الدراسات البحثيةالعلاقات الدولية

التدخل الأمنى التركى والمتغيرات فى ملفات المنطقة العربية والإسلامية

إعداد : عمار شرعان – رئيس  المركز الديمقراطى العربى

مقدمة:

تركيا، دولة الـ72 مليون نسمة، رابطة آسيا وأوروبا، المسلمة العلمانية، ديموقراطية متحالفة مع الغرب منذ ستين عاماً، عضو فعّال في حلف الناتو، تعتمد على صندوق النقد بدعم ماليتها أحياناً، تجري مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل، بنيتها الاقتصادية إنتاجية تنافس الغرب، وكتلتها البشرية أقرب في العادات والتقاليد إلى الشرق. موقعها الجغرافي متميّز يعكس الترابط السياسي. تاريخ في العلاقة مع أرمينيا وأذربيجان وشرق آسيا ــــ القوقاز، وشرق أوروبا ــــــ البلقان، وغربها ـــــ اليونان، والعراق والمنطقة الكردية المتشاركة مع سوريا. إمبراطورية الـ500 سنة انتهت كـ«رجل أوروبا المريض». بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت من خلال «حكم الجنرالات»، ركيزة غربية وأميركية، لكن خاب أملها باستمرار لعدم ملاقاتها في كل قضاياها القومية خلال العقود السابقة. وجدت تركيا نفسها قاعدة غربية لم تربح منها، بل خسرت بتجاهلها عمقها الآسيوي عامة والشرق أوسطي خاصة. هذا هو إلهام المنطق الذي هيمن على فكر داوود أوغلو، وزير خارجيتها الحالي ومهندس استراتيجيتها الجديدة في العلاقات الإقليمية والدولية، مشدداً على أن التحوّل التركي ليس تكتيكياً فحسب. هذا هو مكمن عودة «السلطان» إلى المنطقة الذي وجد بعد دمار العراق أنها هي البوابة الأوسع.حيث صرح الرئيس التركى عبدالله غول فى إحدى المناسبات أن تركيا لا يمكن أن تبقى محصورة داخل الأناضول.ففى ظل التحولات الإقليمية و الدولية الخطيرة من الخطأ أن تبقى أنقرة متفرجة على ما يجرى حولها و هى جزء يتأثر بما يجرى حولها و تؤثر فيه و لعل غزو العراق و احتلاله من قبل الأمريكين كان نموذجا للتأثر و التأثير المتبادلين.

و فى الواقع لا يمكننا الحديث عن سياسة تركيا الجديدة الا من خلال البحث فى جذورها الفكرية و النظرية التى يأطر لها أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركى الحالى الذى يعتبر بمثابة مهندس هذه السياسة .

ويلخص أوغلو توجهات السياسة التركية الجديدة فى خمس مبادئ اساسية اقليمية:

  • 1- قضية الأمن،فاذا كانت تركيا تحتاج الى أمن فالأخرون بحاجة الية ايضا فيجب أن يحترم أمن الجميع و حريتهم فاذا شعر فاعل وحيد بعدم الأمان أو التهديد فلا يسع الأخرون أن يعيشوا فى أمان.
  • 2- انزال المشكلات بين تركيا و جيرانها الى نقطة الصفر أو ما يسمى بالتصفير المشكلات و بالتالى اخراج تركيا من صورة البلد المحاط بالمشاكل و الدخول فى صورة البلد ذى العلاقات الجيدة مع الجميع و هذا و إن تحقق يمنح السياسة الخارجية التركية قدرة استثنائيى على المناورة .
  • 3- اتباع سياسة خارجية متعددة الإبعاد و متعددة المسالك ففى الظروف الدولية المتحركة الحالية من غير الممكن اتباع سياسة ذات البعد الواحد و بدلا من أن تكون تركيا مصدر مشكلة فى استقطابات الغرب-الشرق و الشمال و الجنوب و الغرب و الإسلام ، تكون على العكس مصدر حل للمشكلات و بلدا مبادرا الى طرح الحلول لها و بلدا يشكل مركز جذب يساهم فى ارساء السلام العالمى و الإقليمى.
  • 4- تطوير الأسلوب الدبلوماسى و إعادة تعريف دور تركيا فى الساحة الدولية،لقد كان التعريف الشائع فى المرحلة الماضية ان تركيا بلد الجسر تصل بين طرفين و لكن فى المرحلة الجديدة على تركيا الا تكون جسرا بل هى بلد مركز.
    5- الانتقال من السياسة الجامدة فى الحركة الدبلوماسية الى الحركة الدائمة و التواصل مع كل البلدان العالم المهمة لتركيا.

الحراك التركى:

  • العلاقة مع ايران:

مجرد الرؤية الى عوامل القوة التى تمتلكها ايرن و تركيا يفضى الى استنتاج أن الطبيعة التنافسية طبيعية بين بلدين مهمين من حيث الموقع الجغرافى أو القدرات الصناعية و البشرية  و العسكرية لكت من الزاوية التركية،لم يكن لسياسة تعدد البعد أن تنجح فى ما لو وضع أمامها هدف إضعاف ايران أو سوريا أو روسيا ،إن من يسعى الى اضعاف الأخر لا يعمل على تعميق التعاون معه فلقد أظهرت تركيا أنها لا تريد أن تكون خصما لإيران أو عدوا بل صديقة و شريكا و جارا حسنا فأبرمت اتفاقيلت اقتصادية معها فى عدة مجلات ووقفت تركيا الى جانب ايران فى الملف النووى لأغراض سلمية و عارضت محاولات الولايات المتحدة عزل إيران و فرض حصار اقتصادى عليها و رفضت استخدام أراضيها لأى عمل عدوانى على إيران كذلك تقتضى المصلحة الوطنية التركية التنسيق الكامل مع ايران فى أخطر التهديدات التى تواجه الأمن القومى التركى و وحدة البلاد أى المشكلة الكردية و لاسيما بعد احتلال العراق و تقسيمه.

طرحت تركيا نفسها للعب الوسيط بخصوص الملف النووى الايرانى , خاصة وان هذا الدور يحظى بمباركة وتاييد من قبل ادارة ااوباما والذى اعلن خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء التركى اردوغان أن تركيا يمكن أن تلعب دورا هاما في دفع إيران نحو حل مشكلتها حول برنامجها النووي. وقال بهذا الصدد،”اعتقد ان تركيا يمكن ان تكون عاملاً مهماً للسعي الى دفع ايران في هذا الاتجاه”.  وشدد اوباما على ان المهم هو رؤية طهران تتعاون وان بامكان تركيا، المجاورة لايران والعضو في الحلف الاطلسي, ان تسهم بشكل مفيد في هذه العملية. على الرغم من ان طهران رفضت فى ان تلعب تركيا دورا وسيطا فى الملف النووى   ورات عدم الحاجة الى الوساطة من طرف ثالث  , هذا التصعيد يعكس مدى الخوف الايرانى من تزايد النفوذ التركى ويعكس العلاقة التنافسية بين الدولتين فى المنطقة خاصة بعد نجاح انقرة قى القيام بسلسلة من التحالفات خلال فترة زمنية قصيرة دون الصدام مع الغرب.

و لكن فى 5-12-2009 قام رئيس المجلس الاعلى للامن القومي في إيران سعيد جليلي بزيارة قصيرة الى تركيا التقى خلالها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ، وتركزت المباحثات – بحسب وكالة أنباء الأناضول – حول اخر تطورات الملف النووي الايراني بعد رفض ايران لمقترح الوكالة الدولية للطاقة لتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 فى المائة خارج ايران.
جليلي لم يتحدث الى وسائل الاعلام فى تركيا ولم يلتقي الاّ برئيس الوزراء اردوغان الامر الذي فسره مراقبون بان جليلي جاء الى انقرة حاملا رسائل واضحة ومحددة من القيادة الايرانية سينقلها اردوغان الى الرئيس الامريكي باراك اوباما خلال اللقاء الذي سيجمعهما فى واشنطن في السابع من الشهر الحالي.

يشار الى ان تركيا كثفت من تحركها الدبلوماسي تجاه طهران فى الفترة الاخيرة وعبّرت عن استعدادها للقيام بدور الوساطة بين ايران والغرب انطلاقا من علاقاتها الجيدة مع الطرفين.

