائية. ولا يمكن أنْ تُعَدّ العقود التي تنشأ بين الشركات والدول تصريحات بمرافقة القوات المسلحة.
هذه الفئة من الأشخاص المرافقين للقوات المسلحة لا تُعَدّ مؤهَّلة لتكون مقاتلة أثناء النزاعات المسلحة، ولا يمكنها المشاركة في الأعمال القتالية بصورة مباشرة، كما أنها مستثناة من أن تُعَدّ فئة من المدنيين لأن الفقرة الأولى من المادة 50([6]) من البروتوكول الإضافي الأول استثنت هؤلاء الأشخاص من تعريف المدني، فهُمْ يُعامَلون على أنهم أسرى حرب في حال وقوعهم في قبضة العدوّ أثناء النزاع المسلح بمقتضى المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة.
ومن الواضح أن طبيعة الأنشطة المدرجة في الفقرة ألِف (4) من المادة 4، باستثناء نشاط الأفراد المدنيين العاملين ضمن أطقم الطائرات الحربية، تتعلق جميعها بعمليات الدعم والخدمات، ولا ترتبط بالوظائف القتالية الخاصة بالقوات المسلحة، وهذا دليل على وجود شرط ضمني في هذه الفقرة مؤدّاه أن التمتع بوَضْع أسير الحرب يُوْجِب على الأفراد المعنيين ألّا يشاركوا في الأعمال القتالية مشاركةً مباشرةً([7]).
وهذا الشرط الضمني لا يحظى بالموافقة على المستوى الدولي، فَوِزارة الدفاع الأمريكية، مثلاً، لديها موقف خاص مفاده أن هؤلاء الأشخاص الذين يقعون في نطاق الفقرة ألِف (4) من المادة 4، ويرافقون القوات المسلحة لا يفقدون وَضْع أسير الحرب نتيجة مشاركتهم المباشرة في الأعمال العدائية، إذا ما تَمَّ القبض عليهم([8]). أما مُبَرِّر هذا الموقف فحقيقةٌ مفادها أن الفقرة ألِف (4) من المادة 4 تشمل أشخاصاً معينين قد يُتوقّع منهم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية في ظروف معينة، كالأشخاص المدنيين العاملين ضمن أطقم الطائرات العسكرية([9]).
وإذا ما تمّ القبول بهذا الموقف، وبأنْ ليس هناك شرط ضمنيّ في الفقرة ألِف (4) من المادة 4 يَمنع الأشخاص الذين يرافقون القوات المسلحة من المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، عندها يمكن للدولة في هذه الحال أن تسمح لشركة خاصة بمرافقة قواتها المسلحة، وبإصدار بطاقات هوية لأفراد هذه الشركة، وبالتالي يصبح هؤلاء جميعاً ضمن الفقرة ألِف (4) من المادة 4، سواء أشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية أم لم يشاركوا ([10]). وهذا يعني أنه يمكن منح أفراد الشركات صفة المدنيين المرافقين للقوات المسلحة، ولكن هذا الأمر غير مقبول لأن منحهم هذه الصفة يجعل أفراد الشركات الذين يشاركون في الأعمال العدائية أشخاصاً محميّين، ولهم حق التمتع بوَضْع أسير حرب، وهذا مخالف للمنطق القانوني الذي يرفع الحماية عن الأشخاص المدنيين الذين يشاركون في الأعمال العدائية بشكل غير قانوني، طوال مدة مشاركتهم تلك.
وانطلاقاً من التحليل السابق، يمكن القول: إن أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة الذين يقدمون خدمات غير قتالية (كالتموين) هم مدنيون مرافقون للقوات المسلحة، بشرط حصولهم على ترخيص رسمي. أما الذين يؤدون مهاماتٍ قتالية (كصيانة الأسلحة)، فلا ينطبق عليهم هذا التصنيف. لذلك، يجب تحديد صفة كل فرد بناءً على طبيعة عمله.
2. تأثير عمل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على مبدأ التمييز، والمسؤولية عن انتهاكِ هذه الشركات القانونَ الدولي الإنساني.
إن مشاركة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الأعمال العدائية يطرح عدداً من القضايا القانونية تتعلق بمبدأ التمييز، ويفرض تحدِّياتٍ تتعلق بتطبيق هذا المبدأ، وبتطبيق الحماية الخاصة بالمدنيين، والأعيان المدنية، وتحدِّياتٍ أُخَرَ تتعلق بتحديد المسؤوليات عن انتهاك القانون الإنساني.