وكان وزير الطاقة التركي تنار يلدز صرّح في وقت سابق، بأن بلاده قد وافقت على اقتراح مدير عام الوكالة الدولية للطاقة محمد البرادعي بتخزين اليورانيوم المخصّب على اراضيها، وقال “ان تركيا لديها التقنيات اللازمة للقيام بهذا العمل الذي من شأنه تخفيف مخاوف الغرب”.

و فى 26-12-2009 أعلن وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي أن بلاده لا تعارض تبادل الوقود النووي مع الغرب في تركيا. ويشكل هذا الموقف تراجعاً عن تأكيد طهران رفضها إجراء تبادل مماثل خارج أراضيها. ورحّب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بالإعلان الإيراني، مؤكداً استعداد حكومته لبذل ما في إمكانها للمساعدة في التوصل إلى تسوية ديبلوماسية للملف النووي الإيراني مع الغرب.

في 29  يونيو 2010، طلبت أنقرة  في أول إشارة من إشارات الإحباط  من إيران العودة إلى طاولة المفاوضات حول اتفاق تبادل الوقو النووي “في أسرع وقت ممكن”. ووفق ما صرح به دبلوماسي تركي، صوتت تركيا ضد فرض عقوبات أشد صرامة تحت ذريعة أن إيران ستقوم بإلزام نفسها في المحادثات حول برنامجها النووي المثير للجدل. على الرغم من ذلك، أعلن أحمدي نجاد بتاريخ 28 حزيران/ يونيو أن أية مفاوضات سوف تتأجل حتى موعد متأخر في شهر آب/ أغسطس “عقاباً” للدول الغربية الكبرى. هذا ولم توضح إيران موعداً للمحادثات مع حليفتيها البرازيل وتركيا ولم تبين إن كانت ستستمر في هذه المحادثات.
في يوم الأربعاء الموافق 9  يونيو 2010 تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم (1929) الذي ينص على تشديد العقوبات ضد البرنامج النووي الإيراني. تجدر الإشارة إلى أن تركيا، الدولة التي تتمتع بعضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي صوتت ضد القرار، وكذلك فعلت البرازيل. وقال إردوغان معللاً ذلك فيما بعد إن قرار التصويت بـ “لا” كان بمثابة “شرف” تركي. ومن الجدير ذكره أن إردوغان تحدث لصالح البرنامج النووي الإيراني مراراً وتكراراً وأصرّ على أن الأزمة النووية لا يمكن حلها إلا بطرق الحوار.
وفى 16/9/2010 قال الرئيس التركي عبد الله غل إن العلاقات المباشرة بين بلاده وإيران تبقى أفضل طريق لتحقيق حل دبلوماسي لمنع طهران من الحصول على السلاح النووي ،جاء ذلك خلال مخاطبته مجلس العلاقات الخارجية الأميركي على هامش حضوره لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث رد على الانتقادات بأن تركيا حولت توجهاتها بعيدا عن الغرب بارتباطها بطهران ، وأضاف أن ارتباط بلاده بإيران يهدف إلى تحقيق تقدم في عملية التفاوض، لكن أسيء فهم ذلك ،ومن ناحية اْخرى أكد غل أن تركيا ستبقى ملتزمة التزاما قويا مع للولايات المتحدة وحليفا وثيقا لها، كما كانت في الماضي.
شهدت العلاقات التركية الإيرانية في الأشهر الأخيرة ترابط وعمق وعلقت مؤخراً الصحيفة البريطانية “الفينانشال تايمس” عن مصدر رفيع المستوى في البيت الأبيض قوله بان الرئيس اوباما قام شخصيا بتحذير رئيس الوزراء التركي رجب الطيب اردوغان أنه طالما لم تغير تركيا سياستها تجاه إيران, إسرائيل وأرمينيا فإنها لن تتلقى معونات عسكرية إضافية من الولايات المتحدة. ووفقا للصحيفة نفسها, تم إبراز مسالة الثقة خصوصا بعدما قامت تركيا بالتصويت ضد القرار الاممي ضد إيران وخطابها الناري ضد إسرائيل في إعقاب حادثة قافلة السفن الدولية مع ذلك أنكر مسئولون في البيت الأبيض توجيه إنذار لتركيا إزاء إيران وإسرائيل مدعين أنهم لا يعرفون من أين أتت صحيفة الفينانشال تايمز بمثل هذه المعلومات.

العلاقة مع العراق وقضية الأكراد:

الموقف التركى من غزو الولايات المتحدة للعراق أول الدلائل البارزة عن وجود تحول فى السياسة الخارجية التركية،فقد أدى قرار البرلمان التركى الذى يسيطر عليه حزب العدالة و التنمية بعدم السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضى التركية لغزو العراق ،و هو ما أدى الى توتير العلاقة بين أنقرة و بوش الأبن ،أدى الى كسب تركيا نقاط لدى الرأى العام العربى و الإسلامى بغض النظر عن دوافع القرار الوطنية بالأساس ،خاصة مع حالة التراجع الرسمى العربى تجاه العدوان الأمريكى الذى تم بعد اسابيع من قرار البرلمان.

شهدت مدينة اسطنبول الاجتماعات الوزارية الأولى في إطار (المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي بين العراق وتركيا). وكانت بغداد وأنقرة أعلنتا تأسيس هذا المجلس خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة العراقية.كما أن هذه المبادرة التركية جاءت من منطلق “قراءة جديدة للوضع في المنطقة والذي يشكّل الانسحاب الأميركي من العراق محطته الفاصلة”.

كما أن تركيا ترغب بتعزيز التعاون مع العراق في أكثر من مجال وخاصةً في المجال الأمني لا سيما وأن أنقرة “في خضم انفتاح على الأكراد تأمل أن يفضي إلى إنهاء قضية حزب العمال الكردستاني وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه دون التعاون والتنسيق مع بغداد”.

من جانبه استعرض وزير الداخلية بشير آتالاي رؤية الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية للقضية الكردية والتعديلات المقترحة على القوانين الحالية لتأمين اعتراف رسمي بالهوية الكردية.

وقال الوزير أمام البرلمان إن الخطة تشمل إزالة القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية وإنشاء لجنة لمكافحة التمييز, واستعادة أسماء القرى الكردية السابقة، إضافة إلى إنشاء هيئة مستقلة للتعامل مع شكاوى التعذيب المقدمة ضد قوات الأمن.

وأضاف آتالاي أن السياسيين الأكراد سيتمكنون من التحدث بلغتهم في الحملات الانتخابية, وهو ما يعد تحولا دراميا في السياسة التركية، حيث قدم سياسيون أكراد سابقا للمحاكمة بتهمة التحدث بالكردية في الأماكن العامة.
و لكن قوبل هذا برفض من المعارضة التركية التى تصف ذلك بالخضوع لما وصفته بالإرهاب الكردي.

وكان حزب العمال تخلى عن مطلبه التاريخي بإقامة دولة مستقلة للأكراد، ويسعى الآن لنيل المزيد من الحقوق السياسية لأكراد تركيا الذين تشير التقديرات إلى أن عددهم 12 مليونا يمثلون نحو 15% من سكان البلاد.
كسرت تركيا الحلقة الأصعَـب والأكثر حساسية في سياستها الخارجية، من خلال الزيارة التاريخية غيرِ المسبوقة، التي قام بها وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو ومعه وزير التِّـجارة ظفر تشاغليان إلى اربيل، عاصمة إقليم كردستان في نهاية أكتوير2009.
ولا شكّ أن الجانب التركي كان مِـقداما، عندما طرح بوضوح مُـعادلة أنه، كما تحتاج تركيا إلى أكراد العراق، يحتاج هؤلاء إليها، اقتصاديا وأمنيا. وقد قالها داود أوغلو واضِـحة لمسعود البرزاني زعيم أكراد العراق: إذا ساعد أكراد العراق في حلّ قضية حزب العمّـال الكردستاني في جبال قنديل، فإن أياما جميلة تنتظِـر العلاقات التركية مع الأكراد، أما إذا استمرّ الأخ بطعْـن أخيه في الظهر، فإن المُـستقبَـل لن يكون جميلا.

لقد وعَـد البرزاني، جواباً على داود أوغلو، بفِـعل ما بوُسْـعه لحلّ هذه المسألة، لكن الأمور ليست بهذه السُّـهولة، فأكراد العِـراق، كما صرّحوا مِـرارا، لن يُـهاجموا مقاتِـلي حزب العمّـال الكردستاني، ودعَـوْا تركيا إلى إيجاد حلٍّ سياسي للقضية عبْـر الاستِـمرار في انفِـتاحها عليهم في الدّاخل.

زيارة داود أوغلو كسرت الجليد مع أكراد العراق وأسست لأرضية صَـلبة بين أنقرة واربيل. ولا شك أن زيارة الوزير التركي قد وضعت الكُـرة في ملعَـب الأكراد في شأن عددٍ كبيرٍ من القضايا، حيث أن “الاعتراف الضّـمني” أو “الواقعي” بإقليم كُـردستان، يُـعتبَـر انتِـصارا كبيرا لأكراد العراق، لكنه يرتّـب عليهم مُـقابلة الخُـطوة بخُـطوة أكبر منها، بحجْـم قضية حزب العمّـال الكردستاني على الأقل، وهو ما تنتظرِه تركيا في المستقبل القريب.

غير أن الزيارة “الداود أوغلوية” لم تقتصِـر على الشمال الكردي، بل سبقتها بيوم زيارة إلى الجنوب الشيعي، وبالتحديد إلى العاصمة الاقتصادية للعراق، أي البصرة، كما وصفها وزير التجارة التركي.

كما أوفدت تركيا وزير خارجيتها للمنطقة لمحاولة التوسط بين العراق وسوريا لتهدئة حدة التوتر المتصاعد بين بغداد ودمشق على خلفية اتهام العراق لسوريا بإيواء مشتبه بضلوعهم بتفجيرات بغداد الدامية التي وقعت في الـ19 من اغسطس الماضى وأسفرت عن مقتل 95 شخصا وجرح 600 آخرين.

ولكن أوغلو رئيس الوزراء التركى قال إنه ليس وسيطا بين العراق وسوريا ببساطة لأنه لا يرى أن سوريا والعراق “طرفان” بل هما ونحن طرف واحد وأشقاء وليستا عدوتين، كما أن بينهما علاقات دبلوماسية قائمة، مضيفا “كل دوري هو مساعدة الشقيقين على تجاوز الموقف الراهن”. مضيفا أنه لمس توجها إيجابيا وبناء للغاية في كل من العراق وسوريا.

كما التقى أوغلو في القاهرة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، حيث قال وزير الخارجية التركي إن بلاده تعمل بالتنسيق مع جامعة الدول العربية  لرأب الصدع بين العراق وسوريا.

و من هنا نقول أن سياسة الانفتاح التركي الجديدة على العراق تأتى في إطار عِـدّة عوامل: الأول، هو أن سياسة تعدّد البُـعد التركية قد شهِـدت زخما غير مسبوق في الأشهر الأخيرة عبْـر اتِّـفاقيات مع سوريا وأرمينيا وإيران. ومن غير المُـمكن أن تبقى “جبهة” أساسية مثل العراق خارج نِـطاق هذه السياسة. فجاء الانفتاح على العراق امتِـدادا طبيعيا لهذه السياسة، ومن غير المُـمكن أن تفتح تركيا قَـنوات اتِّـصالها وحدودها مع الجميع وتستثني العراق من هذه السياسة.

العامل الثاني: أن انقرة قد وقَّـعت خلال الصيف الماضي اتِّـفاقا لتأسيس مجلس تعاوُن إستراتيجي غير مسبوق مع بغداد. وتلا ذلك في منتصف شهر أكتوبر 2009، زيارة لرئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان إلى بغداد، حيث وقّـع أكثر من 46 اتِّـفاقا مُـتنوِّعا مع الحكومة العراقية. واستطرادا لهذا العامل، فإن تركيا باتت أشبه بشبكة عنكَـبوت نفْـطية، بسبب خطوط النّـفط والغاز الطبيعي التي أقامتها، وتلك التي تُـخطِّـط لإقامتها وتُـحوّلها في النهاية إلى بلد مهِـمّ موزّع للنفط والغاز الطبيعي إلى أوروبا من حقول الدول المحيطة بها، ومن بينها العراق.

العامل الثالث: أن تركيا تنظُـر إلى العراق على أنه الضّـلع الثالث في مثلّـث دول الجِـوار، الذي يضُـمّ سوريا وإيران، ومن غيْـر المُـمكن نجاح السياسات التركية مع إيران وسوريا، من دون استِـكمال تعميم العلاقات الجيِّـدة أيضا على العراق.

العامل الرابع: هو أن تركيا قد بدأت خطّـة للانفتاح على الأكراد في الدّاخل التركي، غير أن لهذه القضية أبعادا خارجية، إذ يتواجَـد قِـسم كبير من هؤلاء المسلّـحين في جبال قِـنديل في شمال العراق. وتركيا تحتاج لنجاح خطتها إلى تعاوُن العراقيين، ولاسيما حكومة إقليم كردستان، لحلِّ مشكلة “جِـبال قنديل التى تتمركز فيها عناصر حزب العمال الكردستانى.

وفى يناير 2010 تبادل الساسة في كل من تركيا وكردستان العراق مؤخرا الحملات الصحفية ولم يخل الأمر من التهديد والوعيد.

وبدأت الحملة على خلفية حديث تلفزيوني لرئيس إقليم كردستان مسعود برزاني هدد فيه تركيا بتدخل أكراد العراق في الشؤون الداخلية التركية ودعم الحركة الكردية هناك ما لم تكف تركيا عن التدخل في شؤون العراق.

وأضاف أن الساسة والإعلام التركي لم يتوقفوا عن توجيه التهديدات للقيادة الكردية واستعملوا كلمات غير مهذبة ضده.
وقال برزاني ” لا افهم كيف يمكن لدولة تسمح لنفسها بالتدخل في شؤون الآخرين وتثور عندما تسمع أن الآخرين يمكن أن يتدخلوا في شؤونها”.

ولا شك أن برزاني قد رفع من درجة التحدي لتركيا بهذا التصريح غير المسبوق في العلاقة بين الجانبين.
وقد سارعت الإدارة الأمريكية إلى إرسال كبير مستشاري وزيرة الخارجية ديفيد ساترفيلد إلى أنقرة لنزع فتيل الأزمة بين حليفيها.

وصرح ساترفيلد ان هناك حوارا بين الاطراف الثلاثة لحل الازمة بين الجانبين الكردي والتركي ويمكن القول إن حزب العدالة والتنمية قد أعاد صياغة السياسات الخارجية لتركيا والتي تأسست بعد الجمهورية على أساس المحافظة على سلامة الكيان التركي الجديد المولود من رحم الدولة العثمانية والابتعاد عن تداعيات الصراعات الخارجية لتركيا، حتى تطورت هذه النزعة في أعقاب الحرب الباردة لتصبح تركيا أحد أركان مواجهة المد الاشتراكي، وبعد زوال المعسكر الاشتراكي صارت الجمهورية التركية جسرا بين الشرق والغرب. ومع هذا يبدو أن رئيس الوزراء التركي الحالي رجب طيب أردوغان قد تجاوز فكرة الجسر، فقد وسعت تركيا دائرة علاقاتها الخارجية لتشمل – إضافة إلى الغرب – عددا أكبر من الدوائر، لا سيما تلك التي تربطها بها روابط جيوبوليتيكية وثقافية واقتصادية وتاريخية، كالانفتاح السياسي والاقتصادي تجاه إقليم كردستان العراق، واستقبال رئيس الإقليم مسعود بارزاني والوفد المرافق له بصفة رسمية وهو ما يعتبر تحولا جذريا وانفتاحا وانفراجا نوعيا في السياسة الخارجية لأنقرة نحو أكراد العراق، وذلك في خطوة تعتبر إعادة تموضع جزئية في السياسة التركية لتأكيد دور تركيا الإقليمي، وهي مهمة بلا شك.

وعلى الجانب الكردي أن يتعامل مع هذه الوتيرة التركية الجديدة محاولا رؤية ما يمكن أن يعود عليهم بالنفع والاستفادة من العلاقات التركية مع الغرب. فهذه الزيارة تعزز المصالح التركية الكردية ولا يجوز قطعها في منتصف الطريق. وعلى الجانب التركي أن يقابل هذه التوجهات الكردية بتعاون اقتصادي وتجاري وبتوجهات مماثلة؛ فكلما ترسخت الروابط الكردية – التركية، صارت تركيا دولة وشعبا أكثر حساسية تجاه ما يمكن أن يمس هذه الروابط ويؤثر عليها سلبا.