فتواجد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في مناطق النزاعات المسلحة، ومشاركتُها في الأعمال العدائية، يطرح قضايا قانونية تتعلق بحالها إزاء مبدأ التمييز، ولا سيّما ما يتصل من هذه القضايا بتصنيف أفراد هذه الشركات بين مقاتلين ومدنيين، وما يتصل باعتماد مفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية من أجل تحديد حقوق الشركات، ومسؤولياتها، وتُثير مشاركتُها في الأعمال العدائية، فوق ذلك، قضية المسؤولية عن انتهاكها هي وأفرادُها القانون الإنساني الدولي.
ومن هذا المنطلق لا بدّ من بحث هذه القضايا القانونية التي يطرحها عمل الشركات العسكرية والأمنية، وذلك في مطلبين:
1.2. تأثير عمل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على مبدأ التمييز.
تُشارك الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاعات المسلحة في الأعمال العدائية، مشاركةً تُؤثِّر على تطبيق مبدأ التمييز، بسبب انعكاسها على قضية تصنيف أفراد الشركات، فاشتراك هؤلاء في الأعمال العدائية، يُصَعِّب على خصمهم عملية تصنيفهم، وكيفية التعامل معهم، لأنه من غير المعروف لديه قَبْل دخول المعركة ما صفة أفراد هذه الشركات، أَمُقاتلون هم أم مدنيون؟ وصعوبة عملية التصنيف هذه تُفْقِدُ المتضرِّر من عمل أفراد الشركات القدرة على تحميلهم مسؤوليات أفعالهم، لذلك تظهر الحاجة إلى معرفة الجهات التي تتحمل مسؤولية الانتهاكات التي يرتكبها هؤلاء الأفراد. فالشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي عملت في بعض الدول، ارتكبت انتهاكات للقانون نتج عنها إضرار بالمدنيين، ساهم في ظهور علامات استفهام حول دور هذه الشركات وحول قانونية عملها، الأمر الذي دفع بعض الدول إلى محاولات وَضْع وثائق دولية تُقَنِّن عمل هذه الشركات، على شاكلة المحاولة التي سُمِّيَت «وثيقة مونترو»([11]).
ومن خلال دراسة القواعد التي تتصل بتحديد الصفة القانونية للمقاتل النظامي يبدو أنّه بالإمكان دمج أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة ضمن القوات المسلحة التابعة للدول، وبالإمكان معاملتهم على أنهم مقاتلون شرعيون كأفراد القوات المسلحة، إلا أن الممارسات الدولية تدل على أن الدول التي تَستخدِم أفراد الشركات لا تَعُدُّهم أعضاء في قواتها المسلحة النظامية، فهي تستأجر خدماتهم لتنفيذ مهمات معينة، ثمَّ تتركهم يُغادرون بعد تنفيذ تلك المهمات، ولا مجال لدمجهم في القوات المسلحة. هذا الواقع، يُرتِّب أن أفراد الشركات غير مؤهلين ليكونوا مقاتلين كمقاتلي القوات المسلحة، بل يبقون أفراداً يُنَفِّذون عقوداً تُبرمها شركاتهم مع الدول.
إنّ أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة الذين يقدِّمون للقوات المسلحة خدمات لا تصل إلى مستوى المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، كخدمات التموين، والمطبخ، وغسل الملابس، وغيرها من الخدمات التي لا ترتبط بالقتال، يمكن أن يندرجوا ضمن فئة الأشخاص الذين يرافقون القوات المسلحة شرط أن يحصلوا على الترخيص اللازم من القوات المسلحة والدولة المعنية، لا أن يكون عملهم مقتصراً، فقط، على تنفيذ عقد مُبْرَم مع الدولة. أما أفراد الشركات الذين يقدِّمون خدمات تقترب من صميم العمليات العسكرية، كتحميل الأسلحة، وصيانة الدبابات، وتشغيل الطائرات الحربية، وأنظمة الدفاع الجوي، فلا يمكن إدراجهم ضمن فئة المدنيين المرافقين للقوات المسلحة، لأن هؤلاء يشاركون في الأعمال العدائية([12]). وبالتالي لا بدّ من الفصل في أمر تحديد صفة أفراد الشركات على أساس كل حالة على حدة، أيْ بناءً على طبيعة الأنشطة التي تقوم بها الشركات العسكرية والأمنية الخاصة وأفرادها.