إن فتح القنصلية التركية في أربيل عاصمة إقليم كردستان يعتبر عمليا اعترافا تركيا رسميا مباشرا بوجود إقليم كردستان في إطار العراق الفيدرالي. ولهذا السبب كان يتوجب على الأتراك وضع العلم العراقي والعلم الكردي في مكانهما الصحيح واللائق بهما، تطبيقا ومراعاة لبروتوكولات الزيارات الرسمية، عندما استقبلوا رئيس الإقليم الكردي، وعقد الجانبان التركي برئاسة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، والكردي برئاسة مسعود بارزاني رئيس الإقليم كردستان، مؤتمرا صحافيا لوسائل الإعلام.
وأخيرا نقول: إن ثمة دوائر قومية وعلمانية داخل تركيا خاصة في أوساط النخبة الحاكمة تتوجس من هذه العلاقة مخافة أن تؤدي في مستقبل قريب إلى طمس الهوية القومية للأتراك وتقويض «الميراث الجمهوري» من دون أن يدركوا أن هذا الانفتاح يعزز المصالح الإقليمية لأنقرة ويوفر لهم بدائل لسياسة التوجه غربا السابقة.

ويبقى القول: إن ثوابت السياسة الخارجية لتركيا العلمانية لن تتغير بشكل جوهري، وما نراه حاليا هو فقط «إعادة ضبط» لهذه السياسة وليس تحولا مفصليا كاملا. فتركيا لن تقطع علاقتها بإسرائيل، ولن تخرج من حلف الناتو، ولن تغير من توجهها نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن هذه التحولات في سياسة أنقرة سوف تتزايد استجابة للمصالح القومية للدولة التركية ولضغوط الرأي العام

تركيا و سوريا:

لتفعيل اهلسياسة متعددة الأبعاد التى تبناها حزب العدالة و التنمية،اتجهت أنقرة الى توثيق علاقاتها بسوريا و تفعيلها كمرتكز لتحركها النشيط فى قضايا الشرق الأوسط،و إن كان جو التوتر قد انسحب من العلاقات بين البلدين منذ أواخر التسعينات،فإن أنقرة أخذت فى هذه العلاقات حتى تصل الى درجة التطبيع الكامل،و ثم تم توقيع العديد من الاتفاقيات بين الجانبين حول مسائل تبادل المعلومات و ضبط الحدود و الهجرة الغير مشروعة ز تجارة المخدرات و مكافحة الارهاب ،و فى خطوة رمزية تم فتح الحدود بين البلدين لرعايا كل منهما فى2009،كما اخدت تركيا قرار بالغاء مناورات صقر الأناضول فى اكتوبر 2009 و التى كانت ستشارك اسرائيل فيها فى مقابل اجرائها مناورات عسكرية مع سوريا.

كانت سورية واسرائيل قد دخلتا العام الماضي في مفاوضات غير مباشرة بوساطة تركية, غير ان سورية اوقفت هذه المفاوضات في ديسمبر/ كانون الأول 2008 بعد الهجوم العسكري الاسرائيلي على قطاع غزة الذي انتقدته ايضا انقرة بحدة مما تسبب في توتر بين البلدين.

كان مسؤولون أتراك اعلنوا أنهم اتفقوا مع إسرائيل على إمكانية استئناف الوساطة التركية بين دمشق وتل أبيب بهدف استئناف محادثات السلام بينهما، جاء ذلك 24-11-2009 خلال زيارة وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر إلى تركيا حيث أجرى في انقرة محادثات مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو و نائب رئيس الوزراء بولند أرينتش.

وكان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قد استبعد مؤخرا أن تتمكن تركيا من القيام مجددا بدور الوسيط بين إسرائيل وسورية على العكس من الموقف السورى الذى كان يشترط الوساطة التركية التى تصفها بالحيادية فى المفاوضات مع اسرائيل.

كما اعتبر نائب وزير الخارجية الاسرائيلي داني ايالون أن القيام التركى بالوساطة  بين سوريا وإسرائيل كان اكبر خطأ و اضر بالعلاقات بين انقرة و الدولة العبرية.

وفى نوفمبر 2010 تحوَّلت العلاقة بين تركيا وسورية من عدوين قديمين إلى صديقين جديدين وشريكين اقتصاديين بفضل إلغاء نظام تأشيرات الدخول بينهما، مما أدى إلى تحقيق طفرة اقتصادية غير مسبوقة ومثيرة لقلق ومخاوف الغرب.

وقد تطورت هذه العلاقة بينهما إلى ما هو أبعد من الزيارات والتجارة الحرة، حيث شكل البلدان مجلساً وزارياً مشتركاً، ويسعيان لتشكيل “الاتحاد الشرق أوسطي” ليكون بديلاً ومعادلاً إقليمياً الاتحاد الأوروبي…

وقد دفع هذا الواقع باتحادات اقتصادية تركية للمطالبة بفتح المزيد من المنافذ الحدودية لتسهيل دخول الأعداد المتزايدة من الزائرين السوريين للبلاد، وتقدر الإحصائيات الاقتصادية التركية عدد هؤلاء الزائرين منذ بداية العام الجاري بمليون شخص، وهو رقم مُرشَّح للتصاعد حتى نهاية العام الجاري والتضاعف في السنوات المقبلة.

كما وصلت هذه الإحصائيات الرسمية بحجم التبادل التجاري بين أنقرة ودمشق إلي مليار دولار أمريكي خلال الشهور الخمسة الأولى من عام 2010، وهو رقم يتجاوز بمراحل حجم هذا التبادل خلال عام 2007 بأكمله، وفي الجانب الآخر شهدت عطلة عيد الأضحى الماضي زيارة 100 ألف تركي لأقارب أو معارف لهم في سورية.

وعن هذه الطفرة، يرى المسؤولون في دمشق وأنقرة أنها مجرَّد بداية، والواقع يُشير إلى أن عدم تجاوب الاتحاد الأوروبي مع مساعي تركيا للانضمام إلى صفوفه، قد دفع الأخيرة للتركيز على تحسين علاقاتها مع محيطها الشرق أوسطي.

غير أن الدبلوماسيين الغربيين في أنقرة يبدون تخوفاً من أن يؤدي إلغاء تركيا للتأشيرات مع دولة مثل سورية، إلى إعاقة مساعيها لإلغاء تأشيرات دخول مواطنيها للاتحاد الأوروبي.

وعلى وجه العموم فإن سياسة تركيا الشرق أوسطية تُثير المخاوف الأوروبية من زيادة التباعد بينها وبين الغرب

تركيا و القضية الفلسطينية:

يمكننا أن نلاحظ الموقف التركى من القضية الفلسطينية من خلال موقفها أثناء اسابيع العدوان الإسرائيلى على غزة فقد رفضت أنقرة الهجوم على القطاع بصورة تامة و قاطعة و جاء رفضها صريحا و علنيا و لكننا يمكن أن نرجع هذا الرفض الصريح و العلنى الى توقيت العمليات العسكرية حيث أعقبت زيارة ايهود اولمرت لتركيا بخمسة أيام فقطو لم يكشف خلالها لأنقرة عن نوايا بضرب غزة و هو ما اعتبره اردوغان خداعا اسرائيليا و احراجا لتركيا و دورها.كما اطلقت تركيا حملة شعبية متضامنة مع مع الفلسطينيين و اسقبلت تركيا عددا من الجرحى و ارسلت قوافل من المساعدات العيني.

كما أوفد أوغلو للمشاركة فى المفاوضات بين الوسيط المصرى من ناحية و حركة حماس و اسرائيل من ناحية أخرى كما أنها شاركت فى مؤتمر حرب الدوحة العاجل لبحث الحرب على غزة.

و لاقى الدور التركى قبول من الشارع العربى عندما وجه انتقادات حادة للسياسة الإسرائيلية فى ملتقى دافوس الإقتصادى و انسحب من جلسة جمعته بالرئيس الإسرائيلى شمعون بيريز فى يناير 2009 و لكن على الرغم من هذا فلم تقم تركيا بأى عمل عقابى لإسرائيل فلم تقم بتعليق أى اتفاق معها أو تلوح بأى انذار دبلوماسى لها كانت تردد تركيا أن علاقاتها مع اسرائيل جيدة.

و نرى أن تركيا تدعم حل الولتيين و يقول أوغلو أن العائق امام احياء عملية السلام هو المستوطنات اليهودية فلابد من ايقافها و يضيف أنه يحب رفع القيود المفروضة على تحرك الفلسطينيين و دخولهم اراضيهم و التوقف عن طردهم من منازلهم و الإستيلاء على أراضيهم فى القدس الشرقية.