وبناءً على ما تقدم، يبدو أنه من المهم تحديد إذا ما كانت فرضية أن أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مدنيون أمراً مقبولاً بموجب مبدأ التمييز.
إن المدني شخص لا ينتمي إلى القوات المسلحة، ولا يشارك مباشرة في الأعمال العدائية([13])، هذا التعريف يَحُلّ، من الناحية النظرية، المشكلة المتعلقة بوَضْع أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، أيْ أنه يمكن الاستنتاج أنّ أيَّ فردٍ من أفراد الشركات لا ينتمي إلى القوات المسلحة، ولا يشارك مباشرة في الأعمال العدائية، يُعَدّ مدنياً، وهذا يعني أن الأفراد الذين لا يتأهّلون ليكونوا مقاتلين هم مدنيون، وبالتالي هم أشخاص مَحْمِيّون، بموجب القانون الدولي الإنساني، من الاستهداف، وليس لهم الحق في المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية.
ولكن القول: إنّ أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة هم مدنيون سيكون له عواقب تُؤثِّر على فاعليَّة مبدأ التمييز. لأن هؤلاء الأفراد لن يكونوا قادرين على تمييز أنفسهم عن المقاتلين في ميادين النزاعات المسلحة، فمعظمهم يقوم بأدوار قتالية، ويشارك مباشرة في الأعمال العدائية، وبالتالي لن يكون الطرف خَصْمُ هؤلاء الأفراد قادراً على معرفة كيفية التعامل معهم سواء في أثناء القتال، أم في أثناء وقوعهم أسرى لديه، ولن يكون المتضرِّرون من أفعالهم قادرين على مقاضاتهم أمام المحاكم. لذلك لا بدّ من أن تعمل الشركات على تصنيف أفرادها وتحديد وظائفهم، وعلى التفريق بين مَنْ يعمل في وظيفة مدنية، وبين مَنْ يعمل في وظيفة عسكرية، لأن اشتراك أفراد الشركات في الأعمال العدائية يجب أن يُوْضَع له حدّ بشكل يمنع عملهم غير القانوني، فتنفيذ العقود التي تُبرمها شركاتهم مع دولة ما قد لا يتضمن أيّ إشارة تدلّ على إمكانية مشاركتهم في النزاعات المسلحة.
ويبدو أن تزايد الاعتماد على الأفراد المدنيين التابعين للشركات العسكرية والأمنية الخاصة في هذه الأدوار التي تُعَدّ، فعلاً، تصرفات يُمكن تفسيرها على أنها مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية يكون ذا تأثير بالغ سلبيّ على تطبيق مبدأ التمييز، وعلى القانون الدولي الإنساني.
ويبدو أن اعتماد مفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية لا يُساهم في تحديد حقوق الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، ولا في تحديد مسؤولياتها، ولا يُساهم في تصنيف أفرادها، نظراً إلى صعوبة تحديد معنى مفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، وصعوبة تحديد الأنشطة التي ترقى إلى حدّ المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية([14]). ونظراً إلى أن الدول لا تُوَفِّر توجيهات واضحة تساعد في تحديد الأنشطة التي تُشكّل مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية، وإنّ هذا الأمر يؤدي إلى استحالة معرفة متى يمكن أن يكون أفراد الشركات المدنيون عُرضةً للهجوم، لأن كل طرف في النزاع قد يَستخدِم فَهْمَه الشخصي لمفهوم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، ويعمل على تطبيقه على أفراد الشركات.
إنّ تصنيف أفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مقاتلين ومدنيين، والفصلَ بين هذين الصنفين، لا يؤدِّيان إلى الوضوح التّام، لأن هؤلاء الأفراد لا يحكم عملَهم قانونٌ واضح، وهم لا يلتزمون مبادئ القانون الدولي الإنساني، فهُمْ لا يصَنِّفون أنفسهم على أنهم صِنفان: مقاتلون نظاميون، ومدنيون عاديون، بل يحاولون دائماً الإفلات من هذا التصنيف، ويَعُدّون أنفسهم مدنيين، وهذا ما لا يُمكن القبول به قانوناً. لذلك لا بُدّ من أنْ يُصَنّف أفراد الشركات، وأن يُعَدّ بعضُهم مقاتلين بناءً على طبيعة عملهم العسكري، وبعضُهم الآخر مدنيين بناءً على طبيعة عملهم المدني، ولا بُدّ من تأكيد هذا التصنيف في مواثيق دولية تتفق الدول عليها، وتَتَّبِعها الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، فتلتزم بقواعد القانون الدولي الإنساني، وتتحمل المسؤولية عن أفعالها.
2.2. المسؤولية عن انتهاك الشركات العسكرية والأمنية الخاصة القانون الدولي الإنساني.
وفي إطار الحديث حول المسؤولية عن انتهاك الشركات العسكرية والأمنية الخاصة القانون الدولي الإنساني يمكن القول: إنّ الدول تتحمل المسؤولية عن ارتكاب الشركات العسكرية والأمنية الخاصة انتهاكاتٍ للقانون الإنساني الدولي، وذلك بموجب نصوص البروتوكول الإضافي الأول، ونصوص القانون الدولي العرفي، وقواعد مسؤولية الدول([15]). إلا أن هذه النصوص والقواعد الحالية ضَيِّقة حيناً، وغامضة حيناً آخر، ويَتَعذّر تطبيقها على جميع حالات استعانةِ الدول بخدمات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة. وفي هذه النصوص والقواعد ثغرات يمكن للدول أنْ تَنْفُذ منها كي تتهرَّب من المسؤولية عن انتهاك الشركات القانون الإنساني، ومبادئه. والدول تميل، عادةً، إلى عدم تحمّل المسؤولية عن أي انتهاكات، وما استعانتها بالشركات العسكرية والأمنية إلّا تهرّب من تحمّل هذه المسؤولية، وقد أظهرت ممارسات الدول أنها، في كثير من الأحيان، تلجأ إلى التنصّل من الأعمال غير القانونية، ومن الانتهاكات التي قد تقوم بها الشركات وأفرادها، وهذا ما يُعيق عملية ملاحقة الدول قانونياً أمام المحاكم الجنائية الدولية، ويمنع المتضررين من أفعال الشركات من أن يحصلوا على العدالة.
وما يزيد الأمر صعوبةً، أن الدول التي يتورَّط مواطنوها في انتهاكات وعمليات عسكرية في دول أجنبية، قد لا يكون لديها المعلومات اللازمة لمحاكمتهم، أو التحقيق في الانتهاكات والجرائم التي ارتكبوها، أو قد لا يكون لديها القدرة على جلب الشهود اللازمين لإجراء المحاكمة.
وبالتالي، فإنّ مقاضاة أفراد الشركات أمر شديد الصعوبة لأسباب، أولها عدم قدرة الدول على تأمين نظام قانوني يساعد في تَتَبُّع أفراد الشركات، وفي التحقيق في جميع الانتهاكات والجرائم التي يرتكبونها. وثانيها الطريقة الخاصة التي تعمل بها الشركات، والتي لا تسمح بتحديد الأفراد الذين يقومون بانتهاكات إذْ إنّ هؤلاء قد يُغادرون مكان عملهم فَوْر انتهاء عقودهم مع الشركة، ويصبح من المستحيل ملاحقتهم. وثالثها عدم اتّباع الشركات في عملها نظاماً قانونياً خاصاً تستند إليه، ويسمح لها بملاحقة أفرادها المتورطين في المخالفات والانتهاكات.
وبالإضافة إلى ما سبق يمكن القول: إنّ القواعد القانونية التي تلحظ مسؤولية الدولة، ومسؤوليتَي الفرد والقيادة، ليست مناسبة للتطبيق على أنشطة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاعات المسلحة، والسبب في ذلك يرجع إلى العلاقة غير الواضحة بين الدول وهذه الشركات، وإلى الطريقة الغامضة التي تعمل بها هذه الشركات. وبالتالي، ينشأ عن ذلك حاجة إلى نظام قانوني يرعى شؤون التعامل بين الدول والشركات العسكرية والأمنية الخاصة، ويُمَكِّنُ من الاستعانة به لتحديد الأطراف المسؤولة عن انتهاك القانون الدولي الإنساني أثناء النزاعات المسلحة.
بعد دراسة تأثير عمل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على تطبيق مبدأ التمييز فإنه يمكن الاستنتاج أنه في السنوات الأخيرة تزايد اعتماد الدول على متعاقدين مدنيين لأداء مهام عسكرية كانت حكراً على قواتها المسلحة، ويُعزى ذلك إلى عوامل عدة، منها: الرغبة في تقليص حجم الجيوش النظامية وخفض نفقاتها، والحاجة إلى خبرات فنية متخصصة لتشغيل التقنيات الحربية الحديثة، مثل أنظمة الذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني.