و لكن نتيجة للإنتقاد الشديد و المستمر من تركيا للتصرفات الإسرائيلية و انتهاكها للقوانيين الدولية استدعى أيالون نائب وزير الخارجية الإسرائيلى السفير التركى فى تل أبيب أحمد تشليكول، بحجة إبلاغ احتجاج إسرائيل على مسلسل تركى تذيعه القنوات الرسمية و يدور حول صراع بين المخابرات التركية و الموساد و يصور فيه الجنود الإسرائيليون كقتلة نساء و أطفال رضع،و أجلسه أمامه على مقعد منخفض أمام المسؤولين الإسرائيليين و لم بكن العلم التركى موجوداً على إلى جوار الإسرائيلى على المائدة بين الطرفين كما تقتضى الأعراف الدبلوماسية.

سرعان ما جاء رد أنقرة على إهانة سفيرها، و استدعت السفير الإسرائيلى لديها جابى ليفى لتبلغه الاحتجاج عن فعلة أيالون و قال ناطق باسم خارجيتها أنها تنتظر أعذاراً مقنعة من إسرائيل، إلا أن الأخيرة أخذتها العزة فجاء رد إيالون خافتاً و مراوغاً هدد الرئيس التركى عبد الله جول بسحب تشيكول من تل أبيب إذا لم تقدم إسرائيل اعتذاراً رسميا قبل حلول مساء الأربعاء 13 يناير2009 و رضخت إسرائيل للمطالب التركية و قدم أيالون اعتذاراً رسمياً لتشليكول و لتركيا.

و على الرغم من ذلك فلا يمكننا أن نقول أن هذا من شأنه التأثير على العلاقات التركية الإسرائيلية بل ستستمر فى صور تعاونية عسكرية و اقتصادية يدل عليها حجم الصفقات الاقتصادية و العسكرية الموقعة بينهما فليس من الحكمة مجازفة اسرائيل بخسارة صداقة احدى القوى الكبرى الثلاثة فى العالم الإسلامى، و لن تتجه أنقرة لتصعيد الأمور مع تل أبيب فعلاقتها مستمرة مع تل أبيب كجزء من تحالفها مع الغرب.

وفى يونيو 2010 بدأ الموقف التركي تجاه تحقيق المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الفلسطيني وجمع أقطاب الخلاف الإقليمي والتشاور والتحاور معهم على كافة المستويات للتوصل الى توافق وطني يرضي أطراف الخلاف ينهي هذا الملف كخطوة أولى على طريق إنهاء الحصار المفروض والذي دفعت تركيا ثمناً باهظاً من دماء أبنائها في عرض وهم قادمين الى غزة لكسر الحصار حتى تحرك العالم ونظر بجدية لخطورة الحصار الإسرائيلي المفروض منذ أكثر من ثلاثة أعوام والذي اشتد بوتيرة أكثر وأصعب بعد الحرب الإسرائيلية على القطاع وصار يأخذ أشكالا متعددة طالت كافة سبل ومناحي الحياة وصار الناس جوعا في العراء وتحت الظلام كأنهم في سجن، وهذا السجن ليس كباقي السجون بل له شكل مختلف وامتداد مختلف وله طريقة في العيش مختلفة.

لقد غاب طويلاً الدور التركي عن المنطقة وخصوصاً تجاه القضية الفلسطينية، القضية الأهم والأبرز ليس فقط في المنطقة بل على مستوى العالم الذي تطمح كل دولة فيه أن تمتلك أوراقاً في هذه القضية التي تزال تتصدر أوليات استقرار الشرق الأوسط ولا تزال تحافظ على كونها القضية المركزية في المنطقة رغم كل ما تتعرض له ورغم كل ما أصابها وما علق بها طوال السنوات الماضية، كونها قضية عادلة لشعب يتمسك بحقوقه ويرفض المساومة عليها.

إنها بداية جيده ربما تحمل إلينا نهاية حقبة سوداء وبداية وفاق واتفاق ووحدة وطنية وان تنجح الجهود التركية في ملف المصالحة مثلما نجحت في فرض غزة من جديد على طاولة العالم وإعادة الحياة لها بعدما ظن الجميع أن الحصار مستمر لا محالة وكأنة قدر غزة، وان الصورة المشوهة التي تنشرها إسرائيل سيبقى العلم كله مضللا بها، لكن ذلك الأسطول الذي حمل على ظهره أحراراً من العديد من دول العالم وتلك الدماء التي امتزجت ومياه البحر أثبتت أن غزة حاضرة وان قضيتها العادلة ستنتصر في وجه أعداء الحياة والحرية، أعداء الإنسانية الذين يستبيحون الدماء في البر والبحر بدون وجه حق وبدون ذنب.

تركيا ليست دولة عابرة أو دولة عادية في المنطقة بل هي دولة لها وزنها وثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي ولها حلفائها وبالتالي لها أجندتها الخاصة بها، لكنها ومنذ وقت طويل غاب هذا الدور الطبيعي الذي ساد طويلاً ولم يعد في الآونة الأخيرة لها أي دور حقيقي خاصة في القضية الفلسطينية الذي ظل هامشياً ودون تأثير حتى بدا انه يلازم إسرائيل في الكثير من المواقف، وقد خسرنا نحن دولة من أهم الدول التي يمكن أن تساندنا وان تقف الى جانب حقوقنا ربما بفعل تغيير حدث في سنوات سابقة في السياسة التركية وربما لأننا نحن من خسر هذا الدور بفعل إخفاقاً سياسياً فينا ولم نلتفت لأهمية الموقف التركي ولما قد يمنحنا إياه وما يمكن أن يوفره لنا خاصة ونحن في أمس الحاجة لكل المواقف الداعمة والمساندة لحقوقنا الوطنية.

إن الجهد التركي المبذول سواء كان على في ملف المصالحة الوطنية أو في ملف كسر الحصار عن قطاع غزة هو جهد عظيم نتأمل أن يكلل بالنجاح وان تستطيع تركيا من أن تحقق ما عجز العرب عن تحقيقه، لعودة الصف الفلسطيني موحداً ومتحداً ولإنهاء ملف الانقسام الذي اضر كثيراً بالقضية الوطنية خاصة في هذا الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل الى تنفيذ مخططاتها من جانب واحد وتتفرد في فرض الخطط على الأرض من خلال بناء المستوطنات وسياسات تهويد القدس وتهجير سكانها الأصليين، ضاربةً بعرض الحائط كل القوانين الدولية التي تدعوها الى الالتزام بالعملية السلمية، ولكن ودون انصياع لكل الدعوات تحاول إسرائيل فرض رؤيتها الاستيطانية بالقوة دون أن تبدي تجاوباً ايجابياً بل تمارس عربدةً لأنها لا تجد أي رادع حقيقي ولا تهديد جدي يجعلها تعيد حساباتها من جديد.

الدور التركي في المنطقة وبخاصة في القضية الفلسطينية، دور هام ودور افتقدناه كثيراً وغاب عن المشهد حتى عاد حاضراً بقوة يحمل همَ حصار غزة والانقسام الفلسطيني الحاصل عله يستطيع أن يحقق ما عجز عنه الكثيرين ويفك الحصار عن غزة التي أرهقها الحصار الظالم المفروض عليها منذ وقت طويل وبدد سبل الحياة الكريمة فيها ويعيد الى الشعب الفلسطيني وحدة الوطنية وقراره المستقل.

عوامل قبول الدور التركى فى الشرق الأوسط:

– الجذور الإسلامية لحزب العدالة و التنمة ففى السابق كان التوجه العلمانى الحاد و الضغوطات الموجهة الى الحالة الإسلامية فى الداخل تنعكس سلبا على العلاقة تركيا بالعالم الإسلامى المتوجس من مفهوم العلمنة كنموذج معاد للدين وفقا لنموذج تطبيقه فى تركيا.
– الموقف التركى الوسطى و الحيادى من كل الأطراف النزاعات سواء العربية البينية،أو العربية الإسرائيلية ،أو الإسلامية البينية أو الإسلامية الغربية. فحزب العدالة و التنمية حرص و نجح الى حد بعيد فى نسخ خيوط التواصل و الثقة مع كل الأطراف دون استثناء حتى ليمكن القول إنه ليس من دولة لا فى الشرق الأوسط و لا فى العالم أمسكت بمثل هذه العلاقات الجيدة مع الجميع مثل تركيا.
– لاقى الحضور التركى قبولا مميزا فى الساحة العربية تحديدا و قد تفاوت عوامل هذا القبول تبعا لظروف الأطراف العربية انطلاقا من من معارضة تركيا غزو العراق و تقسينها فوجد العرب و الأتراك أنفسهم فى خندق واحد.
– تزامنت بداية الحضور التركى مع تعاظم النفوذ الإيرانى فى المنطقة و لا سيما فى العراق و فى لبنان و فلسطين عبر علاقات طهران مع حركة حماس، كما لعب الضعف العربى و عجزه دورا فى المزيد من قبول الدور التركى من جانب الأنظمة المتوجسة من النفوذ الإيرانى الشيعى.