وقد أدى هذا التوجه إلى ظهور تحديات أمام تطبيق مبدأ التمييز بسبب ظهور فئة من الأفراد يصعب تحديد وضعهم القانوني بدقة. فغموض صفتهم القانونية يحول دون معرفة ما إذا كانوا مقاتلين أم مدنيين، مما يثير إشكاليات حول مدى أهليتهم للمشاركة المباشرة في الأعمال العدائية، وحول نطاق الحقوق والواجبات المترتبة عليهم بموجب القانون الدولي الإنساني.
هؤلاء المقاولون المدنيون الذين تَعْتَمِد عليهم الدول أثناء النزاعات المسلحة لا يجوز لهم المشاركة في الأعمال العدائية، لأن مبدأ التمييز يقضي بأن يشارك المقاتلون في الأعمال العدائية، وبأن يمتنع المدنيون عن هذه المشاركة. وبما أنّ الدول لا تتخلى عن ممارسة استخدام مقاولين مدنيين كأفراد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، في حالات النزاع، وبما أنّها تميل إلى الاعتراف بهذه الممارسة بدلاً من الامتناع عنها، فإنّ هذا الحال يستوجب أن يُراعى تطبيق مبدأ التمييز عَبْر استيعاب هذه الممارسة، كي تبقى لهذا المبدأ فاعليّته أثناء النزاعات المسلحة.
وفي الختام لا بدّ من القول: إن مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، الذي أقرته المادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول، يمثل قاعدة جوهرية قابلة للتطبيق على أشكال النزاعات المسلحة المعاصرة كافة، فهذا المبدأ شأنه شأن مجمل قواعد القانون الدولي الإنساني، يتمتع بالمرونة الكافية لاستيعاب التطورات المتسارعة في طبيعة هذه النزاعات.
وبالتالي، فإن الدول مدعوة ليس فقط إلى الامتثال لهذه القواعد، بل، وأيضاً، إلى الإسهام الفعّال في تطوير القانون الإنساني لضمان توفير الحماية الكاملة، لكلِّ مَنْ يَستحقُها بموجب القانون.
قائمة المراجع
– شريف عتلم، ومحمد ماهر عبد الوهاب، موسوعة اتفاقيات القانون الدولي الإنساني، النصوص الرسمية للاتفاقيات والدول المصدقة والموقعة، ط. 6، (القاهرة: إصدار بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالقاهرة، 2002).
– مشاريع المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، تقرير لجنة القانون الدولي إلى الجمعية العامة عن أعمال دورﺗﻬا الثالثة والخمسين، حولية لجنة القانون الدولي، م. 2، ج. 2، (الأمم المتحدة: 2001، ص 32).
– نيلس ميلزر، دليل تفسيري لمفهوم المشاركة المباشرة في العمليات العدائية بموجب القانون الدولي الإنساني، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الطبعة العربية الأولى، (القاهرة: المركز الإقليمي للإعلام، مارس/آذار 2010).
– وثيقة مونترو بشأن الالتزامات القانونية الدولية والممارسات السليمة للدول ذات الصلة بعمليات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاع المسلح، مونترو، 17 أيلول 2008، واردة ضمن رسالة موجهة إلى الأمين العام من الممثل الدائم لسويسرا لدى الأمم المتحدة، الجمعية العامة مجلس الأمن، الدورة 63، السنة 63، وثيقة رقم (A/63/467–S/2008/636).
– Emanuela-Chiara Gillard, Business goes to war: Private/Security Companies and International Humanitarian Law, International Review of the Red Cross, Vol. 88, No. 863, (September 2006) (pp. 525_ 572).
– Geneva Convention III, relative to the treatment of prisoners of war of 12 august 1949. (English edition).
– Jean De Preux, Commentary on Geneva convention III 1949, translated to English by A.P. de Heney, (Geneva: ICRC, 1960).
– Report of the Expert Meeting on Private Military Contractors: Status and State Responsibility for their Actions, organized by the University Centre for International Humanitarian Law, Geneva, (29, 30 August 2005), p. 14_15. (https://docplayer.net/117880-Expert-meeting-on-private-military-contractors-status-and-state-responsibility-for-their-actions.html) (Last site visit november 2025).