ويمكننا أن نلاحظ أن دور الوساطة الذى تقوم به تركيا أحد الدواعي التي جعلت الاتحاد الأوروبي يستفيد من إمكانيات تركيا في استقرار المنطقة، ويؤكد أوغلو على ذلك قائلا: “إن قدرات أنقرة في التأثير الإيجابي على الأوضاع في الشرق الأوسط من أهم المزايا التي قد تنتج عن التعاون المشترك بين الإتحاد الأوروبي وتركيا في مجال السياسة الخارجية. ذلك أن الاتحاد الأوروبي أصبح بالفعل بمثابة المرشد في قضايا التغيير داخل تركيا، ومن الممكن أن يصبحوا سويا – الاتحاد الأوروبي وتركيا – مرشدا للآخرين في المنطقة كلها”.و هذا يبين أن انفتاح حزب العدالة و التنمية على العرب و المسلمين و غيرهم و إقامة أفضل العلاقات معهم لايتعارض مع الخيار الاستراتيجى لتركيا و هو الانضمام الى الاتحاد الأوروبى.

انه لابد ان يكون واضحا ان ارض تركيا ليست مفروشة بالورود كما يتصور البعض ، فهى على الرغم من كل هذه التحركات و الانجازات ستواجه تحديات كبيرة ، حيث ان الاقطاب الاخرى فى الشرق الاوسط و فى مقدمتها مصر و السعودية لن تقف مكتوفة الايدى امام هذه الانشطة ، وانما ستحاول جاهدة الدفاع عن مكانتها و مصالحها ، ولعل حرب غزة الاخيرة قد بينت موقف تركيا و موقف كل من مصر و السعودية ، و بالتالى ستواجه تركيا فى الفترة القادمة محاولة كبيرة من هذه الدول لصد هذا النفوذ التركى الذى لم يكتف بالتوغل سياسيا و انما توغل باستخدام كافة الادوات بما فيها الثقافية و الاعلامية متمثلة فى انتاج العديد من المسلسلات التركية فى الفترة الاخيرة التى حازت على اعجاب المشاهد العربى الى الدرجة التى اصبحت معها اسماء الفنانين الاتراك معروفة فى كل انحاء الدول العربية ، الامر الذى يعد صورة جديدة من صور التوغل و النفوذ التركى التى لم تكن موجودة من قبل.

و نلاحظ الدور التركى يبدو أكبر من حجمه نتيجة العجز و الخواء فى الدور العربى فى المنطقة و من هنا الدور التركى الجديد يشكل فرصة تاريخية للعرب لتعزيز مواقعهم خصوصا أن القوة الكبرى الأخرى فى المنطقة أى ايران ،تقع على الجانب المعارض للمشروع الإسرائيلى و للهيمنة الأمريكية على المنطقة و المطلوب الاستفادة من هذا الدور بل التكامل أيضا معه لا التوجس منه أو اعتباره منافسا أو بديلا.

‏لا يكفي لدولة ما أن تتخذ قرارا بالانخراط الفاعل في قضايا منطقة ما لكي تنجح في ذلك. وفي الحالة التركية، توافر العديد من العوامل التي أتاحت لها أن تكون جزءا من صورة الشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي عموما.

وإذا اقتصرنا الحديث على الشرق الأوسط، نجد العوامل المساعدة التالية لقبول دور تركي فاعل:

‏- الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية. ففي السابق كان التوجه العلماني الحاد والضغوطات الموجهة إلى الحالة الإسلامية في الداخل تنعكس سلبا على علاقة تركيا بالعالم الإسلامي المتوجس من مفهوم العلمنة كنموذج معاد للدين وفقأ لنموذج تطبيقه في تركيا.

‏مع حزب العدالة والتنمية، انهار أحد السدود السميكة أمام ثقة المسلمين بنوايا تركيا. وهو كما يسري على الوطن العربي كذلك يسري على إيران التي كانت تتوجس من تركيا كونها أطلسية، وكونها علمانية. صحيح أن حزب العدالة والتنمية لم يهدم النظام العلماني في تركيا، ‏وهو أصلا لا يريد ذلك، وقد لا يستطيع في المدى المنظور، غير أن عامل العلمنة لم يكن أحد منطلقات السياسة الخارجية التركية في عهده.

‏- الموقف التركي الوسطي والحيادي من كل أطراف النزاعات، سواء العربية البينية، أو العربية – الإسرائيلية، أو الإسلامية البينية، أو الإسلامية – الغربية.

‏فحزب العدالة والتنمية حرص ونجح إلى حد بعيد في نسج خيوط التواصل والثقة مع كل الأطراف دون استثناء، حتى ليمكن القول إنه ليس من دولة لا في الشرق الأوسط، ولا في العالم ‏أمسكت بمثل هذه العلاقات الجيدة مع الجميع مثل تركيا.
‏ومنطلق هذه السياسة أن أي علاقة مع قوة طرف في نزاع لا تعني معاداة القوة الأخرى الطرف في النزاع نفسه. وعبر هذه السياسة نسجت تركيا أفضل العلاقات مع الجميع دون استثناء: مع معسكر “الاعتدال” العربي ومع معسكر “الممانعة” العربي؛ مع حماس ومع ‏محمود عباس؛ مع الفلسطينيين ومع إسرائيل؛ مع سورية ومع إسرائيل؛ مع إيران ومع العرب؛ مع 8 ‏آذار ومع 14 ‏آذار في لبنان؛ مع إيران ومع أمريكا؛ مع إيران ومع إسرائيل. وكذا الأمر مع القوى المتصارعة في القوقاز والبلقان.
‏- لاقى الحضور التركي قبولا مميزا في الساحة العربية تحديدا. وقد تفاوتت عوامل هذا القبول تبعا لظروف الأطراف العربية.
‏فالدور التركي تزامن ظهوره مع احتلال أمريكا للعراق، وما عناه من تدمير الدولة المركزية في بلد عربي كبير، وما نتج منه من حالة تقسيمية، ومن طرح مشروع نشر الديمقراطية من جانب كولن باول، وزير الخارجية الأمريكية، ومن تهديدات لبعض الأقطار العربية، ولا سيما سورية. وأثار ذلك بالطبع مخاوف كل العرب. وكان لمعارضة تركيا غزو العراق انطلاقا من أخطار التقسيم أن وجد العرب والأتراك أنفسهم في خندق واحد. سورية، كما تركيا، معنيتان بمنع نشوء دولة كردية في شمال العراق، فيما أقطار عربية أخرى تخشى على أنظمتها من شعارات الديمقراطية.

– تزامنت بداية الحضور التركي مع تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما في العراق، وفي لبنان وفلسطين، عبر علاقات طهران مع حركة حماس. كذلك لعبت الفتنة السنية – الشيعية التي عملت لها إسرائيل والولايات المتحدة على إثارة نزعة معادية للشيعة، وبالتالي لإيران، في معسكر دول “الاعتدال”، فظهرت مقولات مثل “الهلال الشيعي” (الملك الأردني عبد الله)، وعدم انتماء الشيعة العرب إلى البلدان التي يقطنون فيها، بل إلى الخارج (الرئيس المصري حسني مبارك)، ووجود مشروع إيراني لتشييع المنطقة وتفريسها (من فرس) (الملك السعودي عبد الله).

‏لعب الضعف العربي وعجزه دورا في المزيد من قبول الدور التركي من جانب الأنظمة المتوجسة من النفوذ الإيراني والشيعي. وكان رهان هؤلاء أن البعد السني من الإسلام التركي، المتمثل حاليا بحزب العدالة والتنمية، قد يكون له دوره في جذب تركيا إلى لعب دور مضاد، أو على الأقل كابح، لمزيد من النفوذ الإيراني.

‏لكن بمعزل عن التنافس التاريخي بين تركيا وإيران، وتباين الانتماء المذهبي بين مجتمعيهما، فإن تركيا حزب العدالة والتنمية لم تسقط في هذا الفخ المذهبي، وهي تعرف جيدا أن الفتنة المذهبية حريق قابل للانتشار إلى كل الدول ذات البنى المذهبية المتعددة والهشة في الوقت نفسه. وتركيا هي واحدة من المجتمعات المسلمة الهشة البنية المذهبية بين سنة وعلويين، وخصوصا أن تركيا لم تجد بعد حلا عادلا وبناء للمسألة العلوية فيها، حيث يقدر ‏عدد العلويين بـ 15 ‏مليونا على الأقل من أصل 73 ‏مليونا عدد سكان تركياولذلك ‏استمرت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية في تغليب المصالح الوطنية التركية، وفقأ لإستراتيجية تعدد البعد وتصفير المشكلات وإخماد الفتن المذهبية والعرقية المتنقلة. واستمرت، بالتالي، في علاقاتها الجيدة، وعلى مسافة واحدة من عرب الاعتدال، ومن إيران، ومن سورية.

  • ‏ينقل هذا الكلام إلى الحديث والتساؤل عم إذا كان الدور التركي منافسا للدور الإيراني في المنطقة أم لا؟

‏مجرد الرؤية إلى عوامل القوة التي تمتلكها إيران وتركيا يفضي إلى استنتاج أن الطبيعة التنافسية طبيعية بين بلدين مهمين، لجهة الموقع الجغرافي، ولجهة القدرات الصناعية والبشرية والعسكرية. لكن من الزاوية التركية، لم يكن لسياسة تعدد البعد أن تنجح في ما لو وضعت أمامها هدف إضعاف إيران أو سورية أو روسيا. إن من يسعى إلى إضعاف الآخر لا يعمل على تعميق التعاون معه.

‏لقد أظهرت تركيا: ‏أنها لا تريد أن تكون خصما لإيران أو عدوا، بل صديقة وشريكا وجارا حسنا، فأبرمت اتفاقيات اقتصادية في مجالات النفط والغاز الطبيعي والكهرباء وخطوط النقل والاستثمارات. وهي اتفاقيات كانت قد بدأت قبل حزب العدالة والتنمية.

‏ووقفت تركيا إلى جانب إيران في الملف النووي لأغراض سلمية، وعارضت محاولات الولايات المتحدة عزل إيران وفرض حصار اقتصادي عليها، ورفضت استخدام أراضيها لأي عمل عدواني على إيران. كذلك تقتضي المصلحة الوطنية التركية التنسيق الكامل مع إيران في أخطر التهديدات التي تواجه الأمن القومي التركي ووحدة البلاد، أي المشكلة الكردية، ولا سيما بعد احتلال العراق وتقسيمه.

تحديات أمام الدور التركي:

‏ليست طريق تركيا، كبلد منفتح على الجميع وطامح للعب دور فاعل في قضايا المنطقة، يضمن حل مشكلاتها، ويضمن استقرارها وسلامها، مفروشة بالورود. فإبداء حسن النية ليس قاعدة في العلاقات الدولية.

وإذا كان انفتاح تركيا على العرب والمسلمين أمر إيجابي، إلا أن الدور التركي في الشرق الأوسط تحديدا يواجه العديد من التحديات:

‏- تحديات داخلية: على الرغم من المكاسب التي حققتها سياسة تعدد البعد لتركيا في مختلف المجالات، إلا أن الانقسامات الداخلية التركية، إن لم تكن تعيق هذا الدور وتهدده، فإنها تحول دون تقدمه بزخم أكبر مما هو عليه الآن. وفي حالة تفاقم الصراعات الداخلية، فإن المبادرة التركية في الخارج تتراجع، وقد تعاني الجمود. وفي هذا المجال، يشكل استمرار المشكلة الكردية من دون حل في تركيا،واستمرار الحساسيات السنية – العلوية، والعلمانية – الإسلامية،وعدم رغبة القوى العلمانية المتشددة، ومنها العسكر، في المزيد من التورط في القضايا الشرق أوسطية، هي عوامل معيقة لمزيد من تزخيم الدور التركي في المنطقة.
‏- تحديات خارجية إقليمية ودولية: على الرغم من نجاح تركيا في إيجاد ركائز معنوية لها في الشرق الأوسط، إلا أنها تفتقد ركائز وامتدادات فعلية على الأرض. حتى العامل المذهبي الذي يراهن عليه البعض من العرب،ليس واقعيا،كما أسلفنا. فالحساسيات المذهبية بين الإسلام التركي،وكل من الإسلام السعودي والمصري،قائمة وتتجسد بين وقت وآخر في وسائل الإعلام.

‏وفي السياسة أيضا، هناك تنافس تاريخي بين الدورين المصري والسعودي من جهة، والدور التركي من جهة أخرى. وبدا واضحا هذا التباين،وبالذات في ظل سياسة تعدد الأبعاد التركية الجديدة،خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في مطلع عام 2009. فكانت تركيا، بمواقفها منذ بدء العدوان إلى ما بعد انتهائه، أقرب إلى معسكر الممانعة ومتعارضا مع معسكر الاعتدال. ولم يكن ذلك بسبب انحياز تركيا إلى طرف معاد للعرب،بل لأن الدور التركي كان تلقائيا مستهدفا بالفشل من جانب مصر تحديدا، لأنه دور،بحكم معارضته للعدوان ودفاعه عن حماس،كان أولا يتعارض مع موقف مصر التي ترى في حركة حماس تهديدا للأمن القومي المصري، وكان ثائيا يدخل إلى الحديقة الخلفية لمصر في غزة. إن نظرة مصر السلبية، من هذه الزاوية، إلى إيران، لا تختلف كثيرا عن نظرتها السلبية إلى تركيا الداعمة والحاضنة لحماس.

‏وهذا يفضي إلى القول إن للدور التركي في الدائرة العربية، مهما كان إيجابيا، حدودا تتصل بصراع النفوذ. وبما أن مصر والسعودية هما رأسا حربة الدور العربي في المنطقة العربية، فإن أي صدام، إذا حصل، للدور التركي في المنطقة العربية، فهو حتما مع الدورين المصري والسعودي. وتركيا، انطلاقا من سياستها المتوازنة بين الجميع، ليست في وارد الصدام مع الدورين المصري والسعودي. وهو، في هذه الحال، لا يمكن أن يكون بديلا منهما، لكن بإمكانه أن يكون مكملا أساسيا لأي منهما، بل لا غنى عنه في حال كان الطرف الأخر من المعادلة على علاقة غير ودية مع مصر (سورية، وإيران أو حماس، على سبيل المثال).

‏أما بالنسبة إلى سورية، فإن المسار الذي اتخذته العلاقات بين البلدين منذ العام 2002، ‏بل منذ العام 2000، يجعل منه نموذجيا بين بلدين تربطهما علائق الجيرة والحدود الجغرافية المشتركة وتواجههما أخطار متشابهة.

‏وجاءت المناورات العسكرية المشتركة بين تركيا وسورية بين 27 ‏و 28 ‏نيسان/أبريل 2009 ‏لتنقل العلاقات الثنائية إلى مستوى نوعي غير مسبوق، لأنه يدخل عامل المؤسسة ‏العسكرية التركية للمرة الأولى، بهذا الوضوح والعلنية، إلى العلاقات مع سورية، ما يفيد أن سياسة تركيا حزب العدالة والتنمية تجاه سورية، وسياسة سورية تجاه تركيا، تحظى بإجماع داخلي تركي. وهذا يحصل للمرة الأولى في تاريخ تركيا. وإذا حاولنا أن نفسر ذلك، فإن جانبا من ذلك يفسر بأولوية المصالح الوطنية التركية، وفي مقدمها العامل الأمني المتصل بوحدة الأراضي التركية، والنزعة الانفصالية الكردية. وهي عوامل تضعف إلى حد كبير أي تطلع مذهبي محتمل في ‏السياسة الخارجية التركية قد يراهن عليه بعض العرب من ذوي العلاقات السيئة مع معسكر “الممانعة”.

‏ويشكل العراق لا شك أحد الملفات الأساسية في تحديد طبيعة العلاقة بين تركيا وجوار العراق العربي والإيراني.
‏والجميع بات يعرف أن أحد أهم الأسباب التي دفعت بتركيا إلى عدم المشاركة في احتلال العراق، هي رهانها ألا تقع الحرب أصلا من دونها، لأن أنقرة كانت تخشى فعلا من تغير خريطة العراق في حال احتلاله.