([1]) المادة 43 من البروتوكول الإضافي الأول تعرف “القوات المسلحة” بأنها جميع القوات المسلحة المنظمة والمجموعات والوحدات التي تكون تحت قيادة مسؤولة أمام طرف في النزاع عن سلوك مرؤوسيها، حتى لو كان ذلك الطرف ممثلاً بحكومة لا يعترف بها الطرف الآخر. تضع هذه المادة تعريفاً للقوات المسلحة يشمل القوات النظامية وغير النظامية، بهدف تحديد من هم المقاتلون الذين يحق لهم وضع أسرى الحرب. راجع البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.
([2]) المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة تحدد الأشخاص الذين تحميهم الاتفاقية في أوقات النزاع أو الاحتلال، وهم أي شخص يجد نفسه تحت سلطة طرف في النزاع ليس من رعاياه، أو تحت سلطة دولة احتلال ليس من رعاياها. لا تشمل هذه المادة رعايا الدولة غير المرتبطة بالنزاع، ولكنها تمنح رعايا الدول المحايدة ورعايا الدول المتحاربة حماية محدودة إذا كانت دولهم ممثلة دبلوماسياً في الدولة الواقعة تحت سلطتها. راجع اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949.
([3]) Para. (A) (4) of article 4 of Geneva Convention III, relative to the treatment of prisoners of war of 12 august 1949.
([4]) Jean De Preux, Commentary on Geneva convention III 1949, translated to English by A.P. de Heney, (Geneva: ICRC, 1960), p. 64.
([5]) Report of the Expert Meeting on Private Military Contractors: Status and State Responsibility for their Actions, organized by the University Centre for International Humanitarian Law, Geneva, (29, 30 August 2005), p. 14_15. (https://docplayer.net/117880-Expert-meeting-on-private-military-contractors-status-and-state-responsibility-for-their-actions.html) (Last site visit november 2025).
([6]) الفقرة 1 من المادة 50 من البروتوكول الأول: «المدني هو أي شخص لا ينتمي إلى فئة من فئات الأشخاص المشار إليها في البنود الأول والثاني والثالث والسادس من الفقرة (أ) من المادة الرابعة من الاتفاقية الثالثة والمادة 43 من هذا اللحق “البروتوكول”. وإذا ثار الشك حول ما إذا كان شخص ما مدنياً أم غير مدني فإن ذلك الشخص يُعَدّ مدنياً». راجع، شريف عتلم، محمد ماهر عبد الوهاب، موسوعة اتفاقيات القانون الدولي الإنساني، النصوص الرسمية للاتفاقيات والدول المصدقة والموقعة، ط. 6، (القاهرة: إصدار بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالقاهرة، 2002)، ص 290.
([7]) Emanuela-Chiara Gillard, Business goes to war: Private/Security Companies and International Humanitarian Law, International Review of the Red Cross, Vol. 88, No. 863, (September 2006) (pp. 525_ 572). p. 538.
([9]) Report of the Expert Meeting on Private Military Contractors: Status and State Responsibility for their Actions, organized by the University Centre for International Humanitarian Law, Geneva, (29, 30 August 2005), p. 14_15. (https://docplayer.net/117880-Expert-meeting-on-private-military-contractors-status-and-state-responsibility-for-their-actions.html) (Last site visit november 2025), p. 14.
([11]) راجع، وثيقة مونترو بشأن الالتزامات القانونية الدولية والممارسات السليمة للدول ذات الصلة بعمليات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاع المسلح، مونترو، 17 أيلول 2008، واردة ضمن رسالة موجهة إلى الأمين العام من الممثل الدائم لسويسرا لدى الأمم المتحدة، الجمعية العامة مجلس الأمن، الدورة 63، السنة 63، وثيقة رقم (A/63/467–S/2008/636).
([12]) Report of the Expert Meeting on Private Military Contractors, op. cit p. 14_15.
([13]) راجع، شريف عتلم ومحمد ماهر عبد الوهاب، موسوعة اتفاقيات القانون الدولي الإنساني، مرجع سابق، ص 354.
([14]) نيلس ميلزر، دليل تفسيري لمفهوم المشاركة المباشرة في العمليات العدائية بموجب القانون الدولي الإنساني، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الطبعة العربية الأولى، (القاهرة: المركز الإقليمي للإعلام، مارس/آذار 2010، ص 52).
([15]) راجع مشاريع المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، تقرير لجنة القانون الدولي إلى الجمعية العامة عن أعمال دورﺗﻬا الثالثة والخمسين، حولية لجنة القانون الدولي، م. 2، ج. 2، (الأمم المتحدة: 2001، ص 32).