‏وحدث ما تخوفت منه تركيا. وتم تقسيم العراق تحت الصيغة الفدرالية التي أنتجت الفدرالية الكردية التي باتت للمرة الأولى مرجعا لأكراد المنطقة، حيث يطالب أكراد تركيا بما يشبه نظام الولايات الذي لا يرقى إلى مستوى الفدرالية، لكنه لا يقل عن الحكم الذاتي.

‏وفي إطار رفض التقسيم العرقي والمذهبي حددت تركيا موقفها من العراق، فدعت أولا إلى إعادة الاعتبار للدولة المركزية، وأن تكون حكومة بغداد هي المرجعية المركزية للدولة، لا حكومات الأقاليم، كما تشدد على وحدة الأراضي العراقية. ومن هذه الزاوية، وقفت تركيا مع كل من يعارض الفدرالية أو استكمال الدولة الكردية بضم كركوك إليها. وبرز في هذا الإطار الانفتاح التركي الكبير على السيد مقتدى الصدر، على سبيل المثال، ورئيس الحكومة السابق إبراهيم الجعفري.

‏إن تمركز مسلحي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق عامل آخر يضع تركيا في خندق واحد مع إيران، ومع القوى المتعارضة مع أكراد العراق المتهمين بدعم “الإرهاب الكردي” ورعايته.

‏لقد اتبعت تركيا في العراق سياسة الانتظار لتكشف لواشنطن أن الاستقرار هناك لا يستقيم إلا بأخذ هواجس دول الجوار بعين الاعتبار، وفي مقدمها تركيا وسورية وإيران. وهنا يظهر ما يشبه “تحالف ثلاثي” بين أنقرة وطهران ودمشق لمنع أن يشكل العراق من جديد مصدر خطر على أمن ووحدة البلدان الثلاثة. ويزداد المأزق الأمريكي بعد الانسحاب الأمريكي النهائي من العراق، حيث ستكتشف واشنطن عدم قدرة الحكومة المركزية في بغداد على حفظ الأمن. وليس واضحا بعد في فكر الإدارة الأمريكية الصيغة المثل لضبط الوضع الأمني بعد الانسحاب الأمريكي النهائي من العراق. وهنا عادت لتبرز في الأوساط الأمريكية إعادة التنسيق مع أنقرة وإعطائها دورا أمنيا في العراق توازن به نسبيا الدور الإيراني القوي. وهو ما قد يفسر الانفتاح الأمريكي المستجد على تركيا بعد وصول باراك أوباما إلى السلطة. ولا شك في أنه بعد الانسحاب الأمريكي النهائي، وفي ظل ضعف القوات الحكومية العراقية، سيجد الأكراد أنفسهم من جديد أمام القدرة العسكرية التركية التي تحد كامل حدودهم الشمالية. ولا أعتقد أن الأكراد سيقبلون بعودة الوضع في مناطقهم إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال لجهة هيمنة تركيا العسكرية الكاملة هناك. لكن حكومة إقليم كردستان ستكون بلا شك أمام خيارات مختلفة حدها الأدنى عدم تقديم المبررات لتركيا لاجتياحات عسكرية لشمال العراق. وقد يكون وجود حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، وقطع دعم أكراد العراق لإخوتهم في تركيا هو الثمن الذي سيكون على أكراد العراق أن يدفعوه على الصعيد السياسي.
‏من جهة ثانية، ستجد سياسات تركيا الوسطية والانفتاحية مكانها في عراق المرحلة المقبلة. وإلى دورها على الصعيد الأمني شمالا سيكون لتركيا، بحكم الواقع والضرورة، حضور اقتصادي بارز على صعيد التجارة والاستثمارات، هي التي تغرق بضاعتها وشركاتها الآن شمال العراق وأقساما أخرى منه. لكن لا شك في أنه بحكم الاعتبارات المذهبية والعرقية والقومية لا يتوقع أن تسمح المجموعات العراقية المختلفة، باستثناء قلة محدودة غير مؤثرة، لتركيا بأن يكون لها دور مركزي في العراق المقبل.

‏أما بالنسبة إلى إسرائيل، فإن تعاظم الدور التركي لا يشكل تهديدا لوجودها، ولا لدورها، ما دامت تركيا مرتبطة في خياراتها الإستراتيجية بالغرب، سواء بالسعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو في عضوية حلف شمال الأطلسي. ثم إن تعاظم الدور التركي يأتي على حساب الدور العربي، وفي الدائرة التي لا يمكن لإسرائيل ممارسة نفوذ عملي على الأرض، أي الدائرة العربية، حتى في الدول المرتبطة مع إسرائيل باتفاقيات سلام وتعاون، مثل مصر والأردن. غير أن إسرائيل تراقب بدقة مدى إمكانية انعكاس التحولات في السياسة الخارجية التركية على خيارات تركيا الغربية في اتجاه منع تحول السياسات الجديدة إلى خيارات إستراتيجية جديدة، على الرغم من أن التحولات التركية في السياسة الخارجية ما تزال ضمن حدود معقولة بالنسبة إلى إسرائيل، ولم تلامس بعد الخطوط الحمر.

‏واستطرادا، نقول هنا إنه على الرغم من حساسيات بعض القوى الإقليمية من الدور التركي المتنامي في الشرق الأوسط، إلا أن كل هذه الأطراف ترحب به في لحظة احتياجها إلى أداة تواصل، ولو غير مباشرة، مع الخصوم حول أكثر من قضية خلافية. وستستمر حاجة ‏الأطراف الإقليمية والدولية إلى الدور التركي الوسيط، مهما اتخذت تركيا من مواقف تبدو أحيانا منحازة إلى طرف دون آخر، ما دامت لم تتمكن أي دولة أخرى من امتلاك مواصفات الدور الوسيط الذي ما تزال تنفرد تركيا بامتلاكه حتى إشعار آخر. ولعل إشادة الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما بالدور “القيادي” لأردوغان في الشرق الأوسط يؤكد استمرار امتلاك أنقرة لهذه المواصفات على رغم مواقفها من العدوان على غزة.

‏وهنا نشير إلى أن تولي أحمد داود أوغلو وزارة الخارجية في التعديل الوزاري الذي حصل في الأول من أيار/مايو 2009، لن يغير أبدأ من السياسة الخارجية التركية، لأن أحمد داود أوغلو هو في الأساس مهندس هذه السياسة. وتعيينه لم يكن سوى “تثبيت” له في هذا الموقع الذي كان يشغله ضمنا طوال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، بل يمكن القول إن تبوأه المباشر للمنصب يعني تفعيلا له، ومزيدا من احتمالات التأثير في ظل القدرة على حسم القرارات والخيارات، كونه وزيرا للخارجية. وهو، برأيي، أمر سوف يريح القوى التي كانت على علاقات ممتازة مع تركيا، ولا سيما سورية وحماس، وقد لا يريح القوى التي كانت متوجسة منه بسبب علاقاته واحتضانه لحماس (زيارة خالد مشعل إلى تركيا ودوره إبان أحداث غزة عام 2009)، وفي مقدمتها مصر.

‏أما بالنسبة إلى القائلين بأن تعيين أحمد داود أوغلو يعني مزيدا من الثقل الشرق أوسطي في سياسة تركيا الخارجية على حساب الخيار الأوروبي لها، فليس موضوعيا، وخصوصا أن أحمد داود أوغلو كرر خلال زيارته إلى واشنطن في آذار/مارس 2009 أن الخيار الغربي – الأوروبي هو الخيار الاستراتيجي لتركيا، فيما كان الرئيس التركي عبد الله غول يقول منذ حوالي العام، وخلال زيارته إلى مصر، إن العلاقات مع العالم العربي ليست بديلا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ثم إن المسار الأوروبي في الإصلاح الداخلي هو الذي أتاح لحزب العدالة والتنمية اختراق أسوار الدولة العلمانية – العسكرية. وأعتقد أن الرافعة الأوروبية لحزب العدالة والتنمية ما تزال ضرورية لاستمرار التحديات الداخلية في وجه مشروع حزب العدالة والتنمية. ونتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في 29 ‏آذار/مارس 2009، وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، سيدفعانه إلى استئناف مسيرة الإصلاح الذي يتطلب تفعيل المسار الأوروبي، وإلا سيواجه الحزب، وان ليس في المدى القصير جدا، انهيار البنيان الذي بناه منذ العام 2002.

1/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى