تاريخ الديمقراطية: حكم القوانين لا حكم الاشخاص
بقلم :د. نبيل ياسين – المركز الديمقراطي العربي
تملك الديمقراطية، خلافا للديكتاتورية، عناصر ومعاني متعددة يمكن وصفها بالطبخة. فقليل من تعدد الاحزاب يشبه قليلا من البهارات والملح، اضافة الى سيادة قانون ومجتمع مدني يكون طرفا اساسيا في العقد الاجتماعي ودستور يكون وصفة للمقادير الواجب اتباعهالكي تتميز الديمقراطية، كطبخة، بنكهة الاعتدال والمساواة والحفاظ على الصلاحيات والحدود السياسية للهيئات الحاكمة،وصحافة حرة ومستقلة لكي يكون التذوق حقا لكل فرد كي يعبر عن رأيه من خلال وسائل الاعلام التي تمثل الرأي العام اكثر من كونها تمثل الحكومات والسلطات.
ولايمكن طبخ الديمقراطية دون الاعتماد على ميزان الاقلية والاكثرية.صحيح ان الديمقراطية ليست نظام مائة في المائة ولانظام ٩٩٪٩٩ بالمائة ولكنها نظام ٥٠ + ١ في ابسط تجلياتها عن حكم الاكثرية. لكن نصاب الثلثين هو الميزان الحقيقي للاكثرية ولذلك تصدر اغلب القوانين والتعديلات الدستورية والاستفتاءات بهذه النسبة لكي تعبر عن رأي الاكثرية في المجتمع.
تعريف بسيط آخر للديكتاتورية هي انها حكم الاقلية، سواء كان فردا او عائلة او عصبة او عشيرة او حزبا. وتعريف بسيط آخر للديمقراطية هي انها حكم الاكثرية التي تحترم حقوق الاقلية ولا تسحقها. التعريف الاخير يتعارض تماما مع التعريف الاول، فالدكتاتوريات لاتحترم رأي الاكثرية لانها تقمع الاكثرية في الطاعة والولاء. اي ان الديكتاتورية ليست نظام حقوق بينما الديمقراطية نظام حقوقي لضمان الحقوق.
نستطيع، من خلال التعريفات المتعددة ان نجمع وصفة لطبخ الديمقراطية على نار هادئة. ان معظم الناس لايهمهم من يحكم .ولكن يهمهم كيف يحكم.ان الانتخابات ليست كل الشرعية التي تتمتع بها الحكومات المشكلة وفق نتائج الانتخابات ، لان الشرعية القطعية، مثل الحكم القطعي بلغة القانون، تتحصل من خلال اداء الحكومة وتحقيقها لمطالب مواطني الدولة.
ان الاغلبية الحاكمة لاتملك ، دستوريا، وضمن مبادئ وتقاليد الديمقراطية، الحق في نكران حق الاقلية. فالاقلية هي جزء من مجتمع يتمتع بالحقوق الدستورية كافة. الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاجتماعية. اي حقوق المواطنة التي تلغي مبدأ الاكثرية والاقلية في الحقوق . ولذلك لاتسن القوانين وفق الاغلبية السياسية وحدها وانما ضمن مصالح الاغلبيات الاجتماعية التي يمكن ان تمثلها الاقلية السياسية اكثر من الاغلبية السياسية التي تحرص، في احيان كثيرة، على التسيد والتسلط اللذين يكبحهما حق الاقلية الذي يتضمنه العرف الدستوري الديمقراطي.
لكن، من الناحية الحقوقية ، ولضمان حقوق جميع المواطنين بمن فيهم الاقلية والاغلبية ، فان اعمق وابسط تعريف للدكتاتورية هي انها حكم اشخاص. كما ان ابسط تعريف للديمقراطية هي انها حكم قوانين.
يؤكدالمؤرخ السياسي لتاريخ الحكم في الولايات المتحدة اوستن رني في كتابه( اسس الحكم) وهو يتناول في الفصل العشرين موضوع ( القانون والهيئة القضائية ) عاى اهمية القانون باعتباره نظاما للحكم الديمقراطي فيقول :لاريب ان ان الامل المنشود الذي كان يصبو اليه دستور(ماساشوشيتس) في اقامة (حكومة قوانين لا حكومة اشخاص) يكشف عن تلهف معظمنا الى ان تكون مصائرنا معلقة لابالنزوات العارضة لدكتاتور او لطبقة حاكمة او لاغلبية شعبية، بل باسس ومبادئ جوهرية ثابتة تقوم على حكم العقل والقانون)(١)
وهذا ما يحذر منه ارسطو، اذ يعتبر اسوأ انواع الديمقراطيات هي ديمقراطية الاغلبية الغوغائية التي لاتلتزم بالقانون. ولسوء الحظ فان تجارب عربية في مجال الديمقراطية اثببت مخاوف كل من ارسطو اليوناني ورني الامريكي، حيث نهضت غوغائيات من انواع متعددة، دينية وعشائرية واجتماعية وضعت هياجها العام محل القانون. . ويتفق معظم الحقوقيين والمفكرين السياسيين والسياسيين الديمقراطيين بان فرص الانسان في العيش المثمر في مجتمع من المجتمعات تتوقف الى حد بعيد على قدرته على العيش وفقا لاحكام القانون.وتدل التجربة التاريخية للانسان على ان القانون لم يتوفر الا في ظل النظام الديمقراطي وبذلك يمكن وصف الديمقراطية بانها حكم القانون، بما في ذلك تطبيق الدستور من خلال سيادة القانون ، وهو احد مبادئ الدستور البريطاني.
الحقوق الطبيعية:
يقول لوك في مقالة حول الفهم البشري، ان الله صمم الانسان ليكون مخلوقا قابلا للمجتمع، لم يجعله فقط ميالا ومضطرا لاتخاذ صحبة مع نوعه البشري ، وانما جهزه باللغة ايضا.(٢)
فالدولة اذن هي نتاج اللغة.وهذه الفكرة مستمدة اصلا من هوبز الذي يعتبر الدولة نتاج اللغة ولذلك لاتنشئ الحيوانات دولة. الدولة نتاج التعبير. ولذلك تكون حرية التعبير هي الدولة بمعنى آخر. ولاتوجد في الديكتاتورية غير لغة واحدة بصوت واحد، بينما تتمتع الديمقراطية بلغة واحدة ولكن بعدة اصوات. ولايضبط ايقاع هذه الاصوات المتعددة سوى حكم القانون . فالتنظيم القضائي احد اهم سمات الدولة الديمقراطية. واذا كانت الديكتاتورية تختصر الامة في شخص والدولة في سلطة هذا الشخص فان الديمقراطية تسيّد الامة من خلال سيادة الدولة عبر العقد الاجتماعي الذي يحق ، كما يقول روسو، الارادة العامة.
منذ العصر الذي ظهرت فيه نظرية الحقوق الطبيعية في القرن السادس عشر كتب لوك في البحث الثاني حول الحكومة المدنية ما اصبح قاعدة يأخذها البحث العام في الاعتبار . كتب لوك (يولد الانسان معنونا للحرية التامة، متمتعا بدون تحكم او سيطرة بكافة الحقوق والامتيازات التي وفرها له الحق الطبيعي متساويا مع كل الاخرين في كل مكان)(٣)
وهذه الحقوق والامتيازات التي اصبحت جوهر النظام السياسي الديمقراطي تجبر الحاكم على ان يكون عادلا يساوي بين الجميع في اطار القانون الذي يضمن حماية هذه الحقوق ، ويعطي للتعبير الحرية اللازمة في عكس وجهات النظر المختلفة وفي تلقي المعلومات الصحيحة وفي الحيادية السياسية وفي المهنية الوظيفية.
نحن امام نظرية سياسية يقوم القانون بتطبيقها. فحسب لوك ايضا ( ان القانون الذي حكم آدم هو نفس القانون الذي حكم ويحكم ذريته) )(٤)
وقد تطور هذا المفهوم الى النص التالي الذي كتبه لوك في الفقرة ٩٥ (ان الافراد الذين يتمتعون بشكل طبيعي بكونهم احرارا متساوين ومستقلين لايتنازلون عن اي من هذه الحقوق لاية سلطة سياسية لتكون بيد الاخرين بدون موافقتهم ورضاهم)(٥)
وهذا معنى العقد الاجتماعي الذي يتنازل بموجبه المجتمع المدني لهيئة سياسية ان تحكمه . وان هدف الحكم في العقد الاجتماعي هو لحماية الحياة والملكيات الفردية والحريات والحقوق وتوفير الامن وهي الحقوق الطبيعية التي تولد مع الانسان وليست هبة او منة من ملك او امبراطور او هيئة سياسية حاكمة.
ينبغي ان لانستهين بهذه العلاقة بين النظرية السياسية التي يقوم عليها النظام الحقوقي للدولة وبين استقلالية والمجتمع المدني عن السلطة السياسية او المجتمع السياسي، فالحيز الذي يتحرك فيه المجتمع المدني مواز للحيز الذي يسلكه المجتمع السياسي ويعمل ضمن نطاقه ولذلك لايجيز العقد الاجتماعي للسلطة السياسية الاستيلاء على المجتمع المدني ومصادرته
ان حرية الصحافة، على سبيل المثال، كانت معركة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في اوروبا ، حيث قطع النضال من اجل حرية الصحافة زمنا طويلا استغرق القرن التاسع عشر كله.وربما كانت فرنسا في ذلك القرن اسطع مكان لمتابعة الصراع بين الرقابة الحكومية وبين الحريات الصحافية، فـ ( خلال القرن التاسع عشر بكامله كان النضال في سبيل حرية الرأي، ولاسيما حرية الصحافة، نضالا ضد التصرف الكيفي للحكومة او الادارة. ان احد قرارات عام ١٨٣٠ كان موجها ضد الصحافة، ولكن القانون الصادر بتاريخ ١٩ تموز ١٨٨١، الذي يعد اليوم ميثاق الصحافة، انقذها من العقبات المباشرة او غير المباشرة التي كانت الحكومة قد وضعتها امامها فرديا او كليا كالعهود السابقة كالموافقة المسبقة والرقابة والكفالة والطابع. وقد اعلن القانون حية الموسسات المرتبطة بالصحافة كالمطبعة والمكتبة والنقل ولصق الاعلانات(٦)
قد تبدو هذه الفكرة مبسطة بشأن اهمية الحريات الصحافية، ولكن حرية الصحافة تعني حرية المجتمع المدني ووسيلته للحفاظ على العقد الاجتماعي.فقد كان نضال القوى السياسية الليبرالية والتنويرية حتى مطلع القرن العشرين هو تقليص سلطات الحكم المطلق دستوريا ثم لتجه النضال لاقرار الحقوق الطبيعية الاخرى التي وصلت الى ذروتها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام ١٩٤٨ والذي اصبح الصياغة القانونية لليبرالية العلمانية، ولذلك تشهر الانظمة العربية والدينية بوجه هذا الاعلان فكرة الخصوصيات الدينية والقومية التي تحمي استمرار الاستبداد.
تاريخ الديمقراطية والتجربة البشرية بين الغرب والشرق:
الديمقراطية تاريخ. فالتراكم التاريخي اعطى للديمقراطية قوة وثباتا لتكون نتيجة لافكار قانونية وسياسية وثقافية واجتماعية .لماذا كان هام ١٢١٥ التاريخ الاكثر رسوخا لبداية الديمقراطية التي نشهدها اليوم؟ ففي ذلك التاريخ اجبر الملك جون على توقيع وثيقة العهد الاعظم، او الماكنا كارتا Magna Carta لتضع اسس التعاقد بين الحاكم والمحكوم من جهة، ولتعطي القانون قوة لم يتمتع بها من قبل، ولتحد من السلطات المطلقة للملك في التحكم بالحرية والمال والكرامة. كان الملك يسجن من يشاء سجنه ويصادر من يريد مصادرة ارضه وماله متى وكيف يشاء. جاءت الماكنا كارتا لتضع نهاية، ستتعزز لاحقا، للاطلاقية الحاكمة ، وتحد من التصرف الكيفي بحريات البشر حين قررت، اخيرا، بانه لايجوز سجن اي انسان الا بعد محاكمته.كان هذا انتصارا كبيرا. وهذا الانتصار الذي تحقق قبل اكثر من ثمانية قرون لم يتحقق اليوم في عدد كبير من الدول والانظمة السياسية في العالم خاصة دول الشرق الاوسط، على الرغم من المصادر الدينية العليا الموجودة في تاريخ شعوب المنطقة من خلال القرآن الذي من المفترض واللازم دينيا، انه يضم قيما ومعايير تقود الى الحكم الدستوري المقيد.
ومن المفيد جدا ان نأخذ بنظر الاعتبار التوازي في المراحل التاريخية في الغرب والشرق لظهور الافكار الحقوقية للنظام السياسي. فالعدالة مثلا، التي يختزن الكتاب السماوي المقدس لدى المسلمين وهو القرآن بالطبع عددا هائلا من التعليمات والصفات الخاصة بها حتى انها من صفات الخالق، لاتجد تعبيرا لها في الفكر الاسلامي سوى لدى علي بن ابي طالب الذي ادرجها في وظائف الحكم الاساسية والزمها بالسياسة في قوله (ملاك السياسة العدل) كما الزمها بالعمران واعادة الاعمار(لايكون العمران حيث يجور السلطان) وفي جوهر الدولة، وحتى القرن الخامس الهجري لم يكتب شئ اساسي في العدالة سوى رسالة صغيرة عن (ماهية العدالة) كتبها الخطيب الاسكافي عام ٤٢٠ هجرية.
لقد غابت في الفكر السياسي الاسلامي التعبيرات عن العدل والحق والحرية غيابا تاما اثر التنظير الذي اعتمد على السمع لا العقل على حد تعبير ابي يعلى الفراء في (الاحكام السلطانية) حيث اورد الفراء ان موجبات الامامة هي السمع لا العقل(٧) في نفي صريح لدور العقل والحاجات الانسانية التي لعب العقل دورا كبيرا جدا في صياغتها في الغرب. فقد اكد الفراء (ان العقل لايعلم به فرض شئ ولا اباحته، ولاتحريم شئ ولاتحليله. ) ويعتبر الخلافة او الامامة فرض كفاية، يخاطب به طائفتان من الناس، احداهما،: اهل الاجتهاد حتى يختاروا، والثانية : من يوجد فيه شرائط الامامة حتى ينتصب احدهم للامامة.والفراء عاش في القرن الخامس الهجري في خلافة القائم بامر الله، الذي يقابل القرن الثاني عشر الميلادي حيث كان الحكم المطلق يهيمن على العالم الغربي والشرقي معا.
وهذا التزامن لايحل التنتقض الذي يصر عليه الكتاب الاسلاميون الذين يرجحون التفوق الفكري الاسلامي ويعتبرونه سابقا للفكر التنويري الغربي. فالفراء والماوردي ، وهما سلفيان يعيدان فكر الامام ابن حنبل السلفي المتزمت الذي نفى العدالة والعلم عن شروط الخلافة واعلى من شأن القوة حيث اعتبر ان التغلب بالسيف هو شرعية السلطة السياسية والحكم مستندا على قول لابن عمر بن الخطاب (نحن مع من غلب)(٨)
وفي الوقت الذي تحولت اقوال التنويرين الى قوانين وقيم دستورية وسياسية لتقييد السلطة وتحويلها الى سيادة الشعب، تحولت اقوال المتطرفين والمتزمتين في الاسلام الي قوانين صارمة لتقييد حقوق المواطنين واطلاق يد السلطة والحاكم المطلق دينيا حتى لو كان قاتلا ومجرما، وابعدت النصوص والاقوال التن،يرية والحقوقية وجرى تغييبها باعتبارها خارج الاسلام. واذا كان بعض رجال الفقه السني قد ادرجوا العدل والعلم والدين في شروط تولي السلطة، فان احمد بن حنبل اسقط هذه الشروط واعتمد الغلبة. ولذلك فان الفكر الاسلامي الخاص بالدولة والسلطة والمواطنة وحقوق المواطن يقر ماهو حادث في التاريخ وليس ماهو واجب او ضروري.ولذلك اصبح السمع مصدر تشريع السلطة وليس العدل والحرية والعقل.يورد الفراء انه(قد روي عن الامام احمد بن حنبل رحمه الله الفاظ تقتضي اسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال، في رواية عبدوس بن مالك القطان(ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي امير المؤمنين لايحل لاحد يؤمن بالله واليوم الاخر ان يبيت ولايراه اماما عليه، برا كان او فاجرا فهو امير المؤمنين)(٩)
يعتمد الفكر الاسلامي الرسمي القائم اليوم على تبريرات السلفية وامامها احمد بن حنبل في انتهاك حقوق المسلمين اعتمادا على شرعية السيف وليس شرعية الاختيار والانتخاب. وهو تراجع خطير يحصد المواطنون العرب والمسلمون نتائجه اليوم حيث يسود الاستبداد بصورة شرعية دينية.ومن الواضح ان فكر السلطة لدى ابن حنبل هو تبرير واعتراف بجميع الانتهاكات التي حدثت في موضوه الحكم منذ الخلفاء الراشدين حتى عصره حيث اصبح فكره السلفي فقها للسلطة. واصبح فقهاء السلطة يسمون (وعاظ السلاطين) الذي كتب عنهم المفكر الاجتماعي علي الوردي، الذي اعتبر مفكرا برجوازيا متأثرا بالفكر الغربي ممن يستشهدون به اليوم، احد اهم كتبه بهذا العنوان حيث قاموا بقتل الفكر الفلسفي الانساني للدولة او من يسميهم الشيخ حسين النائيني ب(شورى البلاط).( الشيخ حسين النائيني- تنبيه الامة وتنزيه الملة)
الديمقراطية وتاريخية الوقائع:
ان التطور الذي احدثه الاتفاق بين الملك جون والنبلاء اتسع وتراكم في سلسلة من الاحداث التي لابد من دراستها حيث اصبحت اهم تاريخ للديمقراطية المعاصرة.
يرجع كثير من الباحثين ، تاريخ الديمقراطية، عن حق، الى تاريخ نشأتها في اثينا. ويعزون ذلك الى عدد من التطورات التي حدثت وتحدث في جيوبوليتيك وفي مجتمعات متشابهة دون ان تنشأ فيها ديمقراطيات.لكن لا شك ان تطور الطبقة الوسطى في اثينا عن طريق الزراعة والتجارة والصناعات الحرفية والنخب العسكرية التي نشأت واعتزت بالمدينة وتقاليدها الوطنية ، ساهم في تحول مجتمع اثينا الى مجتمع نخبوي متفوق بعد انتصار الاغريق على الفرس وضم المدن الاغريقية في اسيا الوسطى الى اليونان والتأثير الثقافي والاجتماعي الذي احدثه ذلك بعد تحول التجارة نحو الموانئ الاغريقية ، حيث سيطرت اثينا على التجارة العالمية البرية والبحرية. ورافق ذلك ضم اراض جديدة صالحة للزراعة ونمو سكاني دفع سولون لاطلاق اصلاحاته واصدار قانونه المسمى قانون سولون الذي قام بتجزئة الملكيات الكبيرة التي كانت بيد سبع نبلاء ،على اكثر تقدير، وجعل الحد الاعلى للملكية ٣٠ هكتارا، الامر الذي ساعد على نمو طبقة الملاكين الذين اصبحو ارقاما مؤثرة في القرار السياسي. ففي عام ٤٠٣ قبل الميلاد اصبح هناك ١٥ الف مالك بين كل ٢٠ الفا من المواطنين، وهي نسبة مرتفعة جدا تقتضي المساهمة في القرارات وتسهم في صناعة الرأي العام وفي بلورة المشاركات المدنية في السياسة.
نلاحظ من خلال هذا التحول الاقتصادي نمو الاغلبية التي كان يمثلها سكان المدن الاحرار ومالكي الارض والتجار والمزارعين الذين شكلوا المجتمع المدني بمعناه القديم والذين كانوا يقررون من خلال الجمعية الوطنية السياسة العامة لاثينا. وقد انضمت النساء المالكات للاراضي الزراعية الكبيرة الى هذه الاغلبية رغم ان النساء كن يمثلن اقلية بالنسبة للطبقات المنتجة التي امتلكت حق التصويت والمشاركة في الحياة العامة.
لقد كانت هذه الظاهرة تتكون في مجتمعات اخرى مثل المجتمع العربي الاسلامي في عهد الخلفاء. فقد اتسعت الرقعة الزراعية والاراضي في زمن الخلفاء واصبحت موارد الخراج تفيض بحيث حولت النظام السياسي العربي والاسلامي الى نظام استبدادي ولم تحوله الى نظام ديمقراطي كما هو الحال في اثينا. ان السبب هو تضخم ملكية الدولة على حساب الملكية العامة. فالناتج الاجمالي لم يكن موزعا على المجتمعين السياسي والمدني كما هو الحال في اثينا وفي اوروبا بحيث قاد منذ القرن الخامس عشر الى التطورات الاجتماعية والسياسية المعروفة اليوم.
الديمقراطية والدولة والدين:
لم ينفصل موضوع الدين عن الدولة منذ عهد الديمقراطية الاثينية. وكان الفلاسفة المسيحيون المؤمنون ، حتى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث انطلقت الافكار الكبرى عن الحرية والحقوق، يسعون الى نقد الدين في سلوكه ضد الحريات والحقوق وينتقدون علاقة الحكم الاستبدادي المطلق بالتفويض الالهي . ،كثير منهم كان يسعى الى التوفيق بين السياسة وبين الميتافيزيقا. وفي القرون الوسطى تصاعدت حدة الجدل الفلسفي حول الدين والدولة بعد تفشي نظام الحق الالهي والسلطة المطلقة في اوربا، كان الربط بين الدين والدولة يوجد لدى كثير من الفلاسفة العقلانيين لان الدين عقلاني وفق تصوراتهم. وكان المفكر والسياسي الفرنسي جان بودان (١٥٣٠-١٥٩٠) قد الف (كتب الجمهورية الستة) ولم يبعد الله عن جمهوريته بل وضع مكانا مميزا له في الدولة. لان الجمهورية لديه (هي الاستقامة في الحكم) ، وهي الجمهورية التي طالما نادى بجوهرها ، اي الاستقامة في الحكم، فلاسفة اخرون واديان واتجاهات ،ولابد ان تكون هذه الاستقامة مستمدة من التعاليم المسيحية لديه، كما كانت الاستقامة في الحكم تعني مكان الله في جمهورية علي بن ابي طالب في فلسفته للدولة المدنية المستمدة تعاليمها من رقابة الله عليها ومن تاريخ رقابة الرأي العام، المعني الاول بقيام الدولة وقيام الحكم، ومن التعاليم الاسلامية. .ان المشكلة الاساسية التي نشأت لدى الفلاسفة حول الاطلاقية هي الاستبداد والتسلط ولم تكن علاقة الدين بالدولة.فالاطلاقية تدعي انها شرعية لانها مستمدة من تفويض الهي ولذلك فان جبروتها بلا حدود ، اي الحكم المطلق لانه مستمد من الله.ولذلك ظهرت مشكلة الملكية، وعلاقة هذه الملكية بالقوانين وبالسيادة وبالمساواة. اي ان الاطلاقية صارت تصطدم مع تطور المصالح واتساعها ولم تعد منحصرة بالممتلكات الملكية ذات السيادة ، فالسيادة حسب بودان مثلا مطلقة ولاتتجزأ ، والقانون الصادر عنها اقوى من اي شئ ويقول(ان السيادة المطلقة المعطاة للامراء وللاقطاعات السيدة المستقلة لاتمتد الى شرائع الله والى القوانين الطبيعية).(١٠)
في كتابه الشامل(انماط الديمقراطية) يورد ديفيد هيلد في الفصل الثالث المعنون( تطور الديمقراطية الليبرالية: ضد ومن اجل الدولة) كلمات لويس الخامس عشر : في شخصي وحدي تقوم السيادة ومن شخصي الوحيد يوجد القضاء وتوجد سلطته. سلطتة التي تمارس فقط باسمي ومنها تعود لي كافة التشريعات فانا حارسها الاعلى)(١١) خلاصة الاستبداد هذه قادت الى رد فعل باتجاه الفردانية ضد الاطلاقية وظهرت اطروحات العقد الاجتماعي والحرية. يواصل هيلد ويقول:من المهم جدا ان نتبين المعنى الواضح لليبرالية طالما انها مفهوم مثير للجدل ، وان معناها قد تحول تاريخيا.انها تستعمل هنا لتشير الى محاولة دعم قيم حرية الاختيار.(Held .p 59)
الديمقراطية الحديثة:
يبدأ تاريخ الديمقراطية الغربية في الماغنا كارتا, او العهد الاعظم الذي صدر عام ١٢١٥ في عهد الملك هنري -Geofrey Hindely . The Magna Carta صحيح ان هذا العهد اتفاق بين الملك والنبلاء اثر حملات الافلاس التي كانت الملكية تعانيها بعد الحروب، لكن هذا العهد الذي حد من سلطات التفرد الملكي صار مقدسا بحيث انه لم يعد فقط الاساس للنظام الليبرالي ، وانما الحاجز الذي لايستطيع اي قانون جديد ان يتجاوزه او يعبر فوقه. يقول جيفري هندلي Geoffrey Hindley، مؤلف كتاب(١٣) ان صعوبة تجاوز هذا العهد ماتزال فعالة في الولايات المتحدة وبريطانيا الى درجة ان مجلس اللوردات الذي اجبر الملك جون على الاعتراف بالحرية وجد نفسه يحارب من جديد في آذار -مارس ٢٠٠٥ لمعارضة مشروع قانون قدمته الحكومة لتمديد احتجاز الاشخاص المشتبه بهم بدون محاكمة، وكانت الماغنا كارتا قد قررت انه لايجوز سجن اي شخص الا بعد محاكمته قانونيا. وفي الولايات المتحدة، في ٢٨ نيسان-ابريل٢٠٠٤، واثناء النقاش والخلاف الساخن وقبل اتخاد المحكمة العليا اي اجراء ضد المحتجزين في غوانتينامو، اعلن القاضي ستيفن برير حق المشتبه بهم في طلب الاجراءات طبقا للقانون، وفقا للماغنا كارتا، اي لايجوز سجن اي شخص الا بعد محاكته قانونيا .انها تستخدم كطلسم للحرية حتى من قبل المحامين البريطانيين في تشرين الاول-اكتوبر ٢٠٠٣ في قضايا اللجوء .(١٣)
يمكن تسمية الحرية والعمل من اجلها بالخرافة او الاسطورة ، ولكن الواقع قد تحقق واصبحت سلطة الكلمة المكتوبة مقدسة ، وهذا هو الدستور.
لقد كانت الماغنا كارتا تقرر حسم الصراعات التي خاضها الملك جيمس وابنه شارل ضد البرلمان متمسكين بالنظرية التي تبناها الملك جيمس بانه يستمد حكمه من الله وان البرلمان هو منة ومنحة من الملك وليس حقا.لقد تطور الصراع بين ملوك الحق الالهي والحكم المطلق وبين اعضاء البرلمان الذين كان جيمس وولده شارل يسجنان من يعارضهم من اعضاء البرلمان.كان اعضاء البرلمان يتمسكون بجوهر الماغنا كارتا وبالقانون الاساسي الصادر عام ١٢٩٧ الذي يذكرون الملك فيه لانه لايجوز سجن اي شخص الا بعد محاكمة قانونيا. وكان هذا المبدأ قد تصدر التماس الحقوق عام ١٦٢٨ الذي قدمه البرلمان الى الملك شارل للتصديق عليه.
كانت هذه المرحلة مرحلة الجذور الليبرالية والعلمانية التي ستقوض نظرية الحكم الالهي الذي لم يكن يعني سوى استبداد وتسلط وفرض ضرائب تلبي نفقات الملك الباهضة وسجن من يعارض واصدار المراسيم الملكية بدل القوانين ، وتعمقت الازمة لتصل الى ان يقرر اعضاء البرلمان، في خضم الصراع بين الليبرالية وبين الحكم المطلق مبدأ (اما ان يحكم الملك بدون برلمان ، او ان يحكم البرلمان مع الملك) لكن شارل الاول وهو يعتقد انه يستمد حكمه من الله وان استبداده مشروع جرد جيشا ضد البرلمان وبدآت الحرب بين الملك والبرلمان فانهزم الملك وحكم عليه بالاعدام. والسبب ان البرلمان شكل محكمة وان المحكمة وجدت ان شارل مذنب لقيامه بالحرب ضد البرلمان، وانه خائن لوطنه سفاك للدماء وعدو للشعب)(١٤)
لقد تحول الحكم المطلق الى عار في بريطانيا بعد اعدام شارل الاول والى عار في فرنسا بعد اعدام لويس السادس عشر، وظهرت الليبرالية بديلا قانونيا وتمثيلا شعبيا.
لقد لعبت النخب السياسية والثقافية الطالعة على السلم الاجتماعي للدولة دورا خطيرا جدا في خوض الصراع لصالح الليبرالية والحقوق.كانت النخب الجديدة تحترم التزاماتها كما تحترم اهدافها العامة. لقز كانت معركة تمثيل الشعب غاية في الجدية والالتزام. لك تكن شعارا او مناورة.كلنت النخب مستعدة للتضحية وتحمل المسؤولية.وكان الفكر الجديد، الداعي الى الحرية والحقوق والعقد الاجتماعي والمواطنة، يدعم مطالب الطبقات الوسطى الجديدة ويعكس حلجتها الى التنوير.لم يكن الدين مشكلة ولم يكن فصل الدين عن الدولة شعارا او مخططا. كان العمل يجري على تثبيت الحقوق والحريات ، وهو ماقاد الي ان يخسر الحكم حقه الالهي واطلاقيته ويصبح الدين قضية شخصية وليس قضية حكم.هذا ما تخاف منه جميع الانظمة السياسية العربية بما فيها من تدعي انها علمانية.انها قائمة على حق الهي من نوع آخر.ان الدكتاتوريات غير الدينية هي دكتاتوريات منافية للعلمانية. لان العلمانية ليست عدم التدين وانما صفة للاجراءات الحقوقية والقوانين والمظاهر الليبرالية التي تعترف بالحريات الفردية والحريات السياسية للاحزاب وحرية المعتقد وحرية الصحافة وحيادية التعليم وحيادية الخدمة المدنية
هوبز: بداية فكرالانسان
نقل هوبز(١٥٨٨-١٦٧٩) فكر الدولة والفكر السياسي نقلة نوعية وواسعة بتركيزه على طبيعة الدولة الوحشية التي وصفها في كتابه الفخم(الليفيتان) ذلك الوحش الاسطوري البحري واخاف به الكاثوايكيين والاساقفة الانغليكان، كما نقل الفكر السياسي الى ان يكون علما له مفرداته الخاصة وتعريفاته المحددة ووظائفه الخاصة وربط السياسة بمصطلحات واطر جديدة فاصدر( عناصر الحق والقانون) ثم (المواطن) وبعده (الطبيعة البشرية والجسم السياسي) وختمها ب(الانسان). هذه اذن مواد طبيعية مقابل ما يقوله من تعريف للدين( ان الخشية من قوة خفية، سواء كانت وهما او تصورا ماخوذا عن العادات المقبولة عموما ، هو الدين). ان تحرير الانسان من الخوف كان يتطلب فلسفة جديدة تقوم على الواقع. عاى الطبيعة. فالمجتمع المدني يفترض ان يكون حالة طبيعية ضد الاستبداد والطغيان ، اي ضد الاطلاقية. فحق الطبيعة عند هوبز هو حرية كل فرد في استعمال قدراته الذاتية من اجل ان يحفظحياته الخاصة.ان هوبز، شأنه شأن فلاسفة الحق الطبيعي لايتوقفون عند اكتشاف القانون بل توظيفه من اجل دولة حرة ومواطن حر .فالمجتمع السياسي ليس واقعة طبيعية بل صناعة ميثاق ارادي للفرد مع الفرد لان السيادة تقوم على هذا الميثاق او العقد. لان قيام الدولة يستدعي قبول كل فرد بها. وبالتالي تنبثق المواطنة من العقد الاجتماعي بين الافراد(١٥)
لكن هوبز لم يرفض الاطلاقية وانما طوقها بما اسماه الضميرالمهني للملك. هذا الضمير المستمد من العقل يجعل من الغباء بالنسبة للعاهل ان لايفتش عن مصلحة شعبه لان مصلحة شعبة بالتالي هي مصالحه هو.ورغم ان هويز ملكي لكنه لاينطلق من مسيحيته بهذا الصدد ، ولذلك يسعى في مولفاته الى تقييد الاطلاقية ويعول على الدولة، التي عول عليها فيما بعد هيغل، لكي تلبي الوظيفتين الدينية والمدنية.وفي الوقت الذي يقيد هوبز السلطة المطلقة بالضمير المهني فان هيغل يقيدها بالاخلاقية ويقيد الحرية بهذه الاخلاقية( الاخلاقية ،في مجالها الثاني ، تعطي شكل الجانب الحقيقي من مفهوم الحرية)(١٦)
ان احد الاسباب لقوة الاطلاقية هي الحروب الدينية التي جعلت شعوب الدولة المسيحية تدعم الحكم المطلق من اجل السلام في مفارقة تاريخية ستنجلى فيما بعد.وسيكون انفصال انكلترا وفرنسا عن البابوية منطلقا جديدا للدولة المدنية التي خرجت من رحم الدولة الدينية ، من التفسير اللاهوتي للحقوق الطبيعية، التي ستكون فلسفة العلمانية، ذلك التفسير الذي يصور القانون الطبيعي على انه التعبير عن الارادة الالهية. وسيظهر غروسيوس وبوفندورف لصياغة قوانين الحقوق الطبيعية التي ستكون اساس التطور الحقوقي لليبرالية العلمانية.وقد تظافرت عدة عوامل، سياسية واقتصادية وعلمية، الى تطور التصورات الحقوقية للعالم والمواطن والدولة.فبدآت التصورات الحقوقية تتشكل: الحقوق منفصلة عن الدين. السياسة منفصلة عن اللاهوت. قوانين التجارة هي قوانين الطبيعة ، وهكذا تجمعت افكار الفلسفة العلمانية سيلسيا واقتصاديا وعلميا حيث اضافت العلوم والتجارب العلمية والاكتشافات العديدة تحول المعرفة من معرفة دينية الى معرفة لقوانين الطبيعة.
اللليبرالية العلمانية وفكرة الحقوق الطبيعية وليست المكتسبة:
لنتوقف عنذ القوانين الطبيعية لان الديمقراطية ستخرج من معطفها ، وستخرج العلمانية منها فيما بعد .ان الفكر المسيحي يختلف عن الفكر الاسلامي وبالتالي سنجد ان مفهوم الدولة سيتطور من خلال هذا الاختلاف.ان فلاسفة المسيحية لم يمتلكوا ثوابت مقدسة كالتي يمتلكها الفكر الاسلامي خاصة في موضوع الحكم. لقد خرجت من القرأن فكرة الجدل حول القدرية والجبرية. وانتبه الحكام في العصر الاموي الى خطورة هذه الفكرة على السلطة السياسية. اي ان التفويض الالهي والحكم المطلق ارتبط بالجبرية والقدرية. وتحولت السلطة الاموية الى طرح مفخوم الجبرية واشاعته واكدت عليه ومنه استمدت قهريتها واستبدادها ومصادرتها للمال العام واعتباره ملكا شخصيا للحاكم.
لقد هيمنت السلفية من خلال ابن حنبل في مقولاته وعقائده فكرست فكرة ان القضاء والقدر لايكتمل الايمان بهما وهما من الله، وان خلافات الصحابة(اي الخلاف على الحكم الذي حدث في السقيفة وتطور مع معاوية والثورة الاسلامية الاولى ضد عثمان) لايصح الخوض فيها بل يجب العدول عن ذكرها والوقوف عند محاسنهم وفضائلهم ،وان ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل وفق ترتيبهم في تولي الخلافة. كما ان علم الكلام منكر ، منكر، والاشتغال به منكر، واخذ العقائد بادلته منكر وان مجالسة اهله منكر. وان طاعة ولي الامر واجبة حتى لو كان فاجرا فاسقا والثورة عليه منكر(١٧)
ان الفكر الاسلامي يقوم على تاكيد عقيدة واحدة اساسية هي طاعة الحاكم. حتى ان الماوردي في (الاحكام السلطانية) يوجب على المسلمين طاعة الحاكم في كل الاحوال. ولذلك اصبح موضوع الاستبداد موضوعا ثانويا في الفكر الاسلامي ، بل اصبح موضوعا غائبا. واذا شئنا الدقة التاريخية فان الاستبداد اصبح جزء من الفكر الديني الاسلامي السائد تخلق له الاعذار والتبريرات الدينية كما لدى ابن تيمية الذي اقر شرعية الغلبة العسكرية لاخذ السلطة ، وهو نتاج التسلط المملوكي الذي شهد القتل والخلع ، ولكن ابن حنبل وابن تيمية وغيرهما لايقرون شرعية الثورة على الحاكم الظالم.
لقد انتفى موضوع العدالة وموضوع الحرية وموضوع المساواة وموضوع الحقوق من الفكر الاسلامي. ان الكتاب الاسلاميين الجد لم يفعلوا شيئا مع الاسف سوى اعادة وتكرار مفاهيم غير موثقة واقعيا عن ان الاسلام يتضمن كل هذه المفاهيم ولكن لم يتم تطبيقها ، غير ان بعضهم يؤكد ، بدون ادلة تاريخية ، على تطبيقها في عهد هذا الخليفة او ذاك دون ان يتغير الوضع المزري للحريات والحقوق في الدول الاسلامية التي ترفض هذه المفاهيم باعتباره مفاهيم غربية . لقد كتب ماكفيرسون، في تحريره لمؤلف لوك(البحث الثاني حول الحكومة) في الطبعة الصادرة عام ١٩٨٠ مقدمة مهمة جدا ، قال فيها وهو ييستعرض اهمية الكتاب في بريطانيا واوربا والولايات المتحدة التي تاثرت ثورتها بافكار لوك ويتساءل( بعد ان استقرت كل الافكار والقضايا التي اثارها هذا الكتاب، لماذا يعتبر هذا الكتاب من كلاسيكيات الليبرالية. ان جزء من الجواب يكمن في الهجوم الذي تتعرض له الدولة الدستورية الليبرالية في الغرب من قبل العالم الشيوعي والعالم الثالث)
ثم تطورت حركة الموطئين التي ظهرت في صفوف جيش كرومويل الذي اعدم الملك شارل الاول واطلق الجمهورية وقوانين الاصلاح من خلال الثورة الانجليزية عام ١٦٤٠ . كانت افكار الموطئين تتركز على حقوق الشعب . ولتلبية وضمان هذه الحقوق يكون البرلمان ممثلا لهذه الحقوق، وكانت فكرتهم تقوم على اساس ان لكل انسان الحق على الموافقة على القوانين بواسطة ممثله البرلماني. لقد اكدو على الحرية الشخصية والمنفعة وهم اعتقدوا ايضا ان الناس يولدون وتولد معهم حقوقهم. وعلى المستوى الديني كانوا يدعون الى التسامح.
اننا نجد افكار واطروحات كلا من هوبز ولوك في هذه البرامج. فالبرلمان هو بنك لحفظ حقوق الافراد. اي ان البرلمان ليس اكثر من خزانة اودع المواطنون فيها حقوقهم ومن حقهم ان يستردوها اذا ما اخل البنك بشروط وظروف حفظ هذه الوديعة.وهذا يعني، كما يـؤكد لوك، حق هؤلاء الناس في الثورة على هذا البنك الذي اخل بشروط عقد حفظ ودائع الناس .واذا كان هذا مصدرا مهما من مصادر العلمانية ،فان الميرزا حسين النائيني ، المجتهد الشيعي الاسلامي الذي اشتهر في مطلع القرن العشرين في العراق وايران قد اكد هذا الحق بصورة واضحة في كتابه(تنبيه الامة وتنزيه الملة) واضعا خطين متوازين للحياة، الخط الديني وهو حق الله على الناس، والخط المدني وهو حق الناس في سلطة مدنية تدير شؤونهم وتحفظ حياتهم وممتلكاتهم من خلال عقد اجتماعي يفضي الى هيئة تشريعية منتخبة ممثلة للشعب تكون الضمانة في عمله التشريعي لتحقيق عدم التعارض مع الشريعة وجود عدد من الفقهاء والعقلاء.(١٨)
الديمقراطية والعقد الاجتماعي:
تسلم القرن الثامن عشر كل الاكتشافات الكبرى التي قدمها القرن السابع عشر في ميدان العلوم والطبيعة. اصبح القرن الثامن عشر قرن التطبيقات لمكتشفات القرن السابق له، حتى ان الفلاسفة التنويرين دروسا الرياضيات مثل فولتير ، والتشريح وعلم وظائف الاعضاء والكيمياء مثل ديدرا، بينما ركر روسو على دراسة علم النبات. من هنا نشأت الموسوعية لدى الموسوعيين الذين نقلوا حركة التنوير من خلال العلوم الى حركة سياسية واجتماعية مست ارجل كرسي الحكم المطلق وبدأت تقوضها.
واحتلت العلوم ، خاصة التاريخ الطبيعي ، والعلوم الاحيائية ، المرتبة الاولى وبرز في هذه المرحلة بوفون(١٧٠٧-١٧٨٨) كممثل لعلوم ذلك العصر بحيث ركع روسو عند عتبة بيته اجلالا لعلمه.
لقد وضع بوفون اسسا وضعية علمانية ترفض الاسباب الغائبة وتقوم على البراهين العلمية. ان بوفون يؤمن بوحدة الجنس البشري من خلال التاريخ الطبيعي كما انه يؤمن بتطور الاجناس ، ويقوم كتابه( احقاب الطبيعة ) على هذه النظرية.
لقد ظهرت السعادة كواجب من واجبات الدولة. ظهرت عند ديدرو كما ظهرت عند فولتير ومونتسكيو. وكانت السعادة فكرة جديدة كما يقول سان جوست.وموضوع السعادة كان فكرة قائمة في فكر بعض الاسلاميين الليبراليين مثل ابن مسكويه، وقد ظهر موضوع السعادة كذلك في فلسفة الامام علي حول الدولة . فقد كان مؤلف الامام : عهد الاشتر، بحثا في فلسفة الدولة ووظيفتها وطابعها الحقوقي. وبالتاكيد فان التمتع بالحرية والحصول على المساواة والعدالة وفرص العمل والامن والسلام والتعليم والصحة والسفر
ليست السعادة شكل الدولة الليبرالية ولكنها ثمرة توفير الوسائل اليها.هناك من يقرن انتهاك الحق منذ بدء الخليقة . هابيل يقتل قابيل حتى قبل ان يجتمع الافراد ليؤلفوا تجمعا يحتاج الى اداة سياسية.ليس مشكلة ان تكون التفسيرات مختلفة حول سبب نشوء الدولة ولكن المشكلة هي في تحديد العلاقة بين الدولة والمجتمع الذي يتتكون منه وشكل الوسائل التي تتبعها الدولة في توفير وسائل العيش.
يقول جاك دونديو دوفابر ، المنظر الفرنسي للدولة، ان الدولة لابد ان تمتلك وسائل قهر، ولكن لابد ان تكون هذه الوسائل مشروعة ومعترف بها من قبل من اعطى العقد . يساعدنا مناقشة مفهوم الدولة على الوصل الى شكل وطابع ووسائل الدولة وموقعها في المجتمع الذي تمثله.ان العلمانية ليست دستورا، ولكنها معطى دستوري ينشء من خلال القوانين التي تنظم شكل الدولة وطبيعتها والقوى التي تمثلها او تقودها والسلطات التي تمثلها، وبالتالي تثمر فلسفة علمانية هي نتاج الاجراءات والنظم والقوانين ليواصل انتاج النظم والقوانين والاجراءات الليبرالية، ام تثمر فكرا استبداديا قهريا ينتج اجراءات ونظما وقوانين اخرى تدعم جبروت واستبداد الدولة.
عودة الى تاريخ الاسلام تجعلنا نرى ان الاجراءات التنظيمية قادت الى توحيد الجماعات الاسلامية المهاجرة والناصرة في مجتمع واحد هو مجتمع يثرب.من الضروري الاهتمام ببعض الاجراءات التي تبدو شكلية ولكنها تحمل دلالات فكرية ونفسية. فسرعان ماغير النبي اسم يثرب الى المدينة استمرارا للطابع المدني لمكة. كانت مكة مدينة تجارية ، وكان لها سمعة اقليمية تمتد من الشام الي اليمن وعمان والعراق. وكان لها علاقات مع الروم والساسانيين ، سواء تجارية او ثقافية . واحداث العصر الجاهلي الذي سبق الاسلام يزخر بالقصص عن لقاءات بين قريش وكسرى او هرقل، على عكس يثرب التي كانت واحة شبه معزولة يسطر عليها الاوس والخزرج الذين وفدوا في فترة ما ، من خارج يثرب.
حاول النبي ان يضع اجراءات وتنظيمات لمجتمع المدينة سعيا للاستقرار وتكوين قاعدة ثابتة .فوضع صحيفة لتنظيم العلاقات كانت متأثرة بالواقع الذي تعيشه يثرب والذي يكون فيه اليهود ثقلا مؤثرا، زراعيا وتجاريا ودينيا وقبليا. فالقبائل اليهودية من قريظة ومن بني النظير ومن غيرهم يملك احلافا وصلات موثقة. ليس صحيحا ان الدعوة الاسلامية كانت ضد القبيلة بدليل انها اعتمدت علي قريش.ولكنها سعت لجعل الانتماء القبلي هوية ثانية خاضعة للانتماء الديني الجديد وجزء منه. ولذلك عادت العصبية القبلية قوية جدا في تخطيط مدنتي البصرة والكوفة واعادة تخطيطها استنادا للثقل القبلي في زمن زياد بن ابيه حين كان واليا لمعاوية فكان توزيعها اخماسا واسباعا حسب توزيع القوى القبلية. وكانت العطبية القبلية سببا مباشرا في سقوط الامويين في الصراع الذي استعر بين اليمانية والقيسية.
يرد هذا التاريخ علي كثير من المؤرخين والكتاب الذين يجعلون الدولة الاسلامية ضامنة لكل الحقوق ومستجيبة لكل التطورات الديمقراطية التي حدثت في الغرب.ويرد على من يعتقد ان الدولة الاسلامية ضمنت المساواة حسب الانتماء الديني، وان الشريعة كانت الدستور الذي حكم الدولة في الاسلام.كما كانت محنة القضاء التي نشأت في عهد الامويين محنة عميقة الاثر شككت بشرعية الحكم وطعنت باجراءاته حين تحول الى ملك عضوض اي الى حكم استبدادي مطلق كان مثالا طبق الاصل لما شهدته اوروبا في القرون الوسطى خاصة في عهدي شارل الاول في انجلترا ولويس الرابع عشر في فرنسا.
لقد تطورت وظيفة الدولة وغايتها حتى وصلت عند سبينوزا حدها الاقصى : ان الحرية هي نهاية الدولة. كان مفهوم الدولة مفهوما فلسفيا ولكنه لم يكن مفهوما مجردا. لقد انبثق من عمق العمليات الاجتماعية والاقتصادية. كانت الحرية مناقضة للفقر ايضا.،كان نبلاء واثرياء اوروبا ، خاصة الطبقة المرتبطة بالحكم، منعزلين عن المجتمع ولايبصرون الفقر والحرمان والبؤس الذي كان يعيش فيه ملايين الناس. كان الفلاحون يعيشون في فقز مدقع صورته لوحات فنية كثيرة مثل لوحة آكلو البطاطس لفان كوخ.
لقد خصص لوك الفصل الخامس من (البحث الثاني حول الحكومة ) لموضوع الملكية الذي يبدآ فيه منلقشة الحق الطبيعي للملكية، ولكن ليس الملكية المطلقة التي كان فيها الملك يملك كل شئ.ويستشهذ بانتقال بتعاليم النبي داوود في المزمور السادس عشر من ان الله اعطى الارض لاطفال الانسان، من ادم الى نوح ، ثم يقول ان اعطى الارض للجميع.(١٩) )انه لايدعو الى الملكية العامة للدولة او الاشتراكية ، انه يدعو الى الملكية للجميع على اساس الفردية وحق التملك الفردي.ان الرب الذي اعطى العالم للانسان من خلال آدم كملكية للجميع اعطاهم كذلك الاسباب لجعلهم قادرين عل» استخدامه بشكل افضل من اجل المكاسب في حياة افضل. ويمضي لوك في التاكيد على ان الارض ، وكل ما عليها، اعطيت للبشر لتساعدهم في صنع حياة مريحة.
لعل المقابل لهذه الفكرة الواردة في مزامير داوود قد وردت في القرآن من خللا الاية(ان الارض سيرثها من بعدي عبادي الصالحون) . ان عمارة الارض عمل صالح، وقد ورد في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية لدى علي بن ابي طالب التاكيد على ان عمارة الارض اهم من خراجها. انه رأسمال صيانة الرأسمال.ولذلك خربت الارض في زمن الامويين الذين تعسف ولايتهم في جباية الخراج، ضريبة الارض من غير المسلمين، دون ان يخصصوا جزء من هذه الضريبة لاعمار الاراضي الزراعية، فكان ذلك سببا مباشرا لكثير من الثورات والتمردات التي قمعت بقوة على انها انشقاقات دينية.لقد رأينا كيف ان حركات التنوير والاصلاح انطلقت من الفكر الديني ولكن بمواجهته. ولقد شهر التاريخ الاسلامي محاولات من نوع أخر سعت الى تخفيف حدة الفروقات الهائلة في الملكية. لقد ابقت معظم الفتوحات التي تمت في عهد عمر للعراق والشام ومصر الارض بيد اصحابها الاولين على ان يدفعوا الخراج وهو اعلى من العشر بثلاث مرات.(* بحثت ذلك بشكل تفصيلي في كتابي: الاصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الاسلامية المعاصرة الصادر عام ١٩٩٤ ).
فصل الدين عن الدولة: الدولة للمساواة والدين للتمييز-
لقد تراكمت جملة من المطالب والتشريعات والاعلانات الخاصة بالحريات.تبدآ الليبرالية العلمانية الامريكية من اعلان الاستقلال الصادر عام ١٧٧٦ والذي يعد الاشهر في وثائق الحريات واشهر مقاطع اعلان الاستقلال هو النص القائل:(اننا نعتبر الحقائق التالية بديهية بذاتها: جميع الناس ولدوا احرارا، وقد وهبهم الخالق بعض الحقائق التي لايجوز الانتقاص منها، من ضمنها الحق بالحياة، حرية السعادة وحرية نشدانها، ولم تنشأ الحكومات بين البشر الا لحماية هذه الحقوق)(٢٠)
لم يلحد الاعلان العلماني الليبرالي هذا وهو يؤكد ان الحرية طبيعية ، حسب الليبرالية،او فطرية حسب المصطلح الاسلامي، تولد مع الانسان وهي هبة من الخالق وليست هبة من ملك او سلطان او دين او حكومة او كنيسة او مسجد.
كما ان النص يقرر وظيفة الحكومات بانها العمل على ضمان هذه الحقوق.وقد سبق ان اشرنا الى هوبز وقوله ان اللغة اصل الدولة، ولذلك لم تستطع الحيوانات تشكيل دولة. ان اللغة هي الطرف المشترك بين البشر، ولغة الدولة اللليبرالية هي لغة حقوقية تتحدث عن السياسة بالفاظ حقوقية. كما يقرر دوفابر.
ان الحكم، في الليبرالية، خارج المعتقدات ومنفصل عنها ، لكن الحكم لايعادي المعتقدات بل يوفر لها الحماية لان ذلك جزء من وظيفته .فالدين لاينفصل عن الدولة حتى في الدول الديمقراطية المسيحية الذي يشكل هويتها وهوية مجتمعها ولذلك هناك احزاب ديمقراطية مسيحية.ولقد ذكرنا كيف ان الفلاسفة المسيحييين الانسانيين اخرجو الدولة من جبة القساوسة الى قبعة الليبراليين.
ان الدولة الحديثة ، وهي بالتاكيد الدولة الديمقراطية القائمة على الفلسفة اللليبرالية ، دولة تتسم ، حسب ماكس فيبر، بالحقوقية والعقلانية، وهو مايتناقض مع التصورات السلفية للدولة ، سواء كانت سلفية دينية او سلفية قومية او سلفية ماركسية قائمة على التنميط الايديلوجي. لان الايديولوجيا اصلا ليست عقلانية.ان السمتين، الحقوقية والعقلانية ليستا جامدتين ، ذلك ان الاطر الحقوقية تقود التعديلات الدستورية وتقود الاضافات المتكررة للقوانين والاجراءات التي تتم بشكلها العقلاني.
ان السعي لاقامة وفاق بين الشمولية والعلمانية لامعنى له. انه يشبه السعي للوفاق بين تناقضات مبدأية وقعت فيها اتجاهات ايديلوجية متكررة كالماركسية العربية والقومية العربية والاسلام.ليس لان هناك تناحرا بين القيم التي تشكل كل اتجاه فكري فحسب وانما لان التوفيق يقوم على انتقائيات متنافرة توصل الى طريق مسدود.
ليس الحل طبعا من وجهة نظر الاسلاميين هي التخلي عن الاسلام والاتجاه الى الليبرالية ، وكذلك الحال مع القوميين والمارسكيين.ان الديمقراطية الليبرالية منظومة قيم متحدة تقود الى نتائج محددة ومتحدة ، قادت في نهاية المطاف الى توحيد اوروبا في الاتحاد الاوربي لسبب بسيط واضح هي ان القيم الدستورية الحقوقية لكل من السياسة والاقتصاد والثقافة اصبحت واحدة وكأن دساتير دول اوروبا دستور واحد يقوم على الديباجة والمواد الثلاثين للاعلان العالمي لحقوق الانسان.هذا الاعلان الذي يتم ادعاؤه من قبل ايديولوجيات متباينة دون دليل على تحقيقه. فهناك فرق بين وجوده وبين تحقيقه.ان السبب في هذا الادعاء ان الدستور ظاهرة اجتماعية حقوقية وعقلانية تشمل الجميع بدون تمييز ، بينما لاينطبق هذا على الشموليات الدينية والقومية والماركسية التي تصطدم عقائدها الجامدة مع التطور الحقوقي ومع الواقعية العقلانية.
لم تكن الافكار الليبرالية الا ثورية في زمنها. قد تبدو اليوم وكأنها اصبحت بسيطة ومتداولة في اوروبا، لكنها كانت ، قبل ثلثمائة سنة مثلما هي الان في الشرق. صذام بين التحرير من اللاهوت الغيبي وما فرضه من معتقدات وخرافات و(ظلمات وشياطين) على حد تعبير هوبز في (الليفيثان) كانت تمس حريات الناس وتتدخل في التقسيم الديني وما ينتجه من انعدام للتسامح والتعايش. كانت افكار جون لوك في (رسالة في التسامح) قد احدثت دويا هي الاخرى في وقت كانت فيه الحروب الدينية تعم اوروبا.كانت الكنيسة قوية لكنها اصبحت تواجه افكارا عقلاينة وحقوقية تنبثق من الحاجة الى تحول المجتمع الى ظاهرة وظيفية تفكر وتقرر وتشارك في صنع حياتها. لذلك كانت افكار العقد الاجتماعي قبل روسو قد انبثقت في فكر هوبز ولوك باعتبارها افكارا تخص مفهوم الملكية ايضا، هذا المفهوم الذي لعب دورا في تحرير العقل ودفع الحياة التجارية في بريطانيا الى ان تكون صاحبة دور في صنع القرار السياسي الامر الذي اثار انتباه فولتير ومونتسيكيو اللذين اشادا بهده الظاهرة التي توسعت لتساهم في الثورة الصناعية وفي نمو رأس المال الذي اصبحت له وظيفة تعديل القوانين والتاثير في الحياة السياسية والفكرية.ان فكرة العقد الاجتماعي انتجت اهمية الفردية ضد الاطلاقية. واعطت للفرد الموقع الاول في تكوين الدولة باعتباره يتحد في عقد مع فرد آخر للقبول بفكرة الدولة باعتبارها حامية لحقوقه.
وفي القرن التاسع اصبحت فكرة العقد الاجتماعي شائعة لدرجة ان هيغل يستعرض في كتابه (Philosophy of right) بعد الفقرة الرابعة والسبعين من الفصل الثاني المعنون (Contract) فكرة العقد قائلا , عام 1821, اي قبل اقل من قرنين ( انها رؤية شائعة في الازمنة الحديثة ان الدولة هي عقد الجميع مع الجميع.الجميع يعقد ويتفق , وبعد هذا تنطلق منظومة التعاليم للعمل.) (21)
يؤكد الليبراليون على الفردية كثيرا. يعتقد جون ستيورات ميل ان الفردانية هي احد عناصر الوجود الخيّر.(ان الانسان يجب ان يكون حرا في التعبير عن رأيه وتكوين وجهة نظره بدون ان يحجز على هذا الرأي(22). وقد شكل هذا المبدأ اساس المادتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان. وكان ميل يؤكد ذلك في نهاية القرن التاسع عشر.ويتطلب هذا المبدأ احترام الفرد واحترام حقوقه.
لاتتحدث القوانين عادة عن مجموع. انها تتحدث عن فرد. ومن خلال هذا الفرد تتحقق حقوق الجميع. ان فكرة الفردية والجماعية فكرة هامة وضرورية. فالتفكير الفردي للانسان في الغرب هو اساس الحقوق ، لان فكرة الفرد تضمن حقوق الجميع. بيد ان الفكر في الشرق يتحدث عن تفكير جميعي وعن جماعة وبالتالي لاتوجد حقوق افراد لان هذه الحقوق ضائعة اصلا في صياغات جماعية.
هذا فرق جديد وهائل بين العلمانية الفردية والشمولية الجمعية التي تخاطب الحشود ،سواء الحشود القومية او الحشود الدينية او الحشود الماركسية. ان فكرة العسكرة مرتبطة بمفهوم الجموع والحشود. ان حرية الفرد مناقضة لعسكرة المجتمع. ان الفردية قادت الى المواطنة. المواطنة باعتبارها مساواة، عكس المواطنة في المجتمع الاسبارطي الذتي كانت تعتمد على مبدآ المساواة باعتباره عالة يتمتع بها مواطنون يمتلكون جزء من الاراضي المشاعة يعمل فيها العبيد في ظروف قاسية لقيم خلالها اؤلئك المواطنيون موائد جماعية كان حضورها احد شروط المواطنة ثم الخضوع للتدريب العسكري القاسي حيث كان الاطفال الضعفاء يتركون في العراء حتى الموت
لكن الفضيلة المدنية والتمتع بها كانت احد شروط المواطنة في اسبارطة لكي يتاح للمواطنين المشاركة في حكومة الدولة.
مايجلب النظر في موضوع المواطنة في اسبارطة هو مصطلح الـ Homoioi ، وهي كلمة، يترجمها ديريك هيتر، في كتابه (تاريخ موجز للمواطنة) A Brief History of Sitizenship بالمتساوين او (النظراء) وهي كلمة وردت في العهد الذي كتبه الامام علي بن ابي طالب الى واليه على مصر مالك الاشتر حين يحثه على التعامل وفق مبدأ المساواة بين الناس لان الناس حسب قوله( صنفان، اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق (٢٣
لقد كانت الفردية تقوم على اساس اولي ومبدأي في الليبرالية ، هو ان الانسان حر ،وانه يستطيع استخدام حريته مع كل فرد آخر لتحقيق الارادة العامة. وهذه هي فكرة العقد الاجتماعي عند روسو الذي يبدأ كتابه بجملة (يولد الانسان حرا ثم يقيد بالسلاسل في كل مكان) وهي لاتبتعد كثيرا عن جملة الخليفة عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا).كانت الحرية اساس المواطنة. واذا كان روسو قد اعجب بمواطنية اسبارطة فانه كان اكثر اعتزازا بمواطنية جنيف ، التي يتحدر منها ، ولذلك عرف نفسه في طبعة العقد الاجتماعي بالشكل التالي:ج ج روسو ، مواطن من جنيف.
كانت فكرة المواطنة اساس التطور الليبرالي نحو الديمقراطية. فالمواطنة في نهاية الامر تبلورت من خلال نظرية الحقوق الطبيعية ومن خلال فكرة الحرية الفردية ومن خلال العقد الاجتماعي .
حين صدر الدستور الامريكي بعد اتحاد ثلاث عشرة ولاية وتأسست الولايات المتحدة الامريكية، صدر قانون الحقوق الذي سعى لتعريف الامريكيين بحقوقهم . فقد تحولوا من اتباع لبريطانيا الى مواطنين امريكيين. كان السعي الى الحرية يقود الى تأسيس قوانين خاصة في المستعمرات البريطانية، وكان الاتجاه البيوريتاني، التطهري ، يقود الساعين نحو الحرية .كانت المؤسسات التطهرية تعتنق البروتستاتية. انها مؤسسات دينية نشأت في القرن السادس عشر في بريطانيا ونيو انغلاند ، وقد بدآت تحث على تبسيط طقوس العبادة وعلى التمسك بالفضائل.وهذه ظاهرة مسيحية تفتقز اليها الحالة الاسلامية. فالحرية السياسية ولدت من رحم الايمان المسيحي. والدولة المدنية والتوجهات العلمانية خرجت من تطور العلاقة بين الفكرة والحرية.كانت الفكرة تنقسم على اثنين: الاستبداد والحرية. كان الاستبداد مرتبطا بالسلطة المطلقة المدعومة دينيا. وكانت الحرية فكرة تعود الى حالة الطبيعة. فالمسيحية لاتمن على الفرد بحريته . فالحرية ليست مكتسبة وانما هي ولادية، اصلية تأتي من رحم الام مع المولود الجديد. وهي ليست منة من دين او ملك او جماعة. انها قانون طبيعي مثل الولادة.
يعزو كثير من الباحثين تطور الدولة الى تطور مفاهيمها الديمقراطية والليبرالية. في الواقع ليست هناك دولة علمانية. فالعلمانية ليست هرما سياسيا او مسطحا سياسيا. انها نتاج عمليات اجتماعية وثقافية واجتماعية تراكمت على مدى ثلاثة قرون من السجال والخلاف والبحث الفلسفي عن الحريات والحقوق الخاصة والعامة ، وعن المشتركات بين افراد المجتمعات لكي تستقر هذه المجتمعات وتتطور. العلمانية هي فلسفة عقلانية وواقعية انتجها تاريخ التعصب الديني والحروب والمجازر التي ارتكبت باسم الاديان. ولذلك فهي صفة اجتماعية وسياسية وثقافية من صفات الدولة الديمقراطية الليبرالية.انها تعبير عن مدنية الحق وليس دينيته او قوميته او قبليته او طبقيته او سياسيته. انها تعبير عن مدنية الحق. انها نقيض الدولة الشمولية التي تؤدلج الحق وتقصره على حاملي ايديولوجية حزبها الحاكم او زمرتها العسكرية او طغمتها العشائرية، حيث تغيب المواطنة لصالح احد هذه الولاءات التي تحكم الدول الشمولية.
في كتابه The Development of The Modern State:A Sociolgical Introduction يعتبر Gianfranco Poggi الدولة الحديثة كاحسن مشهد لمجمع مكون من اجراءات وتدابير دستورية ومؤسساتية للحكم تعمل من خلال الاستمرارية والنشاطات النظامية للافراد الذين يعملون كمستأجرين للدوائر الرسمية. ان الدولة ، كحاصل جمع لعدة دوائر حكومية، تحجز لنفسها وظيفة الحكم فوق مجتمع محلي مترابط. ويتابع بوجي تطور الدولة الحديثة واخفاقاتها الليبرالية خلال الحقبة الاستعمارية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين والحروب العالمية والحرب الباردة التي اثرت على الطابع الليبرالي للدولة. لكن خلال تلك الاخفاقات كان الاختيار الخاص، الفردي لليبرالية ينهض ويطالب وينشط، ويوصل الليبرالية الى الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية او جرائم الحرب او تثير الجدل والنقاش الحقوقي بشأنها.
ان ميزة الليبرالية هي جدلها، خاصة في المجال الحقوقي. ومنذ غروسيوس، منظر الحقوق الطبيعية ، الذي اعتبر الملكية الخاصة مقدسة وان الاستيلاء على ملك ضد ارادة مالكه جريمة، اصبحت الملكية مرتبطة بالحرية. لذلك تحتلف العلمانية عن الشمولية الماركسية والقومية والدينية التي تؤمم الملكية وتصادرها رغم ارادة اصحابها.ان العملنية انسانية اجتماعيا بغض النظر عن الجشع الرآسمالي الذي طفح منذ القرن الثامن عشر.
لقد كان غروسيوس(١٥٨٣-١٦٤٥) فيلسوفا هولنديا ادرك المصالح التجارية لبلاده، فحق التجارة لبلاده مع الهند ، على سبيل المثال، حق طبيعي، ولذلك انكر على البرتغاليين الاعتزاض على التجارة الهولندية مع الهند في سياق سباق المصالح التجارية والاستعمارية التي بدأت تلوح في الافق آنذاك. انه يقرر الحق الطبيعي للتجارة الهولندية مع الهند بالجملة التاية( ان الحق الذي نطالب به مشتق من الطبيعة التي هي امنا جميعا،والتي تمتد سيطرتها على اؤلئك الذين يتولون قيادة الامم، وان هذا الحق مقدس بمقدار على ماهم عليه من تقوى )(جان توشار -الاسس النظرية. مصدر سابق).
ان القانون الطبيعي في فلسفة غروسيوس قانون عقلاني يتسم بالسلام والحرية ، فهو يشترك مه فلاسفة العقد الاجتماعي ، وبشكل مبكر ايضا في الاقرار بان الناس يقررون بالاجماع الخضوع لسلطة ، وهذه السلطة قانونية وعاقلة تحترم الملكية لانها مصدر السيادة. ويقرر غروسيوس ان القانون ينبع من الغريزة الاجتماعية التي تسعى للعيش في مجتمع منظم وهادئ. ان القانون في نظر غروسيوس عامل طبيعي ينبع من الغريزة الطبيعية للبشر.ان غروسيوس يعتمد عي الكتاب المقدس في استشهاداته ، وبذلك ينضم الى المسيحيين الذين سيكرسون العلمانية انطلاقا من المسيحية.
تتطور نظرية الحق الطبيعي، التي ستكون اصل العلمانية من خلال تكريس الليبرالية كحالة طبيعية، فالفيلسوف الالماني صموئيل بوفندورف(١٦٣٢-١٦٩٤) يحيل الحق الطبيعي الى العقل ولذلك فهو قانون ضروري يتعرف عليه العقل من طبيعة الاشياء ، لان كل ماهو عقلي ضروري . وفي حين قام القانون الطبيعي عند غروسيوس علي الكتاب المقدسو يطلّق بوفندورف علاقة الحق الطبيعي بالكتاب المقدس ويسعى لتحرير القانون من اللاهوت.
كان لظهور الكنيسة القومية بعد قطع العلاقات مع روما ، في انجلترا خاصة، دور في صعود فلسفة الحق الطبيعي باعتبارها نقضا للحكم المطلق، وقد لعب كل من هوبز ولوك دورا في توسيع الهوة بين الدولة والكنيسة .وجاء الطهرانيون(البيورتانييون) ليطالبوا علنا بفصل الكنيسة عن الدولة في خضم صراعات بين الكاثوليك والبروتستانت الذين عرفوا بمعارضتهم لاي تمرد او عصيان، وبين المعمدانيين الذين بعارضون اعادة تنظيم الكنيسة .لقد استعر آتون الصراعات القومية والدينية والمذهبية في انجلترا في القرن السابع عشر فاشتد الصراع بين انصار العادات والتقاليد وبين انصار الحريات ، وبين البرلمانيين الذين يحافظون على مصالحهم وبين الطهريين والطبقات الجديدة المدافعة عن رأسمالها النشيط. بين الافكار الليبرالية المنطلقة من الدين في اطار الحقوق الطبيعية وبين الافكار الراديكالية للحقوق الطبيعية.
شاعت فكرة هوبز القائلة بان المؤسسات السياسية ليست مبررة الا بمقدار ما تحمي المصالح وتضمن الحقوق الفردية. هذه هي اذن وظيفة الدولة من خلال مؤسساتها السياسية ، وهي وظيفة تستمد شرعيتها من العقد الاجتماعي.
لقد كانت الافكار السياسية حول الحرية مصدر حرية الاقتصاد ، وليس العكس. ان ماركس ارتكب خطأ تثبيت ظاهرة اجتماعية متحركة حين اقر بان الابنية الفوقية هي نتاج الابنية التحتية.لا. ان تاريخ الشرق يناقض هذه الفكرة. ولقد بحثت ذلك مفصلا في اطروحتي للدكتوراه وانا ابحث في تاريخ الشرق عن التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية للوصل الى البنى الفوقية فتوقفت عند ظاهرة منعكسة. ان السيرورة االجتماعية موجهة ، في دول الشرق، بفعل البنآد الفوقي، السياسي والحقوقي والديني.
المجتمع المدني والديمقراطية:
ليس هناك امكانية لقيام مجتمع مدني في ظل سلطة الاحزاب التي تتفوق على سلطة الدستور.وهذا يعني ان الدكتاتورية تضم المجتمع المدني الى سلطتها وتحوله الى ذراع من اذرع السلطة الدكتاتورية خاصة المنظمات المدنية والاتحادات والنقابات التي تعمل واجهة للسلط
ة الحاكمة. وليس هناك مثل تلك الامكانية في ظل غياب القانون ووجود اشخاص وتجمعات قبلية او سياسية او دينية تعلو على القانون. فالمجتمع المدني ليس مؤسسسات تنظيمية لها نشاط خارج اطار السلطة السياسية الحاكمة او خارج اطار المجتمع السياسي خارج السلطة. المجتمع المدني تاثير مباشر في صناعة القرار. وهذا التاثير هو الذي يقرر وجود مجتمع مدني ويقرر مدى تاثيره وجدواه ووجوده في الواقع الاجتماعي لاي مجتمع.
تكون منظمات المجتمع المدني عادة في موقع مقابل للاحزاب السياسية والسلطة السياسية ولا تاثير لهما على نشاط وتوجهات مؤسسات المجتمع المدني.والاحتواء الشائع لشعارات الديمقراطية والمجتمع المدني من قبل الاحزاب الشمولية يمنع ظهور مجتمع مدني حقيقي, ويحول المؤسسات الشكلية للمجتمع المدني الى اذرع ضاربة للسلطة او الاحزاب كما كان الحال في مرحلة الدكتاتوريات العربية والعالمية حيث تتحول منظمات الطلبة والشباب والنقابات ومؤسسات الاديان واتحادات المعلميم والمحامين والكتاب وغيرهم الى اجهزة رسمية تحرس جبروت السلطة وتغذيه ضد المجتمع.
اود ان احل سوء فهم شائع حول المجتمع المدني والعلمانية.لاتعني العلمانية النظام السياسي الشمولي الذي لايؤمن بالدين. ولذلك ليس لدينا علمانية في العالم العربي في ظل وجود احزاب سياسية يسارية وقومية لاتؤمن بالدين ولكن ليس لها من الموقف العلماني سوى شكله. فالعلمانية منظومة فكرية تعارض الشمولية الايديولوجية, ولذلك فليست الاحزاب الشيوعية علمانية وليست الاحزاب القومية غير الدينية علمانية.فنظام التعليم مثلا في النظام العلماني ليس نظاما عقائديا يتبع ايديولوجية الحزب الحاكم وعقيدته السياسية ونظرته الشمولية الى المجتمع.اما في الاحزاب الشيوعية فنظام التعليم نظام ايديولوجي ليس حرا, اذ انه بدل ان يرتبط بالكنيسة ارتبط بالتوجديه الايديولوجي للنظرية الماركسية بعد تحويلها الى نظرية لينينية طوباوية تنظر الى العالم على انه كل شمولي خاضع لمقررات التنظير الحزبي والرؤية اللاييدولوجية للحزب.
كذلك ليست الاحزاب القومية مثل حزب البعث او حركة القوميين العرب سابقا او الاحزاب العربية ذات الفكر القومي علمانية. فهي تنظر, مثل الاحزاب الشيوعية, الى التعليم نفس النظرة ومثل الاحزاب الشيوعية , تغفل مسالة الحريات وحقوق الانسان وتحجول مابقي من مؤسسات مدنية مستقلة الى اجهزة حكومية سلطوية تدافع عن اخطاء الحكم وجرائمه ضد المجتمع.
ففي السياق العلماني هناك مسالة اساسية هي ان الحقوق ليست مكتسبة وانما طبيعية. اي لا دخل للاديان ومؤسسات الحكم ملكية ام جمهورية, في انبثاقها او منحها, كما لايحق للاديان ومؤسسات الحكم مصادرتها اوتجميدها.
ومن هذا الموقف يذهب النظام العلماني الى التعليم كونه حرا لاتوجيه سياسي او ايديولوجي للدولة عليه ولا سيطرة للكنيسة عليه ولايحق لهما توجيهه خارج العلم والتجربة.
ففي فرنسا مثلا, وبعد حقبة طويلة من الحروب الدينية التي كانت تغذيها التعاليم اللاهوتية في المدراس,وامتدت من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر, صدرت عام 1905 ساسلة تشريعات قانونية بموجبها لاتقوم المدارس الوطنية او المحلية باي نوع من انواع الدعاية الدينية عبر المناهج التعليمية ،وفي نفس الوقت تمنع هذه التشريعات جميع المدارس الوطنية والمحلية من اجبار اي طالب على تلقي تعليم ديني.
كان المجتمع الفرنسي منقسما بسبب تلك الحروب ودوافعها التي ارتدت رداء دينيا وغذتها العواطف والحماسات الدينية , ولعب التعليم الديني ورا في تغذية النزاعات تلك.
- ماهي مستلزمات بناء مجتمع مدني علماني ديمقراطي؟
تبدأ هذه المستلزمات بالشروع بمرحلة نقدية, سياسية وفكرية وفلسفية للفكر السياسي والاجتماعي السائد الذي يحول دون تحول المجتمعات السياسية الى مجتمعات مدنية. اي نقد الشمولية الايديولوجية لدى جميع الاتجاهات دون استناء. ان التنوير يبدأ من الخروج من اطر القناعات والمسلمات كما يخرج من اطر الخوف والارهاب الفكري .لقد خضع الفكر النقدي والتنويري العراقي والعربي لحملات ارهاب فكري نظمتها وقادتها الاحزاب السياسية المهيمنة بمساعدة مثقفين شموليين معادين للحرية والتنوير والتعددية والمشاركة السياسية. هذه حقيقة سياسية واثقافية واجتماعية جعلت النخب العربية شريكة في جريمة مصادرة الحريات وتغييب القانون واعتبار الدستوربدعة برجوازية.ومن المؤسف ان تكون هذه النخب قد تلقت دعما لتحقيق دورها الاستبدادي هذا من دول ديمقراطية غربية لاترى في الديمقراطية والمجتمع المدني الا حقا غربيا مقتصرا على الولايات المتحدة ودول اوروبا الغربية.فالولايات المتحدة لم تدعم اي مشروع ديمقراطي او ليبرالي في العالم العربي. واتخذت من مفهوم العلمانية حجة لصراعها مع الاسلام. وهذه حقيقة علينا نحن الليبراليين الديمقراطيين ادراكها جيدا.
ان نظرة سريعة جدا على تاريخ العلمانية والمجتمع المدني في اوروبا تبين لنا ان الاستبداد الديني كان رديفا للحكم السياسي المطلق. فاسبينوزا اطل براسه من سقف الاستبداد الديني ليخضع الدين لنقد منهجي رغم اعتقاد بعض الباحثين بان كتابه في البحث التيولوجي السياسي يتصل بنهضة البرجوازية الهولندية, وخرج هوبزمن دهليز الاستبداد السياسي والحكم المطلق ليعلن ان المؤسسات السياسية والاجتماعية لايتم تبرير وجودها الا بمقدار ما تحمي المصالح العامة وتضمن الحقوق الفردية, ليمهد الطريق نحو اضعاف الحكم المطلق وانبثاق المؤسسات على يد لاحقيه من الفلاسفة والمفكرين . فقد انتشل لوك الحكومة من حضيضها المطلق ليضعها في خدمة المجتمع وليعبر عن الثورة الانجليزية وراي الطبقات والفئات الصاعدة نحو النهضة والتنوير حيث ظهر مؤلفه (حول الحكومة المدنية) عام 1690بعد سنتين على الثورة الانجليزية. واطلق لوك مفهوم التسامح ودعا الى عقلنة المسيحية وانتقد نظريات الحكم الابوي للملوك ومجد حرية الانسان باعتباره كائنا عاقلا فالعقل والحرية مترابطان وان غاية الفلسفة مثل غاية السياسة وهذه الغاية هي البحث عن سعادة الانسان وتحقيقها وحمايتها.
انطلق لوك من فكرة ان حالة الملكية حالة طبيعية وهي تسبق المجتمع المدني, فالملكية خيرة للمالك وضرورية للجنس البشري ليحصل الجميع على السعادة. فالانسان العاقل الحاذق, وليس الطبيعة وحدها, من يصنع القيمة والمنفعة في الاشياء والادوات ويعطيها وظائفها ومنافعها.
ان لوك الذي يعتبر اباً للفردية الليبرالية وللعلمانية لايعطي الحكم ايو وظيفة دينية فهو يفصل بين ماهو زمني من اختصاص الحكومة وبين ماهو روحي خارج اختصاصها فيقول( ان كل سلطات الحكومة المدنية لاتتعلق الا بالمصالح المدنية) منطلقا من عقلانية الحكومة وواقعيتها الدنيوية ليصل الى الدعوة الى شجب التعصب والحماس الديني في كتابه (محاولة حول الدراك البشري) معلنا (ان السلطة التشريعية اعلى من السلطة التنفيذية) دعيةاعيا الى فصل السلطتين وعدم اجتماعهما في نفس الاشخاص( مقيدا) السلطة التشريعية بالحرية والعقل مؤكدا ( ان السلطة في جوهرها هي سلطة الحرية ) التي تقود الى السعادة بواسطة العقل.
ولكن لوك لايترك السلطة حرة. انه يقيدها بالعدالة.فكل سلطة سياسية يجب ان تكون عادلة.
هوبز , قبل لوك, اعطى للعقل مكانة سياسية حين قيد الملك بالعقل والضمير المهني في زمن بدأ فيه نقد الحكم المطلق .وفي كتابه (الليفيتان) ينتقد هوبز الخرافات وعلم الشياطين والرقى والتعاويذ التي تعتمد عليها تجارة الكهنوت. ففي الفصل الاخير من الكتاب والمعنون(مملكة الظلمات) التي يضعها بدلا عن (مملكة الرب) التي يدعيها رجال الاكليروس والوزراء والموظفون الكبار والملك الذي يتسلم التاج من الاسقف(1) يشن هوبز حملته ضد ثقافة الخوف التي ينشرها رجال الدين وتشكل مصدر ارباحهم, ويعتبر الخوف من القوى الخفية هو الدين, منتقدا منظومة التعاليم الكهنوتية التي تشد الانسان الى مملكة الظلمات.
(1) Hobbes.Leviathan.Pelican Classics1968.p630).)في الجزء الاول من الكتاب , الفصل الرابع عشر, يتساءل هوبز ببسالة ,عن معنى الحق الطبيعي, ومعنى الحرية والفرق بين معنى الحق ومعنى القانون, والحق الطبيعي في ان يكون الانسان حرا في ان يفعل كلاعدالة شئ ,ومعنى الواجب, ومعنى العدالة ومعنى الظلم والجور,ومعنى الحكومة, وغيرها من المعاني الاجتماعية والسياسية ذات المحتوى الفلسفي التي ساهمت بصياغة الفكر الفلسفي للنظام السايسي الديمقراطي (2)(ibid .p189-200)
لقد انشغل هوبز ببحث مشكلات فلسفية عبر الانشغال بالتاريخ ايضا. انه يسعى الى تفكيك المفاهيم واعادة صياغة دلالاتها السياسية والقانونية والاجتماعية. ففي بحثه حول الحق الطبيعي
ان الليفيتان هو حيوان بحري ضخم ومتوحش, وقد اراد هوبز( حجم الكتاب ضخم هو الاخر) ان يوحي بالتشابه بين الحكم وبين هذا الحيوان المتوحش. ومن عناوين كتب هوبز( عناصر القانون) و(المواطن) (الطبيعة البشرية والجسم السياسي) نلمس اسس العقل الديمقراطي الصاعد في فلسفة الحكم في اوروبا, الامر الذي يغيب دور القانون والدستور والمواطن والفردية في الفكر السياسي العربي السائد وفي الخطاب الثقافي والسياسي في بلدان الشرق الاوسط.
لقد خرج هوبز من تصور الحالة الطبيعية التي يراها حالة حروب وفوضى وخوف وشريعة غاب, الى المجتمع المدني باعتباره خلاصة للحقوق الطبيعية ومرحلة لاحقه لمرحلة الحق الطبيعي التي نادت باستقلالية هذه الحقوق.
بعد ان فتح هوبز ولوك الباب امام العقل والتنوير ونقد الحكم المطلق والدور الديني للحكم ظهرت موجة التنوير عالية وتصاعد مدها مع مونتسكيو و(روح الشرائع) مؤكدا على فصل السلطات ومعتبرا الديمقراطية مثل خلفه توكفيل مناسبة للعقل. وتوكفيل هذا زار امريكا سنة كاملة ليكتب( الديمقراطية في امريكا) عام 1835 مؤكدا على دور الديمقراطية في التاثير على المؤسسات خاصة مؤسسات العدالة, فالمساواة امام القانون هي الديمقراطية بعيدا عن الاعتبارات الدينية
ان كل عمل الفلاسفة والمفكرين التنويريين لم يكن ليتحقق على المستوى الواقعي ويصبح مبادئ واسس النظام السياسي لو لم يبادر السياسيون, الاحراروالشجعان, الى تبني هذه المبادئ والاسس والايمان بها والدفاع عنها.
ان التعددية السياسية والبرلمان والصحافة الحرة والمجتمع المدني تدين كلها , ليس فقط للطبقات التي أمنت بها, وانما الى المفكرين التنويرين الذين خاضوا كفاحهم الفكري المرير في عصور الظلام والارهاب الفكري, والى السياسيين الذين حملوها في الهيئات التي كانوا يمثلون مواطنيهم فيها, سواء الهيئات التشريعية او القضائية او الثقافية, والى ظهور مصالح جديدة لقطاعات المجتمع التي كانت متضررة من الحكم المطلق والصلاحيات الحكومية التي لاتصطدم بقانون او دستور او قوة رأي او صحافة حرة او احزاب تعمل من اجل المصلحة العامة مجبرة بحكم قوة ونفوذ المجتمع المدني الذي ظهر رديفا للمجتمع السياسي ومعادلا اجتماعيا للسلطة السياسية.
لقد مهدت هيئات الحكم المحلي الطريق امام نفوذ المجتمع المدني. فالنظام المركزي كان يقهر المجتمع .
لم يكن تطور العلمانية كنظام للتفكير الحر والعلمي مقتصرا على فلاسفة بريطانيا رغم انهم هم الذين بدأوا به. فما ان فتح الباب امام نقد الحكم المطلق حتى ظهر من عتمة الارهاب الفكري للحكم المطلق والكنيسة فلاسفة وكتاب ومفكرون , سرعان ما اشاعوا موجة التنوير في عموم اوروبا المظلمة. في فرنسا ظهر فولتير والموسوعيون , ديدرو وروسو و
(1) Hobbes. Leviathan. Pelican Classics1968.p630)
(2)(ibid .p189-200)
ولذلك كان العقد الاجتماعي والمجتمع المدني الانتاج الاكثر اهمية للعلمانية التي تطورت عبر تقويضها التفويض الديني للسلطة السياسية.يذكر لنا تاريخ الديمقراطية البرلمانية الانجليزية شيئا شبيها بمايحصل في البرلمان العراقي الان. يقول اللورد هنري بروغام في كتابه ( الدستور البريطاني: تاريخه، بنيته، وعنله) الصادر عام ١٨٧٢(كان سلوك اعضاء البرلمان سوآء اعضاء مجلس الوردات او اعضاء مجلس العموم في خلال الفترة التي نحن بصدد معالجتها(الفترة قبل ١٦٠٠) سيئا للغاية عند معالجة جميع الامور الخاصة الا مايتعلق بامتيازاتهم الخاصة، فلا يمكن ان تقدم الامة الان، الشكر الكافي لثباتهم في الاصرار على ارساء حقوقهم التشريعية ومنحهم حق التدخل في ادارة الشؤون العامة للدولة)( نقلا عن سيدني بايلي-الديمقراطية البرلمانية الانجليزية).
فماذا انتج اغفال الشؤون العامة ، والاهتمام بالشؤؤن الخاصة لاعضاء البرلمان؟ لقد انتج ظروفا مهدت لظهور جيمس الاول الذي تولى عرش انجلترا عام ١٦٠٣ الذي وضع نظريته عن الحق الالهي للملوك وشرع في تطبيق نظريته التي ترتكز على ان الملك يستمد حقه في العرش من الله مباشرة وبذلك وضع سلطاته الاستبدادية فوق الجميع بما في ذلك البرلمان الذي اعتبره جيمس الاول يستمد شرعيته وامتيازاته من الملك بةعلى شكل منحة ومكرمة من الملك وليس نتيجة اقتراع الشعب.
ومضى جيمس الاول في تكريس الحق الالهي فتدخل في نتائج الانتخابات وفي اختيار الاشخاص ومضى ابعد حين انكر حق البرلمان التقليدي في الفصل بصحة نتائج الانتخابات.
السيادة الشعبية هي حقوق المواطنين:
لقد ظهر مبدأ السيادة الشعبية تدريجيا ليحل محل سيادة الملك المطلقة. وقد ساهمت كتابات الفلاسفة المبكرين من منظري الديمقراطية , خاصة مفكري عصر الانوار, والموسوعيين الى صياغة مفهوم السيادة الشعبيةة وخاصة(جان جاك روسو) الذي ساهم مساهمة كبيرة , بعد هوبز, في التاكيد على السيادة الشعبية من خلال عقد اجتماعي تطوعي. فبعد ان يتم العقد بين افراد المجتمع اولا فان هذا العقد يعهد الى هيئة لادارة الشؤون العامة:
(يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكبر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية) (روسو في العقدالاجتماعي).
لعل اهم ما تحتويه فكرة روسو عن السيادة الشعبية وحجم الحكم لا حجم التمثيل هو فكرة الحكومات المحلية وتوزيع السلطة.فليست الديمقراطية لدى روسو هي حكم الشعب بصورة مطلقة وانما بتوسيع تمثيل الشعب عبر مشاركة اكثر افراد ذاك الشعب بالحكم ولايتم ذلك عبر البرلمان وحده وانما عبر تمثيل اوسع عن طريق مجالس المدن وبلدياتها وهو ما يطلق عليه اليوم الحكومات المحلية التي تملك من الصلاحيات
أمّا مونتيسكيو فيقول في تعريفه للحكومة الديمقراطية:
(حين تمسك الأمة في النظام الجمهوري مقاليد الأمور بيدها، يكون هذا النوع من الحكم ديمقراطية). ثم يتحدث عن خصوصية هذا النوع من الحكم فيقول: (إن هذا واحد من المبادئ الأساسية لهذا الحكم، وهو أن الشعب نفسه يعيّن من يتولون زمام أموره بأيديهم) .
يستلهم مونتسكيو تاريخ الحقوق الذي يشكل جزء من تراث انحداره الاجتماعي ويشترك هذا التعريف مع ما يقوله جان جاك روسو في العقد الاجتماعي:(عندما يتخذ جميع المواطنين قراراً بشأن أمر من الأمور التي تصب بشكل عام في مصلحة البلاد ويصّوتون إلى جانب ذلك القرار، فإن الأغلبية المطلقة تختار الشيء الأفضل دائماً)
كان روسو مواطنا من جنبف شديد الاعتزاز بانتمائه المواطني حتى انه عرف نفسه كمؤلف للعقد الاجتماعي ب ج ج روسو مواطن من جنيف.كانت جنيف قائمة على شكلين من المواطنة , المواطنة الاصلية والمواطنة المحلية, وكانت نوعا من الدولة –المدينة يقطنها عشرات الالاف من المواطنين الاحرار فلم يكن ثمة عبيد في جنيف , وبالتالي امدت روسو نفسه باهمية العقد الاجتماعي وباهمية حرية الارادة .
ان الدولة الحديثة دولة ديمقراطية أي حقوقية, أي ان جميع النشاطات والافعال السياسية تصاغ في اطار حقوقي قانوني.والنظام الديمقراطي موضوع تحت المراقبة المستمرة بوسيلتين: هما الاجراءات الانتخابية البرلمانية والنظام الاداري اللامركزي.الوسيلة الاولى لاختيار فريق الحكم وبرامجه وقدرته على تلبية مطالب الامة الناخبة ويقوم البرلمان بالتعبير عن تلك المطالب عبر تفويض الناخبين ولذلك تكون السلطة الحاكمة خاضعة للمسرولية امام جمعية منتخبة او امام الشعب, لذلك يقال ان الدولة الحديثة دولة حقوقية أي ان تصرفات الحكومة تخضع لقواعد ثابتة يستطبع جميع الافراد مطالبة الحكومة باختلاامها ومراعاتها ولاتستطيع الحكومة خرقها لانها تخرق القانون الذي جاء بها للحكم. فتشابك عمل الدولة وعمل الحكومة ينسج حولها شبكة من التعقيدات والقيود الحقوقية التي لاتسطيع خرقها.
من المفكرين الذين ارسو ديمقراطية الغرب توكفيل الذي يوصف باكبر المرلفين الليبرالين في عصره في منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا.الذي دؤس تاثير الديمقراطية على المؤسسات في كتابه( الديمقراطية في امريكا) وهو يقول: اني احب المؤسسات الديمقراطية بعقلي.. اني احب الحريو والشرعية, واحترام الحقوق حبا شديدا) وديمقراطيته تدعو إلى اللامركزية الادارية, واقامة الجمعيات, والمزايا الاخلاقية كالحس بالمسؤولية ومحبة الخير العام وهو مثل مونتسكيو يؤمن باولوية الاخلاق على السياسة.
اذن النظام الديمقراطي نظام اخلاقي من زاوية تحمل المسؤولية وتبعاتها كالنزاهة والشفافية واحترام المال العام وغيرها.
لقد ساهمت في فلسفة هيغل في المجال الديمقراطي بتثبيت ان العقل هو جوهر التاريخ, لان التاريخ لدى هيغل هو تاريخ الفكر. وان فكرة المجتمع المدني لديه هي ان الدولة تكون حين يجد كل مواطن داخل المجموعة مايرضي المصالح التي يراها معقولة)لذا فان الدولة عند هيغل تتحقق بالحرية التي توجد فيها, وهذه الحرية لاتوجد الا اذا استطاع المواطن العاقل ان يجد فيها ارضاء الرغبات والمصالح المعقولة التي يراها ككائن مفكر, وان الكائن العاقل يمكن ان يعترف لعدالة قوانين الدولة.
ان الدولة الديمقراطية دولة دستورية أي ان مبدأ سيادة الشعب عبر الانتخاب العام يعد اساس النظام الديمقراطي ان الدولة الديمقراطية هي دولة تخضع فيها جميع القرارات السياسية لقواعد واسس واصول ثابتة وواضحة يمكن التعرف عليها عبر العرف اوالنص ولذلك فان جميع القرارات تخضع للنقد والمناقشة والتصويت.
ان الدولة الديمقراطية دولة يعرب دستورها عن احتوائه على بيان بحقوق الانسان السياسية والاجتماعية والثقافية وبضمنها الحقوق الدينية.
ان الدولة الديمقراطية تملك نظاما قضائيا يعمل على ابعاد القضاء عن المنافسات السياسية ويملك قضاة يبعدون هذا النظام عن الصراع الحزبي والسياسي وعن تاثير الحكومة.
في المجال الاقتصادي خاضت الديمقراطية نضالا ضد هيمنة راس المال ايضا. ففي نضالات أدم سميث وديفيد ريكاردو تم التاكيد على حماية راس المال من تعسف الدولة, وتحديد ساعات العمل, وتحديد الاجر الادنى وتقييد قوة راس المال بقوانين الضريبة ومحاربة الاحتكار
تواجه الديمقراطيات المعاصرة ظاهرة جديدة تتلخص بتراجع دور السياسة وتنامي دور الاقتصاد, بحيث اصبحت السياسة الديمقراطية خاضعة لنفوذ راس المال , الامر الذي يهدد الديمقراطية تهديدا خطيرا يوازي التهديد الذي واجهته الديمقراطية بتنامي نقوذ الاحزاب التي يمكن ان تميل دفة الديمقراطية إلى منعطفات خطيرة تصادر دور الشعب باعتباره صاحب السيادة لتصبح الاحزاب الكبيرة والمهيمنة هي صاحبة السيادة باسم الديمقراطية.
يقول الان تورين في كتابه(ماالديمقراطية): ان الفكر الديمقراطي قد ثبت في انجلترا استقلال الفرد والمجتمع المدني, اما في فرنسا فكانت الغلبة للبحث المعاكس عن نظام عقلاني وعن تماثل تام بين الانسان والمواطن وبالتالي بين المجتمع والدولة. لقد تشكلت الديمقراطية ضد الدولة الحديثة بل وضد دولة القانون التي غالبا ماكانت في خدمة الملكية المطلقة أكثر منها في خدمة حقوق الانسان)ص 66
يفتح تورين هنا جرح الديمقراطية الذي عانت من اوجاعه حين كانت دولة القانون غير كافية لتؤسس عدالة اجتماعية لان دولة القانون كانت تحمي حقوق الملكية المطلقة وكبار الملاكين والنبلاء بدون ان تكون المساواة متحققة . لذلك لم تكتمل الديمقراطية الغربية الا بالاعلانات والصكوك والمواثيق والعهود الامريكية والفرنسية والعالمية الخاصة بحقوق الانسان بحيث اصبح مفهوم الدستور متضمنا بيانا بحقوق الانسان كما ذكرنا من قبل.
ليست الديمقراطية الحديثة هي الخير المطلق, ولكنها النظام الافضل حتى الان لتجنب الاستبداد.
يقول لاري ديموند في كتاب الثورة الديمقراطية في دراسته عن المجتمع المدني والنضال من اجل الديمقراطية( يوما بعد يوم تتحول الثورة الديمقراطية إلى ثورة عالمية شاملة مع اختصارالمسافات بواسطة الطيران والنشاط التجاري والاقمار الصناعية والفاكس والسي ان ان. يصبح العالم قرية جامعة ويصبح التاثير المتبلدل بين الدول أكثر كثافة وعمقا وتعقيدا. الافكار والاساليب التقنية والمبادئ والناس والبضائع والخدمات كلها تتخطى الحدود بنسب اخذة في التزايد)ص 30
طبعا , بما ان ديموند كتب هذا في عام 1990 فانه لم يذكر الانترنيت. وشيوع الديمقراطية كنظام عالمي هو فكرة غربية ايضا وهي مسعى لاسباب عديدة ثقافية واقتصادية بالدرجة الاولى ثم اضيفت اليها اسباب امنية كما في حربي افغانستان والعراق.
الديمقراطية نظام سياسي يقوم على الاليات التي ذكرناها ويمكن للاخلاقيات ان تكون حزء منه, وهي في الواقع جزء اساسي من الديمقراطية ، وهذه الاخلاقيات الحقوقية والضميرية تصبح عرفا دستوريا يغيب مع الاسف في العالم العربي الذي تكثر فيه الاقليات القومية والدينية والمذهبية ولم يمنع القانون الدولي اضطهاد الاقليات واضطهاد الاغلبيات الواقعة تحت حكم الاقلية سياسيا..
– الحماية الدولية لحقوق الأقليات ، لكن حقوق الاغلبيات مسحوقة:
التزم القانون الدولي بحماية الأقليات من تعسف وسوء معاملة الأغلبية للاقلية.وظهرت بعد الحرب العالمية الثانية معاهدة لحماية الاقليات تمنع اضطهاد ها وتعاقب ارتكاب جرائم الابادة الجماعية التي غالبا ماتتعرض لها الاقليات القومية او الدينية او المذهبية.وقد حدد العهد الدولي للأمم المتحدة الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي تم اعتماده في اتفاقيات فيينا عام 1966 ، الحد الأدنى من الحماية للأقليات حيث اكدت المادة 27 : على انه : لا يجوز أن يحرم الأشخاص المنتمون إلى أقلية عرقية أو دينية أو لغوية من الحق بالاختلاط مع الأعضاء الآخرين من جماعتهم ومن التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائرهم أو استخدام لغتهم الخاصة .
لكن الديكتاتورية لا تعترف حتى بالاغلبية ولذلك تسلط اضطهادها على الاكثرية القومية او الدينية او المذهبية كما حدث في العراق في نظام صدام حسين وكما يحدث في البحرين وسوريا.فالتمميز لا يأتي من الاغلبية ضد الاقلية وانما يحدث العكس تماما. فالاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري تنص على أن ” مصطلح التمييز العنصري سوف يعني” ، وفقا للمادة 1 (1)، “أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف أو التمتع أو ممارسة حقوق الانسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة، على قدم المساواة”
السلطة ليست الدولة. ليست ادوات الاكراه المشروعة رغم ضرورتها الدستورية والقانونية. الدولة هي الارادة العامة ، اي سيادة الشعب، وهذه لاتأتي الا من خلال العقد الاجتماعي الذي يتنازل فيه المجتمع لهيئة سياسية بشروط المجتمع وليس بشروط الهيئة السياسية والا اصبح التكليف باطلا واستبدادا. اي ان الطرف الاول وهو الشعب ، او المجتمع، يكلف شخصا معنويا هو الدولة وهیئة سياسية هي الحكومة وهيئة تشريعية رقابية تمثيلية هي البرلمان بادارة شؤونه وحماية حقوقه وحياته وممتلكاته. ويسمي هوبز وروسو ولوك هذا التكليف تنازلا من المجتمع . ولكن هذا التنازل لايتم الا برضى الجميع لهدف واحد هو حفظ مقاصد الشريعة في التعبير الاسلامي وحفظ الحريات والممتلكات والحياة والاشراف على فظ المنازعات الاجتماعية في التعبير الليبرالي الديمقراطي.
يقول الفقهاء المتضلعون في الدستور وفلسفة الحق والدولة انه لايكفي النص على حق من الحقوق دون توفير الحماية اللازمة له وبالاخص حق التعبير. فحق التعبير مضمون ويحتاج الى حماية له سواء من وسائل الرأي العام والقضاء والهيئات المستقلة والمنظمات المدنية والمجتمع والمثقفين والمفكرين ودعاة السلام والتسامح ، او من الحكومة ومن البرلمان.
حق المواطنة يعطي للدولة هويتها الديمقراطية
من ارسطو الى مونتسكيو وروسو وهيغل مرورا بعلي بن ابي طالب اكد فلاسفة الحقوق على حق المواطنة وضرورتها لوظيفة الحكم وهدف الدولة. ومن اثينا الى الكوفة مرورا باسبارطة كانت المساواة تضمن النظير الانساني المتساوي في القيمة والاعتبار والحقوق والشعور المشترك بالانتماء. يقول مفكر السياسية البريطاني جراهام والاس متحدثا عن قيمة واهمية الشعور بالمواطنة في اطارها القانوني والثقافي انه لايستطيع اي مواطن ان يتصور ان دولته شأنا يتعلق به سياسيا ،او ان يجعل منها قضيته، الا اذا آمن بوجود اطار وطني يندمج فيه الافراد الذين يشكلون سكان هذه الدولة. كما انه لايستطيع ان يستمر في الايمان بوجود مثل هذا النموذج الا اذا كان اخوانه المواطنون يماثلون بعضهم بعضا ويماثلونه هو نفسه في نواح معينة على قدر من الاهمية. اي ان هذا المفكر السياسي يشرح فلسفة علي بن ابي طالب في المساواة بحقوق المواطنة(الانسان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) .وهو ما يعبر عنه المصطلح الاسبارطي للمواطنة باللفظ اللاتيني Homioi اي النظير. ولعل هذا عنصر من عناصر وحدة الفكر الانساني ويا لوحدة الحق ووحدة الانسان ووحدة المواطنة!
يأتي النائب منتخبا محمولا على اصوات ناخبيه ليمثل الحارس البرلماني لحقوقهم. ويمكن ، في الديمقراطية الانتخابية، لبعض الاتفاقات او التوافقات السياسية ان تتفوق على القانون وعلى الدستور. ويحذر علماء الفكر الديمقراطي من اجتياح المجال السياسي للمجال المدني للمجتمع. اي ان تتفوق السياسة على العقد الاجتماعي وتصادر حقوق المواطنين بشكل ديمقراطي.الفيلسوف الفرنسي آلان تورين يحذر من تفوق الفاعل السياسي على الفاعل الاجتماعي. ويحذر من خطرين على الديمقراطية يوجدان في العراق مع الاسف: الخطر الاول هو قوة ونفوذ الاحزاب . والخطر الثاني يتمثل في النفوذ المالي لها. ولذلك كانت ايطاليا مسرحا للفساد المالي والسياسي، خاصة في التسعينات، رغم النظام الديمقراطي فيها.
لقد كانت المواطنة ثمرة الاعتراف بالحق. وتطور هذا الحق من اثينا بناء على اعتبارات عديدة مثل الثروة والمدنية والمكانة الاجتماعية . ولكن الشرط المشترك كان الحرية والسلم الاهلي، لذلك انتقد افلاطون ثم ارسطو نظام اسبارطة للمواطنة حيث كان التمتع بالقوة العسكرية والعنف احد شروط المواطنة الى جانب شروط اخرى. لكن الحرية كانت ايضا شرطا مشتركا. الحرية قادت كل النضالات من اجل التمتع بحق المواطنة. جاء البروفيسور مارشال ، من جامعة اكسفورد عام ١٩٤٩ ليضع ثلاثة شروط يتمتع بها الفرد ليكون مواطنا وتكتمل هويته الوطنية، هويته القانونية، ليكون شخصية قانونية في دولة، وهي الحقوق السياسية والحقوق المدنية والحقوق الاجتماعية. وهي الحقوق التي ضمنها الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن الامم المتحدة عام ١٩٤٨.
كان جان جاك روسو فخورا بلقب مواطن الذي حصل عليه في جنيف . ولد عام ١٧١٢ لاسرة تتمتع بحق المواطنة وهي واحدة من الف وخمسمائة اسرة تتمتع بحق المواطنة من اصل خمس وعشرين الف اسرة تعيش في جنيف. وكتب على غلاف الطبعة الاولى لكتابه العظيم (العقد الاجتماعي) اسم المؤلف هكذا: ج. ج روسو. مواطن من جنيف.
. يقول ارسطو في كتاب السياسة وهو مهم لنا لكي نبني دولة ( نقول انه يوجد وئام في الدولة حين يتفق المواطنون حول مصالحهم، ويتبنون السياسات بالاجماع ويباشرون تطبيقها. هذا المبدأ من الوئام يتحقق بين الرجال الصالحين، لان مثل هؤلاء يكونون على تناغم مع انفسهم ومع بعضهم البعض، لكن الرجال الفاسدين يطمعون في اكثر من نصيبهم ويتهربون من الخدمة العامة والنتيجة هي التنازع).
واذا كان لابد ان يكون رجال السياسة ورجال الدين ، فان كلا من السياسة والدين يتطلب الضمير المهني الحي والمسؤولية الاخلاقية والفضيلة المدنية. والفضيلة السياسية التي يعرفها السياسي الانجليزي من القرن الثامن عشر هنري سانت جون بانها ( اتخاذ موقف يعارض جميع حالات سوء الادارة. انها روح المراقبة العامة على المصالح الوطنية ) اما مونتسكيو صاحب (روح القوانين ) فهو يطلب من السياسيين ممارسة الفضيلة. وماهي الفضيلة؟ انها كما يقول ( حب الوطن والقوانين) .وهذا مايريده المواطنون انفسهم في كل البلدان.
واسوق هذه القصة. حين زار ابن بطوطة الصين لاحظ بحسه المدهش نظام الضمانات الاجتماعية في الصين ، حيث ذكر ان الحكومة هناك توفر السكن والطعام للمسنين والارامل والاطفال وتتحمل توفير الحد الادنى من العيش الكريم لهم.كما لاحظ ان الحكومة الصينية قد اصدرت قرارا يقضي بان يكافأ الانسان حين يبلغ سن الخمسين فلا يعمل وتتكفل الحكومة باعطائه تقاعدا. كانت رحلة ابن بطوطة قبل تسعمائة سنة.
الثقافة والديمقراطية
لاتبدو هذه القضية من القضايا المطروحة على السطح ، في عالم يومي يؤشر الى الحروب والصراعات والاحداث الساخنة . لكنها تقع في جوهر هذه الصراعات والاحداث ، خاصة في عالمنا العربي المضطرب الذي يقاوم تغيرات العالم المحيط به بطرح الخصوصية مرة اخرى ، وهذه الخصوصية اخذت الطابع الديني بعد فشل الطابع القومي
فالديمقراطية تبدو شعارا رائجا لكثير من قوى المعارضة العربية في مصر والعراق والاردن والجزائر واليمن وتونس وغيرها من البلدان العربية التي تعزو فيها المعارضة تدهور الامور الى غياب الوضع الديمقراطي . وغياب الوضع الديمقراطي هو ظاهرة صحيحة ، وواقع لا بمكن ابدا تجاهله . ولكن دعونا نرى كيف يتم طرح موضوعة الديمقراطية من وجهة نظر سياسية فقط ، بعيدة تماما عن طابعها الثقافي وارتباطها بالذهنية والتصور والمفاهيم السائدة . فالديمقراطية ، عربيا ، حتى الآن على الاقل ، هي مفهوم مطروح كنقيض للسلطة الحاكمة . ويبدو ان هذا هو كل مافي الامر . وبمعنى آخر : ذريعة ، او تبرير للموقف المعارض . وهي لاتتعدى هذا ، لانه بمجرد التحول الى السلطة ، يبقى مضمون الحكم هو نفسه ، ويبقى جوهر التحكم بالسلطة واسلوب استخدامها هو نفسه ، حتى ان الثقافة ، لدى المعارضة المنادية بالديمقراطية ، هي ايديولوجيا ، وانتاج موجه ومسيطر عليه ، ويراعي الشروط الايديولوجية لهذا الحزب او ذاك من احزاب المعارضة.
ولايعني هذا بالطبع تبرير طبيعة واجراءات السلطة العربية القائمة . لكن هذه السلطة متهمة بمصادرة الديمقراطية ، وبالتالي فان علينا ان نرى كيف يمكن ان نعمل مع هذه القوى العربية من اجل الديمقراطيةكممارسة وليس كشعار .
ماتزال كثير من القوى السياسية العربية المعارضة ترى في الديمقراطية طابع الرأسمالية والامبريالية والبرجوازية ، وهي لاتشذ بذلك عن كثير من الانظمة العربية العشائرية او القومية الاستبدادية . فالديمقراطية الغربية مطروحة في العقلية العربية السائدة علي اساس انها ديمقراطية مزيفة . والديمقراطية الحقيقية هي ديمقراطية كل حزب وحده ، وليست ديمقراطية الاحزاب الاخرى . وهذا الصراع لايقوم على اساس تحقيق الديمقراطية او ممارستها او الوصول الى وعي حقيقي بها ، بل الوصول الى وعي زائف . فالديمقراطية على هذا الاساس موجهة ، مؤدلجة ، ذات مضامين اقتصادية واجتماعية شمولية او شبه شمولية ، والثقافة في هذا التصور عن الديمقراطية ، موجهة وحزبية ، واذا كان هناك سبيل لجعلها ثقافة الحزب الحاكم (مستقبلا ، تحت راية الديمقراطية ! ) فيجب جعلها هكذا و اما التعددية فهي حالة منفى او حالة فقدان القدرة على السيطرة على توجيه الثقافة
لعل هذا يكشف اهمية العلاقة بين الثقافة والديمقراطية . فاذا كان كل نظام شمولي بحاجة الى منظومة ايديولوجية تتدخل في الخاص والعام ، فان غياب هذه المنظومة في البيئة الديمقراطية يشكل تهديدا امام (الديمقراطية المؤدلجة) التي ترى حقها في فرض( الهيمنة)على المجتمع،وبالتالي ابقاء المجتمع في حالة تبعية سياسية واقتصادية وفكرية للسلطة . فالسلطة هي نتاج ارادة سياسية سواء في الاستبداد او في الديمقراطية . ولكن السلطة المستبدة هي سلطة فردية سواء كانت حزبا او طغمة او عائلة او زمرة ، على العكس من السلطة في النظام الديمقراطي التي تقوم على عقد بين هيئتين او طرفين هما مجموع المواطنين الذين يتنازلون للطرف الثاني (الدولة)عن ارادتهم مقابل ان تكون هذه الارادة محترمة ومصانة تقوم الدولة بموجبها بالتصرف مقابل الالتزام بحماية حقوق المواطنين واحترام ارادتهم . وهذا العقد ليس عقدا اجتماعيا فحسب ، بل هو عقد بمحتوى اجتماعي وشكل ثقافي لا يمكن الفصل بينهما . فالثقافة التي تقوم على وعي هذا العقد وشروطه وحقوق وواجبات كل طرف فيه ، ترتبط بمضمون هذا العقد واهميته . والشكل الثقافي لهذا العقد ليس شكلا مجردا ، بل هو مرجعية اساسية للديمقراطية ، لايقوم الخلاف الا وتدخل هذا الشكل للحكم علىه وحله سلميا قدر الامكان
وبمعنى آخر ، فان الثقافة المرتبطة بالديمقراطية تتجنب العنف وتتجنب وسائل الاكراه الاخرى كالايديولوجيا الرسمية التي تمارس الارهاب الفكري والجيش والصحافة المؤممة والميليشيات واجهزة القمع المختلفة على سبيل المثال في. حل الخلاف السياسي واختلاف وجهات النظر وفرض وجهة نظر واحدة ووحيدة عن طريق العنف والاكراه .
هنا بالضبط تقوم مفارقة كبرى بين الديمقراطية والاستبداد ، بين الليبرالية والشمولية ، وتتمثل هذه المفارقة في التماثل بين الثقافة والايديولوجيا . فالديمقراطية تدفع الايديولوجيا الى الخلف وتقيم الثقافة محلها ، وهي تسعى الى تعميق الفروق بين الثقافة والايديولوجيا ، بينما يحدث العكس في التصور الايديولوجي الشمولي ، اذ تتماثل الثقافة والايديولوجيا وتحل الايديولوجيا محل الثقافة .
ويشهد الوضع العربي ، حتى في المعارضة ، التي تتحلى بثقافة من هذا النوع الايديولوجي ، تماثلا وتطابقا بين الثقافة والايديولوجيا ، وبذلك تسود المفاهيم الايديولوجية عن الديمقراطية ، وتتأدلج الديمقراطية ، وتسود ثقافة مضللة ومؤدلجة عنها تبقي المفاهيم الحزبية السائدة كما هي ، وتحارب عن رفعها لشعار الديمقراطية بنفس العزيمة التي تدافع عن معتقدها الايديولوجي .
تحت هذا الفهم تصبح التعددية ضربا من الوهم . فالتعددية هي الاعتراف بحق الآخر ، وليس الاضطرار الى التعايش معه فترة محددة . ويقوم فهم ثقافي – ايديولوجي عن التعددية يعتمد على المنافسة غير المشروعة التي تقوم على التشهير والابتزاز للحفاظ على الهيمنة ومواقع النفوذ باسم الديمقراطية ورفع شعاراتها .
ان الاسلوب السائد يفرضه تاريخ من الثقافة الحزبية والسياسية عن موقع الدولة وحقوقها في فرض الواجبات والتمتع بالحقوق ، وموقع المجتمع بالنسبة للحزب ، خاصة الحزب الحاكم ، الذي يقوم بفرض سلطته على المجتمع من خلال استخدام ادوات الدولة ، ويلغي مفهوم المواطنة لصالح مفهوم عضوية الحزب ، ولعل في شعار « كل مواطن بعثي وان لم ينتم » الذي طرحه حزب البعث الحاكم في العراق في بداية السبعبنات حين كان مايزال ضعيفا يكشف بوضوح الايديولوجيا التي تتحكم بالعلاقة بين المجتمع والدولة من خلال الحزب الحاكم الذي يضع الانتماء الحزبي فوق الانتماء الوطني . . فالدولة ، عادة اداة اكراه وهيمنة ، ولكن وسائل هذا الاكراه وطبيعته تختلف من دولة الى اخرى ومن نظام الى آخر . وفي العالم العربي تأخذ الدولة موقعا اكبر بكثير من موقعها في الفكر السياسي او في الذرائع الايديولوجية المقدمة عنها . فمفهوم الدولة العربية مايزال قائما على امتلاك حق التصرف بالمجتمع واخضاعه لارادة الدولة ، وتنتج الدولة مفاهيمها الثقافية عن المجتمع والعلاقة بينه وبينها وتصدّر هذه المفاهيم الى المجتمع من فوق الى تحت عبر وسائل الاكراه التي تملكها ، ومنها وسيلتان تتعلقان بموقع هذه الدول في اطار نمط الانتاج الآسيوي الذي يتصف ، في جملة مايتصف به ، بقدرة الدولة على امتلاك موقع اقتصادي يجعل الناس بحاجة الى الدولة وليس العكس ، كما يتصف بالقدرة الايديدولوجية والمعتقدية للدولة التي تفرضها ، وتفرض هيمنتها بواسطتها ، على المجتمع .
ويأخذ الشكل الحديث لهذا النمط دولة الريع التي تعمد ، في احسن الحالات ، الى سد حاجات المواطنين الاقتصادية مقابل التنازل عن دورهم السياسي . وهذه الظاهرة الجديدة كرست ثقافتها ايضا ، التي تحولت الى قناعة لدى كثير من افراد المجتمع الذين اناطوا ، بعقد آخر ، غير متفق عليه ، وغير موثق الا من طرف الدولة ، ممارسة النشاط السياسي بالدولة وليس بالاحزاب السياسية .
ويتضح من هذه الظواهر غياب تام للثقافة المتعلقة بالديمقراطية ، كونها نوعا من المرجعية الاجتماعية للديمقراطية ، اذ بدون مثل هذه الثقافة لايستطيع المواطنون الحكم على ضروب عديدة من الاجراءات السياسية والاقتصادية والتأثير فيها ومعرفة حدود وصلاحيات هيئات الدولة ، وعلى سبيل المثال ، ماهو موقع ( الشرطي ) في العلاقة بين المواطن والدولة ، وهو مثل قد يبدو بسيطا ، ولكنه يشير الى جوهر هذه العلاقة ، فشعار ( الشرطة في خدمة الشعب ) هو جزء من ثقافة الدولة وليس ثقافة المجتمع ، لان مايجري هو عكس هذا الشعار تماما ، كما ان المواطن العربي مشبع بروح الفزع والريبة من الشرطي الذي لايحمي القانون فعلا بقدر مايحمي الدولة .وبقدر ما يحمي الطغمة الحزبية او العائلية او العشائرية من خلال حماية الدولة ، فالقانون لايسري على هذه الطغمة والشرطة لاسلطة لديها على هذه الطغمة ، وبالتالي فان وعي مهمات الدولة ووعي حدود صلاحيات المواطن ودور كل منهما لا يكفي تحديده في قانون او قرار ولا حتى في دستور ، دون اشاعة الوعي الخاص بهذين الدورين ، اي التثقف بثقافة ديمقراطية ليست مؤدلجة او ذرائعية . وهذه الثقافة الضرورية تنسحب على جميع الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بنوع السلطة السياسية وموقعها بين المجتمع والدولة .
وفي هذا الاطار نفسه تتشكل معالم الثقافة وهويتها ، بمعنى ان الثقافة الحزبية ليست بالضرورة ثقافة ديمقراطية ، فهي تتناقض مع الوعي الديمقراطي بدفاعها عن احادية الموقف وواحدية السلطة . والثقافة تستطيع ان تلعب دورا في الديمقراطية حينما تكون مستقلة ، وحينما تكون انتاجا للمجتمع المدني وليس مؤسسة رسمية او اتجاها رسميا يعزز سلطة الدولة ويمنحها الطابع الابوي الذي توجه من خلاله المجتمع نحو العبودية المعممة التي تشمل عموم فئات المجتمع المدنية والعسكرية ، المدنية والريفية ، المهنية والسياسية .
ويكتسب الدور الايديولوجي والاقتصادي للدولة اهمية كبرى في اشاعة الثقافة الاستبدادية وفي تعزيز دور المؤسسة الحاكمة في الذهنية الاجتماعية وفي التراث الثقافي الخاص بالعلاقة بين المجتمع والدولة ، فالطاعة العمياء للدولة اكتسبت نوعا من القدسية العرفية والتقليدية في اذهان كثير من افراد المجتمع وتجمعاته القبلية والمنتجة للموارد الاقتصادية ايضا . خاصة في القطاع الزراعي الذي يشكل غلبة في المجتمعات العربية حتى الآن على الرغم من العجز الغذائي في الانتاج الزراعي الذي تعاني منه كل البلدان العربية دون استثناء ، وبذلك تكون الدولة في الذهنية الاجتماعية العامة رب عمل وممول وممثل للقيم الدينية والقبلية والسياسية والفكرية في نفس الوقت . وبسبب هذا الدور المركب للدولة لايستطيع المواطن الاستغناء عن اعتماده الكلي على الدولة ، التي تعطيه دوره الفوردي من خلالها على عكس مايحدث في المجتمع المدني ، وبذلك تتمكن الدولة ، بفعل جبروتها ، من مصادرة حتى وعي الفرد المواطن الى جانب مصادرة حقوقه وفرض الواجبات عليه . ولاتكفي التعددية الحزبية المعترف بها دستوريا، وحدها، من القضاء على هذه الظاهرة ، اذ ان ثقافة الاحزاب في احيان كثيرة تتناسب مع الفكر المطروح عن شكل ومحتوى الدولة ووظائفها ، اي انها تجسد ، في جوهرها ، مضمون الدولة ، ولذلك فان مثل هذه الاحزاب تطرح فكرة الحكومات الائتلافية تجنبا للانتخابات وفقدان الهيمنة التي اكتسبتها على المجتمع من خلال الثقافة القديمة هذه التي لاتتناسب مع فكرة ومضمون المجتمع المدني .
تجذير فكري وتاريخي للديمقراطية – اقتباسات تاريخية – الفقراء هم الصامتون وحدهم في سومر – مثل بابلي
كأن المادة التاسعة عشرة من الاعلان العالمي احقوق الانسان الصادر عام 1948 جاءت لتجسد هذا المبدأ –المثل البابلي الذي يجعل من الفقر والجهل والاحباط وفقدان الحقوق والحريات نتيجة منطقية وحتمية للصمت وفقدان حرية التعبير.
فالفقراء الذين لايستطيعون ممارسة حق القول وحرية التعبير يبقون الصامتين الوحيدين الذين لاينالون حقوقهم.
منذ فجر عصر السلالات ودويلات المدن في سومر وبلاد الرافدين ارتبطت حرية التعبير بالحقوق المدنية.
لقد جسدت ملحمة كلكامش حقيقة اهمية توازن القوى لتحقيق الديمقراطية. فبعد ان كان كلكامش دكتاتورا في اوروك ينتهك حقوق حتى ابطال سومر ، خلقت الالهة, استجابة لمطالب سكان اوروك, الذين لم يطيقوا الصمت فتكلموا وعبروا عن حاجتهم الى السلم والعدالة, انكيدو ليكون معادلا موضوعيا في القوة لكلكامش.
تصف الملحمة في سياق شعري رائع الصراع الذي نشب في سوق اوروك بين الخصمين: الدكتاتور ومعادله الموضوعي في القوة.كانت حكمة الهة بلاد الرافدين اقوى من النزعات العسكرية لكلكامش الذي خسر الحرب بسبب عدم احترامه لقرار مجلس الخمسين من شيوخ المدينة الذين نصحوه بتجنب الحرب, فخلقت له خصما من القوة الجسدية .
بعد ان تعادل البطلان كف كلكامش عن ان يكون دكتاتورا . وانغمس في البحث عن الخلود بعد موت صديفه انكيدو وتطورت النواحي الانسانية لديه الى حد الاقتناع بالموت بعد ان سرقت الافعي عشبة الخلود التي اعطاها له جده اوتونابشتم, في دلالة على استحالة الخلود واستحالة الملك واستحالة استمرار النفوذ والقوة.
كان الخلود فكرة او عقيدة القدرة من خلال عدم تحديد البداية للانهائي السرمدي الخالد القادر على الاستمرار في التحكم. كانت فكرة السرمدية الالهية تتسرب الى البشر الحاكمين ليحكموا سرمديا ( فسنوات الاله لاتاتي ولاتمر, لاتبدأ ولاتنضب, بينما سنواتنا نحن البشر تاتي وتذهب) حسب القديس اوغستين(
Brian Davies .An Introduction to the Philosophy of religion .Oxford University Press.1982.P77
انها فكرة دينية وعقيدة تاريخية تشمل حتى الالهة الوثنية. ففكرة الخلود الالهي نقيض البشرية .وقد سعى الحكم الى ان يكون خالدا وسرمديا, سواء كان مطلقا في القرون الوسطى , خاصة عند جيمس الاول وشارل الاول في مطلع القرن السابع عشر في انكلترا، ولويس الراابع عشر في فرنسا وغيرهم, او كان مشاركا مع الالهة كما عند السومريين والفراعنة.
لقد تطور الفكر البشري من خلال تطور العقل وظهور الحضارات والانظمة السياسية التي بدأت تتخلى عن الجانب الالهي لتكون بشرية اكثر. فلم يعد حمورابي ابن الالهة ولكنه يتسلم منهاالصلاحيات.لقد كانت السلطة مثار جدل بين الالهة انفسهم لما تنطوي عليه من عوامل قهر وظلم واستخدام القوة والحرب والمال , وما تثيره من اسئلة حول العدالة والمساواة والفقر والغنى . ان العلاقة بين الدين والحكم في حالة تغير. لقد كانت المعجزة, كمفهوم, مرتبطة بالالهة , ولتبرير السلطة كانت المعجزة ذاتها مناطة بافعال الحاكم .وحين وصل التغير الى فصل المعجزة عن الحكم كانت الديمقراطية قد حلت محل المعجزة لتصبح امكانيات بشرية قادرة على التنظيم والادارة ووضع القوانين.
- الديمقراطية .. تطورها التاريخي
الديمقراطية نظام حديث بما يميزه عن القوة المادية بالقوة البشرية، اي اغلبية الافراد في اختيار النظام ومن يدير النظام السياسي.
ترتبط فكرة الديمقراطية بجملة من القيم والاعراف البدائية حتما. قد يبدو هذا التاكيد غريبا ومتناثضا ولكنه يقوم على قاعدة اساسية : ان الفرد لم يمتلك القوة بعد لفرضها على المجموع بسبب غياب الملكية الفردية وشيوع الطبيعة باعتبارها مصدرا للحياة.ليس غريبا ان يؤكد جون لوك ان الملكية الفردية اساس قيام المجتمع المدني وظهور اهمية العقد الاجتماعي.
في المجتمعات المشاعية كانت قطع الاراضي وغابات الصيد ملكا مشاعا يقتضي قوة العرف القائم على انعدام الملكية الفردية.
قام علم الاركيولوجي باعطائنا معلومات ومقدمات قيمة عن تطور التنظيمات الاجتماعية ماقبل الزراعية ثم مابعد الزراعية وتطور العصبية والعائلة وصولا الى السلطة. والعصبية هي الاطار الحديدي للايديولوجيا التي تحرس النظام السياسي ضد التنظيم الاجتماعي. فالمجتمع لايخضع للسلطة السياسية الا بتوحيد المصالح الذي تحول دونه النزعات الايديولوجية للعصبية الواحدة . اي ان العصبية العائلية ثم العصبية القبلية هي مرحلة تدمير الاعراف ماقبل الزواعية. فالانسان تطور من خلال الزراعة الى الملكية الخاصة ثم الى صناعة المستلزمات الحياتية من اوان ومخازن للحبوب وماشية خاصة تطلبت (تحديد) الملكيات وحراستها وصناعة الاسلحة وتدجين الكلاب. بمعنى آخر ظهر التناحر والصراع من اجل تحديد الملكية الامر الذي اقتضى صناعة سلطة.
في التاريخ العربي هناك حرب شهيرة هي حرب البسوس التي طالت كثيرا. انها ليست قصة حرب بقدر ماهي قصة عن الملكية الخاصة والمشاعية.اي حالة ظهور السلطة.
(حرب البسوس) هي حرب قامت بسبب ناقة لامرأة اسمها البسوس بنت منقذ، وذلك بين قبيلتي بكر وتغلب وأستمرت 40 عاما من 494 إلى 534 عقب مقتل كليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس بن مرة (من قبيلة بكر وابن أخت البسوس )، وإنتهت الحرب بانتصار تغلب على بكر
وهذه القصه حين فض كليب جموع اليمن في خزازى وهزمهم فاجتمعت عليه معد كلها، وجعلوا له قسم الملك وتاجه وطاعته، وغبر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهو شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له، لا يختبئ أحد في مجلسه غيره، ولا يغير إلا بإذنه، ولا تورد إبل أحد، ولا توقد مع ناره، ولم يكن بكرى ولا تغلبي يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمى إلا بأمره، وكان يجبر على الدهر فلا تخفر ذمته، وكان يقول: وحش أرض في جواري، فلا يهاج! وكان هو الذي ينزل القوم منازلهم ويرحلهم، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو كلب، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجرو وفيه فيعوى، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب، فضرب به المثل في العز فقيل: أعز من كليب وائل، وكان يحمى الصيد فيقول: صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً.
وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وكان لمرة عشرين بنين جساس أصغرهم، وكانت بنو جشم وبنو شيبان تقيم في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة.
وحدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة يوماً فقال لها: هل تعلمين على الأرض أمنع مني ذمة ؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس (وهو جساس بن مرة، كان فارساً شهماً أبياً، وكان يلقب الحامي الجار، المانع الذمار، وهو الذي قتل كليباً، مات سنة 534 م) وندمانه، ابن عمه عمرة المزدلف بن أبى ربيعة بن ذهل ابن شيبان. فسكت كليب، ومضت مدة، وبينما هي تغسل رأسه وتسرحه ذات يوم إذ قال لها: من أعز وائل ؟ قالت: أخواي جساس وهمام. فنزع رأسه من يدها وخرج.
وكانت لجساس خالة اسمها البسوس بنت منقذ، جاءت ونزلت على ابن أختها جساس، فكانت جارة لبنى مرة، ولها ناقة خوارة، ومعها فصيل لها، فلما خرج كليب غاضباً من قول زوجه جليلة رأى فصيل الناقة فرماه بقوسه فقتله. وعلمت بنو مرة بذلك، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا، ثم لقي كليب ابن البسوس فقال له: ما فعل فصيل ناقتكم ؟ فقال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه، وأغمضت بنو مرة على هذا أيضاً.
ثم أن كليباً أعاد القول على امرأته فقال: من أعز وائل ؟ فقالت: أخواي ! فأضمرها في نفسه وأسرها وسكت، حتى مرت به إبل جساس وفيها ناقة البسوس، فأنكر الناقة ثم قال: ماهذه الناقة ؟ قالوا: لخالة جساس. فقال: أو بلغ من أمر ابن السعدية (أي جساس) أن يجير عليّ بغير إذني ؟ ارم ضرعها يا غلام، فأخذ القوس ورمى ضرع الناقة، فاختلط دمها بلبنها.
وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس، فلما رأتها صاحت: واذلاه ! فقال لها جساس: اسكتي فلك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها إلى عشرا، فلما كان الليل أنشأت تقول بخطاب سعداً أخا جساس وترفع صوتها تسمع جساساً:
يا أبا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل فإني في قوم عن الجار أموات ودونك أذوادي إليك فإنني محاذرة أن يغدروا ببنياتي لعمرك لو أصبحت في دار منقذ لما ضم سعد وهو جار لأبياتي ولكنني أصبحت في دار معشر متى يعد فيها الذئب يعدو وعلى شاتي
فلما سمعها جساس قال لها: اسكتي لا تراعي إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً، وهو فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً.
ثم ظعن ابنا وائل بعد ذلك، فمرت بكر على نهى أي غدير يقال له شبيث، فنفاه كليب عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على نهى آخر يقال له الأحص فنفاهم عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على بطن الجريب (واد عظيم) فمنعهم إياه، فمضوا حتى نزلوا الذنائب، واتبّعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه، فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل، وهو واقف على غدير الذنائب، فقال له: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا ! فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون، فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتي، فقال له: أوقد ذكرتها أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لااستحللت تلك الإبل بها أتراك مانعي أن أذب عن حماي، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضني (الحضن مادون الإبط إلى الكشح
– في بلاد سومر وفي بلاد آشور:
١- المشاعية كفكرة ديمقراطية ، فطرية او طبيعية، بدون وعي او قانون
٢- الديمقراطية كوعي . المجلس الاستشاري(كلكامش) قبل القبيلة
وفي الوقت الذي نشاهد فيه تعددية سياسية من خلال المدن التي تمثل دويلات تحت مصطلح دويلات المدن الشائع ، نجد هناك تعددية في الالهة ايضا.يقول سموئيل كريمر، المختص بتاريخ بلاد الرفدين القديم في كتابه (اينانا ودموزي: طقوس الجنس عند السومريين)ص ٨٨ ترجمة نهاد خياطة ١٩٨٦ دار سومر-قبرص( ان كانت الوثائق الادبية التي بين ايدينا تظهر بوضوح اهتمام السومريين الشديد بالحقول المترعة بالحبوب ، والبساتين الغنية بالخضرة، والزرائب والحضائر الممتلئة بالماشية، والمخازن العامرة باللبن والقشدة والجبن بمقادير كبيرة، فقد اظهرت لنا الوثائق ايضا ان السومريين، من الجانب الروحي، قد طوروا نظاما كونيا(كوسمولوجيا) ولاهوتا(ثيولوجيا) ينطوي على درجة عالية من الايمان العقلي والاداء العاطفي العميق، مما جعل من ذلك، العقيدة والدغماطيقا الاساسيتين لكثير من بلدان الشرق الادنى القديم. من هذه الوثائق امكننا ان نعلم ان السومريين كانوا يؤمنون بان العالم قد خلقه ويدبر شؤونه الهة يعملون مجتمعين برئاسة اربعة من الالهة الخالقة، هي الهة السماء والارض والهواء والبحر، اي الالهة المتكفلة بالعناصر الرئيسية الاربع التي يتألف منها الكون.هؤلاء الالهة هم الذين رسموا تصميم كل شئ لازم للكون واخرجوه الى حيز الوجود من شمس وقمر، ونجوم وكواكب، ورياح وعواصف، وانهار وجبال، واودية وبواد، وعهدوا الى واحد او آخر من ابنائهم مهمة تدبير شؤون كل منهما . وما ان ظهر الانسان على الارضحتى اضطر الالهة الى وضع تصاميم للمدائن والحكومات، وللسدود والاقنية للزي، وللحقول والمزارع، وللحضائر والزرائب، ثم تنفيذها واخراجها الى حيز الوجود، والى تعيين الالهة ذات الكفاءة من اجل الاشراف عليها ) ص٨٩
ان نظام التفكير هذا الذي اخترعه السومريون عن الكون عكس نفسه بتسلسله وموضوعيته ، ان صح التعبير، على الحياة في الارض.عكس نفسه في الوحدة والتعددية، كما عكس نفسه في المركزية ولتقسيم، او في الولاء والصراع.
٣- القبيلة كجماعة قابلة للولاء والطاعة والحرية
٤- التنظيم الاستبدادي وعلاقته بالوحشية : صراع المصالح والتسلط
٥- قوانين اورنمو ومورابي كمحاولة لفصل الاستبداد السياسي عن الاستبداد الاجتماعي(السلطة تدير المجتمع : حق السلطة بالتفرد مقابل حماية الحقوق( وعي متقدم قبل الحق الالهي والحكم المطلق)
٦- الامبراطوريات قبل اثينا( الفرعنة، الصينيون (هيغل) نمط الانتاج الاسيوي (الهند العراق، مصر، ايران) وعلاقة المركزية بالاستبداد وتوزيع الثروة
٧- الثقافة في المجتمع الامبراطوري
٨- الدين قبل الفلسفة( علاقة الدين بالاستبداد، الميتفيزيقا وادارة الدولة شبيها بادارة الكون) تعدد الالهة في السماء يحول دون الاستبداد( ملحمة كلكامش، الاساطير اليونانية، المصرية)
٩- الموارد الاقتصادية والملكية الفردية وتطور المجتمع( هل وجد المجتمع المدني كمجتمع مستقل عن السلطة وحاكم على سلوكها شورعيتها) الالهة وشرعية السلطة. القرابين البشرية وفكرة التضحية وتطورها نحو الاستبداد
الديمقراطية والحضارة
كانت اريدو اقدم مدينة في العالم تقدم اضاحي وقرابين من السمك النهري للاله انكي , اله الاعماق, ( اثار بلاد الرافدبن- سيتون لويد- ترجمة محمد طلب- دار دمشق –الطبعة الاولى 1003ص19).الاله المعبود في بلاد تعيش بين الزراعة والطوفان , بين الطين والنخيل, الامر الذي يحدد كيفية السيطرة على التوازن المطلوب والدائم بين الحاجة الى الماء وتجنب المدمر منه.
كانت انظمة الري الدافع الاساس لتشكيلات سياسية غاية في القوة. عليها ان تكتسب الصلاحيات من قوة عليا لتكون قادرة على ادارة الصراع من اجل الماء مرة وضد الماء مرة ثانية.نشأت المدن القديمة , اور , الوركاء, نفر, لكش وغيرها على حاجتين: الحاجة الى الماء, والحاجة الى ادارة الصراع معه.
وعلى عكس المدن في شمال بلاد الرافدين حيث الارض صخرية او كلسية لايتغير فيها مجرى نهري دجلة والفرات, فان مدن الجنوب الرافدينية تتحول الى خرائب واطلال حالما يحول النهران مجريهما خاصة نهر الفرات. لقد لعبت البيئة والمناخ دورا في تشكيل المجتمعات الرافدينية القديمة. وبالتالي حددت طبيعة السلطة باعتبارها سلطة المياه والري. فحيث تشح المياه وينخفض مستواها في اوقات الحاجة, وحيث تغضب وتفيض وتحدث الطوفان كان لابد لعمل وابداع الانسان ان يخلقا نوعا من النظام المركزي الشديد الصرامة لبناء نظام معقد من اقنية الري والخزانات والسدود وبوابات التحكم والتصريف والجسور وكذلك معالجة الملوحة الناتجة عن فيضان الانهر.
تنشأ الحضارة من محاولات التغلب على البيئة والمناخ وتخفيض مستوى تحكم كل منهما في حياة البشر.حين تنشئ الحضارة وسائلها الروحية والمادية لهذه المحاولات تنشأ معها القوة والسلطة, ويظهر النظام السياسي باعتباره الادارة التي تتولى تنفيذ هذه المحاولات.
هكذا نشأت سلطة القبيلة وسلطة الدولة – المدينة في سومر مثلما نشأت الدولة الامبراطورية فيما بعد منذ البابليين.
كلما كانت البيئة والمناخ قويتين كانت السلطة قوية ومركزية.وتحتاج السلطة الى الريع لكي تنفذ ادارتها: الضريبة , الخراج, المصادرة, التملك الطبيعي او التعسفي للارض والموارد. فالسلطة تعمل ليدفع اجور عملها الأخرون كريع.
لكن بعض المناطق ظلت مشاعة. كان كليب قد حاول انتهاك المشاعة حين قتل ناقة البسوس التي دخلت مرعى مشاعا. وكانت حرب البسوس حربا على درجة من الاهمية في سياق تطور النظام الاجتماعي وتطور السلطة. فانتهاك كليب كان يسعى الى توفير الوسيلتين الخاصتين بالسلطة: القوة والمال.
ان تطور النظام الاجتماعي كان يؤدي الى تغيرات في طبيعة وبنية السلطة السياسية باعتبارها القوة التي تسعى للهيمنة الروحية والمادية على المجتمع, الذي كان بدوره, يأمل ان تكون ثمة ثوة مركزية تساعده على التحكم بالطبيعة ومواردها التي اصبحت تتطلب سن قوانين وتشريعات لتتوزع بشكل عادل او متساو بين اليشر. من هنا نشأت مشكلة الحقوق , التي نشأت معها الحاجة الى قوانين وتنظيمات سرعان ما احتاج اصدارها الى قوتين الهية وبشرية لكي تعمم وتعمل وتنفذ.
لم تكن الديمقراطية سوى القدرة على اقامة التوازنات التالية. التوازن بين الحق والقانون, التوازن بين المجتمع والسلطة, التوازن بين الحياة المادية والحياة الروحية. وكان التاريخ هو نتاج الصراع من اجل اقامة هذا التوازن.
كانت القوانين الاولى غاية في التخصيص.فهي نتاج سلطة محلية , كما هي نتاج بيئة اجتماعية واقتصادية محلية.لكن اهميتها تكمن في كونها القاعدة الحقوقية الاساسية لمعرفة وظيفة القانون من جهو وموقع الحقوق من جهة ثانية.
في شريعة حمورابي , التي تعتبر الاهم في تاريخ الحقوق والقوانين, وفي شريعة لبت عشتار وشريعة اورنمو, هناك تشريعات بخصوص الملكية وتحديد حقوقها من خلال وجود خرائط للمساحات الزراعية وحدودها وواجبات البساتنيين وطرق الاستئجار وتنظيم المعاملات الخاصة بذلك( حضارة العراق. الجزءالثاني. ص158) مما يعني ان تطور النظام السياسي ارتبط بنظام الحقوق. وربما يكون العكس ايضا , اي ان نظام الحقوق تطزر مع النظام السياسي وتعيين صلاحياته ومسؤولياته, لكن بدون شك تطور النظام السياسي بسبب الحاجة الى اصدار تشريعات حول الحقوق. ان هذه التشريعات اعطلت النظام السياسي قوة اضافية عززت تستبداده اكثر من تعزيز دستوريته.ولقد انشأ تطور الفرق بين القرية والمدينة امتيازا سياسيا جديدا يقوم على قدرة النظام السياسي على تامين الطرق والمواصلات والامن والتبادل البضاعي ونشوء الحرف والصناعات اليدوية , وبالتالي على ظهور الكتابة ومسك السجلات وانشاء المعابد والمورانئ(حيث كانت المدن تقام على ضفاف الانهر( والاسواق. قاد كل ذلك الى تعقد نظام المدينة وتعقد نظامها السياسي , بحيث ان اولى المعاهدات بين الدويلات والمدن عقدت في بلاد الرافدين او بين بلاد الرافدين والدول المجاورة مقل المعاهدة التي ابرمها الملك نرام سين رابع حكام الدولة الاكدية (2291-2255) قبل الميلاد ينه وبين ملك اوان الى الشمال الشرقي من سوسا في بلاد عيلام بعد الانتصار العسكري الذي حققه نرام-سين على ذلك الملك( حضارة العراق- الجزء الثاني-ص 118) ومثل المعاهدة التي ابرمت بين دولتين- مدينتين هما لجش واوما برعاية حاكم مدينة لكش( نفس المصدر-ص 114).
بعض صكوك وعهود الديمقراطية: حقوق الانسان ووسائل حمايتها في الديمقراطيات:
تم تدوين الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948م في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووقع عليه جميع أعضاء الجمعية عدا السعودية التي وقعت عليه بتحفظ، ودولة أخرى.
كان هذا الاعلان تتويجا لنضالات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من اجل تقليص صلاحيات الحكم المطلق الذي ضعف وتراجع طوال القون الثمن عشر، ثم جاء القرن التاسع عشر ليشهد النضال من اجل تدوين الدساتير في اوروبا واعطاء البرلمانات حق الرقابة على السلطة وتقليص صلاحيات الحكومات مقابل توسيع صلاحيات الديمقراطية التمثيلية وتتوج القرن التاسع عشر بالنضال من اجل حرية الصحافة. وفي القرن العشرين بدأت المرحلة الثالثة للتطور الديمقراطي بعد مرحلة تقليص الحكم المطلق وتقليص الحكم عبر المرحلة الثانية باعطاء البرلمان قوة التشريع والرقابة.
الإعلان الثاني: إعلان حماية حقوق الإنسان في نطاق مجلس أوربا وتمّ تدوينه عام 1950م في روما.
الإعلان الثالث: الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، تمّ تدوينها في 1969م.
الإعلان الرابع: الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان وقد تم تدوينه باقتراح من الوحدة الأفريقية عام 1979م.
الإعلان الخامس: مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي أعدّ في جامعة الدول العربية
الإعلان السادس: مشروع حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي، وقد تمّ تدوينه عام 1985م.
- تعقيب عل الصكوك والعهود:
اعتاد كثير من دعاة الديمقراطية وحقوق الانسان ايراد هذه الصكوك والعهود دون بحث التناقض بين وجودها والاعتراف بها حتى من قبل حكومات وانظمة دكتاتورية مستبدة في مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسعودية وغيرها.
يؤكد فقهاء الدساتير والحقوق المدنية والسياسية وحقوق الانسان على اهمية ان تتوفر وسائل واقعية لحماية هذه الحقوق والعمل على اجبار الحكومات على تطبيقها والالتزام بها.
ان اهمية هذه الحقوق لاتأتي من النص عليها فحسب وانما من تعزيزها بوسائل حماية تبدأ من استقلال القضاء وتوليه مهمة حماية هذه الحقوق وضمان تطبيقها من قبل الحكومات مرورا بسلطة الرءي العام الممثلة في وسائل الاعلام المهنية والمستقلة غير الحزبية وغير الحكومية وليس انتهاء بمسؤوليات ونشاطات منظمات المجتمع المدني التي تتولى الدفاع عن هذه الحقوق . لكن مشكلة توفير وسائل حماية الحقوق تتعرض للمصادرة والاحتواء ، سواء من قبل الحكومات نفسها حين تتولى انشاء وزارات لحقوق الانسان تكون مهمتها حجب الوقائع والدفاع عن الخروقات التي تقوم بها الحكومات وتبريرها وتلفيق وقائع بديلة عنها.او من قبل وسائل الاعلام التي تلتحق بالاحزاب والقوى السياسية التي تخرق حقوق الانسان وتسيسها حزبيا وتجعلها خاصة بما تتعرض له هي كحزب وليس بما يتعرض له المواطنون وافراد المجتمع والمنظمات الاخرى ، وسبب ذلك هو حزبية الدفاع عن الحقوق وليس وطنيتها او انسانيتها كونها منظومة انسانية كونية مشتركة.
فضلا عن ذلك فان الوسيلة الاساية للدفاع عن حقوق الانسان هي الثقافة العامة للمواطن. ومعرفته بحقوقه وايمانه بان وسائل حماية هذه الحقوق متوفرة لدى القضاء ووسائل الرأي وسلطة المجتمع المدني
وان هناك من يقف معه في استرجاع حقوقه باعتبارها مصانة مقدسة ولايمكن للنفوذ الحكومي مصادرتها .
ان الاحباط الذي يصيب المواطن من استحالة حصوله على حقوقه المنصوص عليها دستوريا ياركم من خلال التفوق السياسي على المجال المدني حين يستولي المجتمع السياسي على حيز المجتمع المدني ويصادره لمصلحته. ويحذر المفكر الفرنسي الان تورين من هذا الاسستحواذ ويفصل بحزم بين الحامل السياسي والحامل المدني كما يحذر من النفوذ المالي والنفوذ السياسي اللذين يمكن ان يهددا بانتهاك حقوق الانسان والديمقراطية وقوة المجتمع المدني اللازمة لابرام العقد الاجتماعي بين المجتمعين السياسي والمدني كطرفين يحققان الاتفاق على الشروط المشتركة والحقوق الخاصة بكل طرف.
وتنبثق من هذه الوظعية مظاهر الاستبداد باسم الديمقراطية، اذ انه بعد تاريخ طويل ومكرس للاستبداد تنشأ لدى الافراد فكرة (عدم الخلاص) ، وتذوي فكرة الخلاص التي تبقى لدى عدد محدود ومحدد جدا من الاشخاص الذين ينطوي عملهم على صعوبات بالغة في التنوير والنهضة في مواجهة النفوذ السياس يللاحزاب على القوانين والانظمة التي تضمن حقوق المواطنين بما فيها حقهم في تكافؤ الفرص وفي المساواة امام القانون في العمل والصحة والتعليم والسكن والنقل والسفر وملء المناصب والوظائف على اساس مبدأ حيادية الخدمة المدنية وعدم تحزبها ومحاصصتها بين الاحزاب والقوى المشاركة في الحكم..
ان عمل المفكرين والفلاسفة هو ماصنع الديمقراطية وليس السباسيين. ونستطيع ان نجد جذورا للعقلانية والمدنية في التراث العربي والاسلامي في خضم الاتساع العميق للاستبداد والوهم اللذين شاعا وحكم العقل الجمعي العام.
- جذور عقلانية عن الحكم والدولة:
سنحاول هنا ان نقيم تناسقا لفكرة الديمقراطية ومدنية الدولة من خلال ايراد بعض المقتبسات التاريخية المهمة في الفكر العربي والاسلامي باعتباره جزء من التراث الانساني الخاص بفكرة الوظيفة القانونية للدولة
وظيفة الدولة المدنية
يلخص مسكويه في كتابه( تهذيب الاخلاق) فكرة الدولة المدينة بالعبارات التالية:
يجب على مدبر المدن ان يسوق كل انسان نحو سعادته التي تخصه ثم يقسم عنايته بالناس ونظره لهم الى قسمين: احدهما: في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية, والاخر: في تسديدهم نحو الصناعات والاعمال الحسية.
و فكرة السعادة من خلال وظيفة الدولة ليست جديدة، فقد اشار اليها علي بن ابي طالب في سياق وثيقته الفكرية للدولة ومفهوم الحكم المعروفة باسم عهد الاشتر، كما اشار اليها ديدرو والموسوعيون. ان
موضوع السعادة كوظيفة للدولة فكرة دينية بالاصل ، وقد اعاد انتاجها الشيخ حسين الناذيني المرجع الديني الشيعي منذ مطلع القرن الماضي في كتابه( تنبيه الامة وتنزيه الملة ) الصادر عام ١٩٠٩ حول الشورى والديمقراطية او المشروطية والاستبداد التي شاعت في نهايات القرن التاسع في كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي ثم تطورت الى فكرة الدولة المدنية وليس الدينية في كتاب (الاسلام واصول الحكم) لشيخ الازهر الاسبق علي عبد الرازق الذي صدر عام ١٩٢٥. واثار ضجة واسعة.
شغيلة اليد وشغيلة الفكر
ان الجذور العقلانية لفكرة النظام العادل انبثقت في اراء وافكار عدد من المفكرين المسلمين في وقت مبكر. فاراغب الاصفاني يورد في كتابه (الذريعة) ما يذكرنا باطروحة شغيلة اليد وشغيلة الفكر المعاصرة بتاكيده على ان (الصناعة ضربان : علمي وعملي. فالعلمي مايستغنى فيه عن الاستعانة بالجوارح من اليد او الرجل كالمعارف الالهية والحساب. والعملي مايستعان فيه بالجوارح وهو ضربان: الاول ينقضي بانقضاء حركة الصانع كالرقص, والثاني شئ يبقى له اثر معقول لامحسوس, كالطب, وضرب محسوس كالكتابة)
العقل والسعادة القصوى
وبما ان الديمقراطية نظام عقلاني يقوم على مايناسب العقل الذي يسعى لتوفير المنفعة العامة عبر الاستقرار والسلم الاهلي والخطاب التسامحي فان الفارابي يناقش موضوعة العقل في كتابه(السياسة المدنية) الذي يبحث عن تحقيق السعادة القصوى في النص التالي ( العقل الفعال فعله العناية بالحيوان الناطق والتماس تبليغه اقصى مراتب الكمال الذي للانسان ان يبلغه, وهو السعادة القصوى, وذلك ان يصير الانسان في مرتبة العقل الفعال,وانما يكون ذلك بان يحصل مفارقا للاجسام , غير محتاج في قوامه الى شئ اخر مما هو دونه من جسم او مادة او عرض وان يبقى على ذلك الكمال دائما)
التاريخ : العقيدة والمثل
وحين يلعب التاريخ بما فيه من ارث ديني وسياسي استبدادي دورا في اعاقة الديمقراطية سواء من حيث انطلاقها او تطورها فان ٠النقل) يحل محل(العقل) ويتحول التاريخ نفسه الى عقيدة جمعية جامدة تحول دون الانتقال من عناصرة التي تحكم الحاضر الى عناصر حيوية متحركة. ولابد من الاشارة الى فكرة ابن خلدون في المقدمة حول الركود التاريخي عبر النقل والتحول التاريخي عبر العقل(التاريخ فن
يوقفنا على احوال الماضين من الامم في اخلاقهم والانبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك-لمن يرومه- في احوال الدين والدنيا
والتاريخ محتاج الى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما الى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لان الاخبار اذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولاقيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن الصدق)
العالم تحت حكم الجاهل
يورد العاملي ، مؤلف الكشكول، في الجزء الثالث منه، حادثة تؤسس هي وغيرها لما يحصل اليوم في العراق وبعض الدول التي تتبنى مفاهيم الحكم الديني باسم الديمقراطية. يذكر مايلي:
غضب الرشيد على ثمامة بن اشرس، وكان فقيها عالما, فسلمه الى خادم له يقال له ياسر.وكان الخادم يتفقده ويحسن اليه. فسمعه ذات يوما يقرأ(ويل للمكذبين) بفتح الذال, فقال له ثمامة:ويحك, ان المكذَبين هم الانبياء. فقال له الخادم: كان يقال انك زنديق وما كنت اصدق, اتتهم الانبياء ياثمامة؟ فتركه وهجره. فلما رضي عنه الرشيد ورده الى مجلسه ساله يوما في اثناء محادثة: مااشد الاشياء على الانسان ؟ فقال ثمامة: عالم يجري عليه حكم جاهل.
ورغم ان الفكر الاسلامي لم يناقش موضوعة الحكم واهملها اهمالا تاما حيث لم تشغل بال الفقهاء ولكنها شغلت افكار بعض المثقفين المسلمين مثل الحسن البصري وابن سيرين واياس بن معاوية وسفيان الثوري وابي حنيفة خاصة في موضوع تولي القضاء لسلطة مستبدة وهو ماعرف بمحنة القضاء في التاريخ الاسلامي حين رفض كثير من المثقفين تولي مهنة القضاء لسلطة تتدخل به لمصالحها وتبحث في احكامه عن تبريرات لسيطرتها على الفائض الاجتماعي للخراج والضراذب الاخرى كالعشر والجزية وغيرها، وهو مايذكرنا بمقهوم استقلال القضاء الذي تستند عليه الديمقراطية في توزيع السلطات واستقلالها. ومع اغفال الفقهاء لموضوع الحكم فان عقلانية بعض المثقفين تركت لنا افكارا حول السياسة منها ما ذكره الاحنف في شروط السياسة ووظيفتها:
رأس السياسات
** قال الاحنف: راس سياسة الوالي خصال ثلاث:اللين للناس, والاستماع منهم, والنظر في امورهم.
ورأس مروءة الوالي خصال ثلاث: العلم والعلماء, ورحمة الضعفاء, والاجتهاد في مصلحة العامة.
ونستطيع من هذا النص التعرف على عناصر ديمقراطية ضد الاستبداد منها العفو والتسامح ومشاركة الرأي العام في القرار واهمية المفكرين او مانسميه اليوم Think Tanks في صناعة القرار السياسي وتهيئة القواعد له والتاكيد على ان الوظيفة الاساسية للحكم هي تلبية احتياجات المواطنين
بضاعة مجفو اهلها.
ومن مظاهر التدهور الثقافي للحكم والدولة، وعدم التفاعل بين الفكر ونظام الحكم ماتذكره كتب التاريخ من ان مسلمة بن عبد الملك، وهو احد الامراء الامويين. كان اذا دخل غلة ضياعه جعلها اثلاثا, فثلثا لنفقته, وثلثا للنوائب والحقوق, وثلثاَ يصرفه الى اهل الادب.
فقال له مولاه سالم يوما: يامولاي , اذا ورد مالك صرفته في ثلاث: فاما النفقة فلابد منها, واما النوائب والحقوق فحزم وقوة, ولا اعرف الوجه الثالث فيما تصرفه الى هؤلاء القوم. فقال: انهم تركوا التعيش والطلب فاشتغلوا عن المكاسب بطلب العلم ,فواجب على كل ذي مروءة ان يعينهم، فقلت يامولاي جعلته احب الاقسام الثلاثة اليًّ.
العقل والخطاب
وفي الخطاب السياسي هناك ارث تركه مثقفون وسياسيون ومفكرون مسلمون منهم المهلب بن ابي صفرة وهو قائد عسكري للامويين شارك في اخماد التمودات الثورية التي انطلقت ضدهم ثم انقلب عليهم حين رأى كثرة سفك الدماء وثار عليهم وانضم اليه كثير من المثقفين والقضاة الذين كانوا يعارضون الاستبداد الديني ومنهم سعيد بن جبير وابو حنيفة وعامر الشعبي وغيرهم، فقد كان الخطاب السياسي محملا بالعاطفة الدينية الجياشة التي تستثمر العواطف وتتحول الى ايديولوجيا تغطي على انعدام الحريات والمساواة والحقوق، وقد ادرك المهلب التناقض بين الخطاب والفعل، فكان يقول:
يعجبني ان ارى عقل الرجل زائدا على لسانه, وفعله زائدا على قوله.
مفهوم الامة ومفهوم الدولة في التراث الاسلامي رغم ان الاسلام كدين اكد على تشابه الامم من خلال المنطلق الايماني الا ان مفهوم الامبراطورية في السوك السياسي القائم على الفتح والغزو والالحاق واجه مفهوما اخر هو الامة.
يقول الفارابي في السياسة المدنية(الامة تتميز عن الامة بشيئين طبيعيين: بالخلق الطبيعية والشيم الطبيعية وبشئ ثالث وضعي وله مدخل مافي الاشياء الطبيعية وهو اللسان, اعني اللغة التي بها تكون العبارة.
ويقول الشهرستاني في الملل والنحل( من الناس من قسم اهل العالم بحسب الاقاليم السبعة واعطى كل اقليم حظه من اختلاف الطبائع والانفس التي تدل عليها الالوان والالسن.
ومنهم من قسمهم بحسب الامم فقال كبار الامم اربعة.
ومنهم من قسمهم بحسب الاراء والمذاهب وهم منقسمون بالقسمة الصحيحة الاولى الى اهل الديانات والملل, والى اهل الاهواء والنحل. فارباب الديانات مطلقا مثل المجوس واليهود والنصارى والمسلمين.
وقال القاضي صاعد في طبقات الامم (ان جميع الناس في مشارق الارض ومغاربها وجنوبها وشمالها –وان كانوا نوعا واحدا- فانهم يتميزون بثلاثة اشياء : الاخلاق والصور واللغات).
نحن هنا امام تراث اسلامي بالدرجة الاولى لايميز الامم بدينها وانما باشياء طبيعية مثل اللون واللغة والعادات والتقاليد والطبائع. ذلك يعني ان مقاييس التعايش والتفاهم متاصلة ومتوحدة خاصة بالنسبة لماذكره الشهرسالتي وهو يفرق بين الاديان واهل الاهواء ويعني بها الافكار والتصورات الاخرى خارج الاطار الديني.
واذا كنا نريد ان نؤسس مجلسا لقادة الاديان في الشرق الاوسط فان ارضية مثل هذا المجلس مبنية سلفا من خلال الارث الثقافي العميق الذي اسسه المفكرون المسلون في مراحل مختلفة.وهذا الارث مبني على التسامح والمشاركة والتعددية المعترف بها دينيا بدليل مايرد دائما من تعداد الاديان, التي اضاف اليها الشهرستاني حتى المجوسية التي تعامل معها الاسلام الفاتح معاملة الاديان الاخرى.
ويقول الراغب الاصفهاني في (الذريعة) ان الاعمال ثلاثة: عمارة الارض وعبادة الخالق وخلافته. وهذا يعني ان الارض مشتركة يعيش عليها الجميع دون ان يخص دينا او ملة, كما ان الاديان السماوية تشترك بعبادة الخالق وخلافته في ارضه من قبل الصالحين دون تخصيص.
ان انطلاق العنف في اي مجتمع, حتى لاسباب دينية, ليس امرا طبيعيا نابعا من جوهر الدين وانما من نوازع بشرية واجتماعية واقتصادية تتلبس رداء دينيا لاضفاء قدسية على هذا العنف وجعل رفضه محرما دينيا لاتجوز ممارسته
كما ان علي بن ابي طالب يؤكد على وسائل الانتاج واهميتها اكثر من الربح الناتج عنها فهو يوصي عامله على مصر مالك الاشتر بتاكيده على عمارة الارض اكثر من الخراج الناتج عنها اذ يعتبر الارض اصل المال او رأس المال اكثر من الفائض النقدي المستحصل منها، وهي بذلك ملكية عامة اكثر من كونها كلكية للدولة باعتبارها حاكمة لدين دون آخر او لعشيرة دون اخرى او فئة دون فئة.،
من المفترض ان الدين يوحد المصالح لاية امة دينية سواء المسلمة او المسيحية او اليهودية . لكن المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لكل مجموعة , سواء داخل الامة, او بين الامم تدفع لاستخدام العنف الذي يفتقر الى الشرعية فيعمد البعض الى اضفاء الدين على هذه المصالح وبالتالي تشريع العنف للدفاع عن هذه المصالح.
ان مصطلح الفتنة الذي غالبا ما يستخدم في الصراعات الدينية هو مصطلح يستخدم احيانا كثيرة من قبل المجموعات التي تستخدم العنف وتضفي عليه الشرعية الدينية بدون اصل ديني لمثل هذا العنف.
حينما نتحدث عن الشرق الاوسط فاننا نتحدث عن منطقة اديان العالم الكبرى.وحين نسعى الى تاسيس مجلس لهذه الاديان فهذا يعني ان هدف الاديان الكبرى هو الحفاظ على اهمية هذه المنطقة وجلالها الديني خاصة وان القبلتين , القدس والكعبة, هما على ارض الشرق الاوسط.
لكن الشرق الاوسط, منطقة وبلدانا, تتعرض منذ عقود على الاقل , لتوترات سياسية وصراع مراكز قوى ودول وامبراطوريات وتدفع الثمن من دماء ابناء الشرق الاوسط مما يؤجج النزاعات على اسس دينية تستخدمها السياسة لاضفاء شرعية وقدسية في وقت واحد على اساليب ادارة الصراعات والصدامات, الامر الذي يضع على عاتق قادة الاديان في الشرق الاوسط مهمة كبرى تتمثل في عملية فرز الالوان بين الصراعات السياسية والمصالح الاقتصادية والسياسية وبين مقاصد الاديان الساعية الى التعايش عبر عمارة الارض وعبادة الخالق وخلافته كما قال الراغب الاصفهاني, وكما يقول ابن خلدون في المقدمة وهو يتحدث عن ضرورة الاجتماع الانساني( يعبر الحكماء عن هذا بقولهم ان الانسان مدني بالطبع, اي لابد من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران).
نحن هنا بلا شك امام نصوص وافكار ومنطلقات انسانية كبرى لاتجد نزاعا بين الاديان . وقد ركز المفكرون المسلمون على التفاوت والاختلاف المنتجين اللذين يقودان الى التعددية والتنوع وتطوير الصناعات والحرف وتوفير الحاجات المختلفة كما يقول مسكويه في (الهوامل والشوامل) عن معنى التفاوت( فاما قولهم: لايزال الناس بخير ماتفاوتوا فان تساووا هلكوا. فانهم لم يذهبوا فيه الى التفاوت في العدل الذي يساوي بينهم في التعايش, وانما ذهبوا فيه الى الامور التي يتم بها التمدن والاجتماع).(
نعتقد اننا لسنا بحاجة للتذكير بان مستلزمات اقامة السلام بين الاديان قائمة في الفكر الاسلامي وقادرة على توفير مناخ تعددي متفاعل, خاصة وان الاسلام دين مدني يقدر المجتمعات المدنية ويعقد اواصر السلم الاهلي والديني بين المواطنين والمجتمعات على اساس العدالة في الحقوق والواجبات وعلى اساس التمدن والاجتماع المفضيين الى تنوع واختلاف المهن والاختصاصات والاعمال.
- السلطة السياسية: مفهوم الامامة
لعب الخلاف على الامامة دورا في ظهور الاستبداد طابعا عاما للنظام السياسي في الاسلام.وذهب بعض من تناولوا موضوع الامامة الى تنظير مستمد من واقع السلطة وليس من الاسس والمبادئ الحقوقية للنظام السياسي، مما يجعل من موضوع السلطة السياسية اطارا ثابتا لايمكن تغييره لانه استمد قدسية من الواقع وليس من الحاجة والمبادئ.
وبسبب افتقار الفكر الاسلامي لتراث جدلي حول موضوع السلطة، فان بعض الكتاب حاولوا تبرير ذلك ببعض ماكتبه الماوردي في الاحكام السلطانية.لكن اخطر ما طرحته الاحكام السلطانية مبدأ التغلب بالقوة. فقد اورد ت الاحكام السلطانية مبدأ يتلخص بما ذكره ابن عمر ونصه اننا نجلس في المسجد ومن تغلب بالسيف وقال اني امير المؤمنين فلايجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الاخر ان يبيت دون ان يراه اماما عليه. وبذلك حل مبدأ القوة محل الشورى ومحل ولاية الامة على نفسها.
حق العزل يعني حق الاختيار ولكن الحق غائب غير ان النقص الفادح في واحد من اخطر المواضيع التي تمس حياة البشر يشير الى قوة الاثر الذي تركه الارهاب الفكري للسلطة وفقهائها الموالين الذين وصل بهم الامر الى تحريم عزل الحاكم الجائر متذرعين باضطراب الاحوال كما جاء لدى ابن جماعة في (تحرير الاحوال) . (اذا طرأ على الامام او السلطان مايوجب فسقه فالاصح انه لايعزل عن الامامة بذلك اما فيه من اضطراب الاحوال) ص72
ويضيف ابن جماعة( واذا خرج على الامام طائفة من المسلمين فرامت خلعه او منعته حقا عليها له سالهم ماينقمون فاذا ذكروا شبهة ازالها او علة ازاحها ) ص73
وقد كرس تاريخ السلطة هذا الواقع وجعله المبدأ الوحيد لتداول السلطة وراثيا او بالقوة والغلبة. وقد سال المسلون عثمان بن عفان ان يعزل والي الكوفة الذي تم اثبات سكره وظلمه واستيلائه على اموال بيت المال العام، فابى ،ثم تطور الامر الى الطلب منه ان يتنازل فرفض معتبرا ان هذا هو حق الهي يتمتع به، الامر الذي قاد الى الثورة عليه.
لم يتحدث فقهاء السلطة عن حق الامة بقدر ماتحدثوا عن حق الحاكم وواجب الامة بالطاعة , فبرروا الاستبداد والفسق والكفر مع الطغيان بحيث لم يتطبق اي مبدأ اسلامي على الحكم. والسبب ايضا افتقار الاسلام الى رؤية شرعية لنظام الحكم وهو ماكشفه التطور التاريخي ابان الدولتين الاموية والعباسية ثم العثمانية.
ويؤكد الماوردي ان الامامة تنعقد بشرطين: احدهما باختيار اهل الحل والعقد والثاني بعهد الامام من قبل.(الاحكام السلطانية-ص6
وهذا ليس امرا شرعيا او نظاما حقوقيا وانما تطبيق على شكلين من اشكال الخلافة حيث يعتقد الماوردي ان ابا بكر استخلف من اهل الحل والعقد وان عمر بن الخطاب استخلف بعهد من ابي بكر.
غياب مفهوم العدالة والمواطنة
يشكل غياب مفهوم العدل من الفكر الاسلامي حقيقة سياسية وتاريخية ظاهرة. وقد تجنب فقهاء السلطة تناول هذا الموضوع واكتفوا بمناقشة العدل الالهي وليس العدل في الحكم الانساني. والرسالة الوحيدة التي يمكن ان نجدها في تاريخ الفكر الاسلامي لاتتجاوز ثلاثين صفحة كتبها ابو سعيد الاسكافي في القرن الخامس الهجري وهي تهتم بموضوع العدل من زواية النظر المعتزلية الخاصة بصفات الله اكثر من اهتمامها بمفهوم العدل باعتباره اساس الملك والحكم.
كما يلاحط غياب مفاهيم مثل المواطنة والمجتمع عن الفكر الاسلامي حيث تحل مفاهيم الامة باعتباره ذات اسس دينية والؤمن بدل المواطن مما يستدعي الحاجة الى جدل معاصر حول هذه المفاهيم سواء في اطار مفهوم الشورى الذي مايزال غامضا وفضفاضا او مفهوم ولاية الامة على نفسها الذي تطرحه بعض التيرات الفكرية في الاسلام.
ماهي الديمقراطية؟
د. نبيل ياسين – افكار وتعريفات
1- فكرتي هي ان لا ندرس الديمقراطية وانما ننتجها.ننتج الديمقراطية لكي نمارسها كافراد ونطبقها كشعب.الديمقراطية ا سميها نظام الارادة الشعبية. ولكي ننتج الديمقراطية ينبغي ان ندرس الفاشية والنازية والدكتاتورية لكي نعرف النقيض.وبالنسبة للعراقيين فانهم يعرفون بالممارسة ما عانوه من شرور الانظمة النقيض.
الديمقراطية هي نتاج الليبرالية. نتاج الايمان بالحقوق الطبيعية وفلسفة القانون وسيادته. التفكير الحر هو نتاج صراعات طويلة. جدل وسجال حول الحق والقانون والمواطنة والحكم والدولة والسيادة.
الاف الاسئلة بدأ الفلاسفة والمفكرون بطرحها منذ القرن السادس عشر. تبلور كثير منها في فلسفة القرن السابع عشر لتنتج الثورة الانجليزية , وتطورت في فلسفة القرن الثامن عشر لتنتج الثورة الفرنسية, واتسعت في القرن التاسع عشر لتنتج حرب الاستقلال الامريكية.
فازت الديمقراطية على الفاشية والنازية والاشتراكية. واختيرت كنظام امثل لاوروبا وبعض دول العالم.
في قرون الصراع تلك كان العالم العربي والاسلامي ينام تحت ظلام السلطنة العثمانية. انفجرت النهضة في اوروبا في وقت كان العالم العثماني يضع الستار الحديدي مع الفكر والثورة والصناعة والفلسفة ليستر نظام الجواري والغلمان.هذه حقيقة مؤلمة ولكنها حقيقة يجب الاعتراف بها.
2- الديمقراطية وجدت لتتيح للجمهور المشاركة في الشؤؤون العامة لهم الديمقراطية نشات لتعتمد على مفهوم المواطن الديمقراطية حالة لتبادل مختلف الافكار الديمقراطية مشاركة الاغلبية في الشؤون السياسية مقابل احتكار الاقلية لهذه الشؤون (الارستقراطية, الاوليغارشية, الملكية, الدكتاتورية او الطغيان) مقابل مشاركة الاغلبية( المواطنون,المزارعون , التجار, الحرفيون،وغيرهم من سكان المدينة ) ليجتمعوا ويختاروا من يدير شؤؤون المدينة كحكومة مفوضة باغلبية الاصوات).
3- تتكون الديمقراطية من : السيادة الشعبية واشكال تعبيراتها – الانتخاب – التمثيل النيابي المنتخب – المساواة السياسية – نظام الاغلبية
4- الديمقراطية تقر : – سيادة القانون – سيادة الدستور- -حرية التعبير والخطابة والصحافة – المساواة القانوية – استقلال القضاء – الفصل بين السلطات
الضمانات الاجتماعية( في بعض الانظمة الديمقراطية) لتاكيد مسؤولية الدولة تجاه المواطن بتوفير الحد الادنى من شروط العيش بكرامة.
حق المجتمع المدني بالرقابة واستخدام القانون لحماية حقوق الافراد – منع التمييز بمختلف اشكاله – احترام حقوق الانسان متكاملة كحزمة غير مجزأة بما في ذلك حق اللجوء الى بلدان آمنة من بلدان تنتهك حقوق الانسان وحق التجنس والحصول على وطن بديل.
الحقوق السلمية للتظاهر والاحتجاج والرفض والاعتراض ضد الشريعات او الاجراءات الحكومية او الاحتكار او زيادة الاسعار او التمييز.
– الديمقراطية تصوغ مبدأ المواطنة وتكرس حق المواطنة:
في حوار في رواية الرجل الثالث لجراهام جرين يدور الحديث عن جريمة قتل ويستبعد منها احد الضباط الامريكيين في النمسا بعد الخرب العالمية الثانية مباشرة لا اصدق با ت كولير متورط اراهنك باي مبلغ على امانته .انه واحد من اؤلئك الامريكيين الذين يتمتعون باحساس حقيقي بالواجب قلت نعم لقد اخبرني بذلك حين اتصل بي بالهاتف وقال ان اسوا ما في حياته انه تربى على الايمان بالمواطنة فذلك يشعره بانه متزمت كما قال المواطنة – الواجب – الالتزام هل تريدون نهاية القصة؟ اتضح ان كولير متورط في احط الاعمال الاجرامية قذارة: تهريب البنسلين الى السوق السوداء وخلطه بالرمل مما سبب وفاة الاطفال الملاضى في المستشفى.
ماهي دلالات النص على الواجب والايمان بالمواطنة في واقع فاسد او يشجع على الفساد؟
- الديمقراطية: المفهوم والنشأة
يعتقد كثير من الكتاب العرب ان الديمقراطية نظام جاهز في الغرب , وبالتالي فان نقل الجاهز الى العالم العربي سيكون انبات شجرة من الغرب في رمل الشرق , مغفلين عن عمد في غالب الاحيان, ان الديمقراطية لم تكن نظاما سياسيا جاهزا , وهي لم تكتمل حتى الان, اذ ماتزال عرضة للنقد والتعديل والاضافات والتساؤل , خاصة فيما يتعلق بمفهومها كونها حكم الشعب.
كما ان الديمقراطية كفكرة ومفهوم لم تكن الديمقراطية جاهزة في حقبة تاريخية , كالحقبة اليونانية على سبيل المثال , لكي يتم تطبيقها في العالم الغربي ثم في بعض دول الشرق كالهند واليابان .
ان الديمقراطية , كفلسفة وفكر , وكنظام سياسي , تطور تاريخي من نموذج مصغر الى سلسلة من الصراعات الفلسفية والفكرية , الى نظام ومؤسسات سياسية وحقوقية .ولذلك فهي نتاج الشرق القديم والغرب القديم والحديث , من انظمة وتجارب الحكم في دويلات المدن وسومر وبابل والامبراطوريات المتعاقبة , وخاصة تشريعات حمورابي التي يمكن ان تكون قد انتقلت اهميتها وطابعها الحقوقي الى اثينا , الى ارسطو وافلاطون والحوارات بين المشائين وغيرهم والجدل الميتافيزيقي الى اسبينوزا والصراع مع الحكم المطلق و افكار هوبز وفلسفة لوك وفكر مونتسيكيو واجتماع روسو وفلسفة هيغل وافكار المجتمع المدني والحقوق الطبيعية والمواطنة وحدود الصلاحيات وطبيعة البشر وجوهر الملكية وموقعها في الحكم والحياة واافكار أدم سميث وغيرهم , مرورا بالفكر الاسلامي المتجسد بفلسفة مفكري الاسلام مثل الامام علي والمعتزلة واخوان الصفا والقراء وموقف المثقفين والفقهاء من النظام السياسي الاموي والعباسي وموقع استقلالية القضاء في هذا النظام والمساواة أمام القانون، وغير ذلك من الأفكار.
نحن اذن امام تاريخ مشترك يختلف في حجمه وموقعه لنشوء الديمقراطية ويختلف موقعه تبعا لحجم التاثير الحضاري والثقافي للامم والامبراطوريات والدول والتبادل الثقافي والحضاري فيما بينها , ولكن تتفوق المادة الفسلفية والفكرية لاوروبا كما يتفوق الانتاج الفكري وطبيعة الصراع في اوروبا حيث لستطاع الصراع ان يسحم بشكل كبير لصالح الديمقراطية باعتبارها فلسفة الحقوق والمجتمع المدني وفلسفة العقد الاجتماعي وفلسفة الفرد المواطن تجاه الحكم المطلق وقدسية الملك وانتهاك الحق الفردي للشعب.
ومع ان العرب يعتقدون ان الديمقراطية نظام غربي لايصلح للشرق بسبب الخصوصيات القومية والدينية , فان جان جاك روسو نفسه يلقي بظلال من الشك , وهو احد اكبر المنتجين لافكار النظام الديمقراطي , على امكانية قيام ديمقراطية حقيقية , وهو الامر الذي يدعم باستخدتم كلمة ( حقيقية ) الرأي العربي الشائع الذي يتساءل عن (حقيقة ) الديمقراطية .واستنادا الى روسو يبحث المفكرون في تطور اشكال واساليب الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب كما يبحثون في الفروق بين الديمقراطيات وما تناجه من قيم وهيئات وطرق للحكم , خاصة في مجال الحكومات المحلية والمجالس البلدية حيث تختلف التجارب ولكنها تسعى جميعا الى تثبيت حق الافراد في الحكم بطريقة او باخرى , مباشرة او غير مباشرة.
ان روسو يقلل من مخاوف المرعوبين من حكم الشعب في عبارة تحمل هذا المعنى:
(وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً، فممّا يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الأصغر هو المحكوم، ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة، ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة ().
ورأي روسو هذا يثير اكثر من تساؤل واستغراب على الجزم الذي يعكسه . الاول هو حكمه القطعي بان الديمقراطية الحقيقية لن تتحقق , والثاني هو تقريره ان حكم الاغلبية يخالف النظام الطبيعي, ولاشك ان تاثير الحكم الالولغارشي في التاريخ قد امده بمثل هذا الجزم وهو كان مايزال يعيش تحت هيمنة وسطوة الحكم المطلق للويس الرابع عشر. بيد ان حكمه الاول يختص بمفهموم حكم الشعب وهو ماتعنيه الديمقراطية الحقيقية في نظره. وهذا يعني ان يكون الشعب متطابقا مائة بالمائة في اختيار اعضاء الجسم السياسي الذي يفوض مجموعة محددة للحم باسم الشعب. وهو الشكل السائد للنظام الديمقراطي اليوم.
لكن هذا لايعني ان لاتتحقق الديمقراطية. انها قد لاتتحقق بالشكل الذي طرحه مفكرو القرن السابع عشر والثامن عشر ماخوذا من المعنى اللغوي اليوناني ( حكم الشعب) فما تحقق من الديمقراطية حتى االن هو حكم الاغلبية. ويدور الجدل حول دور الاقلية في القرار السياسي.
ان تفاؤل اليونانيين اللغوي حول الديمقراطية والذي عبر عنه افلاطون في (الجمهورية) بقوله (أن جميع أبناء الشعب أحرار تحت لواء الديمقراطية ، ولو أن أحداً قام بالبحث عن أي شكل من الحكم فسيجد بيسر ما يبتغيه ) هو ماجعل كثير من مفكري الديمقراطيين يميلون الى تعريف الديمقراطية بانها حكم الشعب.
ليس روسو وحده من عارض بعض مبادئ الديمقراطية . فارسطو كان قد سلّم بان الناس ينقسمون الى احرار وعبيد . وعزا ذلك الى الطبيعة الانسانية الفردية او الجماعية . اي التقسيم الطبقي لا على اساس الملكية فحسب, فالعبيد لايملكون, وانما على اساس التقسيم القانوني الى احرار وعبيد.اي ان المساواة لم تكن شرطا من شروط الديمقراطية عند ارسطو.فقسم الاعمال الشاقة للعبيد والاعمال اللينة لوظائف الحياة المدنية للااحرار اعتمادا على التقسيم البيولوجي للطاقة الانسانية , معتبرا العبودية امرا عادلا ونافعا للعبيد. كما جاء في كتابه (السياسة).
لكن فلسفة ارسطو هذه, على الرغم من انها , من حيث العصر الذي عاشت فيه, وهو مرحلة العبودية والذي يشترك مع موقف الاسلام من العبيد مع فارق ان الاسلام اتاح فرصا متعددة لتحرر العبد, كانت ديمقراطية من الناحية السياسية وغير ديمقراطية من الناحية الاجتماعية. ان الفلسفة المثالية فلسفة طبقية غير عادلة من الناحية الاجتماعية بينما الفسلفة المادية تدعو الى العدالة الاجتماعية ولكنها غير ديمقراطية.
لقد ظهر مبدأ السيادة الشعبية ندريجيا ليحل محل سيادة الملك المطلقة. وقد ساهمت كتابات الفلاسفة المبكرين من منظري الديمقراطية , خاصة مفكري عصر الانوار, والموسوعيين الى صياغة مفهوم السيادة الشعبيةة وخاصة(جان جاك روسو) الذي ساهم مساهمة كبيرة , بعد هوبز, في التاكيد على السيادة الشعبية من خلال عقد اجتماعي تطوعي. فبعد ان يتم العقد بين افراد المجتمع اولا فان هذا العقد يعهد الى هيئة لادارة الشؤون العامة:
(يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكبر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية) ().
لعل اهم ما تحتويه فكرة روسو عن السيادة الشعبية وحجم الحكم لا حجم التمثيل هو فكرة الحكومات المحلية وتوزيع السلطة.فليست الديمقراطية لدى روسو هي حكم الشعب بصورة مطلقة وانما بتوسيع تمثيل الشعب عبر مشاركة اكثر افراد ذاك الشعب بالحكم ولايتم ذلك عبر البرلمان وحده وانما عبر تمثيل اوسع عن طريق مجالس المدن وبلدياتها وهو ما يطلق عليه اليوم الحكومات المحلية التي تملك من الصلاحيات
أمّا مونتيسكيو فيقول في تعريفه للحكومة الديمقراطية:
(حين تمسك الأمة في النظام الجمهوري مقاليد الأمور بيدها، يكون هذا النوع من الحكم ديمقراطية). ثم يتحدث عن خصوصية هذا النوع من الحكم فيقول: (إن هذا واحد من المبادئ الأساسية لهذا الحكم، وهو أن الشعب نفسه يعيّن من يتولون زمام أموره بأيديهم) ().
ويشترك هذا التعريف مع ما يقوله جان جاك روسو:
(عندما يتخذ جميع المواطنين قراراً بشأن أمر من الأمور التي تصب بشكل عام في مصلحة البلاد ويصّوتون إلى جانب ذلك القرار، فإن الأغلبية المطلقة تختار الشيء الأفضل دائماً) ().
هل الديمقراطية مذهب سياسي او اقتصادي او ايديولوجيا؟
نعرف ان الديمقراطية هي مكونات متعددو مؤتلفة. والتناقض يوجد فيها احيانا كما يقول الخليل بن احمد الفراهيدي: ان الدنيا مؤتلفات تختلف ومختلفات تأتلف. والعمل يجري منذ قرون لتقليص التناقض والاختلاف بين مكوناتها: السيادة الشعبية وسيادة القانون. حكم الشعب وحكم اقلية منتخبة .النظام الرأسمالي الذي اتحد مع الديمقراطية واصبح تعبيرا اقتصاديا لها وانجازات النظام الاجتماعي الذي انتجه البؤس الاجتماعي للحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
والاخطر من ذلك التناقض الذي يولده خطران يهددان الديمقراطية : نفوذ الاحزاب السياسي وقدراتها المالية القادرة على التاثير المباشر على الديمقراطية.
تعرف العالم العربي والاسلامي على الدينقراطية في الحقبة الاستعمارية حين كانت بريطانيا وفرنسا تحتلان اجزاء من هذا العالم.وظهرت حركة الاصلاح الديني لتواجه مفاهيم الديمقراطية العلمانية واطروحة فصل الدين عن الدولة وتفوق المكتشفات المادية على الاطر الروحية.منذ ذلك الوقت نعاني من الصراع بين الديمقراطية والاستبداد في العالم العربي. فكيف نحل هذه المشكلة؟نبقى نرفض الديمقراطية ليتمتع الحكام بحق الاستبداد ام نرفض الاستبداد لنطالب بالديمقراطية لانها مصلحة الاكثرية؟
لنتعرف على الديمقراطية من خلال بعض التعريفات ونرى فيما اذا كانت الديمقراطية جوهر واحد تتعدد اشكال تعريفه؟
الديمقراطية المباشرة، والديمقراطية غير المباشرة، والديمقراطية شبه المباشرة، والديمقراطية التمثيلية, والديمقراطية البرلمانية والديمقراطية السياسية، والديمقراطية الاجتماعية، والديمقراطية الصناعية، والديمقراطية المسيحية، والديمقراطية الإسلامية، والديمقراطية الشعبية، والديمقراطية العربية، والديمقراطية الثورية وكل هذه التعؤيفات تقع تحت مبدأ (حكم الشعب):
(حكم الشعب بالشعب للشعب) الرئيس الامريكي لنكولن (شكل من أشكال الحكومة التي ترجع قرار الحكم فيه إلى الشعب) الموسوعة البريطانية (عبارة عن أطار لحكومة يتوفر فيها أولاً: إعطاء الناس الفرصة لصنع الحكومة التي يعيشون في ظلها. وثانياً: إن القوانين التي تصدرها هذه الحكومة سوف تربط الجميع بدرجات متساوية) هارولد لاسكي (الديمقراطية في وقتنا الحاضر فلسفة وأسلوب حياة ودين وشكل للحكم) جورج بوردو اشكالية الدولة الدينية هل انهاها الدستور توزيع الثروة على الاقاليم هل يقود إلى التقسيم اضعاف المركز- اذا قلنا ان أي دستور هو تعبير عن صراع الارادات وثمرة للتسويات , فان خير مثال على ذلك هو الدستور الامريكي. فهو
اولا: تسوية بين ولايات امريكا الكبرى وولايات امريكا الصغرى
ثانيا: بين المركزية وبين الفدرالية
ثالثا: بين من ينادون بالتصنيع وبين من يعتمدون على الزراعة
وكان كل من هاملتون وجيفرسون ينقسمان بدورهما إلى مصادر اخرى وجدت في تاريخ الديمقراطية الانجليزية.
هذا يعني ان الدستور لايمثل احدا بعينه , أي يمثل الجميع, وفي نفس الوقت يمثل كل شخص. فكيف يتحقق ذلك؟
كانت مشكلة العراق تتجسد في دساتير على نمطين:
الاول: دساتير تقر اغلب الحقوق المتعارف عليها ولكنها لاتطبق هذه الحقوق
الثاني: دساتير تقصر الحقوق(غير المطبفة اصلا) على مجموعات قومية ومذهبية دون اخرى
ولم يكن من السهل التعامل مع تراث يمتد إلى أكثر من ثمانين عاما دون احداث طفرة كبرى في جوهر الدستور العراقي
كان قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي وضعه مجلس الحكم السابق, تمرينا وتجربة وريادة مهما اعتوره من نواقص. فهو
اولا: وزع السلطة والغى مركزية التحكم
ثانيا: اعترف بوجود التنوع القومي والديني والسياسي في العراق وطبقه في تجربتين هما مجلس الحكم والوزارة المؤقتة
ثالثا: ارسى فكرة النظام الفدرالي وجعلها حية في الواقع السياسي العراقي
رابعا: وازن بين موقع الاسلام في الدولة وبين المهمات السياسية والاقتصادية لها
اعترضت تطبيقات قانون ادارة الدولة عدة مشاكل اساسها ثقافة الاستبداد التي ترفض حق الاخر وتمثلت في تصاعد موجة الارهاب والعنف ضد القوى الجديدة التي عبر عنها القانون واعطاها دورها في الحياة السياسية. ومن الطبيعي ان ياتي الديتور الجديد مبنيا على اساس قانون ادارة الدولة, لان ذلك القانون ينص على ذلك, وشهد العراق تجربة جديدة, هي عدم تجاوز القوانين والدساتير الانتقالية.
الدستور الذي اقره الشعب العراقي باغلبية كبيرة في استفتاء الخامس عشر من الشهر الماضي ولد في مخاض عسير. وهذه مسالة طبيعية. وهو ثمرة ديمقراطية وليدة كرستها انتخابات حرة ونزيهة مهما رافقها من اخطاء صغيرة تحدث في اعرق الديمقراطيات.
اعتبر الدستور, في مادته الثانية,الاسلام الدين الرسمي للعراق ومصدرا اساسا للتشريع, آخذا بنظر الاعتبار ان اغلبية مواطني العراق هم مسلمون وان هناك مواطنين ينتمون لديانات اخرى كالمسيحية والصابئية واليزيدية واليهودية. كما اخذ في الاعتبار تطور مفاهيم حقوق الانسان والحقوق والحريات الاساسية للمجتمعات الحديثة, دون ان يغفل المخاوف التي انبثقت لدى اطراف دولية واقليمية وقوى عراقية من تكريس دولة دينية على نمط دول مجاورة, وبالذات النمط الايراني. لقد استغرقت عملية التوفيق بين المطلبين وقتا طويلا ونقاشا اطول.ليس بسبب حرص الولايات المتحدة , كما قيل, وانما بسبب الواقع السياسي المعقد للعراق ووجود احزاب وتيارات سياسية مدنية تريد ان تنطلق وتساهم في العملية السياسة وبناء الدولة على اساس سياسي وليس على اساس ديني.
هل ان النص على ذلك يقود إلى دولة دينية, مهما كان تفسيرنا للدولة الدينية؟هل النظام السياسي بالضرورة نظام ديني في أي بلد مسلم؟بالطبع لا. فالدساتير العربية في الدول الاسلامية ودساتير اغلب الدول الاسلامية تنص على دين الدولة وانه مصدر اساس من مصادر التشريع. مع هذا لانجد دولة دينية في أي بلد عربي, فلماذا يصبح العراق استثاء ومشكلة؟على العكس , نجد ان الاسلام محارب في اغلب الدول العربية والاسلامية. وربما كان هذا هو السبب الذي حدا باغلب الدول العربية لشن اعتراضات وهجومات على الدستور العراقي في سابقة خطيرة للتدخل بالشأن العراقي بشكل واسع والوصاية عليه.
لقد تضمنت المادة الثانية ثلاثة بنود , حملت في واقع الامر تناقضا فيما بينها هو وليد صراع الارادات القائم في العراق.لذلك فان نقاط الف وباء وجيم التي ستاتي لاحقا ترضي ثلاثة تيارات واتجاهات ولكنها لم تنه الصراع وانما جعلته تحت قبة البرلمان العراقي ووزعته على ثلاثة اطراف تتجاذب التشريعات في المستقبل, وهي نقطة تحمل من الايجابيات بقدر ماتحمل من السلبيات , اذ بقيت دون حل او حسم.
ان الشيعة الذين اصبحوا في قمة السلطة واحد الاركان الاساسية في العملية السياسية في العراق لم يستأثروا بدستور ديني رغم نفوذ المرجعية واحترامها من قبل الجميع. ان كل ما ارادوه من الدستور هو تثبيت حقوقهم مع تثبيت حقوق الاخرين التي انتهكتها الانظمة السابقة ولم تعترف وهي في قوتها بحقوق الشيعة او الاكراد, وهذه حقيقية واقعة لايستطيع أي مغال سياسي او قومي او مذهبي انكارها.
لذلك نص الدستور الجديد في المادة الثالثة على ( ان العراق بلد متعدد القوميات والاديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الاسلامي، والشعب العربي فيه جزء من الامة العربية.)
نعم هناك تنازل في الصياغة لصالح الاكراد.لاينكر ذلك. ولكن الاكراد عانوا من القمع والاضطهاد بسبب شعار الامة العربية. ولما كانت الدساتير هي ضمانة وتطمين فان المساومة جاءت هكذا ورعت هذه المساومة الجامعة العربية نفسها ممثلة العرب والانظمة العربية.
ان النص على عروبة العراق اثار اشكلات ليست بريئة.نحن نعترف ان العراق بلد عربي, وان الشيعة هم اول من نادى بعروبة العراق في عشرينات القرن الماضي ونادوا باحد انجال الشريف حسين ملكا دستوريا على العراق. اذن, فان العروبة والدستور متلازمان في العراق تاريخيا. وكانت دساتير العراق السابقة تنص على ان العراق جزء لايتجزأ من الامة العربية. ان النص جيد, ولكن ماذا كانت النتيجة. النتيجة ان نظام صدام خلق مشكلة مع جميع البلدان العربية بلا استثناء واعتبر نفسه ممثلا للامة العربية دون سواه, وان نظام البعث الفاشي هو النظام الوحيد الصالح ويجب ان يفرض بالقوة والعدوان.
هذا لايعني ان نتنكر لعروبتنا. فالعراق عشائر عربية حتى قبل الفتح الاسلامي. وائمته احفاد الرسول العربي, ولغته لغة القرآن. واشهر شعراء الامة العربية عراقيون من الفرزدق والمتنبي حتى الحبوبي والجواهري ونازك الملائكة والسياب.
لتاكيد حقائق المجتمع العراقي التي كشف عنها سقوط الطغيان فان الدستور وقف عند حق الدين وحق السياسة ولم يجعل حق احدهما مصادرا لحق الاخر. فقد نصت المادة الثانية على ان:
(اولاً- الاسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر اساس للتشريع:
أ- لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.
ب- لايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ج- لايجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.
ثانياً- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية.)
هل نشهدا تناقضا ام توافقا هنا؟
قبل الاجابة لابد من القول ان الاختلاف والمنافسة والتعددية هي من ضمانات وآليات تطبيق أي دستور, اضافة إلى سيادة القانون التي تسهر على تطبيق الدستور وعدم خرقه. وقد تاكد ذلك في المادة الخامسة التي تقول:
(السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري المباشر وعبر مؤسساته الدستورية.)
ولاعطاء الية لهذه السيادة فان المادة السادسة نصت على ان
(يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور.)
ان الدستور العراقي الجديد ليس نصا فحسب, وانما هو ارادة موزعة على مصالح الاطراف التي رات فيه ضمانى لها جميعا بمن فيه السنة الذين قاطعوا الانتخابات واعطي لهم حق المشاركة الذي تخلوا عنه في انتخابات الجمعية الوطنية المكلفة صوغ الدستور.
ان الدين ممثل في الفقرة الف من المادة الثانية التي تثبت احكام الاسلام وقد ناضلت القوى الاسلامية من اجل تثبيت هذا الحق.كما ان الديمقراطية ممثلة في الفقرة باء من نفس المادة التي تثبت كبادئ الديمقراطية. لكن, علينا ان نعترف بان الاحكام والمبادي بقيت غامضة وعرضة لتفسيرات واختلافات في المستقبل, كما انها يمكن ان تكون لغما قابلا للانفجار وفق تغيرات موازين القوى لاحقا.اذ ان من الخطورة بمكان ان يكون الدستور عرضة للتاويلات والتفسيرات المختلفة, وليس من المفيد دائما اللجوء إلى المحكمة الدستورية التي ستكون بدورها حائرة امام نص فضفاض وعريض لم يحدد احكام الاسلام بدقة ولم يحدد مبادئ الديمقراطية بدقة.
رافق كتابة الدستور كثير من التعقيدات والمواقف الحزبية والكتلية.ربما لم يكن ملائما ان تناط كتابته بهيئة يربو عدد اعضلئها على سبعين عضوا وبفترة قياسية لم تنضج خلالها كثير من المؤثرات ذات العمر الطويل التي تصون الوحدة الوطنية وترسي القيم الدستورية الدائمة. لذلك تم تدارك ذلك بتضمين الدستور فقرة تجيز للبرلمان القادم تغيير بعض بنوده. ورغم الايجابيات في هذه الفقرة الا ان السلبيات كثيرة اذ تجعل من الدستور مؤقتا من جديد وقابلا للتغيير في كل دورة انتخابية مما يفقد البلد استقراره.
من الامور التي اسئ فهمها موضوع الفدرالية. لقد تم اقرار الفدرالية الكردية في ممؤتمر صلاح الدين عام 1992 للمعارضة العراقية. ولقيت سوء فهم اقليمي وعربي وماتزال.ان حل المشكلة الكردية يحتاج إلى نص دستوري صريح, وهو مانص عليه قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية والدستور الحالي. والنص ضمانة للاكراد استطاعوا تطبيقها بالاتفاق مع المكونات الاخرى خاصة الشيعية. وهي ضمنت بقاء الاكراد في عراق موحد واتحادي.
فتح مبدأ الفدرالية الابواب واسعة امام المخاوف والتكهنات, كما فتح الباب واسعا امام افتراضات من نوع هل الفدرالية كيان سياسي ام قومي ام اداري, ام انه مقدمة لتقسيم العراق وانفصال مدن ومحافظات عنه.
اثارت الفدرالية المناطقية زوبعة من الاعتراضات. ان اعطاء كل محافظة او أكثر حق تكوين فدرالية قد اضعف الدولة وقسم مركزيتها على وحدات صغيرة يفترض ان تكزن ادارية فاذا ببعضها يمارس نوعا من الاستقلال السياسي والاقتصادي. ان النظام اللامركزي متبع في اغلب دول العالم الحديثة, ولكنه خاضع لوحدة سياسية وعسكرية واقتصادية تضفي على الدولة هيبتها وقوتها وقدرتها على ادارة اقاليمها بشكل دستوري يمنحها الصلاحيات اللازمة. لكن مفهوم الفدرالية اكما ورد في الدستور العراقي اضعف المركز وهمش صلاحياته ونزع عن القوة الاقتصادية للدولة قدرتها على التوزيع العادل للثروات اذ جعل من المحافظات سلطة عليا فوق المؤكز في كثير من الاحيان.
كنا ومانزال مع دستور يضمن حقوق جميع العراقيين خاصة المحرومين منهم على مدى عقود بل قرون.ورغم نواقص الدستور الا انه نص في المادة السابعة على انه:
اولا: يحظر كل كيان او نهج يتبنى العنصرية او الارهاب او التكفير او التطهير الطائفي او يحرض او يمهد او يمجد او يروج او يبرر له، وبخاصة حزب البعث الصدامي في العراق وتحت اي مسمى كان، ولايجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً- تلتزم الدولة محاربة الارهاب بجميع اشكاله، وتعمل على حماية اراضيها من ان تكون مقراً أو ممراً أو ساحة لنشاطه.
وهذا يمهد لصيانة الوحدة الوطنية العراقية وينفي امكانية الاستخدام اللاقانوني لقضايا القوميات والاديان والمذاهب خاصة وان جميع هذه المكونات اصبحت قادرة دستوريا على التعبير عن قضاياها.
اما فيما يتعلق بدول الجوار فان المادة الثامنة نصت على مايلي:
يرعى العراق مبادئ حسن الجوار، ويلتزم عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، ويسعى لحل النزاعات بالوسائل السلمية، ويقيم علاقاته على اساس المصالح المشتركة والتعامل بالمثل، ويحترم التزاماته الدولية.
لقد خاض النظام العراقي البائد حروبا مدمرة جعلت من العراق خرابا كما جعلته ضعيفا ومستهدفا. وكان تهديدا لدول الجيران. اما الان فان الدستور يحاول تلافي اثار الماضي المدمرة ويرمم ما امكن من علاقات حسن جوار رغم التدخل غير المقبول في الشأن العراقي من بعض تلك الدول.
لايخفى ان الدستور العراقي يعتبر استثناء في دساتير المنظقة واعرافها السياسية. ولذلك لن يتم فهمه او استيعابه بسهولة. وسيظل يثير زوابع من النقد والتجريح. فلم يكن معهودا ان تتاح لكل طائفة حرية التعاملات واجراء المعاملات وفق تعاليمها. فقد نصت المادة التاسعة والثلاثون على مايلي:
العراقيون احرار في الالتزام باحوالهم الشخصية حسب دياناتهم او مذاهبهم او معتقداتهم او اختياراتهم وينظم ذلك بقانون.
كما نصت المادة الاربعون على:
اولاً ـ اتباع كل دين او مذهب احرار في:
أ ـ ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية.
ب ـ ادارة الاوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً ـ تكفل الدولة حرية العبادة وحماية اماكنها.
المادة” 41 “: لكل فرد حرية الفكر والضمير.
هذه الفرادة ليست معهودة, وتبدو تقسيما او تجزئة. ولكن الدساتير تاتي عادة لتعطي كل ذي حق حقه. واذا كان الدستور مايزال لم يحسم بعد اشكاليات كبرى مثل الفدرالية وعلاقة الدين والديمقراطية بالدولة فلان العراق مازال يغلي بالاحداث والافكار والمنافسات والصراعات المشروعة. اما غير المشروعة فهي اصلا ضد الدستور مهما كان لونه وطعمه.
- الديمقراطية في المفهوم الغربي: د. نبيل ياسين
الديمقراطية في المفهوم الغربي عنوان لانظير له في العربية لان الديمقراطية نشأت في الغرب اصلا,وهي كنظام سياسي اولا نتاج تطورات الفكر والفلسفة في اوروبا والولايات المتحدة, تلك التطورات التي كانت نتيجة, واصبحت في سياق تطورها سببا , لاحداث سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى في اوربا.
ان مشكلتنا في العالم العربي هي اننا نتعامل مع الديمقراطية كمنتوج غربي لايصلح لمجتمعاتنا, وهو تعامل يخفي تحته تراثا من الاستبداد ويحافظ على هذا الارث بحجة رفض الغرب.
لا اريد ان اشغل نفسي بتعريفات الديمقراطية واختلاف انماطها وتنوع اساليب ظهورها في دول الديمقراطيا الاوربية, فما يهمني هنا هو الاسس الجوهرية للديمقراطية التي اصبحت قاعدة تطور النظام السياسي للديمقراطية. وساكتفي بوصف عام لها . فالديمقراطية الحديثة نظام مؤسسات توزع السلطة على عدة هيئات تستمد شرعيتها من السيادة العامة للشعب.
خرجت الديمقراطية من ازمات القرن السابع عشر. سواء الازمات الاقتصادية والمجاعات والثورات الفلاحية, او الازمات السياسية من استبداد وحروب, والازمات الدينية والفكرية المتلاحقة.وتوجه الانتباه إلى التساؤل عن السيادة وواجبات الملك والقوانين والمنافع والمبادئ ,وانتقال التجارة من السيطرة الكاثوليكية في اسبانيا وايطاليا إلى انجلتراوهولندا والمانيا حيث ازدهر الفكر السياسي مع ازدهار التجارة وتطور الراسمالية, وصدرت اهم المؤلفات لهوبز واسبينوزا ولوك, خاصة المؤلفات التي ركزت على البحث في الحقوق , وتطور البحث في الحقوق الطبيعية التي شكلت في منتصف القرن العشرين جوهر الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
هذه النقطة الجوهرية هي اصل العلمانية, فالتصور الطبيعي للحقوق منفصل عن الدين, وتطور الامر إلى انتشار منابر وتيارات القانون الطبيعي الذي يناقش تطور الحقوق خارج الاطار الديني الذي كان يركز على حماية الاقطاعيين وكبار الملاك ضد الفلاحين وقطاعات الشعب الاخرى التي بدأت تدخل في قطاعات الراسمالية التجارية وتطالب بحقوق الافراد وتوسيع المنفعة لتكون منفعة عامة وليست حكرا على النبلاء والاقطاعيين والملوك .بذلك اعطي للعقل دور مهم في الواجبات وليس في البحث عن الحقوق فحسب. وقال غروسيوس المنظر الاول للحقوق الطبيعية ( ان الناس يقررون بالاجماع الخضوع لسلطة مشتركة, وهم ميالون بطبيعتهم نحو المجتمع المنظم والهادئ, والقانون هو حصيلة الغريزة الاجتماعية).
ان الديمقراطية نقيض العنف. لانها حين تركز اليات انتقال السلطة في اطار حقوقي متفق عليه في نص دستوري فعال, تتيح للتداول السلمي ان يكون عملية تكرارية تحدث آليا وبشكل سلس.كما ان الديمقراطية تنظيم لمجموعة من المؤسسات والاليات الفعالة التي تلتزم باطار قانوني لنشاطها كل على حدة او بمجموعها.ان الانتخابات هي قرار اجماعي للناس يخضعون له لاختيار من يقوم بادارة شؤونهم. فالسلطة في الديمقراطية في الواقع هي للانتخابات وليس للسلطة بمفهومها الحكومي.
اشار غروسيوس إلى ان حق التملك هو حق طبيعي وان الاستيلاء على ملك أخر ضد ارادته هو جريمة من خلال القانون الطبيعي.
لقد اعادت فلسفة الحقوق الطبيعية تاريخ هذه الحقوق إلى ماقبل الاديان.واعتبرت ان هذه الحقوق مولودة مع الانسان وليست مكتسبة, وبالتالي فعي ليست منحة من الدولة او من الدين او من الملك.
كانت ثورة 1649 في انجلترا فاتحة لعهد جديد من التساؤلات عن طبائع الحكم والقوة والحقوق والمنفعة والدين والسياسة.وبعد قطع علاقات انجلترا مع روما انطلقت المناقشات التي تبحث في دور الكنيسة في الدولة وظهرت اطروحة الكنيسة القومية ردا على هيمنة الكنيسة الكاثوليكية.
في تلك المرحلة صدر اهم كتابين سيطرا على الفلسفة الانجليزية, وفتحا طريق السجال حول الليبرالية التي مهدت الطريق للديمقراطية, وهما (لفيتان) لهوبز الذي صدر عام 1651 و(حول الحكومة المدنية) لجون لوك, وصدر بعد ثورة 1688
تقوم الديمقراطية على مبدأ اساسي صاغه جون هوبز ولوك هو المواطنة. وهو الفرد الذي يتمتع بحريته في الاختيار دون ضغط, كما تقوم على سيادة القانون الذي يضمن امن واستقرار المجتمع كما يضمن حق تداول السلطة سلميا ودون عنف ويضمن احترام وتطبيق الدستور.وتقوم الديمقراطية الحديثة على مبدأ التسامح القومي والديني والثقافي ايضا. وبذلك تصون حقوق جميع مكونات الشعب الذي يينتمي إلى دولة واجبها السهر على حقوق مواطنيها وتقديم فرص السعادة لهم.
ان الديمقراطية الحديثة قامت على نمطين من العلاقة بالدين: ديمقراطيات شهدت فصلا بين حكم الكنيسة وحكم الدولة , وبالتالي تركز هذه الديمقراطيات على التنمية السياسية ووالاقتصادية القائمة على تحرير السوق وراس المال, وديمقراطيات مايزال للدين نفوذ قوي فيها فتضيف إلى نشاطها عدم السماح للاكليروس ورجال الدين بالهيمنة على الحياة السياسية والقرار السياسي.
هناك حقيقة تاريخية هي ان اختراع الطباعة ساهم في ترسيخ الديمقراطية الحديثة , حيث اتاحت الطباعة نشر الكلاسيكيات الفسلفية اليونانية حول مفاهيم الدولة والشعب والقانون, وكذلك نشر الكتاب المقدس الذي كان محتكرا من قبل رجال الكنيسة. وبانتشار افكار الكتاب المقدس انتشرت افكار الجدل والتفسير وظهرت حركة تنويرية ضد الاقطاع الذي ارتبط بالكنسية وضد الاستبداد الذي ارتبط بالاثنين. وساهمت هذه الحركة التنويرية في اطلاق عصر النهضة الذي شهد الجدل والصراع بين الفسفة الحديثة والعلوم التي بدأت اكتشافات جديدة في الفيزياء والفلك والبيولوجيا والانثربولوجيا قامت على التجربة والمختبر والتشريح والتحليل الكيمياوي للعناصر وبالتالي وجدت الاكتشافات الجديدة نفسها في تناقض مع ثوابت الكنيسة في عدة مجالات.
لم تكن ولادة الديمقراطية يسيؤة ولا قصيرة. لقد اقتضت اربعة قرون من التضحيات والصراعات والثورات واعمال العنف ومن الصراع الايديولوجي والفلسفي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ومن التحريم والتكفير والنفي والاحراق الذي يمكن متابعة وقائعه في الكتب والموسوعات.
قبل الديمقراطية الحديثة كانت الكنيسة فوق الدولة, وكانت الهيئة الدينية تقرر الاحكام والقوانين, ولكن حركة التنوير والاصلاح والنهضة نجحت في ان تجعل الدولة فوق الكنيسة وان تضع دساتير اوجبت احترامها على الجميع لانها المرجعية القانونية للتوازن السياسي والاقتصادي للمجتمع. ففي الديمقراطية الحديثة تعمل الدولة تحت سيادة القانون وليس العكس, أي لايخضع القانون لتوجيه الدولةاو الهيئة الدينية.
ان الدولة الحديثة دولة ديمقراطية أي حقوقية, أي ان جميع النشاطات والافعال السياسية تصاغ في اطار حقوقي قانوني.والنظام الديمقراطي موضوع تحت المراقبة المستمرة بوسيلتين: هما الاجراءات الانتخابية البرلمانية والنظام الاداري اللامركزي.الوسيلة الاولى لاختيار فريق الحكم وبرامجه وقدرته على تلبية مطالب الامة الناخبة ويقوم البرلمان بالتعبير عن تلك المطالب عبر تفويض الناخبين ولذلك تكون السلطة الحاكمة خاضعة للمسرولية امام جمعية منتخبة او امام الشعب, لذلك يقال ان الدولة الحديثة دولة حقوقية أي ان تصرفات الحكومة تخضع لقواعد ثابتة يستطبع حميع الافراد مطالبة الحكومة باختلاامها ومراعاتها ولاتستطيع الحكومة خرقها لانها تخرق القانون الذي جاء بها للحكم. فتشابك عمل الدولة وعمل الحكومة ينسج حولها شبكة من التعقيدات والقيود الحقوقية التي لاتسطيع خرقها.
من المفكرين الذين ارسو ديمقراطية الغرب توكفيل الذي يوصف باكبر المرلفين الليبرالين في عصره في منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا.الذي دؤس تاثير الديمقراطية على المؤسسات في كتابه( الديمقراطية في امريكا) وهو يقول: اني احب المؤسسات الديمقراطية بعقلي.. اني احب الحريو والشرعية, واحترام الحقوق حبا شديدا) وديمقراطيته تدعو إلى اللامركزية الادارية, واقامة الجمعيات, والمزايا الاخلاقية كالحس بالمسؤولية ومحبة الخير العام وهو مثل مونتسكيو يؤمن باولوية الاخلاق على السياسة.
اذن النظام الديمقراطي نظام اخلاقي من زاوية تحمل المسؤولية وتبعاتها كالنزاهة والشفافية واحترام المال العام وغيرها.
لقد ساهمت في فلسفة هيغل في المجال الديمقراطي بتثبيت ان العقل هو جوهر التاريخ, لان التاريخ لدى هيغل هو تاريخ الفكر. وان فكرة المجتمع المدني لديه هي ان الدولة تكون حين يجد كل مواطن داخل المجموعة مايرضي المصالح التي يراها معقولة)لذا فان الدولة عند هيغل تتحقق بالحرية التي توجد فيها, وهذه الحرية لاتوجد الا اذا استطاع المواطن العاقل ان يجد فيها ارضاء الرغبات والمصالح المعقولة التي يراها ككائن مفكر, وان الكائن العاقل يمكن ان يعترف لعدالة قوانين الدولة.
ان الدولة الديمقراطية دولة دستورية أي ان مبدأ سيادة الشعب عبر الانتخاب العام يعد اساس النظام الديمقراطي ان الدولة الديمقراطية هي دولة تخضع فيها جميع القرارات السياسية لقواعد واسس واصول ثابتة وواضحة يمكن التعرف عليها عبر العرف اوالنص ولذلك فان جميع القرارات تخضع للنقد والمناقشة والتصويت.
ان الدولة الديمقراطية دولة يعرب دستورها عن احتوائه على بيان بحقوق الانسان السياسية والاجتماعية والثقافية وبضمنها الحقوق الدينية.
ان الدولة الديمقراطية تملك نظاما قضائيا يعمل على ابعاد القضاء عن المنافسات السياسية ويملك قضاة يبعدون هذا النظام عن الصراع الحزبي والسياسي وعن تاثير الحكومة.
في المجال الاقتصادي خاضت الديمقراطية نضالا ضد هيمنة راس المال ايضا. ففي نضالات أدم سميث وديفيد ريكاردو تم التاكيد على حماية راس المال من تعسف الدولة, وتحديد ساعات العمل, وتحديد الاجر الادنى وتقييد قوة راس المال بقوانين الضريبة ومحاربة الاحتكار
تواجه الديمقراطيات المعاصرة ظاهرة جديدة تتلخص بتراجع دور السياسة وتنامي دور الاقتصاد, بحيث اصبحت السياسة الديمقراطية خاضعة لنفوذ راس المال , الامر الذي يهدد الديمقراطية تهديدا خطيرا يوازي التهديد الذي واجهته الديمقراطية بتنامي نقوذ الاحزاب التي يمكن ان تميل دفة الديمقراطية إلى منعطفات خطيرة تصادر دور الشعب باعتباره صاحب السيادة لتصبح الاحزاب الكبيرة والمهيمنة هي صاحبة السيادة باسم الديمقراطية.
يقول الان تورين في كتابه(ماالديمقراطية): ان الفكر الديمقراطي قد ثبت في انجلترا استقلال الفرد والمجتمع المدني, اما في فرنسا فكانت الغلبة للبحث المعاكس عن نظام عقلاني وعن تماثل تام بين الانسان والمواطن وبالتالي بين المجتمع والدولة. لقد تشكلت الديمقراطية ضد الدولة الحديثة بل وضد دولة القانون التي غالبا ماكانت في خدمة الملكية المطلقة أكثر منها في خدمة حقوق الانسان)ص 66
يفتح تورين هنا جرح الديمقراطية الذي عانت من اوجاعه حين كانت دولة القانون غير كافية لتؤسس عدالة اجتماعية لان دولة القانون كانت تحمي حقوق الملكية المطلقة وكبار الملاكين والنبلاء بدون ان تكون المساواة متحققة . لذلك لم تكتمل الديمقراطية الغربية الا بالاعلانات والصكوك والمواثيق والعهود الامريكية والفرنسية والعالمية الخاصة بحقوق الانسان بحيث اصبح مفهوم الدستور متضمنا بيانا بحقوق الانسان كما ذكرنا من قبل.
ليست الديمقراطية الحديثة هي الخير المطلق, ولكنها النظام الافضل حتى الان لتجنب الاستبداد. ساكتفي بثلاثة افكار حول الديمقراطية.
يقول مونتسيكيو في (روح الشرائع) (حين تمسك الأمة في النظام الجمهوري مقاليد الأمور بيدها، يكون هذا النوع من الحكم ديمقراطية)(إن هذا واحد من المبادئ الأساسية لهذا الحكم، وهو أن الشعب نفسه يعيّن من يتولون زمام أموره بأيديهم)
اما جان جاك روسو فيقول في العقد الاجتماعي:
(وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً)
في حين يقول هارولد لاسكي في كتابه الحرية في الدولة الحديثة عن الديمقراطية بأنها: (عبارة عن أطار لحكومة يتوفر فيها أولاً: إعطاء الناس الفرصة لصنع الحكومة التي يعيشون في ظلها. وثانياً: إن القوانين التي تصدرها هذه الحكومة سوف تربط الجميع بدرجات متساوية)
على نمط هذه الافكار هناك الاف الافكار التي تنتقد الديمقراطية او تعرفها وفق سياقات مختلفة.
غير ان المنظومة الحقوقية للديمقراطية هي الاهم. فالاطار الحقوقي للديمقراطية يتمثل في
اولا: سيادة القانون التي تكون فوق الدستور لانها تصون الدستور وتحميه من الانتهاك والخرق.
ثانيا: دستور يكون بمثابة المرجعية المشتركة لممارسة السلطة ولقياس شرعية عملها وقانونيته.
ثالثا: الاحزاب التي تمارس النشاط السياسي وتكون اما في الحكم او معارضة للحكم في اطار دولة مؤسساتية فوق الحكم والمعارضة.
يقول جاك دونديو دوفابر في كتابه( الدولة): في الديمقراطيات الغربية تقتضي حرية المناقشة تعدد الاحزاب.. وينشأ عن ذلك مواجهة مستمرة بين تصرفات الحكومة ونقد المعارضة. ان ضرورة هذا التعدد وهذا الحوار تتمتع بطابع اجتماعي وسياسي في ان واحد) ص 24
ان وجود المعارضة الربلمانية شرط اساسي للديمقراطيات الغربية, وهذا الشرط يحقق مفهوم الاغلبية والاقلية.
يبقى ان نتساءل الان وربما تساءلنا منذ البداية : هل الديمقراطية اله جديد يفوض البرلمان اصدار التشريعات؟, وهل الديمقراطية تفويض شعبي ردا على التفويض الالهي والحكم المطلق؟
لا.
يقول لاري ديموند في كتاب الثورة الديمقراطية في دراسته عن المجتمع المدني والنضال من اجل الديمقراطية( يوما بعد يوم تتحول الثورة الديمقراطية إلى ثورة عالمية شاملة مع اختصارالمسافات بواسطة الطيران والنشاط التجاري والاقمار الصناعية والفاكس والسي ان ان. يصبح العالم قرية جامعة ويصبح التاثير المتبلدل بين الدول أكثر كثافة وعمقا وتعقيدا. الافكار والاساليب التقنية والمبادئ والناس والبضائع والخدمات كلها تتخطى الحدود بنسب اخذة في التزايد)ص 30
طبعا , بما ان ديموند كتب هذا في عام 1990 فانه لم يذكر الانترنيت. وشيوع الديمقراطية كنظام عالمي هو فكرة غربية ايضا وهي مسعى لاسباب عديدة ثقافية واقتصادية بالدرجة الاولى ثم اضيفت اليها اسباب امنية كما في حربي افغانستان والعراق.
الديمقراطية نظام سياسي يقوم على الاليات التي ذكرناها ويمكن للاخلاقيات ان تكون حزء منه, وهي في الواقع جزء اساسي من الديمقراطية ولكن لذلك بحث أخر.
** ورقة مقدمة إلى المؤتمر السنوي للشهيد الصدر – لندن 15 مايس2005
- من اجل الدولة – د. نبيل ياسين
الفيلسوف هوبز يعتبر الدولة شخصا واجدا يجسد المجموع العام بشؤط ان يتم ذلك برضى كل الذين يتكون منهم هذا الشخص.
دولة العراق تحتاج إلى مثل هذا التجسيد من قبل كل العراقيين. نعرف ان الدكتاتورية تملك الدولة والسلطة والمجتمع والفرد, تملك الدولة كماكنة لانتاج القمع وتبريره, والسلطة لتنفيذ هذا القمع وتعميمه, والمجتمع كحقل لزراعة القمع و والفرد كصيد لابد ان يقع في الفخ.
لذلك ناضل العراقيون ضد الدكتاتورية من اجل الديمقراطية.فالدولة يجب ان تكون هوية و مظلة يتفيأ ظلها الجميع, والسلطة لتنفيذ وتحقيق مصالح المواطنين, والمجتمع حرا تتوفر له مؤسساته المدنية وتتحقق له فرص متكافئة وعدالة في الحصول على الحقوق والوظائف والامن والسكن والصحة والتعليم والفرد مواطنا فوق الانتماء الحزبي.
لكن مايحدث في الدولة العراقية اليوم يثير أكثر من سؤال عن هوية الدولة. فليس من المعقول ان يكون الاعتقال عشوائيا فيتضرر البرئ ويتنفع المذنب, وتختلط الاوامر بحيث لاتصبح هناك هيبة للقانون والمراتبية العسكرية والوظيفية, وليس من المعقول ان تكون حتى الاجازة حقا للحزبي والمقرب دون غيره, وليس من المسر ان تكون الدولة ممزقة كرغيف الخبز على مائدة اللئام.
صاغ غروسيوس نظرية الحق الطبيعي, وهي تعني ان الانسان يولد فتولد معه حقوقه مثل الحرية والتغذية والنشأة والحياة والعمل والمعرفة وغيرها, وليس الحصول عليها منة من حكومة او دولة او دين . واشار غروسيوس إلى ان حق التملك هو حق طبيعي, وان الاستيلاء على ملك أخر ضد ارادته هو جريمة من خلال القانون الطبيعي.
لقد كانت نظرية الحق الطبيعي اصل العلمانية في الليبرالية الغربية, فالحقوق ازلية وليست مكتسبة من سلطة او دين. وهذه النظرية نجد لها تعبيرا لدى كثير من المسلمين الذين يؤكدون ان الاسلام دين الفطرة.اي ان الحقوق التي نص عليها مولودة مع فطرته وهي حقه الطبيعي كانسان قبل ان يكون ذا صفة اخرى قومية او دينية او مذهبية.
لقد اعادت فلسفة الحقوق الطبيعية تاريخ هذه الحقوق إلى ماقبل الاديان. واعتبرت ان هذه الحقوق مولودة مع الانسان وليست مكتسبة, وبالتالي فهي ليست منحة من الدولة او من الدين او من الملك.
الدولة الحديثة دولة حقوقية أي ان تصرفات الحكومة تخضع لقواعد ثابتة يستطيع جميع الافراد مطالبة الحكومة باحترامها ومراعاتها ولاتستطيع الحكومة خرقها لانها تخرق القانون الذي جاء بها للحكم. فتشابك عمل الدولة وعمل الحكومة ينسج حولها شبكة من التعقيدات والقيود الحقوقية التي لاتسطيع خرقها.
من المفكرين الذين ارسو ديمقراطية الغرب توكفيل الذي يوصف باكبر المؤلفين الليبرالين في عصره في منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا. درس توكفيل تاثير الديمقراطية على المؤسسات في كتابه( الديمقراطية في امريكا) وهو يقول: اني احب المؤسسات الديمقراطية بعقلي.. اني احب الحرية والشرعية, واحترام الحقوق حبا شديدا) وديمقراطيته تدعو إلى اللامركزية الادارية, واقامة الجمعيات, والمزايا الاخلاقية كالحس بالمسؤولية ومحبة الخير العام وهو مثل مونتسكيو يؤمن باولوية الاخلاق على السياسة.
اذن النظام الديمقراطي نظام اخلاقي من زاوية تحمل المسؤولية وتبعاتها كالنزاهة والشفافية واحترام المال العام وغيرها.
لقد ساهمت فلسفة هيغل في المجال الديمقراطي بتثبيت ان العقل هو جوهر التاريخ, لان التاريخ لدى هيغل هو تاريخ الفكر. وان فكرة المجتمع المدني لديه هي ان الدولة تكون حين يجد كل مواطن داخل المجموعة مايرضي المصالح التي يراها معقولة لذا فان الدولة عند هيغل تتحقق بالحرية التي توجد فيها, وهذه الحرية لاتوجد الا اذا استطاع المواطن العاقل ان يجد فيها ارضاء الرغبات والمصالح المعقولة التي يراها ككائن مفكر, وان الكائن العاقل يمكن ان يعترف لعدالة قوانين الدولة.
- عن الدولة.. عن الانتخابات.. وعن واقع العراق – د.نبيل ياسين
تبدو الدولة بعدة اشكال: مخيفة مثل وحش حين تلبس قناعها سلطة دكتاتورية. وماكنة لانتاج السعادة والفرح كما يريدها التنويري الفرنسي الموسوعي ديدرو او الفيلسوف الليبرالي الانجليزي ميل, او طائر شجاع مثل نسر يلقي باجنحته على مواطنيه لحمايتهم,وكيان يشكله مواطنون ليكون هوية قومية او ثقافية لهم,او سلسلة مؤسسات تتعاضد لتستقبل بوجهها الحيادي حكومة فائزة في الانتخابات وتودع حكومة خسرت الانتخابات. الدولة تنشأ وتشب وتشيخ وتتجدد بين ماكنات الاقتصاد والسياسة والثقافة والحروب ايضا.
الدولة صنيعة. الدولة حاجة, الدولة افتراض عبر اتفاق بان تكون وحدة حقوقية لهوية قومية او ثقافية لو تجارية.الدولة كيان لزمكان متحد مع مصالح المجموعة او المجموعات التي تعايشت وتجاورت في هذا الزمكان.ولكن هناك خطورة ان يقوم دستور الدولة بتفكيك الدولة واضعافها وجعلها حالة خاضعة لطموحات زعماء واحزاب وسياسيين وقوميات واديان ومذاهب وجماعات.
فما يميز الدولة, حسب هيغل, هو ان العلاقات بين الناس , أي المواطنين, محكومة بواسطة قوانين الدولة. والدولة هي مجموعة المصالح الخاصة عند هوبز الذي يقرر ان الدولة تفقد مبرر وجودها اذا لم تحقق الامن. وهذه النقطة هي التي يتم التركيز عليها من قبل جميع اعداء اعادة تشكيل الدولة في العراق.وقد تحدثت عن زيارة وفد اهالي تكريت إلى رئيس الوزراء ومطالبتهم بحقوقهم, وتغلبت , لدى بعض الاصدقاء, العاطفة وعمق الالم وجراح الماضي القريب التي لم تندمل بعد على القدرة على التسامح والعفو وحق الجميع بالعيش في امان وخبز. ان العراق اليوم محروم كله ومعاقب كله من قبل الارهاب ومن قبل تراكم الاخطاء والاصرار على تكرارها ومن قبل الانانية السياسية والحزبية , ومن قبل اللاءات المتعددة: لا ماء, لا كهرباء, لا وقود, لا عمل, لا امن. ومن قبل خيبة الامل التي ظهرت بعد انتخابات لامثيل لها, ومن قبل اختفاء 59 مليار دولار خصصت لاعمار العراق منها 21 مليار كانت من متبقيات برنامج النفط مقابل الغذاء, ومن فقدان 9 مليارات دولار من ميزانية العراق في العام الماضي ,. فحسب مصدر في البنك المركزي كانت واردات العراق من النفط قد بلغت 19 مليار دولار ولكن لم يدخل منها إلى البنك المركزي سوى عشرة مليارات, ومن قبل استشراء النهب والفساد والرشاوى بحيث ان عقدا بين حكومتي جيكيا والعراق للتبادل الثقافي قيمته 12 مليون كرونة أي مايعادل أكثر من نصف مليون دولار تحول من عقد للحكومة إلى جيب شخص وشركته التي تولت التبادل الثقافي على طريقتها الخاصة, فاية حكومة في العالم توقع اتفاقية وتذهب بنود الاتفاق المالي إلى حساب شخص.
كل السبب يا اعزائي هو غياب الدولة. واذا غابت الدولة غاب القانون, واذا غاب القانون, غابت حقوق المواطنين واصبحت كل مدن العراق عرضة للعقاب الجماعي من قبل الاطراف المستفيدة من غياب الدولة ومن استمرار غياب مؤسساتها.
واذا صح التقرير الذي نشرته النيويوركر عن قيام جهات امريكية وعراقية بتزوير الانتخابات لصالح جهات موالية , تكون الامور قد سارت من سئ إلى اسوأ . ينقل الصحفي كاتب التقرير عن مسؤولين اميركيين معلومات عن تخويف الناخبين والرشاوى واضافة بطاقات فائضة وتزوير النتائج,ويضيف: ولكن لم يكن بالامكان تحديد حجم التدخل الامريكي والظروف التي تم بها. واذا صح ذلك وصحت المعلومات الواردة في التقرير الصحفي فان الديمقراطية تكون قد تعرضت لضربة سكين في خاصرتها, فالتقرير يمضي قائلا: وهناك, ايضا احتمال قوي بان يكون العراقيون انفسهم قد حاولوا تزوير الاصوات بمساعدة الامريكيين او دونها وتبعا لما قاله مستشار حكومي امريكي على علاقة وثيقة بالمسؤولين المدنيين في البنتاغون, بان سلطة التحالف تقبلت تزوير الاصوات من جانب …(.وقد حذفت الجهات التي يذكرها التقرير فالمسالة اكبر من جهتين سياسيتين , اذا انها تتعلق بغياب القانون مرة اخرى وبغياب الدولة) ويؤكد كاتب التقرير: قال لي مسؤول رفيع في الامم المتحدة على علاقة مباشرة بالتخطيط للانتخابات العراقية بان على مدى اشهر سبقت الانتخابات ظل يحذر رؤساءه وسلطة التحالف بان التصويت تبعا للخطة التي وضعت له لن يوفر الشروط التي تضعها الامم المتحدة, فقد تجلى في يوم الانتخاب ضعف النظام الانتخابي وامكانية التزوير. يقول المستشار الحكومي الامريكي صاحب العلاقة الوثيقة بالبنتاغون ان المنظمات غير الحكومية نشرت معظم المراقبين في المناطق الشيعية والكردية, في حين ان التزوير لصالح … حصل في المناطق (الاخرى) ويوضح قائلا: في اية انتخابات, لا يكون هناك ابدا العدد الكافي من المراقبين, ولاجل تفعيل عملهم لا يتم الاعلان مسبقا عن المواقع التي سوف يقصدونها. اما في العراق فان المطلعين على العملية (ويقصد بهم العملاء المتورطين في التلاعب بالانتخابات من عراقيين وامريكيين) كانوا قد احيطوا علما بالمواقع التي سيتواجد فيها المراقبون وتلك التي سيغيبون عنها) وكما توقعت ادارة بوش, جاءت نتائج الانتخابات على النحو الذي يحتم قيام تحالف بين الاحزاب التي لم يستطع اي منها الحصول على اغلبية حاسمة في الجمعية الوطنية .
انتهى ما اقتطفته من التقرير المثير. ولا اريد ان اصدق واريد ان اكذب عيني واقول ان التقرير يستند إلى الخيال والنوايا السيئة للصحفين الذين ينجحون في نشر قصة مثيرة.
اذا نجحنا في تجاوز مطامع السلطة وانتقلنا إلى موضوعية وحيادية الدولة سنكون قد تغلبنا على اعداء الدولة في العراق, وسنكون قد بنينا قوى امن داخلي تتسلح بالقانون قبل ان تتسلح بالبندقية.
- مقارنة: ديمقرطية انجلترا وديمقراطية العراق – د.نبيل ياسين
تصح المقارنة دائما بين الاشياء مهما بعدت في المكان وتقادمت في الزمان.كثيرون يرفضون المقارنة في مسالة الديمقراطية بين الغرب والعراق والعالم العربي.يقولون ان الديمقراطية في الغرب عريقة ولها تقاليد بينما لاتزال في العالم العربي وليدة او لم تولد بعد.
كل هذا صحيح واليكم المقاربة الصحيحة التالية من تاريخ الديمقراطية الانجليزية وهي اعرق ديمقراطية حديثة:
في عام 1793 تقدم شارل جراي رئيس البرلمان بالتماس إلى مجلس العموم زعم فيه انه بين 558 عضوا في البرلمان يوجد:
90 عضوا انتخبوا في اماكن لم يكن بها ناخبون و70 عضوا انتخبتهم اماكن يقل عدد الناخبين فيها عن 100 ناخب و54 عضوا انتخبتهم اماكن يقل عدد الناخبين فيها عن 200 ناخب وان عدد الناخبين البالغين في كل بريطانيا لم يصل إلى 15 الفا من اصل 3 ملايين ناخب.
وشكى جراي من تفشي حالات الرشوة والفساد والتهديد.
وفي سنة 1830 طرد دوق نيوكاسل اربعين مزارعا من منطقته لانهم صوتوا لصالح مرشح حزب الاحرار, ولم ينفع النقد الذي وجه اليه. اما الذين لا ناخبين لهم فقد كانوا يشترون المقاعد البرلمانية. وكان ثمن المقعد غاليا. فقد باع جورج سلوين مقعد منطقة لودجرشال بمبلغ 9 ألاف جنيه. وعرض جورج فيرني 10 ألاف جنيها مقابل مقعدي منطقة ويستبري اللذين كانا ملكا للورد ابينجدون. بينما عرض مقعد سودبري في المزاد لمن يدفع أكثر. وتفاوض عمدة اكسفورد في سنة 1766 مع السير توماس ستوبلتون والسير روبرت لي ووعدهما بارسالهما إلى برلمان ويستمنستر اذا قاما بتسديد ديون المدينة. وتقول التواريخ ان متوسط ثمن المقعد في بداية القرن التاسع عشر كان 15 الف دولار وكان البعض لايشتري المقعد لارتفاع ثمنه فيستأجره بمبلغ 5 ألاف دولار سنويا.
لكن الرجال الحقيقين يوجدون دائما لنقد الفساد وتصحيح الامور. فقد عارض رجال من طراز اللورد كوشرين انتشار الفساد ورفض ان يقدم رشوة إلى الناخبين الذين اعتادوا ان ياكلوا ويشربوا مجانا لمدة اربعين يوما على حساب كل مرشح, بينما اعلن كوشرين سياسته الانتخابية(ولا سنت واحد) ولم يفز في المرة الاولى, لكنه فاز في المرة الثانية. وفي الاستجواب الشهير ضد فساد السير روبرت والبول عام 1741 قال اللورد كارتريت (ان الفساد هو فن الحكم الوحيد الذي يفهمه والبول)
كان الفساد الانتخابي وشراء الاصوات والرشوة والتهديد سمة الانتخابات العلنية. لكن اصلاح قانون الانتخابات عام 1872(لاحظوا ان التاريخ ليس بعيدا جدا عن اعرق ديمقراطية) جعل الفساد أكثر صعوبة وجعل الانتخابات سرية ثم صدر قانون(تحريم التصرفات الفاسدة وغير القانونية) عام 1883(ليس قديما جدا) ليقضي نهائيا على فساد الانتخابات وتزويرها فاستخدام كلمة تحريم كان يقتضي عقوبات مشددة تحرم المرشح من الترشيح مع عقوبات قانونية اخرى.وقد كان لبضعة افراد( عودة لدور الفرد في التاريخ الذي انكرته اللينينة وثبته بليخانوف) مثل رجل الدولة ورئيس الوزراء البريطاني وزعيم الحزب الليبرالي جلادستون دور في تطهير الشؤون العامة والسلوك العام نحو الانتخابات والتمثيل البرلماني. فحين ولد جلادستون عام 1809 كانت مظاهر الفساد الانتخابي والسياسي شائعة ومزدهرة ولكنه حين توفي عام 1898 كانت هذه المظاهر قد اختفت تقريبا, ويعد جلادستون رمزا للاصلاح السياسي في اوروبا.
اذن ليست الديمقراطية هبة من السماء نزلت على الغرب مرة واحدة وبشكلها الصحيح. فقد خاضت غمار فساد ورشوة وتهديدات وتزوير. اذن تعالوا نقارن ذلك بانتخابات تجري لاول مرة في العراق لنرى ان المقارنة تصح وضرورية وان العراقيين قادرون على بناء الديمقراطية ودولة القانون والحقوق.فقد خرج ثلاثة ملايين انتخبوا دون ضغط او اكراه ودون تزوير يضر بنزاهة الانتخابات بشكل مطلق واذا كانت هناك رشاو تذكر فانها لم تستطع ان تنصر الراشي والمرتشي وكان هناك فائزون واجهوا تحدي الخاسرين, وخاسرون يصرون على(الفوز) كما اصر صدام على (الانتصار) في ام المعارك. وكان هناك حملات دعائية لم تكن العدالة فيها متوفرة بالقدر الكافي وكان هناك رجال مثل والبول ولكن اقل سوء منه, لكن مايهم أكثر وما يحتاجه العراق أكثر هو رجال من طراز جلادستون ومن طراز عقليته ومن طراز نزاهته وحبه للاصلاح ومن طراز قبوله الهزيمة, بعد اربع انتصارات امام منافسه في حزب المحافظين رجل الدولة الاخر دزرائيلي وتسليم الحكومة له عن طيب خاطر.
تصح المقارنة ويصح ان العراق يمكن ان يكون ديمقراطيا ويصح انه ينتظر طراز رجال النزاهة والاصلاح والقضاء على الفساد.
- حمى الدستور – د. نبيل ياسين
تتصاعد حمى الدستور في العراق كما لو انها الحمى التي سينتفض الجسد العراقي بعدها سليما معافى. وهي ستكون كذلك لو احسن اختيار الفهم العقلاني والواقعي للدستور. ومايجلب الفرح ان يعنى جميع العراقيين بدستورهم ويكونوا حريصين على المساهمة في اعداد افكاره وتوجهاته. لكن الاتجاه السائد الان مع الاسف هو تمذهب الدستور والاصرار على المشاركة في كتاباته من منطلقات مذهبية وليست سياسية وحقوقية.فماعلاقة المادة السابعة مثلا من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تقول( لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه) فهي تخص الفرد الانسان المواطن بغض النظر عن مذهبه او دينه او جنسه. وماعلاقة المادة الثامنة في تمذهب أي دستور(لكل شخص الحق في ان يلجا إلى المحاكم الوطنية لانصافه من اعمال فيها اعتداء على الحقو ق الاساسية التي يمنحها له القانون) فهي تنص على الحق الفردي كمبدأ عام. وماعلاقة المادة التاسعة(لايحوز القبض على أي انسان او حجزه او نفيه تعسفا). وهذه امثلة عشوائية وليست انتقائية عن الحق والعدل والمساواة الني يتضمنها أي دستور باعتبارها اصلا حقوقا طبيعية تضمنتها الاديان والقواعد الاخلاقية.
لايجوز تمذهب الدولة والدستور.فالدولة اطار انتماء للجميع. انت عراقي اذن انت متساو في الحقوق.واذا اثيرت مشكلة تمثيل احد فلايجب ان نؤسسس العراق الحديد على الاصرار على تمثيل كل احد لان ذلك ينسف الديمقراطية وعمل القانون ايضا لاننا سنقسم القانون حسب الحصص وليس حسب سيادته على الجميع.
وثتار الان موضوعة تمثيل السنة في لجنة كتابة الدستور.علما ان كتابة الدستور ليست محاصصة ولا نسبا ولا مقاعد.
لن يحكم احد ما الدستور, لا الشيعة ولا السنة ولا الاكراد ولا التركمان ولا الكلدو اشوريون ولا غيرهم من تصنيفات ومكونات يحلو للبعض تصنيف السياسة في العراق وفقها. الدستور سيحكم هؤلاء كلهم, وسيخضعون جميعا له, وسيكون هو الحاكم الفعلي وليس الشيعة كما تدعي وسائل الاعلام ويدعي البعض.
ثمة اخطاء تتكرر وتتردد في الاوساط العراقية قد تكون قاتلة. لو كان المجلس التاسيسي الذي تاسس عام 1924 قد عرض مسودة دستور عام 1925 بشكل ديمقراطي للاستفتاء لكان الشيعة نالوا حقوقهم كاملة حتى وهم لم يشاركوا في الانتخابات التي قاطعوها ولم يتعلم السنة من هذا الدرس القاسي.
ليس المهم من يكتب الدستور ومن يشارك بكتابته. فهناك دساتير عالمية وعتيدة كتبها واحد او أكثر , والدستور الاميركي كتبه اربعة ووقع عليه ممثلو حكام اثنتي عشرة ولاية امريكية خلال سنتين من اصداره عام1787 فاصبح نافذ المفعول عام 1789.
والدستور الالماني صدر عام 1949 بعد الحرب وحين تم توحيد المانيا عام 1990 ظل ساري المفعول ول يطالب المانيو القسم الشرقي باعادة النظر فيه والمشاركة بكتابته.
المهم ماهي المبادئ والقيم الاساسية التي يتضمنها الدستور. لن يكون دين الدولة الرسمي الشيعة اذا كتبه الشيعة. ولن يكون دين الدولة الرسمي السنة اذا كتبه السنة. لن يكون القتل حلالا اذا كتبه السنة وتكون السرقة حلالا اذا كتبه الشيعة. لن يكون الظلم حلالا والعدل حراما اذا كتبه أي واحد من الكاتبين.لذا فان تمثيل السنة في لجنة كتابة الدستور لاينبغي ان يكون القشة التي تكسر ظهر الجمل.ماذا لو يمثل السنة في كتابة الدستور؟هذا ليس سؤلا طائفيا وانما هو سؤال عقلاني ديمقراطي. هل ينتظر احد عاقل ان ينص الدستور على حرمان السنة من حقوقهم؟. الدستور ينطلق من حقوق المواطنة وليس من أي حق أخر, لا حق الدين ولا حق المذهب ولا حق القومية ولا حق المدينة او حق الدربونة. وهذا يعني ان الجميع متساوون سواء ساهموا بكتابة الدستور او لم يساهموا. انا لست في لجنة كتابة الدستور. هل علي ان انتظر مصادرة حقي لان غيري سيكتب الدستور؟
المهم ايضا ليس النص فقط, فالنصوص انيقة وبليغة وعادلة ولها ديباجات بمفردات رنانة وريانة كانها ديباجات خطبة النساء التي تجعل من الرجل كانه دستور. ولكن يتضح من يوم الزفاف انه قرار من قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل.
واقترح ان يقوم السنة بتقديم ممثليهم على الشكل التالي.
عشرة من القضاة المعينين منذ أكثر من 15 سنة عشرة من المحامين والحقوقيين الذين يمارسون المهنة منذ عشر سنوات على الاقل ويحملون هويات نقاباتهم.
ثلاثة من مدراء الاوقاف السابقين خلال العشرين سنة الاخيرة اثنان من ائمة مسجد الامام ابي حنيفة في السنوات العشرين السابقة
طبعا لن اقول المثقفين والاكاديميين لان البعض سيعترض ويقول انهم لايمثلون السنة وربما هم علمانيون وغير ذلك من اقاويل.لان تمذهب الدولة ينفي المثقفين والمفكرين والسياسيين والمدنيين والتكنوقراط ويجعل من الدولة من جديد علما مرقعا وممزقا وهو مانخشى ان يحدث لان الدولة اصلا واجبها ممارسة سلطة التحكيم الاعلى في النزاع المستمر بين جميع القوى الاجتماعية, والدستور اصلا حتى لو كان نتاجا جملعيا لواضعيه فان المتعارف عليه انه لايتفق في كل فقراته مع اماني كل شخص حتى ممن سهم بكتابته, لان الدستور هو ميزان تسوية للجميع وليس ميزانا لطرف واحد.
ليس المهم التمثيل النسبي والحصصي وانما المهم مايصدر عن كل هذه الحمى التي تجتاح دستور العراق .
- الديمقراطية في العراق وتوزيع السلطة – رسائل لـ 3 رئاسات – د.نبيل ياسين
الان مرت قرابة خمس سنوات على تسلم الرئاسات الثلاث المسؤولية في العراق. اعني ان سقوط نظام صدام وتاسيس مجلس الحكم من القوى المشاركة اليوم في الحكم والدولة في العراق كان بداية الحكم الجديد.وهذه مناسبة لرؤية التجربة السياسية الجديدة وقدرتها على التاسيس الصحيح لنظام ديمقراطي دستوري قانوني يستمد شرعيته من الدستور والقانون. يمكن الاعتماد على حقيقة سياسية هي ان النظام الجديد تأسس على قيم وافكار وسلوك احزاب وتجمعات المعارضة السابقة لنظام صدام.لان النظام الجديد مفعم بروح تلك الاحزاب وبطريقة عملها وسلوكها وافكارها, الامر الذي اصبح يثير الان , وهي في السلطة والحكم, الكثير من ردود الافعال التي تقود الى توسيع الفجة بين الاحزاب ومصالح المواطنين في نظام انتخابي يفترض ان يقوم على قوة الروابط والاواصر بين الناخب والمنتخب باعتبار ان الثاني يمثل مصالح وآمال وحاجات ومتطلبات من انتخبه, ولذلك يسمى اعضاء البرلمان ممثلين للشعب.
الرسالة الاولى: الى مجلس رئاسة البرلمان وضعت قوى المعارضة السابقة التي اصبحت في الحكم قبل الانتخابات لبنات لتنظيم العملية السياسية وطبيعة النظام السياسي حرصت بشكل عام ان تكون ضامنة لوجودها في الحكم. وهو امر مشروع لحد ما مثل تشريع قانون انتخابات يعتمد على القائمة المغلقة وليس على الترشيح الفردي, وهو قانون اثبت الان انه يحتاج الى تعديل جوهري يضمن وجود نواب قادرين على تمثيل ناخبيهم ويكونون مسؤولين امامهم من جهة, ويكون الناخبون قد اختاروا شخصا بارادتهم وليس بارادة زعماء القوائم من جهة اخرى. هذا يعني ان تتوفر في النائب المرشح صفات ومعايير يقررها الناخب وليس زعيم القائمة لضمان نواب مؤهلين يتمتعون بالقدرة على تمثيل المطالب والحاجات ويدركون الواقع السياسي وتطوراته. واسوق مثلا واحدا من بريطانيا وانا اقول دائما ان المقارنة مع الشئ الحسن مفيدة وضرورية ولايرفضها الا من يسعى الى ان لاتنطبق عليه. هذا المثل هو مرشح بريطاني اعرفه شخصيا من قبل حزب المحافظين. لا اتحدث عن القوانين الصارمة التي حكمت سلوكه سواء في الدعاية الانتخابية او مرحلة الترشيح التي استمرت شهورا. فقد خضع لمقابلات سياسية في المقر الرئيسي لحزب المحافظين ناقشوه خلالها على عشرات المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضايا النقل والصحة والتعليم والجريمة والعدالة والوضع الدولي والتاريخ وغيرها بحيث اضطر لطلب نصحي في بعض مسائل القراءة عن الشرق الاوسط والعالم بعد ان امده حزبه بعشرات المصادر. استمرت فترة ترشيحه لاشهر كنت اراه خلالها مجهدا من التعرف والاطلاع والمناقشات والقراءة والسؤال ولقاء المواطنين, حتى ابلغ ذات يوم من قبله حزبه بان موعدا قد ضرب له من اجل مقابلة طبيب نفساني. سالني متعجبا وهو يحمل شهادة الدكتوراه ايضا ولماذا هذا الطكبيب النفساني. لم يكن لي جواب طبعا وبعد اسبوعين حدثني كيف ان هذا الطبيب كان يسعى الى معرفة جوانب في المرشح مثل القدرة على قول الحقيقة اوالكذب, او استخدام وسائل غير مشروعة في الحديث والسلوك والحكم على الآخرين. لا نريد ان نطبق كل ذلك اليوم على النائب العراقي او المرشح لتمثيل الشعب, ولكن واقع البرلمان العراقي يشير الى فقر شديد بالسياسة وتاريخ السياسة وضرورات السياسة ووظيفة التشريع ودور النائب ومسؤوليته امام شعبه . فعضو البرلمان يفقد خصوصيته حالما يجلس على مقعد البرلمان ويصبح كما قال النائب وليم وندهام في القرن الثامن عشر( رغم اني لي شرف الجلوس في هذا المجلس كفارس من احدى المقاطعات فانا اعتبر نفسي مع ذلك واحدا من الممثلين لمجموع شعب انجلترا). وبالاطلاع على ملفات تاريخ البلمان في بريطانيا يمكن العثور على المئات من هذه الاقوال التي اصبحت مبادئ وقيما برلمانية مع مرور الزمن لتحدد واجبات عضو البرلمان بانه حالما يدخل برلمان وستمنستر يصبح ممثلا لمصالح الامة وليس مصالح حزبه.اما النائب وليم يونغ فيشرح الامر نفسه قائلا( بعد ان اخذنا مقاعدنا في هذا المجلس يجب على كل واحد منا ان ينظر الى نفسه كاحد ممثلي هيئة العامة في انجلترا وينبغي ان لايكون لدينا اي تحزب خاص للمقاطعة اوالمدينة او المراكز التي نمثلها). وتشتهر خطبة النائب ادمون بيرك التي يرددها نواب وناخبون كثيرون. يقول بيرك واصفا العلاقة بين الناخب والنائب(حضرات الرجال الافاضل, من المؤكد انه يجب ان تكون سعادة النائب في ان يعيش مع ناخبيه في اضبط وحدة واوثق العلاقات واكثر الصلات. ويجب ان يكون لرغباتهم اعظم وزن لديه, ولرايهم اسمى احترام , ولاعمالهم انتباه مستمر لاينقطع. ان من واجبه ان بضحي براحته وملذاته ومسراته من اجل راحتهم وملذاتهم ومسراتهم. وفوق كل شئ دائما وابدا وفي جميع الحالات ان يفضل مصالحهم على مصالحه الخاصة). ان البرلمان كما يعرفه بيرك( ليس مؤتمرا لسفراء ذوي مصالح متعادية يهم كل منهم ان يقف كعميل او مدافع عن مصالحه ضد العملاء الاخرين والمحامين الاخرين عن المصالح الاخرى, وانما الربلمان مجلس للمناقشة لامة واحدة ذات مصلحة واحدة هي مصلحة الجميع) ومن المعروف ان بريطانيا هي امة من اربع امم هي انجلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا وكل امة لها علم ينضوي تحت علم الاتحاد البريطاني الشائع في العالم. لقد خضعت قوانين الانتخابات البريطانية الى التعديل عدة مرات وشرع البرلمان نفسه عدة قوانين لمنع الفساد الانتخابي ومنه شراء الاصوات لقاء رشاوي ومبالغ طائلة, كان اهمها( قانون تحريم التصرفات الفاسدة وغير القانونية) عام1883( والتاريخ يعتبر قريبا جدا بالنسبة للديمقراطيات الغربية خاصة بريطانيا) بعد سلسلة ظواهر فساد كشراء الاصوات خاصة قبل اي يصبح الانتخاب سريا بصدور قانون الاقتراع السري عام 1872 ليساهم في جعل الفساد الانتخابي اكثر صعوبة اعتمادا على مبدأ صاغه دوق ارغيل الذي يقول( لايمكن ان يقال بان اي انسان يدلي بصوته بحرية حينما يعلم ان عيشه او جزء من عيشه يعتمد على اقتراعه بغير مايرضي ضميره), ويضرب تاريخ الديمقراطية البرلمانية في بريطانيا مثلا على الفساد الانتخابي بانتخابات ليفربول عام 1830 حين تراوح سعر الصوت الواحد مابين 42 الى 250 دولارا باسعار ذلك الوقت. ان هدف الانتخابات الرئيسي هو اختيار مجلس نيابي يصادق على حكومة ليراقبها ويجعل عملها علنيا ويشرف على اعمالها ويطالبها بتفسير كامل عن اي من اعمالها, التي اذا كان احدها مستحقا للاستنكار فعليه ان يستنكره, ويمنع تعسف اي من رجال الحكومة بسبب الثقة الممنوحة له اوالتفريط بالشعور العام الحازم والرصين للامة, وهذه هي فكرة الفيلسوف جيمس ستيورات ميل. تتميز الديمقراطية البرلمانية الانجليزية بتخصيص وقت للاسئلة المقدمة الى رئيس الوزراء, وهي عادة ماتكون فرصة لنقاش بين الحكومة واعضاء البرلمان. وقد راينا مع الاسف ان كثيرا من اعضاء البرلمان العراقي لايحترمون برلمانهم ويستبدلونه بكاميرات الفضائيات. فبدلا من ان يكون نافعا ومفيدا ويقدم اسئلته لرئيس الوزراء والحكومة نشاهده خارج العملية السياسية والدستورية يستخدم النقد التشهيري الذي يساهم في عرقلة الاستقرار السياسي والامني ويعيق التحول الثقافي نحو الديمقراطية ويؤكد على مطالبه الحزبية والفئوية ويكرس دوره المذهبي او الديني او الحزبي ناسيا مطالب المواطنين ,مقويا الحاجز بينه وبين حاجات ناخبي قائمته ملقيا لهم مزيدا من الاحباط والندم والاسى. لقد اصبح للعراق برلمانه المنتخب عموما, غير ان الوظيفة التشريعية له ماتزال اسيرة الاهواء الحزبية والشخصية. وبدلا عن ان يكون البرلمان هيئة نيابية تنظر بعينها دائما نحو مصالح الشعب اصبح لحد ما خنادق توزع المكاسب الحصصية وتبني امجادا شخصية عبر الفضائيات والتصريحات, حتى تغلبت وظيفة التصريحات الاعلامية على وظيفة النائب ودوره التشريعي والرقابي وتمثيل مصالح الامة. ان البرلمان مسؤول عن تكريس المحاصصة. فالذين يمثلون امامه لشغل المناصب والوظائف الكبرى يرشحون وفق الحصص والنسب وجميع اعضاء الربلمان ومجلس رئاسته يعرفون ذلك ويقرونه حينما يقرون ترشيح المحاصص لشغل منصبه.ان هذا العمل البرلماني موجه ضد مصالح الناخبين الذين ينتظرون ان يروا تقدما في الاجراءات والخدمات لصالحهم.وهو موجه ضد الديمقراطية التي تقوم على المواطنة وتحقيق العدالة في الخدمة المدنية عن طريق الحق والكفاءة والخبرة. ان دليل تكريس هذه المحاصصة من قبل البرلمان ورعايته لها هو ان رؤساء الهيئات المستقلة , التي يفترض ان لاتكون حزبية ولا منحازة سياسيا, مثل مفوضية الانتخابات وهيئة الاعلام ومفوضية النزاهة وغيرها, يقرون من قبل البرلمان وهو يصرح انهم منحازون ومرشحون ضمن نسب المحاصصة, الامر الذي يلقي بظلال من الشك على نزاهة العملية السياسية التي هي ضمان نزاهة جميع القطاعات الاخرى. ان التشريع صفة خاصة بالبرلمان. لكن كثيرا من الدول شهدت تفويض السلطات التشريعية للحكومة في اوقات مثل الحرب والازمات والكوارث الطبيعية وفقدان الامن, واهمية ترك التفاصيل الفنية للسلطة االتنفيذية المختصة, رغم خطورة مثل هذا التفويض وامكانية استغلاله بسبب البيروقراطية او المصالح السياسية التي يمكن ان تقيد الحريات المدنية كما حدث في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر وانفتاح شهية الاجهزة الاميركية الرقابية للتنصت وملاحقة المواطنين للاشتباه بهم, الامر الذي تمت مقاومته لحد ما في بريطانيا في سياق سياسة محاربة الارهاب. يقول الفيلسوف الفرنسي ومنظر الديمقراطية الان تورين( ان الحياة السياسية تصاغ من ذلك التعارض القائم مابين قرارات سياسية وتشريعية تحابي المجموعات المسيطرة, والدعوة الى اخلاق اجتماعية تدافع عن مصالح المحكومين) ان برلمان العراق افصح عن ضعف واضح في قضايا التشريعات خاصة فيما يتعلق بالعنف والفساد وابقى مثل هاتين الظاهرتين جزء من التشهير والصراع السياسي الحزبي والحصصي. ان عمر التجربة البرلمانية العراقية قصير حتى الان, كما ان التفويض التشريعي امر محفوف بالمخاطر في حكومة تقاوم اضعفاها واستضعافها سياسيا,ويمكن لمثل هذا التفويض ان يصيب الحكم الدستوري العطل او يوقف عمل البرلمان , لذلك فان البديل عن مثل هذا التفويض هو تحول البرلمان من هيئة احزاب تتنافس على المصالح السياسية الى برلمان لعموم البلاد يحث الحكومة على تقديم مشاريع قوانين لانجاز مهماتها والاسراع بها, لان مسؤولية البرلمان ليس الانتظار وترقب فشل الحكومة في ظروف ازمة كبرى, سياسية وفكرية وحقوقية وثقافية, وانما مسؤولية البرلمان ايضا, باعتباره سلطة رقابية , ان يحد من كسل الحكومة اذا كان مثل هذا الكسل واضحا, ويتسبب في حرمان المواطنين من حقوقهم بالحصول على الخدمات الضرورية وتطوير هذه الخدمات للوصل الى وظيفة الدولة الديمقراطية بتحقيق سعادة مواطنيها. فاين البرلمان من تحقيق هذه السعادة؟ حتى الآن لايظهر عمل البرلمان في تاكيد سيادة القانون وتحقيق العدالة وضمان الحقوق وتعريف الواجبات.وبما ان البرلمان قد فوض المجالس المحلية ومجالس المحافظات كثيرا من الصلاحيات وفق الدستور, فان تفويض الحكومة المركزية الاتحادية صلاحيات تشريعية محدودة وتحت ضمانات معينة خاصة وان اغلب اعضاء السلطة التنفيذية في العراق هم اعضاء في السلطة التشريعية(البرلمان) وليس هناك مثل ذلك الفصل الحاد بين السلطتين حتى الآن. ان العراق بحاجة اليوم الى تفويض التشريع ومنح بعض الصلاحيات لكي تستطيع الحكومة ان تخفف من القيود المفروضة عليها دستوريا وسياسيا بعد تجربة اثبتت ان العراق يحتاج اليوم الى سرعة اكبر في التشريعات والعمل التنفيذي ومحاسبة الحكومة على اساس هذه التشريعات, وان الازمات التي يمر بها العراق يتحمل البرلمان والاحزاب البرلمانية جزء كبيرا منها لان تغليب المصالح الحزبية على المصالح الوطنية اصبح ملموسا من قبل المواطنين الذين يعبرون عن خيبة آمالهم يوميا واصبحت المقارنة مع الماضي, مع الاسف, امرا واقعيا رغم كوارث الماضي ومآسيه . لقد آن الاوان لاعادة النظر بكثير من السلوكيات والمواقف واعطاء البرلمان دوره الوطني المطلوب , وتحويل النواب من ممثلي قوائم مغلقة الى ممثلين للامة ومسؤولين امام ناخبيهم مسؤولية مباشرة ,والاقدام على تشريعات تنهي المحاصصة والمقاسمة وتوزيع المناصب والوظائف كمغانم حزبية, واخضاع العنف والفساد الى سيادة القانون وانهاء الاستخدام السياسي لهما وللظواهر المماثلة, وانهاء اطروحة (دكتاتورية خمسة احزاب) افضل من دكتاتورية حزب واحد التي يتم تقسيم العراق سياسيا واقتصاديا وماليا ووظائفيا وفقها, فقد سمعتها عدة مرات من ممثلين عن احزاب الحكم, وبالطبع فان الدكتاتورية هي الدكتاتورية التي تحرم المواطن سواء كانت دكتاتورية حزب واحد او خمسة احزاب لان مثل هذه الدكتاتورية مفيدة فقط لحارس ملهى انضم لاحد الاحزاب الحاكمة واصبح مستشارا سياسيا في احدى السفارات وهو لايعجز عن ترديدها. ان التشريع بالتفويض يمكن ان يسحب من قبل البرلمان في اي وقت يرى فيه تهديدا لسلطته.لكن ماهو اكثر من ذلك ان يبادر البرلمان نفسه الى دفع نفسه الى الى التشريع والاهتمام بالمسائل المالية الاكثر الحاحا في الوضع العراقي اليوم, والنقد القائم على النزاهة والوطنية والاخلاص, والتداول في شؤون الازمات التي ما ان يخرج العراق من احداها حتى يقع في فخ الاخرى, واصدار القوانين لان العراق مايزال يعيش بدون قوانين حية فيما يعيش تقريبا على اوامر وقرارات مجلس قيادة الثوة المنحل. اختم رسالتي بتذكير مجلس رئاسة البرلمان واعضائه بضرورة اعادة النظر بمفهوم الخدمة المدنية القائمة على المحاصصة واستبدالها بالمفهوم الحقوقي والدستوري والوطني الديمقراطي القائم على الحيادية بما تتطلبه من خبرة وكفاءة واختصاص وسلوك حسن.
الرسالة الثانية: الى رئاسة مجلس الوزراء يسود مبدأ في الديمقراطية يقول انه قد يكون لرجل او امرأة مكانة رفيعة في حزب سياسي, ومع ذلك فهو لايصلح لرئاسة ادارة كبرى من ادارات الدولة.هذا المبدأ يشمل رئيس الوزراء كما يشمل الوزراء من حزب واحد,وهو الامر الذي تقرره الديمقراطية وتفضله لكي تكون الحكومة قوية ومنسجمة وقادرة على التنفيذ, فكيف بوزراء حكومة وحدة وطنية ينتمون الى احزابهم اكثر من انتمائهم الى مجلس الوزراء, وتتغلب لديهم مصالح احزابهم على المصالح الوطنية المشتركة. يفترض في اية حكومة ان تعمل كفريق واحد. لذلك تعطي الانتخابات عادة الحق لرئيس الوزراء ان يختار وزراءه مراعيا التنوع والكفاءة والجغرافيا الوطنية ايضا , وعادة ما يحرص رؤساء الوزارة المعاصرون الى تشكيل حكومات مصغرة لاتتعدى احيانا خمسة عشر وزيرا ضمانا لانسجام الوزارة وحرصا على العمل المباشر والتنفيذ السريع والتركيز على المهمات الاساسية التي تواجه البلاد. ثمة في العرف الديمقراطي مبدأ يؤكد على ان مجلس الوزراء مؤسسة تتمتع بالقوة والقدرة على اتخاذ القرار طالما يتمتع مجلس الوزراء هذا بدعم وتاييد الاغلبية البرلمانية. هذا يفترض ان تكون حكومة المالكي اليوم اقوى حكومة في تاريخ الديمقراطيات, فهي لاتحظى بتاييد الاغلبية من خلال كتلة برلمانية واحدة او من خلال كتلتين وانما تتمتع بتأييد اغلبية مطلقة وكاسحة , فمن اصل 275 نائبا هناك اكثر من 260 نائبا يشتركون في تاييد الحكومة ودعمها يمثلون اربع كتل برلمانية هي كتلة الائتلاف والكتلة الكردية وكتلة التوافق وكتلة العراقية التي تملك جميعها وزراء في مجلس الوزراء, فكيف اصبح مجلس الوزراء عرضة للضعف والتقهقر؟في حين يفترض ان يقود رئيس مجلس الوزراء حكومة قوية قادرة على اتخاذ قرارات توفير جميع الخدمات الاساسية, وتقدم للمواطنين مايحتاجونه من امن وتعليم وصحة وكهرباء وماء وتعيد اعمار العراق وتفرض سياستها على المحافظات لكي تنفذ, وتقلص( اذا لم تستطع انهاء) التدخل الامريكي في القرار السياسي وتكمل السيادة وتتفاهم مع الولايات المتحدة لسحب قواتها وتعيد بناء المجتمع على اساس ثقافة التسامح والقانون والحق والواجب, اي ان يعمل مجلس الوزراء ككيان واحد موحد منسجم مع سياسة مجلس الوزراء ومنفذ لها وهي السياسة التي يعهد الى مجلس الوزراء تنفيذها بعد اقرارها من قبل البرلمان. يذكر تاريخ الديمقراطية الانجليزية لجنة هالدين التي قامت في عشرينات القرن العشرين بتقديم توصيات حول مهام وطبيعة مجلس الوزراء فاوصت بان يكون مجلس الوزراء صغير الحجم لايتجاوز اثني عشر عضوا وقد ايد ذلك مفكرون وسياسيون منهم هارولد لاسكي واللورد صموئيل , لكن مايواجه مجلس الوزراء في العراق هو ايجاد وزارة لكل شخص يرغب حزبه في ان يجعله وزيرا. يفترض في ان تكون الانتخابات قد اختارت الحكومة وهذه الوسيلة هي افضل من اية وسيلة استبدادية تفرض حكومة باستخدام القهر والقمع. فارسطو يقر نمط الحكومة الدستورية التي توفر الحريات التي هي اساس الديمقراطية وهذه الحريات يحكمها القانون في اطار سيادة ومؤسسات دولة مسؤولة عن استتباب الامن وضمان سيادة القانون وتنفيذ برنامج الحكومة بما يخدم مجموع مواطني الدولة.ان الليبرالية تعني حماية الحرية الفردية , وهذا يعني وضع حدود دستورية لحكم الاغلبية لضمان حقوق الاقلية ومشاركتها, وهذا بدوره يقتضي قيام حكومة وطنية تقوم على اساس تمثيلها لمجموع المواطنين حتى لو تشكلت من حزب واحد.فالامن والدفاع والخزينة والتعليم والصحة والعمل والعدالة تعتبر اهم واجبات الحكومة التي تتطلب, حسب ارسطو, توازنا بين الكم والكيف. ومع الاسف تفتقر حكومة الوحدة الوطنية الى هذا التوازن. فكمية الوزراء تفوق كمية وزراء حكومتين, ونوعيتهم تحتاج الى اعادة نظر وطنية ومراجعة فنية. فالوزير منصب سياسي ولكنه في نفس الوقت منصب نوعي ايضا, يسميه ارسطو(الوسط العادل) الذي يكون وسطا بين الطبقات والفئات والاحزاب والمالكين والمحرومين, كما يكون بعيدا عن الثراء الفاحش والفقر المدقع لتحقيق النزاهة والالتزام بالحس الاخلاقي للمسؤولية, تجاه المواطنين وواجبه تحقيق الصالح العام في ظل سيادة القانون.ويعيد مونتسكيو التاكيد على فكرة ارسطو بفكرة الهيئات الوسيطة ذات النبل الاخلاقي والمسؤولية العالية وخلق توازن سياسي واجتماعي بين القوى كما يشرح التوسير افكار مونتسكيو في السياسة والتاريخ. هذه في الواقع مهمة رئيس مجلس الوزراء, فهو المسؤول الاول عن اختيار وزرائه وفق هذه المواصفات. وبما اننا نعرف ان منصب رئيس الوزراء يمثل موقع حزب الدعوة في الائتلاف الفائز في الانتخابات فان بقية الوزراء لم يكونوا من اختيار رئيس الوزراء وانما من اختيار المجلس الاعلى والتيار الصدري والفضيلة والمستقلين من قوى الائتلاف, ومن اختيار التحالف الكردستاني اي ممثلي الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد, ومن اختيار العراقية الذين يمثلون حركة الوفاق والحزب الشيوعي وبقية قواها ومن اختيار التوافق الذين يمثلون الحزب الاسلامي وبقية قوى التوافق. لدينا اذن اكثر من عشرة احزاب مشتركة في تشكيل الحكومة, وهو عدد لايحسد عليه اي رئيس وزراء في العالم يخرج وزراؤه ويدخلون بنايات وزاراتهم بالتنسيق مع احزابهم وليس بالتنسيق مع رئيس مجلس الوزراء, وبتنسيق بعض احزابهم مع السفارة الامريكية وسفارات اخرى اكثر مما تنسق مع البرلمان او الدستور العراقي على علة النواقص والتناقضات واختلاط الصلاحيات فيه. هذه الحالة قيدت ايدي السلطة التنفيذية ورئيس هذه السلطة التي يفترض ان يكون قادرا على العمل. فحتى صلاحيات رئيس الوزراء الدستورية يجري الالتفاف السياسي الحزبي عليها,. ان الانتقال من نظام استبدادي الى نظام ديمقراطي يقتضي غالبا تحالفات ومشاركات من احزاب ومنظمات واشخاص واتحادات. لكن هذه التحالفات يجب ان تقوم لتحقيق الاستقرار والتحول السلمي وليس الانقسام. يضاف الى ذلك ما يقوم به مكتب مستشاري رئيس مجلس الوزراء من تضييق حركة مجلس الوزراء وعزل رئيس الوزراء وتقييده بسياسة الحزب الذي يمثلونه وهيمنتهم الحزبية بحيث اصبحت الدولة ,ممثلة باهم اجزائها وهي الحكومة, ممثلة بحزب وليس باطار وطني. ان العيب ليس في وجود مستشارين من حزب واحد فهذا شأن متعارف عليه في الديمقراطية ايضا, ولكن العيب في ان يكون هؤلاء المستشارون يعملون لحزبهم او لانفسهم اكثر مما يعملون لمجموع البلاد. كما ان عدم وجود فكرة التخطيط السياسي وانتاج الافكار لدولة في طور اعادة التشكيل يقلل من فرص اعادة بناء مؤسسات الدولة التي يفترض ان تساهم الحكومة في تشكيلها وارساء مؤسسة الدولة على اسس وطنية سياسيا وجغرافيا وثقافيا.ٍوحين اقول ثقافيا لا اعني رعاية الادب والفن وانما اعادة رسم الاطار الثقافي للعلاقة بين المجتمع والدولة بما يعنيه من ترسيم معالم سيادة القانون ودور المجتمع المدني وطبيعة السلطة الدستورية الحقوقية وتكريس فكرة المواطنة والتحول السلمي نحو النظام الدستوري ورسم معالم الحقوق والواجبات والعلاقات الوطنية واشاعة التسامح والعفو والعدالة, وهو عمل ليس هينا ولا يمكن احتقاره او السخرية منه باشاعة فكرة ان المجتمع العراقي متخلف ولايستطيع ممارسة الديمقراطية مما نسمعه ردا على ضرورة انجاز هذه المهمات. ان الدستور ينص على ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام, غير ان ذلك لايبرر تديين الدولة من خلال عقيدة حزب وتغليب الطقس على المهمات السياسية المدنية التي تواجه دولة حديثة ومجتمعا متعددا ومتنوعا مثل المجتمع العراقي على الرغم من الطابع الديني الذي تميز به العراقيون في هذه المرحلة. هذا لايعني عدم القبول بالحق الذي ناله الاسلاميون من خلال الانتخابات فهو حق دستوري لايمكن انكاره. لكن هذا الحق يصبح ممثلا لجميع المواطنين بعد الفوز وليس حكرا على حزب او عقيدة.فالممارسة السياسية في قيادة دولة او حكومة ممارسة وطنية وليست حزبية, وممارسة سياسية وليست دينية رغم العقيدة الدينية للحزب الفائز. فواجب الحزب الفائز واجب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي مدني ياخذ بنظر الاعتبار المسؤولية تجاه الجميع وتحقيق قاعدة( ان الانسان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) وهي القاعدة التي ارسى نظريتها الامام علي في عهده المشار اليه. ان القانون الدستوري يعرّف الدولة بانها جماعة منظمة من الافراد تملك اقليما محددا وذات سلطان ولها شخصية معنوية. وهذا يقتضي ان يكون العراق, وهو اقليم العراقيين,سلطانا للعراقيين لكي تملك الدولة العراقية هذا السلطان وتكون شخصيتها المعنوية هوية لجميع العراقيين.هذه المهمة مشتركة بين جميع الرئاسات ولكن الحكومة تتحمل القدر الاعظم من تاسيس هذه الشخصية, التي يرى هيغل انها ستكون مقبولة من قبل المواطن العاقل اذا وجد فيها ارضاء الرغبات والمصالح المعقولة واذا امكن الاعتراف بعدالة قوانين الدولة, وحينذاك تصبح الدولة تنظيما عقلانيا للحرية كما يرى هيغل. اكد الدستور العراقي على النظام الفدرالي اللامركزي,وعلى صلاحيات الحكومات المحلية التي نشأت من خلال قرارات الحاكم المدني للاحتلال بول برايمر. لقد اصبحت الشكوى من اللامركزية واضحة. فسوء الفهم يسود في استخدام المفهوم ويقود الى التعسف في استخدام صلاحيات مفترضة خاصة في المحافظات واحيانا حتى في الجيش مع انه مركزي. فبعض القطعات في المحافظات الجنوبية تعصي الاوامر او تؤجل تنفيذها باعتبارها مرتبطة القوات البريطانية وتتلقى اوامرها منها, وبعضها في المنطقة الوسطى والشمالية تقوم بمثل ماتقوم به بعض قطعات الجنوب باعتبارها مرتبطة بالقوات الامريكية وتتلقى اوامرها منها. فضلا عن الهيئات والمفوضيات المستقلة انقسمت على نسب المحاصصة وبعضها لاعلاقة له اصلا ولاتعرف عنه الحكومة العراقية شيئا لانه ممول ومرتبط بالولايات المتحدة, وهناك تاكيدات على ان اهم جهاز استخباراتي وهو جهاز المخابرات العامة مايزال سرا بالنسبة للحكومة العراقية,فلايوجد له تخصيص في الميزانية العراقية ولا ينسق مع وزارة الداخلية اووزارة الامن الوطني, ولاتعرف تشكيلته من قبل رئاسة مجلس الوزراء , وهناك تعيينات حتى في الامانة العامة لمجلس الوزراء لا علاقة لها برئيس الوزراء وانما تتم من قبل جهات اخرى. يقول لاري دايموند الذي يتابع تقدم الديمقراطيات في العالم اليوم( في الدول التي تتمتع بارتفاع عدد سكانها واتساع مساحتها فان الفدرالية تشكل اطارا متكاملا للنظام السياسي اللامركزي, وذلك من خلال توفير حكومة وسيطة تتمتع بسلطات خاصة. في مثل هذه الدول, التي هي بحجم القارات كالولايات المتحدة وكندا واستراليا والبرازيل والهند وروسيا, تبدو الحكومات المحلية كبيرة في عددها ولكنها صغيرة في مجال معادلتها لميزان قوة الحكومة المركزية, غير انها في الوقت ذاته, تتمتع باستقلالية جيدة في التقدير الديمقراطي للحاجات والمصالح المحاية الخاصة بها) تحمي الفدرالية حقوق الاقليات التي ينص عليها الدستور وتعزز اللامركزية وتقلص الصراعات وتضعف فرص الانفصال وهي ايضا تحمل مخاطرها في طياتها اذ يمكن استخدام الصلاحيات ضمن الاقليم الفدرالي لفرض حكم فردي واستبدادي واستغلال اقتصادي ومصادرة بعض حقوق الافراد لصالح الحكم المحلي حيث لاتستطيع الحكومة المركزية التدخل لحمايتهم, وتعزيز النعرة القومية ضمن الاقاليم الفدرالية وبالتالي المطالبة بالانفصال. يقول دايموند ان المركز يجب ان يمتلك القوة للتدخل في الوحدات الفرعية لحماية الحقوق الدستورية وكل مايتعلق بها من اجراءات. ان الحكومة العراقية الحالية لاتملك مثل هذه القوة ولاتملك , سياسيا, القدرة على التدخل. فالنزعات الاستقلالية, السياسية والادارية والثقافية, اصبحت فوق الفدرالية واللامركزية. فالفدرالية في الحكومات الديمقراطية ينبغي ان تعزز الديمقراطيةوتحمي حقوق الافراد فهي حكومات محلية تنسجم سياساتها المحلية مع سياسة الحكومة المركزية لا ان تتعارض معها. فهي موجودة لنقل نشاط المركز الى الاقليم , اذا يبقى المركز مكانه, لا لمجئ المركز الى الاقاليم او اضطراره لملاحقة الاقاليم لتكون جزء من الدولة والسياسة العامة لها. في العراق اليوم نظام يسميه بعض السياسيين بالديمقراطية التوافقية. ان هذا النوع من الديمقراطيات ضرب من الاتفاقات السياسية وليس الدستورية الحقوقية يعقب سقوط انظمة مستبدة ويتيح فرص المشاركة. لكن المشاركة تأتي في عراق اليوم على حساب المواطنين اذ انها ديمقراطية تضعف مجلس الوزراء وتقيد صلاحياته ونشاطه واجراءاته خاصة مع وجود قوتين الاولى وجود اكثر من 150 الف جندي اجنبي على اراضيه يملكون الارض, ووجود سفارة اميركية هي الاكبر في العالم تتدخل في القرار السياسي, اضافة الى قوة ثالثة مدعومة بهاتين القوتين وقوة بعض دول الجوار لاعادة النظام السابق بمايعنيه من كونه حلقة في سلسلة النظام العربي التقليدي غير الديمقراطي القائم على حكم الاقلية الى السيطرة على الحكم. الرسالة الثالثة الى مجلس رئاسة الجمهورية: في الدستور العراقي الحالي يكون مجلس الرئاسة ممثلا لهيبة الدولة ورمزيتها وسيادتها وشخصيتها.فالسلطة التنفيذية تكون بيد رئيس مجلس الوزراء.ويضم مجلس الرئاسة ثلاثة شخصيات هي الرئيس ونائباه , كما في مجلس رئاسة البرلمان.وقد اصبحت صلاحيات بعض نواب الرئيس تفوق الدستور في طموح شخصي مدعوم بتدخل خارجي, اقليمي ودولي,ينذر بنشوب نزاعات قوية ومثيرة قد تقود الى نسف الدستور وتعطيله لترسيخ هذه الصلاحيات المفترضة كامر واقع. ان الديمقراطية لاتعتبر الدولة هدفا وانما وسيلة. وحده موسوليني طبق الفكرة الكليانية او الشمولية بقوله(ان مايسمى بالازمة لايحل الا بالدولة وضمن الدولة..كل شئ في الدولة ولاشئ خارج الدولة) هذا يعني ان يتقدم المواطنين ويتخلوا عن حرياتهم وحقوقهم لصالح سلطة تبتلع الدولة وتدعي تمثيلها كما هو حال الانظمة الدكتاتورية وتلغي القوانين ليكون كل شئ من اجل الدولة التي هي في النهاية موسوليني او هتلر او ستالين او صدام او من شابههم. لذلك نجد في النظام البرلماني التمثيلي مؤسسات لخدمة المواطن الفرد باعتباره اساس مجموع المواطنين في دولة ومجتمع.ان المجتمع السياسي ليس مجتمعا ازليا, فهو ينبغي ان يكون انعكاسا لمصالح المواطنين, وبالتالي فان المجتمع المدني يعمل على مساعدة الدولة بالانفصال عن الحكومة وتذكيرها عبر العمل والنشاط لتكون حكومة في دولة حقوق وقانون وعدالة وفرص عمل وعدم تمييز وتوفير مستلزمات العيش الكريم وتوفير الامن والاستقرار. ان مجلس الرئاسة يمثل مؤسسة الدولة اكثر مما يمثل الجمهورية او النظام السياسي رغم انه وليد نظام سياسي, وهذا النظام السياسي يقوم على حكومة تنفيذية وليس على دولة تنفيذية تصادر تحت معطفها السلطة والمجتمع والقانون والدستور لتتحول الى سلطة باسم الدولة التي تبتلعها السلطة بعد ان تكون الدولة قد ابتلعت كل شئ. لذلك , مثلا, تبدو تصرفات نائب رئيس الجمهورية ضربا من الطموح الشخصي وليس تطبيقا دستوريا. عملا حزبيا يسعى الى تحقيق مكاسب شخصية او حزبية او فئوية على حساب الحكومة. لقد حضر رئيس الجمهورية جلال الطالباني مؤتمر القمة في السعودية في العام الماضي ولم يحضره رئيس الوزراء الذي يفترض ان يكون صاحب الصلاحيات في مؤتمر مثل هذا.ان الطالباني شخصية سياسية مرموقة وقادر على المناورة المطلوبة في مثل هذه القمم رغم شكليتها, ووجود الطالباني كرئيس عراقي كردي في مؤتمر القمة سابقة مهمة ورسالة للعرب على ان العراق الجديد ديمقراطي وموحد وعليهم التعامل معه على هذه الصورة التي اختارها اهله . لكن الدستور شئ وشخصية الرئيس شئ آخر.ان الطالباني شخصية تحظى بما يقترب من الاجماع , وهو حكم مقبول في النزاعات والخصومات . وهذا وحده كاف ليكون الرئيس ممثلا لهيبة الدولة وكونها رمزا للجماعة.لا يتعلق الامر بالبروتوكول الذي استخدم لوصف مهمات الرئيس في بعض الاعتراضات. فالرئيس يعكس هيبة الدولة وتمثيلها للجميع ,وهذه الهيبة اكبر من البروتوكول واكبر من بعض الصلاحيات. ان الدولة في العراق غابت لصالح سلطة الحزب والفرد طوال اربعة عقود, وبالتالي فان مجلس الرئاسة يمثل استعادة الدولة لهيبتها وتمثيلها للمواطنين وهويتهم وهذا امر ليس سهلا او بروتوكوليا. هذا الواجب لمجلس الرئاسة في العراق يجعل هذا المجلس في هذه المرحلة خصوصا اكثر اهمية, خاصة حين يعمل على مساعدة الحكومة لتكون سلطة تنفيذية قوية تؤكد شرعية مجلسي البرلمان والرئاسة, اذ ان الرئاسات الثلاث جزء من المجلس التشريعي, اي مجلس النواب,فاعضاء الرئاسات هم اعضاء في البرلمان وهذا يؤمد ان لانفصال بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, وهذا يقتضي ترسيخ استقلالية السلطة القضائية وهذه مهمة مجلس الرئاسة دستوريا بقدر ماهي مهمة مجلس الوزراء سياسيا واجرائيا.اذ ان التعارض يمكن ان يقوم بين السلطة التنفيذية وبين السلطة القضائية وهو امر خطير جدا في الانظمة السياسية, ويمكن لرئيس الجمهورية ان يلعب دوره السياسي والدستوري في حل مثل هذه المشكلة, وهذا مايجعل رئاسة الجمهورية شأنا كبيرا وليس امرا بروتوكوليا, وشأنا وطنيا ومرجعية سياسية ووطنية وليس شأنا تنفيذيا.وكما يرى هوبز فان العقل والضمير المهني هما سيادة مجلس الرئاسة والرئيس, لانه يرعى الدولة الذي هو جزء منها لترعى المصالح العامة عبر رعايتها للمصالح الخاصة للمواطن وتوفير الحماية له والدفاع عنه. الدولة تتحلى بالفضيلة والعدالة والسلم والرفاه وحين تحققها حكومة وطنية فان واجب مجلس الرئاسة حماية هذا المنجز وهي ليست مهمة سهلة او بروتوكولية. ان لوك يؤكد ان الحرية لاتنفصل عن السعادة لان الانسان كائن عاقل يبحث عن الحرية والسعادة. والسعادة تكمن في الامن والاستقرار والسلام ولاسعادة بدون ضمانات سياسية ولا سياسة حقة اذا لم تكن تهدف الى نشر السعادة المعقولة. وهذه الضمانات تقع بالتاكيد على عاتق مجلس الرئاسة. وهذه الضمانات ليست مثالية او طوباوية وانما هدف عقلاني للسياسة, فقد تحققت في دول عديدة في العالم بغض النظر عن المشاكل الازلية التي تواجه الانسان. حتى الآن تمثل الرئاسات الثلاث ثلاث مفردات دخلت الى القاموس السياسي العراقي واصبحت مفردات عرفية رغم انها لم تدخل الدستور بالفاظها. هذه المفردات هي الشيعة والاكراد والسنة.وعدا عن الاكراد, فان الشيعة والسنة ليسا مفردتين سياسيتين, وهما ليس قياسا للاغلبية والاقلية السياسية, وانما قياس للاغلبية والاقلية المذهبية في العراق. لذلك لن يكون هناك توازن كمي الا حين تصبح العملية السياسية قائمة على مفهوم الاغلبية والاقلية السياسية بغض النظر عن مذاهب من يشكلهما. لقد كتب الدستور الاميركي عام 1787 لثلاثة ملايين اميركي هم سكان الولايات المتحدة الاميريكية آنذاك. لكن تاثير ذلك الدستور الذي يمكن قراءته باقل من ساعة ولايتجاوز خمس عشرة صفحة اصبح عالميا ومثارا للاقتباس والتقليد رغم انه اقتباس عميق لافكار الانجليزي لوك حول المواطنة والحرية والتسامح والحكومة المدنية وافكار الانجليزي هوبز عن المواطن والحق والقانون. ليس بالضرورة اقتباس الدساتير او اقتباس اعمال ساسة مثل فرانكلين وجيفرسون او كرومويل او دزرائيللي او ديغول او غاندي او مانديللا او غيرهم, وانما من الضروري رؤية الروح التي انطلقوا بها ورؤية الامكانيات التي اتاحوها قبل ان تتاح لهم الامكانيات لتطبيق مبادئهم وافكارهم وسياساتهم. وليس بالضرورة استنساخ تجارب وانما الضرورة ان نضع الحاجات الانسانية المشتركة للمجتمعات مثل الحرية والعدل والمساواة والشعور بالامن كاساس مشترك للانظمة السياسية الدستورية والديمقراطية وبالتالي تكون الديمقراطية صناعة انسانية وليست غربية, فختى في الفكر الرافديني القديم في دويلات المدن وفي الامبراطوريات الرافدينية مثل بابل واكد ظهرت الحاجات الانسانية قائدة للقوانين والتنظيمات التي تتوخى العدالة والمساواة وتحقيق الامن بوضع حجر الحدود من قبل الحاكم ليحدد رقعة مسوؤليته تجاه مواطنيه, وفي الاسلام حيث ظهرت وصايا تحقيق العدل والحرية والمساواة على لسان عمر وفي النص الفلسفي الفكري الذي حرره الامام علي لواليه على مصر مالك الاشتر وحدد وظائف الدولة ومسؤولية الحكم على غرار فلاسفة الانوار والفكر الديمقراطي الحديث وغير ذلك من افكار صاغها مثقفو الاسلام الذين رفضوا اطروحة الملك العضوض واكدوا على دستورية حقوق الفرد المستمدة من الحق الطبيعي او من الفطرة. وحتى الان ماتزال التجربة العراقية جديدة وهي عرضة لمبدأ الخطأ والصواب, لكن ماينبغي ان لاتتعرض له هو النكسة التي تجعل من النظام السياسي الجديد فرصة لفئات على حساب اخرى , ولاحزاب على حساب مجموع المواطنين, ولافراد على حساب مجتمع , ومناسبة عاجلة لكسب المنافع الفردية والحزبية .واذا كان مجلس رئاسة الجمهورية يقدم نموذج وحدة الدولة ووحدة المسؤولية الاخلاقية تجاه سعادة المواطنين في العراق ويقدم في الوقت نفسه القدرة على ان يكون مرجعية سياسية دستورية تعمل على تخفيف الخصائص التي ظهرت في العملية السياسية الجديدة وانقاص وزنها الى الحد الاقصى مثل المحاصصة والفساد والاستهانة بالعدالة والقانون وتوزيع الوظائف على الاقارب والنقص الهائل بالشعور بالمسؤولية المهنية والاخلاقية في الوظائف التي تفشت فيها الرشوة بشكل كارثي والبطالة ونقص الخدمات والتخلف المريع الذي يجد العراق فيه نفسه وهو بلد غني.وهي ظواهر ساهم فيها الجميع منذ سقوط النظام السابق حتى الان سواء الحكومات او الاحزاب او الافراد او المنظمات او جماعات في الجهاز البيروقراطي او العسكري او الامني, كما ساهمت فيها الهيئات والمنظمات التي انشأها الامريكان سواء اعطيت صفة المستقلة ام لا. يربط الفكر الديمقراطي بين شرعية النظام وبين ادائه, فكلما تحققت رغبات المواطنين كلما كرس النظام شرعيته. وهذه هي المعركة الحاسمة بين الرئاسات الثلاث التي تمثل النظام الدستوري في العراق, فهو شرعي دستوريا, وبين نيل شرعيته من قبل المواطنين باعتباره نظاما يسهم في حل المشكلات التي يواجهونها في حياتهم.
الديمقراطية والثقافة – ثقافة احادية واحدية مناقضة للديمقراطية – التعددية شرط من شروط الديمقراطية .
هذه الاطروحة النظرية تصطدم مع الواقع في مواجهات عنيفة .
ولتسهيل العرض ساقسم الحديث على محاور:
اولا :في حديثنا عن التعددية ، على مستوى الفكر ، سنقول ان التعددية نتاج التنوير. وتطور عملية التنوير انما هو تاريخ الصراع ضد الشمولية والواحدية المطلقة سواء كانت دينية ام وضعية .
اما على المستوي الاجتماعي فهي نتاج تنافس قوى اجتماعية في السوق والمجتمع ينافي اطروحة دكتاتورية الطبقة الواحدة سواء في المجتمع الاشتراكي او في المجتمع الرأسمالي الذي يمكن ، في مراحل معينة ، ان تتولى طبقة واحدة فرض الدكتاتورية الاجتماعية والسياسية علي المجتمع .
وعلى المستوى السياسي فالتعددية نتاج عقد اجتماعي بين مختلف مستويات الدولة والمجتمع ، الدولة كممثلة لقيادة التوازن بين القوى السياسية والاجتماعية الوطنية او القومية تعكس سلطتهم من خلال اختيارهم . وهذا احد فروق الدولة عن السلطة .
التعددية على المستوى الثقافي تقوم على الحداثة . فلا حداثة بدون تعددية . لان الحداثة تعبير عن تجاوز الثبات الزمكاني الذي تحاول الشموليات تكريسه . وهذا مظهر من مظاهر اسلوب الانتاج الاسيوي الذي اتسم بالركود علي مستوي التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية .
وحين نقول ان التعددية الثقافية تعبير عن الحداثة فاننا نعني انها التعبير الذي يشكل انتقالا في الاطوار الاجتماعية التي تخلق اشكال واسليب ومضامين تعبيرها .
من هنا يمكن القول ان تطبيقات الواقعية الاشتراكية في الادب والفن مثلا ، رغم انجازاتها الاولى ، كانت منعا للحداثة من التحقق في المجتمعات الاشتراكية .
بهذا المعنى تتحقق التعددية الثقافية كونها عملية نقدية شاملة. وهي لا تتحقق من طرف واحد وانما من طرف لآخر .
وبتحقيق العملية النقدية تتحقق التعددية.
وشرط التعددية الثقافية مرتهن بشرط بروز ظاهرة التنوير كاتجاه في الثقافة والفكر . وبروز ظاهرة التنوير مرتهن بتوفر شروط تفكك الشمولية. وتفكك الشمولية مرتهن ببروز مؤسسات المجتمع المدني ومنها مؤسسة الثقافة كمؤسسة مدنية . لكن هذا يظل اطارا نظريا .
دعونا ننظر الى ثقافة مجتمع ما وهو المجتمع العراقي.
لا يمكن معالجة ثقافة المجتمع العراقي بدون الاشارة الى دور الدولة الحاسم في العمليات الاجتماعية والاقتصادية وانعكاس ذلك على البناء الفوقي السياسي والحقوقي والثقافي .كانت هيبة الدولة وماتزال امرا مرتبطا بهيمنتها الاقتصادية والثقافية. والسلطة في العراق لا تقود الدولة دون هذه الهيمنة التي تتطلب اشاعة نمط واحد من الثقافة المرتبطة بمضمون ايديولوجي دعائي . ويتطلب هذا التركيز في توجيه الثقافة بهدف تحويل الرأي العام الى قطيع واقصائه عن التفكير المستقل وزرع الخوف الدائم والذعر الكابح لاي استقلالية او تمايز .
هذا يتطلب تحويل الثقافة الى وثن مقدس من اوثان السلطة . وبالتالي ينعكس هذا التوثين على الماضي وسحبه علي الواقع المعاصر . كما يتطلب ان يسود المفهوم علي الواقع ويحل محله .
هنايلعب الماضي دورا ثقافيا لتكريس الجهد للحفاظ على واقع ثابت وتكريس ثوابت وتظهر مصطلحات مثل القيادة التاريخية والحزب التاريخي والدور التاريخي والثقافة التاريخية
على هذا الاساس يتم التعامل مع المجتمع العراقي من قبل الدولة اولا ثم من قبل الاحزاب على ان المجتمع تعبير موحدلمواطنين متوحديث في هيئة واحدة وفكرة واحدة ونمطية ثقافية واحدة بحيث اختصرت الثقافة عبر تماثلها مع الايديولوجيا المجتمع العراقي بنمط واحد سياسيا وثقافيا واجتماعيا فغاب عن المواطن نفسه وجود هذا التنوع والتمايز السياسي والفكري والثقافي فجرى اهمال متعمد لاشباع حاجات الاختلاف والتفاهم والتعايش على اساس هذا الاختلاف ، وبدلا من التنوع ظهرت استقطابات سياسية وايديولوجية حزبية حادة تتجاذب الثقافة وتسعى،ذهنيا،الى تقسيم الثقافة العراقية تقسيما ثنائيا ،يقفز على التنوع الكمي والكيفي للثقافة في المجتمع. ومن الطبيعي ان يقود هذا التقسيم الى النفي والالغاء ويهمل، عن قصد، التعددية التي تستبدل بتعبير موحد لمشاعر المجتمع. وهذا التعبير بدوره ، يتعسف في توحيد ردود الافعال الاجتماعية،ويوحد مشاعر المواطنين قسرا في اطار ايديولوجي باسم الثقافة ويختصر المجتمع الى نمط سياسي واجتماعي وروحي واحد. وتسعى بعض الاتجاهات الايديولوجية الشمولية الى احتكار وتوجيه الثقافة في عصر يعمل ضد التوجيه والاحتكار وبالتالي تعمل مثل هذه الاتجاهات ضد روح العصر وشروطه الثقافية.
وهذه الواحدية لاتقوم وحدها وبنفسها فهي بحاجة دائما الى آخر ، ولكن لالغائه وتهديمه باعتباره عدوا طبقيا او قوميا او سياسيا او ثقافيا.
في سياق هذه الثنائية التي تنفي التعددية جرى تقسيم طبقي : برجوازية وطبقة عاملة . وتقسيم سياسي : تقدمي ورجعي وتقسيم ثقافي : ثقافة وطنية ديمقراطية وثقافة يمينية.
مايعنينا هنا هو الثقافة وتقسماتها .اذا قمنا بتفكيك اطروحة الثاقفة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي فاانا سنعثر على نفي سياسي وايديولوجي للديمقراطية عن الاتجاهات الثقافية الليبرالية نفسها التي طبعت بطابع البرجوازية وبالتالي اضحت عارا يلحق المثقف الذي كان شبح مصطلح البرجوازي الصغير يطارده ويمنع تحرره من اسار الايديولوجيا الشمولية التي توجههه ثقافيا .
فضلا عن ذلك فان مفهوم الثقافة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي كان في الواقع محاولة لنفي الصراع بين الشمولية الثقافية والتعددية الثقافية وتحجيما للديمقراطية . بمعنى آخر كان هذا المصطلح محاولة لتمييع الصراع بين الايديولوجيا والتنوير وتمييعا للصراع بين فلسفة انوار وفلسفة حتميات وقطعيات .
وحاول مفهوم الثقافة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي ان يجعل جميع الاجيال الثقافية منظوية في اطار واحد ولكن في تسلسل هرمي يحفظ للايديولجيا قيادة الظاهرة الثقافية وتوجيهها وفق المصالح السياسية التي حولت المثقف الى واجهة سياسية وحزبية .
نستطيع الان ان نطرح جملة من الاسئلة المشروعة .
لماذا يتغلب الطابع الايديولوجي والسياسي والحزبي عند المثقف العراقي اكثر مما يتغلب عند المثقف اللبناني او السوري او المصري او السوداني مثلا على رغم وجود هذا الطابع في الثقافة العربية ؟
ولماذا يتراجع الجمالي والابداعي لصالح السياسي والحزبي بحيث يصبح النضال السياسي باسم الثقافة اكثر اهمية وشيوعا من الابداع وجمالياته؟
ولماذا يطلب من الابداع ان يشير الى غلبة سياسية او حزبية ؟
من هنا لايمكن استغراب الاستقطاب الثقافي على اساس الولاء الحزبي. فهناك ثقافة الشيوعيين مقابل ثقافة البعثيين مثلا ، الامر الذي لاتجده بهذا الحسم والاستقطاب في ثقافة مجتمعات عربية اخرى .
احد الاسباب الكامنة وراء هذا هو الطابع الحزبي للدولة الذي لايقتصر على الشكل الايديولوجي وحده وانما يشمل العمليات الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فان النضال يتوجه ضد الدولة وليس ضد السلطة وحدها . بمعنى ان شرط الديمقراطية في العراق يرتبط بتغيير الطابع الايديولوجي للدولة وذلك يعني تغيير الاطار الثقافي لها وتغيير البنية الاجتماعية التي تكرس الاشكال الثقافية وانماط التفكير والعلاقة بين الدولة كمنتج للثقافة وبين المجتمع ( وليس المواطن حيث تتعامل الدولة هنا مع كتلة موحدة ).
هذا ينطبق ايضا على الاحزاب المعارضة ذات الفكر الشمولي التي تضفي علئ الدولة شكلها الايديولوجي حتى وهي خارج الدولة وتضفي على السلطة في المجتمع او في التجمعات التي تهيمن عليها الطابع الثقافي الذي تنتجه. وهذه الفكرة تقوم على تعضي المثقف اي تحويله الى مثقف عضوي حسب الفكر الغرامشي مهمته تهيئة المجتمع لتقبل الهيمنة الايديولوجية الواحدة رالفكرة السياسية المطلقة .
من هنا يمكن فهم عودة ثقافة التحالف بين اليعثيين والشيوعيين في الجبهة الوطنية اليوم في المنفى شريطة ان يتحالف البعثيون مع الشيوعيين ولايبقوا خارجهم ويمكن ان نضرب امثلة كثيرة جدا بالاسماء والصجف والمؤسسات والنشاطات والبيانات المشتركة الموقعة( وآخرها البيان الموقع في قضية اعدام حميد المختار فهو بيان ثقافة الجبهة الوطنية بين البعثيين والشيوعيين دون منازع ) وكذلك يمكن ان نذكر الدول التي تتواجد فيها هذه الجبهة مثل بريطانيا والسويد وهولندا وفرنسا. وهذا التحالف لايتحمل الثقافة الديمقراطية واللليبرالية فهو مكرس ضدها لانه يقوم على استخدام الاليات الجديدة للمفاهيم مثل الديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية لابقاء الهيمنة الايديولوجية الشموالية وتكريس الطابع الحزبي والسياسي للثقافة العراقية ونفي كل من هو خارج هذا التحالف .
ان فكرة الثنائية في الثقافة العراقية تعود الى جوهر وطبيعة المشاريع الكبرى في القرن التاسع عشر التي قامت على التناقض . سواء التناقض الميتافيزيقي او الواقعي . واذا كانت هذه المشاريع تقوم على نقض الاله الواحد فانها احلت الطبيعة محله وبحثت في النقيض الواقعي عن صورة الشيطان . هكذا يصبح كل ماهو خرج الحزب ودولته وسلطته وثقافته شيطانا .
واذا كان الصراع قد نشب حول دور الدولة فان هيغل على سبيل المثال اعطى الدولة البروسية امكانية تحقيق الفكرة المطلقة في الوقت الذي كان جان بول مارا قبله وفي فرنسا بالتحديد قد حذر من افتراس الحاكم للدولة ( كما يحدث في العراق اليوم ) عبر سلسلة من الاجراءات والادعاءات والتملقات مثل ابو الشعب وابن الشعب حتى يتحول الى دكتاتور ويقيم حكما واحديا يقتضي انتاج ادب على غراره واحدي وسلطوي وايديولوجي.
واذا كان سبينوزا يعتقد ان الحياة تقوم على التعددية حتى في مجال تعددد الانبياء واختلاف مهماتهم فان مهمات بناء الدولة القومية او الاشتراكية مثلا قد قامت على الواحدية ونفت مهمات بناء الديمقراطية ولذلك فان مهمات بناء الدولة القومية ، حتى في اطار البناء الايديولوجي فقط ، في العالم العربي وخاصة في العراق قد قضت على امكانات التطور الديمقراطي وتاثيراته على الثقافة والمؤسسات المدنية الاخرى .
بمعنى ما فان محاولة القضاء على الصراع الاجتماعي والطبقي يجعل الدولة القومية او الوطنية فوق المجتمع وفوق حاجات تطوره الديمقراطي وفوق الثقافة ويقضي على اي تطور .
وبالمناسبة فان لمثل هذه الفكرة جذرا لدى بليخانوف وبيلينيسكي في مقارنتهما بين تطور اوربا الغربية وتخلف اوربا الشرقية .
اذا قمنا يتفكيك التجارب السابقة لتنظيم وتوجيه الثقافة سنعثر على تجربتين اساسيتين ، الاولى تجربة اتحاد الادباء العراقييين الرسمي الذي اعيد تأسيسه في مطلع عام 1969 ولنتهى مطاف التحالف فيه عام 1979على اساس التحالف بين المثقفين الشيوعيين والماركسيين المستقلين وبين المثقفين البعثيين .لقد ظل هذا الاتحاد يقوم على تبادل المنافع السياسية والثقافية والايديولجية والتنظيمية بين البعثيين والشيوعيين على اساس كون الاتحاد مؤسسة رسمية تابعة للدولة تمارس نشاطها منسجما مع ايقاع الدولة والحزب الحاكم والخروقات المحدودة التي قام بها ادباء عراقيون للخروج من هذا التوجيه ادين من قبل الشيوعيين والبعثيين معا ولم يتم الدفاع عن قضية اي مثقف عراقي تعرض للاذى او الاضطهاد . لقد كانت مهمة الاتحاد التحالفية في الواقع صيانة الدولة عن طريق الثقافة.ويمكن ان تتطابق تجربة نقابة الصحفيين مع تجربة اتحاد الادباء . فقد كانت نتائج قيادة هاتين المؤسستين الرسميتين تتم باتفاق الطرفين ضد اطراف اخرى لم توجد على السطح اصلا الا ممثلة ببعض المستقلين الذين كان عليهم الانضواء تحت راية واحد من الطرفين. وهذا الاتحاد الغى امكانية قيام تعددية ثقافية . واذا كان البعض يتحدث عن وجود اتحاد للاكراد او التركمان فقد كانت هذه الاتحادات جزء من وزارة الاعلام العراقية .
كان هذا الاتحاد خلية في جسم الدولة الكبير . وكان مؤسسة من مؤسسات التحالف القليلة بين الشيوعيين والبعثيين، واذا نظرنا الى نتائجه الثقافية فاننا لا نعثر حتى على رماد السكائر التي دخنها المثقفون في غرف الاتحاد او حديقته. ولكننا سنعثر حالا على نتائجه السياسية . فبعد خروج الشيوعيين من العراق وتحولهم ضد النظام تأسست رابطة الكتاب والصحفيين والديمقراطيين العراقيين.التي قامت بين عامي 1980 و1990
قامت هذه الرابطة على اساس سياسي واحدي ايضا . واشرف الشيوعيون على سياستها ومجلتها ومؤتمريها الاثنين . وكان التمويل يتم من قبلهم ايضا .وسرعان مابدأت سياسة هذه الرابطة تقوم على الكم ضد النوع وتحول الابداع فيها الى عدد حزبي ادخل فيه مثقفون صوريون لتحقيق هيمنة الحزب على مؤسسة يعتبرها مؤسسته هو. وحتى الآن لم يراجع احد نتائج وتجربة هذه المؤسسة التي كان يمكن ان تكون ملاذا للثقافة العراقية في المنفى . لكنها بدأت منظمة في الحزب وواجهة ثقافية له سرعان ما وقعت في العزلة والتوجيه الضيق الافق وادخالها في الصراع الحزبي واحتكارها من قبل مجموعة حزبية في كل الدول التي تأسست فيها فروع لها . بل ان بعض الفروع كما في اليمن مثلا مارست الارهاب والنحقيق البوليسي مع المثقفين وطردتهم من الحزب والرابطة معا.
نستطيع تشريح مضمون ونشاط هذه الرابطة اكثر في مناسبة اخرى رغم الحرمان النظري من حق النقد والتشريح . وهذه معظلة سياسية القت بنفسها على الثقافة العراقية ايضا .
اذن ، عشر سنوات في الاتحاد وعشر سنوات اخرى في الرابطة والنتائج الثقافية هي رماد السكائر التي دخنها المثقفون هنا وهناك .
بعد هاتين التجربتين لم تقم تجربة كبيرة . التجارب الصغيرة تتعرض الى حملات فكيف بالتجارب الصغيرة ؟
ومن اجل قتل التعددية الثاقفية في مهدها يتم تنظيم حملات لشنها ضد المثقفين التنويرييين الذين يتناولن التجارب الواحدية والوحدانية بالنقد سواء السياسية ام الثقافية. والفرق الثقافي الكبير ان الثقافة الحزبية اكثر ضجيجا لاستخدامها الحزب في حروبها الايديولوجية وفي استخدامها القدرة على التشكيك ضد الفرد وهذا التشكيك يقوم على تبرير مايفعله الحز وتخوين وتجريم مايفعله الفرد . احد الزملاء في القاعة اخبرني انه قضى في الحزب وثقافة الحزب اثني عشر عاما وهو ملتبس بسؤال : هل لفلان رآي آخر غير راي الحزب . وخرج من الحزب وهو لايملك ثقافة حزبية غير هذا السؤال .
واذا كان الحزب ، اي حزب ، يستطيع ان يسأال لمصلحة من هذا النقد ؟ الذي يسميه هجوما بالطبع فانه لايحق للمثقف ان يسأل لمصلحة من هذا التوجيه الثقافي لصالح الحزب وسياسته والذي لا نتيجة له سوى الرماد. واكثر من هذا لماذا تقوم سياسة الحزب على الالغاء والتهميش والنفي وخلق عدو لابد من وجوده كشيطان مقابل الاله الحزبي؟
واذا نظرنا الى الواقع الثقافي سنعثر على تضاريس في خارطة الثقافة العراقية هي الاتي :
القوى الثقافية تتوزع على الخارطة التالية :
القوى الثقافية المرتبطة بالشيوعييين التي استسلمت لتوجيهات الحزب في مواجهة القوى الثاقفية الاخرى
القوى الثقافية اليسارية التي خرجت من الحزب وصارت تقدم انتاجها بعيدا عن مؤسساته
القوى الثقافية الديمقراطية المستقلة
القوى الثقافية الدينية الحزبية والمستقلة
القوى الثقافية التي خرجت من العراق منذ 1991 وتطلق علي نفسها جيل الثمانينات والتسعينات .
اما الصراع الثقافي في المنفى فيتجلى في :
صراع مع ثقافة النظام التي تكرس عبادة الفرد وتمجيد الدكتاتورية وتحويل الثقافة الى بوق دعاية رسمي والتي ترفضها جميع القوى الثقافية العراقية في الخارج
صراع مع الثقافة الحزبية التي تحاول تكريس تبعية الثقافة للسياسة والايديولجيا وتسعى الى احتكار الثقافة والدفاع عن مواقعها التي اكتسبتها في مراحل الصراع السابقة
صراع بين ثقافة التوجيه وثقافة الحرية والديمقراطية يقوم على كسب المفاهيم وتفريغها من محتواها .
في خضم هذا الصراع من المحتمل ان يكون ثمة اختراق ثقافي حدث في الثقافة في الخارج يمكن تلمسه في تواجد عدد من الاسماء اليسارية السابقة التي استخدمها النظام العراقي في تجمعه الثقافي الذي يشرف عليه عدي وفي مؤسسات نشر مرتبطة باجهزة الدولة الامنيةوتعيد تسويق نفسها عبر اجهزة سياسية في المعارضة وعبر نقاد وشعراء وصحفيين خدموا اجهزة النظام باخلاص تحاول تبييض صفحتهم قوى سياسية يسارية وفي وجود عدد من الشيوعيين في صحف يصدرها موالون للنظام. وحين تتيح مجموعة ثقافية مرتبطة بحزب معارض لنفسها ان تعمل قي صحف معادية للمعارضة وتروج لثقافة النظام ورموزه وتسعى لالغاء الثقافة الديمقراطية والغاء التعددية الثقافية فانني اعود الى القول مجددا كما بدأت حديثي ان التعددية الثقافية عملية نقدية شاملة تقوم على الحداثة التي تنتقد المشاريع الشمولية الكبرى ولا تعتمد فقط على افكار ومفاهيم لوفيفر وديريدا والتوسير وغيرهم؟
لقد جمعت الحداثة الابداع المناهض لكل ايديولوجيا.جمعت على سبيل المثال بين ستاليني مثل تريستان تزارا وتروتسكي مثل اندريه بريتون وبين ماركسي مثل اراغون وكاثوليكي مثل اليوت. بين عبثي مثل بيكيت وبين متمرد مثل بودلير . وهكذا
مالفرق بين مفهوم المعرفة والحرية والشيطان ؟ سواء في الاديان او في الايديولوجيات الوضعية؟
لقد تحدث ماكس فيبر عن دور المدينة وعلاقتها بالحرية قائلا عن المدينة الديمقراطية في اليونان وفي الغرب الرأسمالي ان هده المدينة كانت تجمعا حرا ، مكانا منشودا لكل من يسعى الى الحرية ففي اوربا العبودية والاقطاعية كان هناك عرف يقضي بان العبد الذي يهرب من اقطاعية سيده ويقضي سنتين في المدينة يصبح حرا.
ان المجتمع المدني مجتمع الحرية والتعددية .
ان مشكلة التعددية والايديولوجيا هي التنافر والتناقض . ففي الوقت الذي تسعى فيه الايديولجيا الى خلق تطابق تسعى التعددية الى خلق اختلاف .
الديمقراطية والثقافة – د. نبيل ياسين
مستقبل الثقافة في العراق: لا تماثل بين الثقافة والايديولوجيا. لا وحدة ثقافية بدون تنوع وتعددية الثقافة في هيئة سلطة وليست مؤسسة مدنية – نبيل ياسين
سنعود ، بالضرورة،الى الماضي القريب للثقافة العراقية اذا توخينا تشكيل رؤية عن مستقبلها.البحث عن الجذور تعني العودة الى التاريخ، والتاريخ محرم لانه سيكشف عن اخطاء ومسووليات، ولذلك اضفيت القداسة الايديدولوجية على هذا التاريخ لكي ينأى الكاتب عن تحميل المسوولية للاطراف التي ساهمت في حفر خنادق لدفن الوقائع في مقابر جماعية.
جذور الازمة تتلخص (هل تتلخص حقا؟) في صعود التماثل بين الثقافة والايديولوجيا الى ذروته في مرحلة سياسية تطلبت هذا التماثل الذي قدمه المثقف الحزبي والايديولوجي برضا واندفاع في اطار قناعة سياسية انتجتها ثقافة التحزب والتحزيب واصطياد المثقف ليكون قارع طبل في مقدمة الجيوش التي توجهت لخوض حروب سياسية وايديولوجية ، سرعان ماتركت قارع الطبل في (معمعان)- كلمة ايقاعية حقا تناسب ايقاع ذلك المثقف- المعركة بعد ان فرت في كل الجهات بحثا عن نجاة لتكتشف اعداءها بطريقة انتقائية وارتجالية خارج الميدان.
ماهي الرؤية التي يمكن ان تتشكل من البحث في جذور ازمة الثقافة العراقية.
نبدأ بالرجاء ان لا يعترض احد على الاتفاق على وجود ازمة. لان ذلك يشبه الاتفاق على وجود كارثة في العراق عمرها ، على الاقل ، عشرون عاما حتى الان.
الرؤية التي غيبها الحاضر عن الماضي تتلخص في محو الاختلاف والمختلف. كانت مهمة الماضي صنع تماثل تام. رؤية واحدية تبعية ولائية مسطحة ، لا فرصة فيها لرؤية معارضة في قلب كل سلطة ولا رؤية سلطة في كل معارضة. انعدام الرؤية هذا ساهم في تشكيل معالم ثقافة عراقية لقتل المعارضة في قلب كل سلطة ولقتل السلطة في كل معارضة.
هذا التأسيس خلق الصراع الثقافي في قلب الصراع الايديولوجي وعمد الى صنع التماثل بين الثقافة والايديولوجيا ومحا عن قصد كل حد شفاف او حاد بين الاطارين الثقافي والايديولوجي.
تم هذا التماثل من خلال صناعة (وهم المهمات) التي صيغت في اطار من النعوت مثل المهمات الوطنية والديمقراطية والثورية والتحررية ومعاداة الامبريالية وغيرها من النعوت الايديدولوجية المصنعة مثل علب حافظة للمواد.
واذا كانت الايديولوجيا سلاحا يعتمد حتى على الوهم والتخييل واشعال العاطفة بعيدا عن الابداع وتقوم بصناعة النعوت ، فاننا سنعثر ، اذا قمنا بعملية نقدية سريعة للثقافة السائدة في الاوساط العراقية على التناقض بين رفع شعارات المهمات الوطنيةو الديمقراطية وبين واقع الالغاء والتغييب السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تشيعه وتمارسه غالبية القوى السياسية العراقية ومجموعات من المثقفين الذين ينتمون لها. هذا التناقض يرجع الى ثقافة احتكار الوطنية والديمقراطية واحتكار(المهمات الايديولوجية) ذاتها التي اصبحت محل نزاع البعثيين والشيوعيين في مرحلة من مراحل التاريخ العراقي المعاصر. ويتم هذا الاحتكار عن طريق تغييب الاخر والغائه واحتواء شعاراته دون اية اهمية للمحتوى . وكدليل على ذلك فان شعارات الاشتراكية ومعاداة الامبريالية وانجاز مهمات مرحلة التحرر الوطني كانت مشتركة بين الحزبين المتحالفين الشيوعي والبعث دون ان تتحقق مهمات المرحلة ودون ان يفضي التحالف الى تطوير المجتمع وانما حدث العكس تماما.
وقد (انخرطت)- يلاحظ اني استخدم ما يليق من مفردات دون حساسية بقدم او تقليدية هذه المفردات-الثقافة العراقية الجمعية( وهذا جذر اخر من جذور الازمة)في استقطاب سياسي وايديولوجي حاد. وبدوره انتج هذا الاستقطاب ثنائية قسمت الثقافة الى وطني ولا وطني وتقدمي ورجعي وثوري ولاثوري . وتم كل ذلك على اساس الولاء اوالمعاداة على اعتبار حزبي ضيق اخذ يختصر نفسه في الولاء للقيادات الشخصية اكثر من الولاء للوطن والامة والمبادئ . وبدل ان تكون الثقافة ابداعا فرديا تحولت الى سلاح قمعي للاخر والى تجمعات تهدف الى احتكار الثقافة وقطع الطريق على تعددية الاتجاهات والمذاهب والمنطلقات.
اين تقع ازمة الثقافة الجمعية؟
تقع في قلب المفهوم الغرامشي عن المثقف، اي المثقف العضوي الذي يتحول الى سلطة. ان تحويل المثقف الى سلطة جمعية سواء في النظام السياسي الحاكم( السلطة على المجتمع) او في النظام السياسي الحزبي خارج الحكم ( السلطة في المجتمع)نأى بالثقافة عن كونها مؤسسة مدنية تستمد سلطتها من استقلالها عن السلطة الرسمية. في هذه السلطة اصبح المثقف عضوا في (قطاع المثقفين) التابع للايديولوجيا والحزب السياسي. وصار المثقف يستمد سلطته من سلطة هذا القطاع المنظم والمتحد والمؤهل لتنفيذ المهمات باسم الثقافة.
البحث عن جذور ازمة الثقافة العراقية يقع في اطار تسيسس الثقافة وتحولها الى اطار حزبي. لقد عمدت السياسة العراقية الى استكمال صورة المثقف السياسي الحزبي باعتباره جزء من (حشد) مكلف بايصال رسالة سياسية حزبية . في هذا الاطار كان الابداع ثانويا يستخدم للدلالة على المثقف وليس لتعريف جوهره.وهذه الدلالة كانت تصنيف المثقف في سلطة الحزب السياسية في الدولة او في المجتمع.
في هذا التحويل الذي تم بنقل المثقف من موقعه المدني الى موقع السلطة الحزبية والرسمية تحولت وظيفة الثقافة الى وظيفة سياسية مباشرة.وجرى تصنيف اهمية المثقف واهمية انتاجه استنادا الى موقعه في السلطة السياسية والحزبية .واصبح المثقف العضوي الحزبي يقيس المثقف الاخر بقدر ولائه للحزب واذا نقص عدد المثقفين في الحزب فان الحزب يعمد الى (ترحيل ) انصاف مثقفين الى (قطاع المثقفين). ومن سوء طالع الثقافة العراقية منذ الخمسينات حتى اليوم ان تكون العناصر الاساسية للهوية فيها هي العناصر السياسية.
وعلى الرغم من التاريخ المدوي ، السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، للعراق خلال النصف قرن الاخير ، الا ان الثقافة ، وبسبب الطابع الايديولوجي والحزبي الضيق، لم تستطع ان تكون المرجعية الثقافية لذلك التاريخ .وهذه المفارقة قامت على الصدمة السياسية للثقافة ، الصدمة التي اعاقتها عن ان تكون مرجعية تاريخية بسبب خوفها من التماس مع تاريخ يفترض تدوينا للافكار قبل ان يفترض تدوينا للاحداث.
وبانهيار تحالف الادباء والكتاب والفنانين من مسرحيين وتشكيليين وغيرهم عادت الثقافة الى انقسام سياسي وحزبي ثنائي. وفي مطلع الثمانينات وجدت الثقافة العراقية نفسها تعاني من التسمية والاصطلاح والبحث عن مفهوم واطار جديدين لها في المنفى يميزها ، سياسيا، عن ثقافة تنتج داخل العراق. فاخترعت مفهوم ثقافة البديل التي لم يتميز سوى بطابع التوجيه الحزبي المباشر للثقافة.
بدايات الازمة: توهج الانقسام
منذ الخمسينات اطلق اليسار العراقي على ثقافته اسم الثقافة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي . وتوسع استخدام هذا المصطلح دون ان تتطور معانيه التي اقتصرت في اغلب الاحيان على تماثل مع الايديولوجيا الماركسية بشأن توصيفات مثل المثقف كبرجوازي صغير، والادب البروليتاري ، والوظيفة الاجتماعية للادب والفن. وقاد الخوف من تهمة المثقف كبرجوازي صغير الى تماثل بين الايديولوجيا والثقافة جعل المثقف العراقي اليساري يكرس دوره الحزبي ويسعى للتحول الى «مثقف عضوي » على طريقة غرامشي . بهذه الطريقة اصبح المثقف اليساري محاربا في الصفوف الامامية للاحزاب يضخ في ابداعه الشعارات والتصورات والمفاهيم الايديولوجيه لحزبه ويترقب عضوية الحزب بعد سنوات من حضور الاجتماعات الحزبية التثقيفية التي يترقى خلالها المثقف الذي غالبا ما يكون ممارسا للاغتراب تحت قيادة مسؤولين بعيدين عن الوسط الثقافي وينظرون الى المثقف بريبة ونزعة عدوانية. وخلال عقدين او ثلاثة كانت النتيجة ان المثقف العراقي قد جمع السياسي والثقافي والايديولوجي في شخصية واحدة ، وسينعكس هذا اكثر في المنفى في مطلع الثمانينات.
مقابل هذه الظاهرة برزت ظاهرة ثقافية اخرى اتسعت في نهاية الخمسينات وتبلورت مطلع الستينات ، جمعت حولها طرفا آخر من المثقفين تميزت بظهور المثقف القومي الذاهب الى عروبة الثقافة وتراثها منغمسا في تصنيف المثقف الى شعوبي وعروبي ، عازفا عن رؤية ذاته الا من خلال استقطابه في طرف ايديولوجي قومي يحارب مستقطبا في طرف ايديولوجي آخر . خلال هذا الاستقطاب انقسمت الثقافة الى مصطلحين آخرين هما ثقافة اليسار وثقافة اليمين والى مصطلحين اخرين هما الثقافة التقدمية والثقافة الرجعية والى مصطلحين آخرين ايضا هما الثقافة الثورية والثقافة المحافظة.
وفي عام 1973 تم التحالف بين حزب البعث الحاكم وبين الحزب الشيوعي العراقي.وتم تقسيم الثقافة العراقية على اتجاهين وانتمائين حزبيين كان العامل المشترك بينهما تمثيل اليسار بشقيه الماركسي والقومي، وبدأ الهجوم على المثقف الذي لايستجيب للعمل الحزبي اوالايمان بالاشتراكية والتقدمية كما في الذهنية الدوغمائية .وتم النظر الى الثقافة كانعكاس ايديولوجي. وشكل هذا الموقف امتدادا للاحتراب الايديولوجي والسياسي الحزبي في نهاية الخمسينات . وحين تدهور التحالف واضطر الشيوعيون للرحيل الى المنفى برزت بصورة اكثر الحاحا مساهمة المثقفين العراقيين في «النضال ضد الدكتاتورية واسقاط النظام».وتم تشكيل رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقين لتنظيم اكبر عدد من الاشخاص في تنظيم ثقافي حزبي مع بعض العناصر الديمقراطية المستقلة . كان هذا التنظيم احدى الواجهات الحزبية سلمت للاعضاء الحزبيين بعد ان حشدوا فيه كما مختلف المستويات والمواقع الثقافية ووجد فيه اشخاص اميون لاعلاقة لهم بالثقافة سوى محاكمتها بين فترة واخرى انطلاقا من التوافق مع الحزب او اعضائه الذين اخذوا بدورهم يخضعون لمحاسبة على الولاء للقيادة لا للحزب ومنع اي انتقاد او تفكير ثقافي خارج مسطرة الولاء للقيادة .
توزعت خريطة هذه المنظمة على بلدان عربية واوربية . اي حيث وجدت تنظيمات للحزب .واخضعت لاشراف مباشر من قبل المنظمات الحزبية التي تدخلت في توجيهها وفرض اشخاص حزبيين لا علاقة لهم بالثقافة. وبعد سنتين تقريباانحسرت الدائرة الاعلامية لهذه المنظمة وابتعد عنها الكثير من المثقفين العراقيين وبضمنهم حزبيون لم يستطيعوا تحمل التوجيه القاسي للثقافة على اساس الولاء لاشخاص في قيادة الحزب.واقتصرت على عدد من الحزبيين الذين كانوا يستفيدون من مطبوعاتها ومطبوعات الحزب لتسويق انفسهم ثقافيا ثم انحلت عام 1990اوتوماتيكيا بعد ان استنفذت اغراضها الحزبية والاعلامية. وماتزال تجربة هذه المنظمة بعيدة عن التقييم سواء من الحزب او من من مثقفيه او من المثقفين الديمقراطيين .
كان تحديد اتجاهات الثقافة العراقية في المنفى خاضعا للتصنيف الحزبي.لذلك اقتصر على اتجاهين :حزبي ولا حزبي. وداخل الحزبي يتم تسويق شعارات واوصاف الثقافة الوطنية والديمقراطية ، الثقافة المناضلة ، البديل الثقافي الديمقراطي . الثقافة الانسانية ، الثقافة التقدمية ، ثقافة الشعب ، ثقافة التحرر والاشتراكية. وهذه الثقافة تقدم في وسائل الاعلام الحزبية ويتم نشرها وتسويقها عربيا ايضا . هذه الثقافة كانت تخضع في تأثيرها وانتشارها لموقع الحزب الشيوعي العراقي وظروفه. وليس غريبا ان تصمت اصوات عديدة منها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتحولات في العالم بعد حرب الخليج. او تنقلب ضدها بعد ان انتهت الفوائد المجنية منها .
اما الثقافة اللاحزبية فقد تمثلت في ابداعات عدد غير قليل من المثقفين الذين واصلوا ابداعاتهم رغم الحصار الذي ضرب عليهم في المنفى ايضا .
في ظل هذا الصراع نفسه كان النظام يتابع تشديد الحصار على الثقافة العراقية في المنفى وعلى ممثليها باعتبارها ثقافة خارجة على السلطة. فقد اصدر قوائم منع تداول اسماء وكتب المثقفين العراقيين المنفيين ووضع عقوبات مشددة على ذلك . كما عمم في 17/8/1982 امرا برقم 2/3/8004 على جميع القوات المسلحة وبناء على توصيات من اجهزة وزارة الثقافة وملحقي وزارة الخارجية بمنع تداول اسماء اكثر من مائة كاتب وشاعر عراقي يعيشون في المنفى وحظر قراءة كتبهم بسبب معاداتهم للنظام القائم في العراق .
وواصل النظام عملية التطهير الثقافي لادب المنفى في داخل العراق من خلال توجيه اجهزة الامن لملاحقة الثقافة العراقية. فعلى سبيل المثال اصدر النظام العراقي عبر مديرية الامن العامة امرا صارما الى جميع اجهزة الامن لمنع تداول الكتب العراقية والعربية والاجنبية ايضا وبضمنها كتب ادب الطفل كما ورد في كتاب موجه الى مديرية امن محافظة السماوة برقم 44428 بتاريخ 3/1/1981. او كما ورد في كتاب مديرية الامن العامة رقم 298 بتاريخ 4/9/1987 الذي حظر قراءة كتب المؤلفين العراقيين المعارضين . وظل هذا الحظر يتجدد في كل مرة وكان آخر حظر صدر عن النظام العراقي في عام 1995 طال عددا من ابرز المثقفين العراقيين في المنفى.
قبل ذلك كان النظام قد اخضع للتعذيب والموت تحت التعذيب اكثر من ثلاثين من الصحفيين والكتاب والفنانين والشعراء واعتقل وعذب قرابة 600 من الكتاب واساتذة الجامعة والصحفيين والفنانين والشعراء ، وطارد البقية . ولذلك تجمع في المنفى عدة مئات من المثقفين العاملين في مختلف الميادين الثقافية في الشعر والقصة والصحافة والرسم والمسرح والموسيقى والبحث العلمي والاكاديميات .وجرى النضال على تثبيت الوضع السابق بالنسبة للثقافة الحزبية كوضع ثقافي راهن واعتبرت ثقافة المنفى بديلا عن الثقافة العراقية وتم اختصارها بما ينشر في الصحافة الحزبية وجرى لسوء الحظ محاربة العديد من المثقفين الديمقراطيين المستقلين والغي التراكم من تاريخ الثقافة العراقية .
وفي التسعينات اعاد النظام العراقي اصدار قوائم منع طالت العديد من الاسماء الثقافية العراقية في المنفى .والتحق بالمنفى من جديد عشرات الادباء والكتاب والشعراء والفنانين الذين هربوا من جحيم الحروب والانهيار الاجتماعي والعوز والفاقة والحصار والقمع السياسي .
رغم سلبيات المنفى فانه اتاح لعدد غير قليل من الاشخاص الاتجاه الى الكتابة.وتقلص ميدان التعبير عن الذات من خلال المنظمة الحزبية ليتسع ميدان التعبير عن الذات من خلال الابداع.وتزايد حجم الانتاج الثقافي في المنفى ليحل محل الانتاج الثقافي داخل العراق الذي تقلص بسبب ظروف الحروب والحصار والخراب الذي شمل البلاد وازدياد وتيرة القمع ضد الثقافة والخوف من التعبير عن النتائج المأساوية لحرب الخليج .
وخفت حدة الانعكاس الايديولوجي في الادب والفن العراقي في الخارج وضعفت هيمنة المثقف العضوي الغرامشي لصالح المثقف المنفلت الذي لم يحصل بعد على حرية المخيلة وحرية التخلص من رواسب الايديولوجيا الماضية . ووصع من دائرة المثقف المنفلت جيل من الكتاب الذين عاشوا اكثر من عشر سنوات حربين مدمرتين ورأوا بام اعينهم كيف ان هيكل البلاد يتهدم اذ بقوا احياء فيما مزقت اجساد جيلهم قذائف الموت في الميادين والخنادق البعيدة.
ان محنة المثقف التي واجهها في داخل العراق قبل الثمانينات انعكست بصورة متطرفة في المنفى . فالحذر الشديد من الليبرالية وتهمة المثقف البرجوازي الصغير التي تلاحق المثقف سمحت للرقابة الحزبية ان تتحول الى دعاية مضادة للافكار الحرة والابداع المستقل كما سمحت لتوجيهات الحزب ان تتحول الى سلطة قسرية وابتزازية ضد حرية الثقافة .
من المؤسف ان نتحول من دكتاتورية دولة شمولية داخل العراق الى شمولية حزبية تمارس الدكتاتورية عبر الوصاية على الثقافة العراقيةفي المنفى. ان اكثر من 95 % من الانتاج الثقافي المستقل في المنفى لايجد صدى له في المطبوعات الحزبية كما لايجد قبولا في المنتديات والندوات الحزبية المتعلقة بالثقافة .
ومايزال يدور في المنفى صراع حاد بين حرية الثقافة وبين الهيمنة الحزبية والايديولوجية عليها وتوجيهها. وبسبب ظروف المنفى فان المعايير التي تؤطر ادبا وطنيا او قوميا في منفى ماتزال غير قادرة على توصيف اتجاهات هذا الادب . ففضلا عن الموضوع السياسي الطاغي بسبب الوضع الكارثي للعراق والذي ينعكس في كتابات الاجيال الجديدة التي خرجت منذ وقت قليل لتشهد على الرعب في داخل العراق من خارجه ، هناك كتابات ذاتية تنطلق من رؤية فردية تجريدية خالصة هي رد فعل على السيطرة المطلقة للنظام العراقي على التفكير .
نقد الماضي: السياسة والنقد المحرم
ليس تحليل العلاقة بين السياسي والثقافي وحدها مطروحة على العقل العراقي، وانما تحليل ونقد الماضي السياسي للعراق منذ تاسيسي الدولة العراقية الحديثة في مطلع عشرينات القرن العشرين.
فبدون تحليل ونقد ذلك التاريخ الطويل الذي شكل رؤى النخب السياسية والثقافية ، وبالتالي شعارات وبرامج وممارسات تلك النخب عبر احزابها وتجمعاتها ونشاطاتها وانقلاباتها ومظاهراتها وتحالفاتها ومواقفها من القوى الاجنبية والوطنية ، سنعيد التاريخ مرة بعد مرة بتفاصيله المأساوية ونتائجه الكارثية التي مزقت العراق شعبا ووطنا وتاريخا وثقافة.
ان مهمة نقد وتحليل ذلك التاريخ ليست عملا لتجريح الاخرين وانما لوضع اليد على اسباب الجراح العميقة التي نعاني منها جميعا. انها جراح التقسيم الثنائي المطلق الذي لايسمح الا بخندقين متحاربين وكل خندق يدعي الخير المطلق لنفسه والشر المطلق لعدوه.وقد شمل التخندق الثنائي السياسة والثقافة والموقف من التاريخ كما شمل القوميات والمذاهب والجماعات الثقافية. لقد ضعفت الدولة العراقية وتحللت تحت سيادة السلطة . لقد ابتلعت السلطة دولة العراق سواء كانت سلطة الحزب الواحد او الطغمة او العشيرة او العائلة ، ولم تعد الدولة في العراق الا غطاء مهلهلا لسلطة الحزب او العشيرة او الطغمة او العائلة. فالولاء للوطن يمر عبر الولاء لاحد هذه الاشكال المتسلطة.وبضعف الدولة ضعف موقف المواطن العراقي الذي صار عليه ان لايكون مواطنا في دولة وانما عليه ان يكون مواليا لسلطة اكبر من الدولة. وشمل هذا الضعف ايضا موقف الدستور الشكلي والقانون الذي لم يعد سوى قانون السلطة الذي تفرضه على الدولة من خلال مؤسساتها، هكذا ضاعت الحقوق واصبحت مزاجيةخاضعة لمزاج السلطة وتقلباتها.
ان هذه الفقرات الاساسية في تحليل بنية العلاقة بين الدولة والسلطة والمجتمع في العراق يمكن ان تغتني بالبحث والتحليل الموضوعي المستقل الذي يتناول بالتفصيل دور السلطة في ابتلاع الدولة وتغييبها وبالتالي تابتلاع وتغييب المواطن والدستور والقانون لنصل الى تحليل السلطة الدكتاتورية التي تحكم العراق.
المستقبل: الديمقراطية والثقافة
وبسبب غياب الوثائق الثقافية النقدية العراقية ،قد يصيب مثل هذا النقد الاطر القدسية التي شيدتها التوجهات السياسية والحزبية حول الثقافة والدور السياسي المقدس لها.ولابد من هدم هذه الاطر ونزع قدسيتها لكي يتم بصورة فعلية وواقعية ووطنية التقدم في ميدان الثقافة والديمقراطية.
ولتحقيق هذا التقدم لابد من ايجاد الاليات التي يقوم عليها ، واولها ظهور مثقف مستقل يمارس الديمقراطية ويمارس الثقافة الديمقراطية ويهئ الاسس الكفيلة لقيام ثقافة ديمقراطية تنظر الى ضرورة التلازم بين الحاجة الى الديمقراطية وبين اشاعة الوعي بمستلزمات ممارسة وتطبيق الديمقراطية وتوسيع قاعدة القيم الديمقراطية في المجتمع.
ان بناء دولة ديمقراطية في العراق لاينهض على اكتاف الشعارات وتضمين البرامج السياسية للاحزاب والتجمعات مبادئ الديمقراطية. ان هذا البناء يقوم على ايجاد ضرورة للديمقراطية في الوعي وفي الواقع.
وهذه المهمة ليست سهلة ولا عفوية. كما انها ليست مهمة فرد او تجمع ثقافي واحد. ومع هذا فان نقطة الانطلاق يمكن لها ان تكون عبر جبهة ثقافية من اجل الثقافة والديمقراطية. جبهة تكون نوعا من تيار واتجاه ثقافي مدني مستقل نقدي تنويري يمارس حقه في الوجود عبر احترام حق الاخرين في الاشتراك بهذا الوجود. جبهة تقوم على القيم وليس على الافكار وحدها. تقوم بنقد الماضي وتجاربه وتغلب المصالح الوطنية المتمثلة بسيادة البلاد ووحدة اراضيها وحقها في بناء دولة عصرية يكون المواطن فيها حجر الزاوية التي يقوم عليها القانون والعدالة والمساواة وصيانة الحقوق السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية. جبهة تمارس حرية الثقافة وحداثتها دون ان تعادي التراث والتراكم التاريخي للثقافة والقيم واالمرجعيات الحضارية التي بنتها البلاد خلال الاف السنين من وجودها في التاريخ والجغرافية ومسيرة البشرية والمساهمات الحضارية الكبرى والانعطافية التي قدمتها باسم العراق.
جبهة لا تستخدم الفيتو ضد احد ولاتقبل باستخدامه ضدها. جبهة لاتقيم سورا او اسيجة للمارسة الثقافة ، فهي تؤمن ان الثقافة نتاج فردي يتراكم ليكون نتاج اجيال واتجاهات متعددة، وبالتالي يتحول الى فكر واطار تفكير للمجتمع.
جبهة لاتفاوض على حقوق الانسان والتعددية ودولة القانون والفصل بين السلطات لانها تعتبر ذلك من المسلمات العصرية والضرورية لبناء دولة عصرية في الشكل والمحتوى.
جبهة تؤيد اسقاط النظام ولكنها لاترفع شعار اسقاط النظام لانها لا تملك الوسائل اللازمة لذلك ، وتؤيد اية محاولة لتغيير النظام الدكتاتوري بنظام شرعي يستفتى عليه الشعب ويرضى بدستوره الذي يضمن حقوق وواجبات جميع المواطنين العراقيين.
جبهة ترى العالم المعاصر وما يحدث فيه من تغيرات مع احترام ما يلزم من خصوصيات ثقافية واجتماعية شريطة ان لاتكون عائقا مام الديمقراطية والتقدم وتحقيق العدالة على اساس المساواة .
جبهة تتبلور وتتجلى من خلال تفاعل الاراء والاجتهادات والمواقف وتقبل الاختلاف في وجهات النظر بعيدا عن الاختلاف على مصالح الوطن والشعب المتمثلة في بناء دولة عصرية دستورية تفصل بين السلطات ، دولة القانون والمواطن المتمع بحقوقه دون تكريس وفرض عقيدة واحدة وايديولوجية واحدة وايمان واحد.
تيارحداثة ينظر الى الحداثة نظرة واقعية يمكن لها ان ترى في بعض الخصوصيات القومية والثقافية والاجتماعية غنى وثروة دون اشتراط سيادتها على المجتمع العراقي.
مثل هذا التيار يساعد على تطوره صعود موجة الديمقراطية والتعددية التي اصبحت واقعا وضرورة اجتماعية لتجنب مشكلة الاستبداد التي تفاقمت بشكل عميق جدا لايمكن معالجته عن طريق المطالبة باصلاحات او اطلاق حريات.ان ولادة ثقافة ديمقراطية تستدعي ولادة جيل ثقافي جديد. وهذا الجيل الثقافي ينتشر اليوم على مساحات شاسعة من العالم تمتد من العراق الى اوروبا واستراليا وكندا والولايات المتحدة ،. وتتطلب ولادته توحيد نشاطه من اجل الديمقراطية والثقافة والعدالة والتعددية واحترام الابداع وتقليص دور الايديولوجيا في الثقافة والمجتمع والسياسية.
وبولادة هذا الجيل الثقافي الجديد المكون من عدة اجيال زمنية تولد نواة المرجعية القيمية للثقافة الديمقراطية. لكن ذلك يتطلب عودة الجيل الثقافي الى نقد الماضي وتشريح التجرية الثقافية والسياسية التي قادت الى تكريس الاستبداد السياسي والثقافي والى تكريس ثقافة الالغاء والتهميش بروح موضوعية، شجاعة وتنويرية تضع مصلحة الامة والوطن والمواطن في اطار واحد باعتبارها مصلحة عضوية واحدة ، بعيدا عن اعتبار المصلحة الحزبية والفئوية المصلحة الوطنية الوحيدة.
مفهوم الحرس القديم ودوره الجديد من اجل الديمقراطية وحرية الثقافة وحقوق الانسان نموذج واقعي شخصي – د.نبيل ياسين
احلام واوهام الثقافة العراقية من يحلم اليوم في ابداع ونص وسط عقليتين تحكمان القسم الاعظم من ميدان الثقافة العراقية؟
غورنغ اعار كلمته ومسدسه لنظام الثقافة في الداخل.(حين اسمع كلمة ثقافة اتحسس مسدسي). هكذا نصف الطبيعة العدوانية والتصفوية لوظيفة الثقافة البعثية المؤدلجة ضد الآخر. تثقيف ما اعار لعدد كبير من المثقفين في الخارج فكرة:حينما اسمع كلمة ثقافة افكر بدهاليز المخابرات والجاسوسية والعمالة والتمويل السري وكأن الضحية استمدت من جلادها فطرته الايديولوجية الموظفة لتدمير الآخر.
لا اجد في «المأثور الثقافي»العراقي تقسيما قصديا يستلهم الثقافة كلماسمع كلمة مسدس او جاسوسية او عمالة او خيانة.كانت السياسة هي التي توزع التهم .لكن الكثيرين يتحسسون الثقافة كلما تداولوا مفردات العمالة والجاسوسية والمخابرات.حتى الاسئلة لم تعد بريئة وهي تجتهد في التحايل على قانون القذف فتاخذ شكل همزة لمزة لتوسع ميدان الشك الذي تتلبس فيه الصراعات السياسية طابعا ثقافيا،وتستخدم فيه وسائل لايستطيع احد تحديد« شرعيتها» في ظل غياب تام للمرجعيات التي تحدد الشرعيات في وقت لم يعد يملك فيه المثقف الحر سوى شرعيته الاخلاقية.اكثر الاسئلة تستهدف الانجرار وراء تلك العقلية التي تدخل الثقافة في دهاليز المخابرات والجاسوسية والخيانة والعمالة.
لقد تحولت احلامنا الى كوابيس دائمة لم توقف تحولها هجرتنا من ارض المهد وحليب الامهات وملاعب الصبا وشوارع ونوافذ الصبابات الاولى،وانما على العكس،عمقت الكوابيس وصبغتها بالوان حالكة اخرى وباشباح وطناطل وسعلوات الحكايات والقصص الشعبية في تلك الطفولة البعيدة مثل مجرات مهجورة.تلك الطفولة التي اختلطت فيها الطناطل والسعلوات بالدبابات وقضبان السجون ورشاشات بورسعيد والكلاشينكوف والدماء التي سالت في شوارع البلاد حيث انقسمت البلاد في هتافات (عملاء موسكو) و(عملاء واشنطون).
كنا نحاول الخروج سريعا من ذلك النفق لكي نصل الى الوطن ولانتوزع على انتماءات عواصم اجنبية اسوأ ما فيها صنف من المثقف العراقي القادر على الظهور بمظهر ضحية وجلاد في نفس الوقت وفي نفس المشهد.
لكن الشعارات تلاحقنا وتصرع ثقافتنا وابداعنا وينخرط مثقفون في حشود عمياء تسمع الهتاف وتردده وكأنها تهتف في طقوس عشتار وهي تمر في شارع الموكب للوصول الى البوابة لتهبط مع عشتار الى العالم السفلي بحثا عن تموز.
لقد كان تموز ثقافتنا.وصرنا،في ضجيج الهتاف لانبحث عن تموز ولاننزل للبحث عنه لنجدد خصبنا وربيعنا. بعضنا صار يقف مع الرجال- العقارب الذين يحرسون بوابة الجحيم وينشدون لارشكيجال التي تمنع عشتار من التقاط تموز واعادته الى الحياة، الى ربيع تلك الحضارات في سومر والوركاء واريدو وبابل واكد ونينوى وبغداد.
وبدلا عن تلك الحضارات،اقمنا سرادقات الحرب الكلامية في لندن وباريس وامستردام واستوكهولم وغيرها من عواصم المنفى لرمي سهام التهم والاباطيل لنصيب قلب الثقافة العراقية بالنصال التي يتكسر بعضها على بعض.
هل كان علينا ان نخسر وطنا واهلا وشعبا وتاريخا وممتلكات واشياء ولادتنا وطفولتنا وصبانا وشبابنا وكهولتنا ايضا لكي ننتقل الى المنفى البارد قلبا ومناخا لنتبادل التهم ونشن الحملات السرية الهوجاء لمواصلة داحس والغبراء والبسوس بين عملاء موسكو الذين(توزعوا على سبعين عاصمة ونصبوا مراكز اطلاق التهم) وبين عملاء واشنطون؟
وبعيدا عن دهاليز الحملات الشفهية المنظمة ، صرنا نعاف الصحف التي لاتقدم ثقافتنا وهمنا وجرحنا لنطالع بدلا عن ذلك شكوكاوتهما وتجريحا ونقمات مكبوتة يصرفها بريد القراء احيانا لاسماء مستعارة في بلدان ليست لها ولاتسكن فيها ليضيع اثر الشك واثر التهمة واثر الهمزة اللمزة.او يتفضل شاعر مرعوب من تغيرات العصر وفي لمن سوقه ليتبرع بوضع الضحايا العراقيين في براميل القمامة ويسمم لقمة الغربة في افواههم.وكل ذلك لمواصلة خندقين لا ثالث لهما: موسكو (التي سقطت اسوارها وانهد جدار برلينها) وواشنطون التي ماتزال تقف وراء كل اختلاف ورأي آخر في المأثور العراقي الجديد.
ليس السؤال متى نخرج الثقافة من التهم الجاهزة والمعلبةفي عقليات حزبية لاتطيق الاختلاف وتعتبر كل اختلاف في الرأي تعاونا مع اعداء الوطن.وانما من الذي حول الثقافة الى معركة مخابراتية واجهز على ما تبقى من ضماد نلف به جراحنا المفتوحة ؟
وبعيدا عن الخيانات والوشايات والشكوك،دعونا،نحن المثقفين العراقيين الذين نخاف من خيانة الوطن ونخاف على الوطن ونحمل ارضه وهيكله وطقوسه وجروحه ولبانه النازف من الطعنات معنا نسأل:هل الوطن «مفهوم »ام هوالوطن بنفسه، بدمه ولحمه وترابه وتاريخه وانهاره وملايينه البشريين وليس صنما من اصنام قبائل العرب حيث كان لكل قبيلة صنم؟.نتحدث نحن العراقيين عن الوطن.لكن دعونا نسأل عن اي وطن نتحدث ؟عن وطن البعثي ام وطن الشيوعي؟عن وطن الاسلامي ام وطن القومي؟ فلكل وطنه وكل من يختلف مع هذا الوطن متعاون مع اعداء الوطن.
تعالوا الى وطن(نا) وقولوا لي من يدافع عنه ومن يخونه مع اعدائه واكشفوا اسماءهم والوثائق اللازمة للتهمة.
يبدو الامر وكأن الاسئلة بريئة ونحن ننظرالى كل هذا المشهد الدامي ونرى الجريمة في كل ركن منه؟
تعالوا ايها المثقفون العراقيون لنقف على الاطلال ونرى ثقافتنا العراقية .
اذا كنتم تسألون عن اعداء الوطن من الامبرياليين فنعم هم اعداء للوطن.ولكان من حسن حظ الوطن ان يقتصر اعداؤه على الامبرياليين ومن يتعاون معهم.سوء حظ الوطن ان اعداءه كثيرون وهم يمتصون من قلبه وثديه وشفتيه وجراحه.اعداء من داخله ايضا.من اليمين واليسار.من القوميين والاشتراكيين.الكل يدعي الوطنية على حساب اتهام الآخر بانه يتعاون مع اعداء الوطن، فيما بعض منتديات العراقيين تنشط اعتمادا على تمويل رسمي بالكرونة السويدية او الغلدر الهولندي او الدولار الامريكي والكندي والجنيه الاسترليني وغيرها من نقود دول اللجوء الامبريالية.
فقراء الوطن صاروا اغنياء في ارض الامبريالية.«والغنى في الغربة وطن».اليس الامبريالية وطن لهؤلاء ؟فعن اي وطن نتحدث؟
هذا طلل.تعالوا الى طلل آخر:من قبل كان بعض مثقفينااليساريين يقيسون وطنيتنا بالاتحاد السوفيتي.كان الولاء له قياسا للوطنية.اليوم،اصبح السيد گلوي مقياس وطنيتنا.يمتدح نظام صدام حسين ويطلب من بلده التعاون معه .مع هذا يطلب منا بعض المثقفين العراقيين ان نقيس وطنيتنا بمقياس گلوي او مقياس صدام حسين كما تقاس المآسي(الهزات)الارضية بمقياس ريختر.البؤس هو ان العراقي لايمثل مصالح بلده،ومواقفه ليست مقياسا للوطنية،وانما الاجنبي او الحاكم المستبد.اين العراق مقياسا للوطنية؟اين موقف الشعب العراقي مقياسا للوطنية؟
منذ ابتلينا بشعار التعددية صرنا لانعقل هذه الكلمة ونهرف بها دون ان نعاين معناها.لقد خضنا، منذ نهاية1968 تجربة اتحاد الادباء العراقيين.اتحاد التحالف . لقد جرى الدفاع عنه وبعض اعضائه يدبجون كل اربعاء تقاريرهم الى مديرية الامن العامة عن حديثنا وشعرنا وكتبنا وقراءاتنا.وتحول الى قلعة عسكرية اقصت الثقافة ليحل الحرس فيها بدل الادباء. نعم.وحاول البعض ان ينسى التجربة ، لنخوض تجربة رابطة الكتاب والصحفيين الديمقراطيين العراقيين، وتكررت تجربة الاتحاد ولكن دون تحالف هذه المرة.اغرقت الرابطة بالكم والحزبية والمحسوبية وتحولت الى منظمة حزبية عدوانية اقصت عشرات الكتاب والصحفيين وحققت مع بعضهم تحقيقا بوليسيا لتضع يدها على اختلاف في الرأى لدى بعض المثقفين الحزبيين فاقصتهم الى الجحيم.
اليوم يقوم في عالمنا الثقافي اتحاد عام للكتاب والصحفيين العراقيين ويصدر مجلة باسم(المسلة).لم يكن احد، قبل تاسيس هذا الاتحاد يدعو الى كيان ثقافي.والمحاولات البريئة التي سعى اليها بعض المثقفين المستقلين قوبلت بالصدود والمناورات لاسقاطها في مهدهاوجرى الالتفاف عليها لكي تظهر هنا وهناك منابر هي ردود فعل لا اكثر.اثار الاتحاد ومجلته حربا ضروسا من طرف واحد.لا اتحدث باسم الاتحاد فانا لست عضوا فيه، وعافت نفسي تنظيمات الثقافة ولكني ساتناوله كنموذج للمشهد. فالتحريم هو المبدأ الاول. والالغاء والالتفاف هو المبدأ الثاني.هناك كثير من المآخذ على الاتحاد وعلى شرعية اسمه، لكن لم يكن هذا هو المهم . فالمهم كان تحريمه والتشكيك بحق تواجده.و ماحصل بعد ذلك يثير ازمة الثقافة العراقية في جوهرها: شنت حملة شعواء ضد الاتحاد لم تقترب من الثقافة وظلت في جلد السياسة السميك.وتطورت الحملة الى نداء لتجمع ثقافي آخر يمكن ان يكون مشروعا وطبيعيا على رغم كونه رد فعل،لولا انه عمد الى التذكير بمحاكم التفتيش.لابد من لجان تفتيش وتحقيق لمعرفة يوميات المثقفين.لابأس،ولكن النداء الذي حرّم «جنة» الملتقى على البعض سرعان ما ادار ظهره لشروطه ودعا الى مصالحة وطنية مع النظام ونسي ان الذين يعيش بين ظهرانيهم تنطبق عليهم شروط التحريم اذ عملوا في صحافة واذاعة المؤتمر الوطني العراقي واحتكروها طوال خمس سنوات، فكيف يمكن ادخالهم اذا كانوا قد قبضوا رواتبهم من الامبريالية ؟
صكوك الغفران سرعان ماوزعت على ازلام النظام قبل ان توزع على ضحاياهم فدخلنا حقل الغام آخر، الغرض من زراعته ليست شروط الملتقى وانما الهلع من ضياع فرص احتكار الثقافة وتوزيعها، مثل الحصص الغذائية تحت الحصار، على ازلام وتابعين ليس من المهم ان بعضهم يعمل وينشر في صحف موالية للنظام ومتواطئة معه .ومع هذا يتواجد على صفحاتها كثير من المثقفين الذين يوجهون الاتهامات بالتعاون مع اعداء الوطن.اي وطن مرة اخرى ؟
نذهب للوقوف على طلل آخر.على حقل الغام آخر.
كثير من مثقفي مؤسسات صدام حسين و مؤسسات عدي خرجوا.من يحتظنهم و يسوقهم و يكتب لهم مقدمات كتبهم ويكتب عروضا عنها في الصحافة العراقية في الخارج والعربية ايضا ويرشحهم لجوائز بلدية في مدن امبريالية باعتبارهم ضحايا ارهاب النظام وينشرون اعلانات تصبح فيها الجوائز عالمية ويصبحون ضحايا بدلا عنا؟حتى المنفى سرقوه منا بعد يومين من وجودهم فيه.اما الوطن الذي سرقوه قبل عشرين سنة منا وثلاثين او اربعين بالنسبة لاخرين فلا احد من المثقفين يتهمهم بسرقته،على العكس تبنوهم وحاولوا جعلهم بديلا عنا انتقاما منا لتخريب اهاب واعصاب الثقافة العراقية .فمن هم اعداء الوطن؟وعن اي وطن نتحدث؟
نفحص شهادة (مثقف) خدم النظام في الداخل ويعمل اليوم في الخارج ويعمل لديه صحفيون وطنيون وتشن عبر صفحاته حملات ضد اعداء الوطن.يقول في رسالة الى عدي صدام حسين بعثها من الخارج فنشرهاعدي في صحيفته:
«كلانا مؤمن انه رصيد للاخر.انت ضمانة لي وانا ساعدك ومؤتمنك وحامل اسمك الذي طالما وجد فيه عبق عطر القائد الحبيب وظله وزرعه الطيب الامين.
ناس كثير سألوني من قبل لماذا لم اكتب مباشرة الى مقام الرئيس القائد..؟كنت وما ازال اتهيب الكتابة ومخاطبته مباشرة لانني ارى فيه الرمز المترفع عن خطايا الاخرين واخطائهم وخصوماتهم ، وهو المرجعية التي لايجوز اشغالها بهم اضافي غير الذي يحمله من هموم العراق»
ويختتم رسالته مخاطبا عدي:
«سيدي الكريم :انتم اهلي والنظام السياسي في العراق هو خياري»
هذه اللغة وهذه النوعية من الولاء ليست خيارا. واذا كانت خيارا فانه يعود اليه اليوم مثقفون صدعوا رؤوسنا بالحديث عن الدكتاتور والدكتاتورية ، هذا الحديث الذي بوأهم مقاعد مقتدرة في واجهات الثقافة العراقية فاذا بهم يعودون القهقرى. والامر لايخصهم وحدهم طبعا ، فهم يتحدثون دائما باسم جماعات وقوى سياسية حتى لو كانوا خارجها تنظيميا.
هذه الثقافة وحلفاؤها حماية لنظام القمع والدكتاتورية.انها عودة ثقافة الجبهة الوطنية سيئة الصيت. الجميع يدعون محاربة الدكتاتورية.لكن الدكتاتورية ستبقى طويلا لان من يحميها هو هذه الثقافة.واليكم نماذج من هذه الثقافة
يحميها ناشر يكتب شاكيا من( غياب الديمقراطية ونفي الاخر )وهو يقبض من كل مبدع ثمن نشر كتابه ومن كل مؤسسة باسم الابداع وينفي الآخر ويضع قوائم سوداء بالتعامل مع المثقفين ،ويحميها من يكتب( بعد عشر سنوات على وقوع الكارثة فان المثقف العراقي قد انتصر لحريته) وهو يصف المثقف العربي(بالانحياز المضحك للشرعية الدولية بعد ان عجز العراق عن الاستمرار بتلقيحهم بمصل البطولة). ليست الثقافة وانما النظام الذي يضخ مصل البطولة وليس هذا المصل سوى الاموال .هذا الفكر الذي يجعل من الكارثة حرية كيف نسأله عن مصير الوطن؟
يحميها من يكتب ، وكأنه يسخر من عقلنا بانه اختار عشرة كتب لتمثل العراق بالالفية الثانية ثم يتبين انه اختارها لربات البيوت اللواتي سألنه ما هو اعظم حدث خسره العراق فكان جوابه:انهيار الجبهة الوطنية !
اليس انهيار القيم والمسؤولية وجدية الشعور بالكارثة والمأساة هو ماخسرناه؟
كثير من( كتابنا الوطنيين) ينتقمون منا. ييبحثون عن هوامش ليجعلوا منها متونا.والبشر يدركون ويحزنون وهؤلاء مسؤولون عن استمرار احزان العراقيين.
تعالوا معي الى طلل آخر.تعالوا الى الثقافة العراقية واسرائيل.واسألوا معي لماذا يوقع عشرات الكتاب العراقيين اليساريين (الوطنيين) على بيان مسجل باسم كاتب عراقي ذهب الى اسرائيل عدة مرات ولماذا يروجون لهذا البيان ويتغاضون عن التعاون معه ثم يثبرون الدنيا باعداء الوطن؟كل اعداء الوطن الذين يردون في حملات هؤلاء المثقفين وهميون.السبب هو التستر على اعداء حقيقيين وواقعيين للوطن.
اين الثقافة في كل هذا؟اين الابداع العراقي؟ لقد ادخلوه دهاليز المخابرات والجاسوسية واعداء الوطن.
المثقف العراقي كتلة تعصب وقليل منه كتلة عصب.ولذلك يغلب على الثقافة العراقيةانتاج التعصب:الايديولوجيا ويندر انتاج العصب :الابداع.
ان العراق اول بلاد دفعت ثمن الحرب الباردة دمافي شوراعها في نهاية الخمسينات.شهدنا الدم يسيل،وقطرات منه من دمي ودمكم .لقد انقسم الشارع وانقسمت الثقافة العراقية الى:عملاء موسكو وعملاء واشنطون.هذه هي المصطلحات التي تصارعت بالدم في شوارع بغداد وفي شباط 1963كان ثمن هذين المصطلحين دما دفعه العراقيون .ثم تكررت الاثمان التي دفعناها.لكن هناك من لايزال يقبض الثمن.واليوم ندفع ثمن دفاعناعن وجودنا جميعا في وطن.عن نسيان عملاء موسكو وعملاء واشنطون وايجاد مخرج انساني لمصير العراقي التائه والمذبوح والمعلق على صلبان لا حصر لها.والمثقف اول الخائنين لمصير شعبه حين لايبحث عن هذا الشعب الا في شعارات عن الوطن واعداء الوطن هي في واقع الامر غلاف لمصالح فردية وفئوية.الوطن وجود وليس شعارا واعداؤه ليسوا جملة ثورية فارغة في جريدة.الوطن ايضا علم لايجلس تحته العراقيون في المنفى ولايعترفون به،ونشيد لا احد يصدح به .العراق هو البلد الوحيد ربما الذي ليس له دولة.له سلطة ابتلعت الدولة وابتلعت علمها ونشيدها ورموزها، وليس هناك معارضة في العالم كله ليس لها علم ودولة ونشيد وطني الا المعارضة العراقية.
عن اي وطن اذن نتحدث؟
عن وطن الايديولوجيا التي تبحث في قصائدنا عن اخطاء.اذا وجدت ورة حمراء سكتت واذا وجدت وردة بيضاء نعتتني بالمثقف البرجوازي الصغير.وحتى هذا لم يعد كافيا.على ارض العراق المطلوب هو الولاء لصدام حسين. اما خارج الوطن فالمطلوب الولاء لصدامات حسين متعددة . فعن اي وطن تتحدثون؟
تعالوا لنشرب فنجان قهوة ونتحدث عن بهاء الوطن المفقود.او.. وداعا.
تأصيل ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان لمواجهة التغيرات المثقف والثقافة الديمقراطية – د.نبيل ياسين
تقع موضوعة الثقافة والديمقراطية اليوم في قلب الخطاب الثقافي العربي .غير ان ايقاعها يصخب في ادبيات المثقف الذي ينازع التغيرات التي يفرضها هذا الخطاب.ويبدو المثقف هنا متناقضا وهو يتبنى الديمقراطية ولكنه يعمل ضد ما تشترطه هذه الديمقراطية من تعددية ومؤسسات مدنية وحقوق الانسان . ومصدر التناقض هو ان المثقف الذي يسعى لتضمين خطابه مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان ينطلق من موقعين : الاول هو موقع الحاجة الى هذه الديمقراطية وهذه الحقوق في عصر يتسم بسيادة هذين المفهومين دون منازع.والثاني هو موقع حاجة ايديولوجيا المثقف الي الحرية في العمل والتعبير.غير ان عددا كبيرا من المثقفين ذوي الخطاب الديمقراطي يضيقون ذرعا بالتعددية لانها تقلل من حجم مواقعهم وتضطرهم الى المنافسة ويعملون ضد مؤسسات المجتمع المدني الاخرى لانها تضيق من حجم احتكارهم وهيمنتهم.فمثلا يندفع المثقف الى الانخراط في منبرثقافي ويحوله الى منبر خاص به يحتكر الثقافة ويستشيط فرقا اذا ما تأسس منبر ثقافي آخر يتيح للآخرين التعبير عن انفسهم لانهم لايتاح لهم التعبير عن ذلك في المنبر الاول. وهكذا نجد ان الخطاب الثقافي الديمقراطي خطاب سلطوي دكتاتوري اكثر منه خطابا ديمقراطيا حقيقيا.اي انه خطاب ديمقراطي مزيف .وبهذا يقع المثقف في تناقض المطالبة بديمقراطية تقتصر على موقفه، ولذلك نرى الخطاب الثقافي العربي الداعي الي الديمقراطية وحقوق الانسان بشكل عام ينزع للدفاع عن انظمة دكتاتورية وقمعية تصادرحقوق الانسان وتسحق الديمقراطية لان هذه الانظمة تشترك في قاعدة ايديولوجية واحدة مع خطاب المثقف او انها ماتزال تمثل وتحمي مصالحه وموقعه ونفوذه او انه يجد دورا لدى القاعدة الاجتماعية التي تميل الى هذه الانظمة بحجة العداء للامبريالية مثلا او رفض الغرب او ترديد مفهوم الحروب الصليبية او النظام العالمي الجديد والعولمة مؤخرا.
فالمثقف الداعي الى الديمقراطية يقف ضد اعطاء الحقوق القومية والثقافية والمذهبية لمواطني العراق بحجة الخوف من تقسيم العراق.وهو يقف ضد المطالبة بتغيير النظام في العراق بحجة ان المعارضة تتعاون مع الولايات المتحدة. والمثقف الداعي الى الديمقراطية مايزال يتعامل مع القضية الفلسطينية كما كان التعامل يتم معها بعد 1948 او 1967 بحيث يبدو متزمتا اكثر من صاحب القضية وحامل لوائها حتى لايترك له فرصة للدفاع عن موقفه ورأيه واسلوبه .ويشترك مع انظمة دكتاتورية لم تفعل للقضية الفلسطينية سوى شعارات متصلبة.من هذا المنطلق تنطلق منظمات حقوق الانسان العربية في الدفاع عن انظمة دكتاتورية بحجج مختلفة اتاحت لهذه النظمة مد الجسور المختلفة مع هذه الانظمة التي استطاعت التغلغل في بعض منظمات حقوق الانسان وجعلها جزء من ارادتها والدفاع عنها .
واذا ما تم فحص خطاب المثقف العربي بشكل عام نجد ان هناك تبجيلا لغياب الديمقراطية عن طريق اتخاذها موضوعا لدغدغة عواطف الجمهور، كما نجد في الخطاب الثقافي سخرية مبطنة من الديمقراطية باعتبارها جزء من الشكل الغربي للحياة السياسية والثقافية وبالتالي فهي ضد سلطة الحزب الواحد التي عاش في ظلالها المثقف العربي ماركسيا او قوميا.
يتم طرح موضوعة الديمقراطية من وجهة نظر سياسية فقط ، بعيدة تماما عن طابعها الثقافي وارتباطها بالذهنية والتصور والمفاهيم السائدة . فالديمقراطية ، عربيا ، حتى الآن على الاقل ، هي مفهوم مطروح كنقيض للسلطة الحاكمة. ويبدو ان هذا هو كل مافي الامر . وبمعنى آخر:ذريعة،او تبرير للموقف المعارض.وهي لاتتعدى هذا،لانه بمجرد التحول الى السلطة ، يبقى مضمون الحكم هو نفسه ، ويبقى جوهر التحكم بالسلطة واسلوب استخدامها هو نفسه ، حتى ان الثقافة،لدى المعارضة المنادية بالديمقراطية ، هي ايديولوجيا ، وانتاج موجه ومسيطر عليه ، ويراعي الشروط الايديولوجية لهذا الحزب او ذاك من احزاب المعارضة ولايلتفت لشعارات الديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية وحقوق الانسان التي دعا اليها من قبل
فالمثقف العربي ، كمثقف في الدولة، في الادارة الثقافية الحكومية ، كمنتج ثقافة في اجهزتها الدعائية ، وليس كمعلم ، او استاذ في معهد ، او موظف في الضريبة ، او الضمان الاجتماعي ، او الصحة او اية دائرة حكومية اخرى . ويرتبط ابداعه بمورده المالي ، اي ان الثقافة تدر عليه مرتبا لانه مثقف . وبالتالي فان نمطه الثقافي الجديد يكون ، في حالات كثيرة ، متعارضا مع دوره وموقفه ، لكن القضية الاساسية تبقى قائمة وهي ان المثقف كمنتج لعمل ثقافي يقوم بدورة حصان الناعور ، ويشكل احتكار الثقافة من قبل الدولة عائقا كبيرا امام تطور المثقف . لكن ، هل من الانصاف ان نقول ان المثقف يتحمل وزر هذه النتيجة التي وصل اليها المثقف ليقف اليوم وحيدا ، مهزوما. وبالتالي فان ثقافة حقوق الانسان تواجه تحدي المثقف المنادي بهذه الحقوق ايضا.
ان التطورات العاصفة التي مرت بالعالم في عقد التسعينات وتعمق الصراع بين الواقع والمفهوم ارجع كثيرا من المفاهيم المطروحة في العالم العربي الى ماوراء الواقع ، وبالتالي فان هذا الواقع نفسه رمي المثقف العربي في الفراغ . وصار يبحث عن دوره في مكان آخر بعد ان كان يبحث عنه في حزب او حركة سياسية . لكن هذه النتيجة ، لسوء الحظ ، لم تكن بريئة ثقافيا ، كما لم تكن بريئة سياسيا ، خاصة من قبل السياسة الرسمية . لكن النتيجة واضحة : ان دور المثقف ثوريا طرح لنا دورا للمثقف التنوير المعني بثقافة حقوق الانسان والداعي الى المجتمع المدني والتعددية . اي انه تحول الى مثقف تنويري . ولكن كيف يمكن تجذير طرحه للمفاهيم المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الانسان في المجتمع ؟
ان المثقف التنويري نفسه ، الذي كان يئن تحت وطأة الدور التثويري للمثقف ، ما زال يئن تحت وطأة الدور النمطي الذي سيوسع الهوة بين المثقف النمطي وبين المثقف النموذجي اكثر فاكثر بينما يضيق من الفجوة القائمة في التماثل بين الثقافة والدور النمطي للمثقف . اي ان التحدي الذي تواجهه ثقافة حقوق الانسان يكمن ايضا في دور المثقف نفسه طالما يدور الحديث عن ثقافة حقوق الانسان .
لايعني هذا بالطبع تبرير طبيعة واجراءات السلطة العربية القائمة . لكن هذه السلطة متهمة بمصادرة الديمقراطية ، وبالتالي فان علينا ان نرى كيف يمكن ان نعمل مع هذه القوى العربية من اجل الديمقراطيةكممارسة وليس كشعار .اي تأصيل ثقافة حقوق الانسان كظاهرة مرتبطة بالقانون والدستور وطبيعة السلطة ودور المجتمع في هذا التأصيل .
ماتزال كثير من القوى السياسية العربية المعارضة تطرح الثقافة التي ترى في الديمقراطية طابع الرأسمالية والامبريالية والبرجوازية ، وهي لاتشذ بذلك عن كثير من الانظمة العربية العشائرية او القومية الاستبدادية . فالديمقراطية الغربية مطروحة في العقلية العربية السائدة علي اساس انها ديمقراطية مزيفة . والديمقراطية الحقيقية هي ديمقراطية كل حزب وحده ، وليست ديمقراطية الاحزاب الاخرى . وهذا الصراع لايقوم على اساس تحقيق الديمقراطية او ممارستها او الوصول الى وعي حقيقي بها ، بل الوصول الى وعي زائف . فالديمقراطية على هذا الاساس موجهة ، مؤدلجة ، ذات مضامين اقتصادية واجتماعية شمولية او شبه شمولية ، والثقافة في هذا التصور عن الديمقراطية ، موجهة وحزبية ، واذا كان هناك سبيل لجعلها ثقافة الحزب الحاكم (مستقبلا ، تحت راية الديمقراطية ! ) فيجب جعلها هكذا و اما التعددية فهي حالة منفى او حالة فقدان القدرة على السيطرة على توجيه الثقافة
لعل هذا يكشف اهمية العلاقة بين الثقافة والديمقراطية وحقوق الانسان . فاذا كان كل نظام شمولي بحاجة الى منظومة ايديولوجية تتدخل في الخاص والعام ، فان غياب هذه المنظومة في البيئة الديمقراطية يشكل تهديدا امام (الديمقراطية المؤدلجة) التي ترى حقها في فرض( الهيمنة)على المجتمع،وبالتالي ابقاء المجتمع في حالة تبعية سياسية واقتصادية وفكرية للسلطة . فالسلطة هي نتاج ارادة سياسية سواء في الاستبداد او في الديمقراطية . ولكن السلطة المستبدة هي سلطة فردية سواء كانت حزبا او طغمة او عائلة او زمرة ، على العكس من السلطة في النظام الديمقراطي التي تقوم على عقد بين هيئتين او طرفين هما مجموع المواطنين الذين يتنازلون للطرف الثاني (الدولة)عن ارادتهم مقابل ان تكون هذه الارادة محترمة ومصانة تقوم الدولة بموجبها بالتصرف مقابل الالتزام بحماية حقوق المواطنين واحترام ارادتهم . وهذا العقد ليس عقدا اجتماعيا فحسب ، بل هو عقد بمحتوى اجتماعي وشكل ثقافي لا يمكن الفصل بينهما . فالثقافة التي تقوم على وعي هذا العقد وشروطه وحقوق وواجبات كل طرف فيه ، ترتبط بمضمون هذا العقد واهميته . والشكل الثقافي لهذا العقد ليس شكلا مجردا ، بل هو مرجعية اساسية للديمقراطية ، لايقوم الخلاف الا وتدخل هذا الشكل للحكم علىه وحله سلميا قدر الامكان
وهذا الشكل من العلاقة قام على ثقافة اصلت لهذه الظاهرة كمفهوم حقوقي واجتماعي وثقافي لايمكن تجاوزه بانقلاب او خروج على السياق السلمي للدولة .
وبمعنى آخر ، فان الثقافة المرتبطة بالديمقراطية تتجنب العنف وتتجنب وسائل الاكراه الاخرى كالايديولوجيا الرسمية التي تمارس الارهاب الفكري والجيش والصحافة المؤممة والميليشيات واجهزة القمع المختلفة على سبيل المثال في. حل الخلاف السياسي واختلاف وجهات النظر وفرض وجهة نظر واحدة ووحيدة عن طريق العنف والاكراه .
هنا بالضبط تقوم مفارقة كبرى بين الديمقراطية والاستبداد ، بين الليبرالية والشمولية ، وتتمثل هذه المفارقة في التماثل بين الثقافة والايديولوجيا . فالديمقراطية تدفع الايديولوجيا الى الخلف وتقيم الثقافة محلها ، وهي تسعى الى تعميق الفروق بين الثقافة والايديولوجيا ، بينما يحدث العكس في التصور الايديولوجي الشمولي ، اذ تتماثل الثقافة والايديولوجيا وتحل الايديولوجيا محل الثقافة .
ويشهد الوضع العربي ، حتى في المعارضة ، التي تتحلى بثقافة من هذا النوع الايديولوجي ، تماثلا وتطابقا بين الثقافة والايديولوجيا ، وبذلك تسود المفاهيم الايديولوجية عن الديمقراطية ، وتتأدلج الديمقراطية ، وتسود ثقافة مضللة ومؤدلجة عنها تبقي المفاهيم الحزبية السائدة كما هي ، وتحارب عن رفعها لشعار الديمقراطية بنفس العزيمة التي تدافع عن معتقدها الايديولوجي .
تحت هذا الفهم تصبح التعددية ضربا من الوهم . فالتعددية هي الاعتراف بحق الآخر ، وليس الاضطرار الى التعايش معه فترة محددة . ويقوم فهم ثقافي – ايديولوجي عن التعددية يعتمد على المنافسة غير المشروعة التي تقوم على التشهير والابتزاز للحفاظ على الهيمنة ومواقع النفوذ باسم الديمقراطية ورفع شعاراتها .
ان الاسلوب السائد يفرضه تاريخ من الثقافة الحزبية والسياسية عن موقع الدولة وحقوقها في فرض الواجبات والتمتع بالحقوق ، وموقع المجتمع بالنسبة للحزب ، خاصة الحزب الحاكم ، الذي يقوم بفرض سلطته على المجتمع من خلال استخدام ادوات الدولة ، ويلغي مفهوم المواطنة لصالح مفهوم عضوية الحزب ، ولعل في شعار « كل مواطن بعثي وان لم ينتم » الذي طرحه حزب البعث الحاكم في العراق في بداية السبعبنات حين كان مايزال ضعيفا يكشف بوضوح الايديولوجيا التي تتحكم بالعلاقة بين المجتمع والدولة من خلال الحزب الحاكم الذي يضع الانتماء الحزبي فوق الانتماء الوطني . . فالدولة ، عادة اداة اكراه وهيمنة ، ولكن وسائل هذا الاكراه وطبيعته تختلف من دولة الى اخرى ومن نظام الى آخر . وفي العالم العربي تأخذ الدولة موقعا اكبر بكثير من موقعها في الفكر السياسي او في الذرائع الايديولوجية المقدمة عنها . فمفهوم الدولة العربية مايزال قائما على امتلاك حق التصرف بالمجتمع واخضاعه لارادة الدولة ، وتنتج الدولة مفاهيمها الثقافية عن المجتمع والعلاقة بينه وبينها وتصدّر هذه المفاهيم الى المجتمع من فوق الى تحت عبر وسائل الاكراه التي تملكها ، ومنها وسيلتان تتعلقان بموقع هذه الدول في اطار نمط الانتاج الآسيوي الذي يتصف ، في جملة مايتصف به ، بقدرة الدولة على امتلاك موقع اقتصادي يجعل الناس بحاجة الى الدولة وليس العكس ، كما يتصف بالقدرة الايديدولوجية والمعتقدية للدولة التي تفرضها ، وتفرض هيمنتها بواسطتها ، على المجتمع .
ويأخذ الشكل الحديث لهذا النمط دولة الريع التي تعمد ، في احسن الحالات ، الى سد حاجات المواطنين الاقتصادية مقابل التنازل عن دورهم السياسي . وهذه الظاهرة الجديدة كرست ثقافتها ايضا ، التي تحولت الى قناعة لدى كثير من افراد المجتمع الذين اناطوا ، بعقد آخر ، غير متفق عليه ، وغير موثق الا من طرف الدولة ، ممارسة النشاط السياسي بالدولة وليس بالاحزاب السياسية .
ويتضح من هذه الظواهر غياب تام للثقافة المتعلقة بالديمقراطية ، كونها نوعا من المرجعية الاجتماعية للديمقراطية ، اذ بدون مثل هذه الثقافة لايستطيع المواطنون الحكم على ضروب عديدة من الاجراءات السياسية والاقتصادية والتأثير فيها ومعرفة حدود وصلاحيات هيئات الدولة ، وعلى سبيل المثال ، ماهو موقع ( الشرطي ) في العلاقة بين المواطن والدولة ، وهو مثل قد يبدو بسيطا ، ولكنه يشير الى جوهر هذه العلاقة ، فشعار ( الشرطة في خدمة الشعب ) هو جزء من ثقافة الدولة وليس ثقافة المجتمع ، لان مايجري هو عكس هذا الشعار تماما ، كما ان المواطن العربي مشبع بروح الفزع والريبة من الشرطي الذي لايحمي القانون فعلا بقدر مايحمي الدولة .وبقدر ما يحمي الطغمة الحزبية او العائلية او العشائرية من خلال حماية الدولة ، فالقانون لايسري على هذه الطغمة والشرطة لاسلطة لديها على هذه الطغمة ، وبالتالي فان وعي مهمات الدولة ووعي حدود صلاحيات المواطن ودور كل منهما لا يكفي تحديده في قانون او قرار ولا حتى في دستور ، دون اشاعة الوعي الخاص بهذين الدورين ، اي التثقف بثقافة ديمقراطية ليست مؤدلجة او ذرائعية . وهذه الثقافة الضرورية تنسحب على جميع الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بنوع السلطة السياسية وموقعها بين المجتمع والدولة .
وفي هذا الاطار نفسه تتشكل معالم الثقافة وهويتها ، بمعنى ان الثقافة الحزبية ليست بالضرورة ثقافة ديمقراطية ، فهي تتناقض مع الوعي الديمقراطي بدفاعها عن احادية الموقف وواحدية السلطة . والثقافة تستطيع ان تلعب دورا في الديمقراطية حينما تكون مستقلة ، وحينما تكون انتاجا للمجتمع المدني وليس مؤسسة رسمية او اتجاها رسميا يعزز سلطة الدولة ويمنحها الطابع الابوي الذي توجه من خلاله المجتمع نحو العبودية المعممة التي تشمل عموم فئات المجتمع المدنية والعسكرية ، المدنية والريفية ، المهنية والسياسية .
ويكتسب الدور الايديولوجي والاقتصادي للدولة اهمية كبرى في اشاعة الثقافة الاستبدادية وفي تعزيز دور المؤسسة الحاكمة في الذهنية الاجتماعية وفي التراث الثقافي الخاص بالعلاقة بين المجتمع والدولة ، فالطاعة العمياء للدولة اكتسبت نوعا من القدسية العرفية والتقليدية في اذهان كثير من افراد المجتمع وتجمعاته القبلية والمنتجة للموارد الاقتصادية ايضا . خاصة في القطاع الزراعي الذي يشكل غلبة في المجتمعات العربية حتى الآن على الرغم من العجز الغذائي في الانتاج الزراعي الذي تعاني منه كل البلدان العربية دون استثناء ، وبذلك تكون الدولة في الذهنية الاجتماعية العامة رب عمل وممول وممثل للقيم الدينية والقبلية والسياسية والفكرية في نفس الوقت . وبسبب هذا الدور المركب للدولة لايستطيع المواطن الاستغناء عن اعتماده الكلي على الدولة ، التي تعطيه دوره الفوردي من خلالها على عكس مايحدث في المجتمع المدني ، وبذلك تتمكن الدولة ، بفعل جبروتها ، من مصادرة حتى وعي الفرد المواطن الى جانب مصادرة حقوقه وفرض الواجبات عليه . ولاتكفي التعددية الحزبية المعترف بها دستوريا، وحدها، من القضاء على هذه الظاهرة ، اذ ان ثقافة الاحزاب في احيان كثيرة تتناسب مع الفكر المطروح عن شكل ومحتوى الدولة ووظائفها ، اي انها تجسد ، في جوهرها ، مضمون الدولة ، ولذلك فان مثل هذه الاحزاب تطرح فكرة الحكومات الائتلافية تجنبا للانتخابات وفقدان الهيمنة التي اكتسبتها على المجتمع من خلال الثقافة القديمة هذه التي لاتتناسب مع فكرة ومضمون المجتمع المدني .
الصحافة العربية تمنع حريتها في التعبير – د. نبيل ياسين
هناك خطأ في المنطق, منطق الاحتكام إلى الاولويات والضرورات التي جعلنا على رأسها خوض الحروب والمشاركة فيها ودعمها وتمويلها , والبحث بالناظور البعيد عن اعداء محتملين يمكن ان يكونوا مختبئين وراء شجرة في تايلند او صخرة في الارجنتين او ساقية في كمبوديا اوجدار في الصين.
وهناك خطأ في تعرفنا على حاجاتنا وحاجات الاخرين وجهل في منطق التعامل معها, وهناك خطأ في منطق علاقاتنا مع العالم هل هي علاقات العدو ام الصديق وهناك خطأ في ثقافتنا التي تصر على محاربة الامبريالية من السجون والمعتقلات التي يقبع فيها المعارضون والمغضوب عليهم من الانظمة والحكومات دون ان يفكر هؤلاء بتحرير انفسهم اولا.
ثمة تسلسل غير عادل وغير واقعي لحاجاتنا ومصالحنا, ومن الواضح, ان مصالح فئات محدودة تتحقق تحت سيل من تغليب الشعارات والمبادئ الملفقة التي اصبحت وعيا جمعيا عاطفيا في اذهان الشعوب العربية يحول دون رؤية المصالح الحقيقية الكبرى لهذه الشعوب التي تغلب البحث عن عدو خارجي على حرياتها وخبزها وحداثة حياتها وتفكيرها.ومع الاسف فان الصحافة هي التي تقوم بهذا الدور.
وهذه الحقيقة الثقافية, على قلة الحقائق في الفكر,اصبحت تقود الوعي العربي باتجاه ان الاصلاح والحريات والديمقراطية والانتخابات وحكم القانون وتحقيق العدالة وضمان حقوق الانسان هي مصالح امريكية وليست مصالح شعوب الشرق الاوسط, وبالتالي اصبح الوعي الشعبي القاصر في خدمة الانظمة المتخلفة من جديد رغم التناقض بين مصالح الشعوب ومصالح الانظمة.
ان الاصلاح الثقافي, أي اصلاح بنية العقل العربي, والتفكير العربي(اتجنب استخدام مصطلح الفكر العربي لاسباب ليست هذه المقالة مكان سردها) واصلاح العلاقات الاجتماعية القائمة بين دور المواطن ودور الدولة ودور السلطة, اصبح بركانا يجب ان ينفجر في الشرق الاوسط فبدون هذا البركان, أي بركان اصلاح البنية الثقافية, لن يصلح حال السياسية والاقتصاد والقانون.واعتقد ان البداية ينبغي ان تكون في تحرير الصحافة العربية اولا.
من الواضح ان الرسالة بمفهومها المهني لم تعد قائمة. اخلت مكانها للرسالة الحزبية والايديولوجية. ومع هذا فان عددا محدودا من اعضاء النخب قادر على تقديم التضحيات. واذا درسنا بشكل سريع تاريخ لتضحيات الصحفية من اجل الديمقراطية في العالم المعاصر سنجد ان العالم العربي اقل المناطق تاثرا بهذه التضحيات بشكل عام وليس في كل بلد على حدة.
ان تاريخ الديمقراطية والحقوق المدنية وتاريخ الصحافة الحرة مرتبطان. انهما في الواقع تاريخ واحد مشترك في طريقه واهدافه . ان الخوف من التضحية, خاصة لدى الصحفيين, يعزز الدكتاتورية ويكرس الفساد ويقوي شوكة اجهزة الامن لقمع حرية التعبير.
من الاحصائيات الخاصة بتضحيات الصحفيين سناخذ العام 1990 مثلا . كان الضحايا من الصحفيين الذين سقطوا دفاعا عن الحقيقة في بلدان مختلفة كالتالي: قتل 73 صحفيا اثناء تادية عملهم. واختطف 16 صحفيا. واعتقل 145 صحفيا في 45 دولة لاسباب تتعلق بعملهم للبحث عن الحقيقة. واصيب بجراح 41 صحفيا. وتعرض 82 صحفيا لاعتداءات. وتلقى 50 صحفيا تهديدات بالقتل. وتعرض 170 صحفيا لملاحقات ومضايقات مستمرة. وطرد 31 صحفيا من عمله. واوقفت عن العمل 50 صحيفة باوامر حكومية. ونسفت واحرقت 12 صحيفة. وتم احتلال 30 صحيفة. وقد احصى تقرير ( فريدوم هاوس) في عام 1990 وحده 834 اعتداء على الصحافة في 91 بلدا وهو رقم اقل من عام 1989 الذي بلغ 1164 اعتداء,
طبعا هذا مايتم التبليغ عنه والوصول اليه. وربما كان عدد مالايمكن التبليغ عنه لاسباب الخوف من الانتقام والاسباب الامنية وعزلة بعض الانظمة أكثر من ذلك بكثير.
لعبت الصحافة دورا في بلدان عديدة مثل الارجنتين وتشيلي ونيجيريا وتايلاند والفليبين دورا قربانيا من اجل الديمقراطية.لنقرأ هذا المقطع الذي اورده كتاب(النضال من اجل الحرية والتعددية في العالم النامي) الذي حرره لاري دايموند:
(كانت ايميلدا زوجة الدكتاتور الفلبيني ماركوس قد اقامت حفلة استقبال قبل انتخابات الجمعية الوطنية دعت اليها روؤسات تحرير 24 صحيفة.في نهاية الحفل وقفت السيدة الاولى في غرفة منفصلة .كان كل رئيس تحرير يدخل الغرفة فتسلمه السيدة مغلفا فيه توجيهات مع مبلغ يتراوح مابين عشرين الف إلى خمسين الف بيزوس بحسب اهمية موقع الصحفي.قال البعض يبررون تصرفهم ردا على الانتقادات(العالم كله فاسد.لماذا لانستفيد من هذا الوضع؟
لكن جريدة واحدة هي فلايتاس كانت من أكثر المساهمين في اسقاط ماركوس فقد فضحت كل رشاواه وفساده المالي مع زوجته.)
هذه الشهادة قدمها الصحفي الفلبيني فيليكس بوتيستا عن سنوات نضال الصحافة الفلبينية ضد الدكتاتورية.وهناك شهادة صحفي نيجيري عن صحيفة واحدة هي (مراقب الاخبار) فضحت النظام العسكري الدكتاتوري في نيجيريا وكل ذلك حصل من اجل منع الدكتاتورية من التحول إلى غول مؤبد لايمكن الخلاص منه.
لناخذ مثلا عربيا صارخا عن وضع الصحافة هو نظام صدام حيبن.ليس صدفة ان نظام صدام كان يتعامل مع الاعلام العراقي كما تعامل مع الجيش والاسلحة الفتاكة. الاثنان عقائديان وتحت رقابته واشرافه المباشرين.في عام 1972 حين تم تاميم النفط ونشأت معركة مع شركات النفط العالمية الكبرى اعلن النظام العراقي سياسة التقشف المالي.وهذه السياسة شملت جميع الوزارات باستثناء وزارتين هما الدفاع والاعلام.وانفق النظام العراقي السابق مليارات, نعم مليارات الدولارات على الدعاية الصحفية واشترى اقلاما وصحفا ومؤسسات صحفية في اغلب مناطق العالم , وصرفت مليارات حتى من ديون النظام خلال الحرب العراقية على ادامة تشغيل ماكنة اعلامية ضخمة وجبارة تطلبت صرف عشرات المليارات إلى جانب مليارات شراء الاسلحة.لكن اليوم يختلف الامر. ونحن نرى تضحيات الصحفيين الاجانب والعرب والعراقيين من اجل نقل الحقيقة من العراق. في الحرب قتل كثيرون. بعد الحرب اختطف عديدون.واعتقل عدد من الصحفيين العراقيين في زمن الصحافة الحرة, وكل ذلك يعني ان الرسالة الصحفية من اجل العدالة وحكم القانون ومكافحة الفساد وتثبيت الحقوق المدنية والحقوق الدستورية وتوطيد المؤسسات الديمقراطية وتوطيد استقلال السلطة القضائية وسيادة القانون يجب ان تكون رسالة قادرة على التضحية ومواجهة غول القمع والارهاب وكشف مواقع الفساد وارساء تقاليد الصحافة الديمقراطية في العراق.
حتى اذا كان العالم كله فاسدا, فان صحيفة واحدة ليست فاسدة, قادرة على اداء مهمة شرف من اجل الشعب والوطن. فاذا فسدت الصحافة فان الفساد سيستشري في كل مكان ولن نجد صوتا واحدا قادرا على النطق. ولذلك فان المادة التاسعة عشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان هي مدخل لجميع الحقوق. فاذا صودر صوت اانسان فانه لايستطيع النطق بمايعاني.
ان جميع التجارب, الرسمية والحزبية, تثبت ان مصادرة الراي وحرية الكلام, هي التي قادت إلى الدكتاتورية وعبادة الزعيم سواء في الدولة او السلطة او الحزب او الجماعة الصغيرة, وليس عبثا ان كثيرا من الاحزاب والمنظمات السياسية, على غرار الحكومات, تخاف من الكلمة الحرة أكثر مما تخاف من الانظمة القمعية التي تعارضها, فتحولت لقمع حرية الكلام في صفوفها.
وخلال القرن التاسع عشربكامله في اوروبا كما يقول دوفابرفي كتابه الدولة كان النضال في سبيل حرية الراي, ولاسيما حرية الصحافة,نضالا ضد التصرف الكيفي للحكومة او الادارة.ويضيف: ان الراي العام يتمتع بالسيادة في كل عهد.ولكن الديمقراطية تتوخى منح تكوينه وطابعه اطارا منظما.
وساستعير فكرة الان تورين التي تقول(ليس من ديمقراطية دون كفاح ضد سلطة ما) لاقول ان السلطة الاساسية التي افهمها هي سلطة قمع حرية التعبير, وهي مايجب التضحية في الكفاح ضدها.
تحولات الثقافة في قرن – الصراع بين الايديولوجيا والتنوير – د.نبيل ياسين
(1)مهما اطلنا الوقوف على الاطلال ، وانشدنا نسيبنا بماضينا وعظمته وتإثيره على العالم ، فاننا لايمكن ان ندير ظهورنا لوقائع تاريخية حديثة في مقدمتها ان نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين شهدت تحولات ثقافية في العالم العربي لم يكن بعيدا عنها التفاعل الاوربي .
في ذلك الوقت نشأت عناصر البحث عن الهوية في عالمنا العربي. والهوية تظهر مقابل (الآخر) الذي لم يكن سوى الغرب وموجات تأثيره الثقافي والعلمي والعسكري.
في ظل الوقوف امام(الآخر) ظهر الشرق العربي مقابل الغرب الاستعماري ثقافيا وعسكريا. كان الآخر على ارضنا وفي ديارنا وكانت تحدياته تطرق ابواب البيوت العربية في مصر والعراق وسوريا ولبنان والجزائر والمغرب وغالبية دول الخليج.
وعلى صوت طرقاته قام البحث عن تمايز واختلاف .وتم هذا البحث في اطار الماضي، اي اطار التراث الذي كان مناخه في العالم العربي الاسلامي في ذلك الوقت مايزال قادرا على توفير مظلة للتطورات الثقافية العربية التي حدثت في ميدان الافكار والمضامين التي اخذت تتعارض مع التطورات في ميدان الشكل. وحتى الخمسينات جرت الصراعات والتطورات في اطار مرجعية ثقافية تلجأ الى الاسس والمعايير التي اصبحت خليطا من الماضي العربي:التراث، والحاضر الاوربي(التحديث).وهذا الخليط المتنافر في المحتوى ساهم، في مغامرة التعايش بين التراث والمعاصرة، في ايجاد وسط ثقافي يراقب ويهتم ويعير الانتباه لما يصدر ولايجرؤ احد غير متمرس على القيام بمغامرة ثقافية.ذلك الوسط كان آنذاك المرجعية المعيارية القادرة على ادارة الصراع بين التراث والتحديث. ويمكننا ان نتعرف على المعارك الثقافية الكبرى بين التنوير والتقليدية داخل مرجعيات هذا الصراع بدء من معركة كتابي (في الشعر الجاهلي، والاسلام واصول الحكم)الى معركة الشعر الحر في نهاية الاربعينات.
تلك المرحلة،كانت مرحلة تنوير ثقافي وفكري تحاول التوفيق بين الاسس والمعايير التقليدية المتوارثة وبين تحولات الثقافة والفكر في اوروبا التي بدأت ترتبط بالعالم العربي عبر السياسة والسوق والحرب. وفي مرحلة التنوير الثقافي والفكري هذه تطورت الثقافة العربية التي لم تعد ثقافة هامشية .غير ان المشكلة التي نشأت امامها وكان عليها الاصطدام بها هي ان الوعي الثقافي العربي اصبح ردود افعال يختلط فيها الرد على الآخر ، سواء كان سياسيا ام ثقافيا ، محليا ام عالميا،في وقت يعيش فيه المجتمع في حدود المعتاد والموروث ،كما يعيش في حدود الغربي الداخل الى العالم العربي الاسلامي. هذه الحالة اعادت نفسها في السنوات الاخيرة في شروط مختلفة ،ولكن ضمن التناقض القديم نفسه.
تجلى الصراع بين الماضي والحاضر وبين التراث والمعاصرة عن صراع بين المفاهيم اكثر مما تجلى عن كونه صراعا في قلب العمليات الاجتماعية التي كانت تحدث في المجتمعات العربية.كانت تلك العمليات تتشكل من بنى كولونيالية نتاج المرحلة الكولونيالية المضطرة للتحديث في المجتمعات التي استعمرتها ومن بنى المجتمع التقليدي العربي التي صارت تقترب من البنى الكولونيالية للاندماج بها وتشكيل بنى جديدة من الشكلين.
كانت حدة الصراع بين المفاهيم تزداد كلما اصبحت المفاهيم مطلقة وثابتة في الزمان المتغير.وكلما كانت البنى الاجتماعية الجديدة تتكرس في الواقع العربي وتزيح امامها البنى التقليدية وتحجم دورها في السوق والعمل والاستهلاك.
ان مطلقية المفهوم تغطي على واقع يدور فيه الصراع بين الايديولوجيا والتنوير.واذا كانت الايديولوجيا تطرح المفاهيم للبرهنة على صحة الواقع فانها اخذت شيئا فشيئا تستخدم الواقع للبرهنة على صحة المفاهيم. وخلال الصراع الايديولوجي الطويل اخذ الواقع يفسد باستخدامه ، في راهينته للدلالة البرهانية على صحة مفاهيم ايديولوجية . صار الواقع بعيدا ومغبونا. لم يعد تغييره عملا اجتماعيا وسياسيا. تحول الواقع الى رمز. الى حالة رمزية لحركة المفاهيم في المجتمعات العربية.
ما نحن بحاجة ماسة اليه ، منذ مرحلة التنوير العربي التي بدأت في الربع الاخير من القرن الماضي حتى العشرينات والثلاثينات من هذا القرن هو تأسيس رؤية لوضع نسبية المفاهيم في اطار واقعي ،اذ ان مفاهيمنا الثقافية ماتزال مطلقة سواء كانت دينية او سياسية او اجتماعية .
هناك صراع خفي ، ولكنه يتجلى احيانا بصورة واضحة ويظهر للعيان ، بين الشكل والمحتوى في العالم العربي .اي بين جوهر التغيرات وبين الشكل الايديولوجي المرافق لها. ويعتمد هذا الصراع على التوارث الطويل لاهمية الشكل في الحياة الاجتماعية والثقافية . هذا التوارث الذي يضفي على الاشكال قدسيات مختلفة ، عشائرية ودينية واجتماعية مراتبية وغير ذلك . وقد تجلى الصراع بين الشكل والمحتوى في السبعينات والثمانينات في الغزو الريفي للمدينة ومحاولة احلال تقاليد الريف وشكلها على المدينة العربية ، وهي العمليات التي قادتها فئات قومية نازحة من الريف الى المدينة استخدمت الجيش والاحزاب لتحقيق هذه الهيمنة التي الغت عمليات التنوير واضعفت الوعي باهمية المضمون الاجتماعي للتحولات التي اكتسبت تعسفا صبغة « التقدمية » .ومايزال الشكل هو مثار الجدل اكثر من المحتوى . وينطبق هذا على محاولات تفسير الاطار او الطابع الثقافي للتغيرات الاجتماعية واعطائه خصائص تاريخية مرتبطة بظواهر دينية او عشائرية او اجتماعية .
(2) يسود قصور واهم عن الثقافة ودورها في المجتمع . مشكلة العلاقة بين الثقافة والمجتمع تلخص المشكلة العامة التي يعانيها المجتمع العربي ، اعني الانحطاط والتخلف.فالثقافة لم تعد اطارا للمجتمع كما كانت في الماضي واكسبته عناصر الهوية.والاطارات الثقافية التي تتحكم في تحولات المجتمع العربي اخذت سمات دينية وسياسية وفكرية اكثر في عصر اتسم بالعالمية التي انتهت اخيرا الى « العولمة ». ان المجتمعات العربية في حالات انتقال عشوائية ومرتبكة.انها تحاول الخروج من مرحلة التنوير والتحول التي لم تنجزها وتخلت عنها في منتصف القرن العشرين، وهي حاذرة بين اعادة تلك المرحلة التي لابد منها ، من جديد، وبين الغائها ليقوم واحد من الخيارين: العودة الى الاصولية او الارتماء في تحولات العصر كلها.
اما السلطة الحاكمة فلم تعد سلطة ثقافة .هي اما سلطة حزب ، او طغمة ، او عشيرة ، او عائلة ، او زمرة . والثقافة التي لم تعد مؤسسة مدنية اصبحت جزء من سلطة ومؤسسات الدولة العربية المعاصرة.اي انها تحولت الى ثقافة حزب او طغمة او عشيرة او زمرة. اما الحديث عن النخبة والثقافة فهو حديث يقلد الفكرة الغربية في الشكل ، لان الثقافة العربية لاتمثل نخبة ولا تتوجه الى نخبة ولاتنتجها نخبة. انها انتاج دولة الحزب او دولة العشيرة او دولة الطغمة.
اننا نتحدث هنا بالطبع عن المدى الذي تتحرك فيه مجموعة القيم والافكار والتوجهات والمنظومات التي تشرف على المجتمع، ولا نتحدث عن الاصدارات الشعرية والقصصية للادباء.
الثقافة العربية اليوم لا تحلل اوتدرس على انها تراكم نوعي ،وليس انجاز فرد او مجموعة محددة . انها مسار او تيار صبت فيه جهود الاف المثقفين العرب ، بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم . وانتاجهم الثقافي هو نتيجة واقعية للصراع بين هذه المشارب والتوجهات .هناك انجازات ثقافية على صعيد تجديد اللغة ، واضافات ذهنية عميقة على صعيد الصورة والفكرة والتحليل الاجتماعي والنقدي ، ونقلات كبيرة في الاسلوب والايقاع والموضوع ، وانفتاح واسع على المخيلة الانسانية الحديثة . ولاننسى ايضا ان حركة الثقافة العربية وضعت الانسان العربي امام العصر الذي يعيش فيه وجعلته شاهدا على الثقافات الانسانية الحديثة ووضعته في ميادين صراع وتفاعل واستيعاب ومقاومة لهذا الاستيعاب الذي يأخذ احيانا كثيرة طابع غزو ثقافي . طبعا للبعض مآخذهم على بعض هذه الانجازات . وهذه المآخذ تنطلق من مواقع مختلفة منها ما هو تقليدي او سياسي او اجتماعي ، لكن ذلك لاينفي ان انجازات الثقافة العربية هي انجازات اهم بكثير مما انجزته اية سلطة عربية لمواطني مجتمعها . ومن العبث الاحالة دائما الى الماضي ، الى عصر ازدهار الثقافة العربية – الاسلامية ليتكون هذه الاحالة وحدها العامل المؤثر في احداث النهضة والتطور ، فذلك التطور كانت له شروطه التي جعلت من الفلسفة اليونانية جزء من الفلسفة في الفكر العربي والاسلامي آنذاك على الرغم من الانطلاق منها .
فالعلاقة التي نشأت بين علم الكلام والفلسفة اليونانية في العصر العباسي الاول مثلا لم تتكرر مرة اخرى . لقد حل محلها مفهوم الغزو الثقافي . هذا المفهوم الواقعي الذي اصبح الرد عليه يدعو الى العزلة والانفصال عن العالم في عصر العولمة التي تحاول الهيمنة على كافة القارات والميادين السياسية والاقتصادية والثقافية .ان الغزو الفكري والثقافي شئ ، واستيعاب الثقافات الاخرى والتفاعل معا وتطويرها باعادة صياغتها وانتاجها محليا شئ آخر . لم تصبح الفلسفة الاسلامية فلسفة يونانية ، ولم يصبح الفكر السياسي العربي فكرا سياسيا فارسيا ويونانيا رغم العبر والدروس التي لم يتقاعس المؤلفون والفقهاء والفلاسفة والكتاب يلقونها على الحكام آنذاك . لنآخذ مثلا : كتاب سراج الملوك للطرطوشي وضع امام الحكام تراث الفكر السياسي العربي وغيره من فكر فارسي وبيزنطي وغيره دون ان يصبح فكرا بيزنطيا او فارسيا . وهكذا تجد ان قوة المجتمع السياسية والاجتماعية تتغلب على الذوبان في ثقافات الغير ، فالمشكلة اذن في القاعدة الاجتماعية التي تجعل من الشعر العربي شعرا اوربيا مكتوبا بحروف عربية ، وقد عالجت مثل هذه الظاهرة على صعيد اوسع في دراسة نشرت عام 1985 اسميتها : ازمة الوعي المغترب ، عالجت فيها التناقض القائم بين الشكل والمحتوى لا على صعيد الادب بل على صعيد الفكر الاجتماعي والسياسي . فظاهرة الوعي المغترب هي تجسيد للوعي المتأثر بالغرب في بيئة ومحيط عربيين لم يتوفر لهما التطور المناسب لذلك الوعي ، وهي مثل شجرة من بلاد حارة كالنخلة مثلا تآخذها من هجر او البصرة لتزرعها في هلسنكي عاصمة الثلوج . قد يكون المثال حادا ولكن الحقيقة هي بهذه الحدة .
(3) المشكلة لاتتلخص بالتاثير الغربي ، وانما في توجيه الثقافة والابداع . هناك حكومات واحزاب توجه الثقافة بهدف السيطرة عليها وجعلها ثقافة موجهة تخدم اغراضا سياسية ودعائية محددة . وهي تفسر ذلك في كل الاحيان بانها ترعى الثقافة . لا ، انها تحط من قدرها . في المجتمع الاسلامي ظلت الثقافة مؤسسة مدنية مستقلة عن الدولة وعن الحركات السياسية التي قامت بالثورات والانتفاضات والتمردات والحركات المسلحة . واستقلاليتها كانت مصدر تطورها ورقيها وكانت في نفس الوقت مصدر علاقتها بالمجتمع لا بالدولة . لكن بعد ذلك تغير الحال واصبحت الثقافة تخضع لتوجيه السلطة وبهذا فقد انحدرت في منحدر التمايز القائم باستمرار مابين المجتمع والسلطة حتى في الانظمة الديمقراطية المعاصرة .
ان توجيه الثقافة يتطلب تمويل التوجيه الثقافي .فالمساعدات التي تقدمها الدولة للانتاج الثقافي مساعدات مشروطة بسياسة الدولة نفسها .اذ تشيع ما يناسب توجهها ، وهذا امر طبيعي ومشروع من الناحية المنطقية ، لكنه يتناقض مع استقلالية الانتاج الثقافي . حتى جائزة نوبل تخضع احيانا لمثل هذه الشروط فتمنح الجائزة لاهداف موجهة ، فكيف بمساعدات الدولة للثقافة ؟
الثقافة هي جزء من اجزاء مجتمع له ردود افعاله وعلينا ان نتوقع اي رد فعل . والثقافة العربية ماتزال تفتقر الى التنوير . هناك موضوعات وشعارات مرفوعة مثل المجتمع المدني وحقوق الانسان والديمقراطية تحتاج الى جيل جديد ومجتمع جديد وذهنية جديدة ولايمكن للذهنية التي كانت تكافح بلا هوادة من اجل مجتمع شمولي ان تكون ذهنية مدنية ولا لذهنية كافحت خمسين او ثلاثين او عشرين سنة من اجل حكم الحزب الواحد وحكم الدبابة ان تصنع نظاما تعدديا وانتقالا سلميا للسلطة ، ويمكن ان نقيس على ذلك الكثير من الظواهر والتحولات . الثقافة في المستقبل تحتاج اولا الى النظر في مستقبل التراث ، فما مضى منذ خمسين عاما اصبح تراثا هو الآخر . نحن لا نحتاج الى يبقى التراث هو تراث المستقبل ، بمعنى ان نكرر هذا التراث ونعيد انتاجه بصيغته التاريخية التي ظهر فيها . والثقافة في المستقبل تحتاج الى نظرة موسوعية وتنويرية ، وهكذا ترى معي اننا بحاجة الى اعادة دورة التريخ القريب ، فنحن نحاول ان نستعيد ما حدث في نهاية القرن الماضي في العالم العربي وماحدث قبل قرنين في فرنسا واوربا .
لاول مرة في تاريخ العراق الممتد على مدى اكثر من خمسة الاف عام تنقسم السلطة والصلاحيات على اكثر من واحد.لعل هذه القسمة التي اصبحت قابلة على ثلاثة او اربعة , اذا اضفنا السلطة الرابعة الممثلة حقيقة بالرأي العام الناخب وليس بالصحافة, هي مصدر خير كثير كما هي مصدر شر مستطير.
النظام الديمقراطي ليس نظاما انسيابيا كما يبدو للبعض. انه اصعب من الدكتاتورية واعقد من الاستبداد.فانعدام العدالة في الدكتاتوريات والنظم المستبدة يعتمد على قرار واحد. اما اشاعة العدالة وسيادة القانون فانها محل تجاذبات اكثر من قرار, خاصة في مراحل التحول من نظام دكتاتوري ارسى قاعدة زمنية طويلة نسبيا كنظام البعث, الى نظام دستوري تعددي.
لدينا اليوم في العراق مايلي:
لدينا مجلس رئاسة من ثلاث مكونات مذهبية وقومية.
لدينا مجلس وزراء يمثل حكومة وحدة وطنية من كتل برلمانية تضم عدة احزاب وتجمعات سياسية.
لدينا رئاسة وزراء من ثلاث مكونات قومية ومذهبية
لدينا رئاسة برلمان من نفس المكونات.
لديناحكومة فدرالية واقليم يتمتع بسلطات وصلاحيات ودستور وعلم
لدينا جيش وطني وشرطة وطنية ولدينا بيشمركة وصحوات ونخوات وميليشيات.
لدينا دستور تشير المادة الثانية منه, بما تضمنته من اولا وثانيا وثالثا, الى حقيقة الوضع العراقي بما تحمله من قدرة على المساومة التي يفرضها الوضع الراهن.
لدينا صحافة حزبية ووسائل اعلام حزبية لسبعين بالمائة من الاحزاب العراقية المشاركة في السلطة والبرلمان او المعادية للعملية السياسية.
لدينا( بما انها تدخل البيت العراقي) وسائل اعلام عربية وعراقية في الخارج تعمل على ارباك الوضع العراقي ونقل اهداف الجيران والذين ابعد من الجيران في اسيا واوروبا وافريقيا والولايات المتحدة الى داخل البرلمان والحكومة والوزارة والشارع والمقهى والبيت والحزب والدكان.
لدينا اكثر من وزارة اعلام واكثر من وزارة ثقافة واكثر من وزارة تجارة, وهذا مفهوم, لكن لدينا ايضا اكثر من وزارة خارجية طالما ان بعض الاحزاب والتجمعات السياسية سمحت لنفسها تمثيل العراق بنفسها ووفق ايديولوجياتها واهدافها الحزبية.
لدينا اكثر من وزارة مالية غير حكومية تمول احزابا وقوى وجمعيات بحيث ان ما نسميه مؤسسات المجتمع المدني لم تعد مدنية على كثرة ما ارتبطت كثير من تلك المؤسسات بتمويل دول وحكومات عربية وغير عربية فتحولت الى اذرع ايديولوجية ومصادر عيش بدل التطوع فيها والعمل من اجل مصالح المواطنين.
لدينا اكثر من فريق كرة قدم في العراق ومثلها فرق الكرة السياسية ولكن ليس لدينا حكام عادلون وعقلانيون يضبطون قواعد وشروط اللعبة وليس لدينا متفرجون ينتظرون نتائج المباريات فيحكمون منذ الضربة الاولى للكرة على نتائج المباراة.
ومن قبل كان لدينا واحد فقط من كل ماذكرنا. فكل شئ موحد وتحت سيطرة شخص واحد عبر اجهزته القمعية الضاربة.
– كيف تقيم الوضع الثقافي العربي اليوم؟
** يعود الوضع الثقافي ليلعب دورا بارزا مرة اخرى بعد اكثر من قرن على انطلاق مرحلة التنوير الفكري التي توقفت في منتصف القرن العشرين.لقد وقعت مرحلة التنوير في تناقض رئيسي يقوم على اعتبار التنوير مؤسسة داخل الدين مهمتها الكبرى ثقافية وفكرية . لذلك توقف عند التنوير ولم يدخل عصر النهضة. ليس هناك عصر نهضة عربي. هناك تيار تنويري بدأ مع مجموعة جمال الدين الافغاني وانتهى امام دبابات الانقلابات القومية العسكرية في العالم العربي.
ولما لم تتحقق النهضة ، عادت الثقافة لتلعب مرة اخرى دورا جديدا في عصر الصحافة الواسعة الانتشار وعصر الديمقراطيات والفضائيات وشيوع مبادئ حقوق الانسان والتعددية. ومن جديد نتلمس تاثير الغرب المباشر وغير المباشر في هذه الظاهرة.
لقد انهى التثوير عصر التنوير. واليوم ينهي التنوير عصر التثوير. هذا ليس تلاعبا بالالفاظ . هذا توصيف للواقع.
لعبت السياسة والايديولوجيا دورا كبيرا في تكسير الثقافة وتراجعها.واليوم نشهد عودة لثقافة الانظمة او الدول التي تسيطر على المثقف . المثقف القديم انهار وصار المثقف اليوم بشكل عام مثقف لقمة الخبز. وليس المثقف وحده المسؤول عن هذه الحالة.فالمثقف عارض وسجن وابعد وصار يعيش في دول اللجوء وصار يبحث عن لقمة خبز وعن شهرة جديدة يعوض بها سنوات الكفاح.
ان المرحلة الثقافية الحالية مرحلة ثقافة الخليج , اي ثقافة واردات النفط. حتى كلمات الاغنية العراقية واللبنانية والمصرية والمغربية اصبحت باللهجة الخليجية . وهناك عملية تسويق للكتابة الخليجية في الشعر والقصة والنقد. لا انكر ان هناك تقدما في المناطق التي كانت اطرافا للمركز المتمثل بالعراق وسوريا ولبنان ومصر.وهذا التقدم الثقافي له اسباب كثيرة لكن الاسباب المالية والهيمنة الاعلامية تلعب الدور الابرز.
فضلا عن ذلك،هناك اساليب جديدة للشهرة والهيمنة والظهور في الواجهات الثقافية، مثل ان تصدر مجلة بالانجليزية تترجم اعمال موظفي دولة او المحررين الثقافيين للصحف مقابل منافع وبهذه الطريقة المزرية نقدم (ثقافتنا )للغرب.او يقوم عدد من الشعراء بدفع مبالغ لمترجمين ودور نشر اوربية لتظهر اعمالهم بلغات(عالمية)وليكونوا شعراء او قاصين( عالميين).او تدعي اديبة ، لكي تترجم الى لغات اوربا،انها مضطهدة في بلادها العربية والاسلامية وانها مقموعة وممنوعة لانها تكتب عن الجنس في حين تنشر لها مؤسسات دولتها كتبها ومؤلفاتها.
هذه هي صورة الوضع الثقافي العام مع استثناءات يمثلها المخلصون لابداعهم ومواقفهم.
– وماهو موقع الشعر في هذا الوضع؟
** موقع الشعر ضعيف.لم يعد الشعر المنبر الرئيسي للتعبير. واكثر من ذلك توزع الشعر على جماعات وشيع وعصب . هناك عصابات النشر التي تروج لبعضها البعض وتملك اقطاعيات الصفحات الثقافية وتحدد لمن تروج . وقد بلغت الصفاقة بمحرر احدى الصحف اللندنية ان يبرمج عبر سلسلة لقاءات ،تحديد ممثلي الثقافة العراقية لتخدم الاغراض السياسية لمحرر تلك الصحيفة .هناك ايضامن يسمون انفسهم شعراء قصيدة النثر باصرار ، وانا اسميهم شعراء الدكتاتورية. فاغلب شعراء النثر من الاجيال الجديدة مؤيدة للدكتاتوريات وعلى رأسها دكتاتورية صدام حسين بحجة معاداة امريكا والامبريالية.انهم شعراء معادون للديمقراطية يتبجحون انهم معادون للغرب وهم يعيشون ثقافيا وشعريا على استلهام شعر الغرب وتقليده. واكثر من ذلك فان الشعراء اليوم ليس الذين يكتبون الشعر وانما هم محررو الصفحات الثقافية انفسهم وهم المترجَمون الى اللغات الاجنبية لانهم اصحاب اقطاعيات يستثمر فيها المترجمون. وماتزال السياسة تلعب دورها في الشعر وفي الثقافة العربية بشكل عام.السياسة تسوّق الشعراء .الاحداث السياسية في مصر وفلسطين ولبنان مثلا ساعدت على تسويق شعراء وكتاب وفنانين ووضعتهم في الواجهة . اما الثقافة العراقية ، فلاسباب سياسية عراقية وعربية،لم تستطع رغم الهزائم والانكسارات الكبرى ان تقدم للواجهة شاعرا او كاتبا.حربان وكارثتان والعرب يغمضون اعينهم عن الثقافة العراقية التي يستخدمونها احيانا لاغراضهم السياسية فحسب.
الشعر يحتضر، والشعراء والنقاد هم الذين سيطلقون عليه رصاصة الرحمة.
لو تنظر الى الحياة السياسية والثقافية العربية تجد ان الديناصورات تحكمها.حتى موجات التعددية وحقوق الانسان يسبح بها نفس الديناصورات القديمة والحرس القديم الذي لايتخلى لاحد عن زمان او مكان. فاين النص واين الابداع واين الشعر في كل هذا ؟
– كيف تقيم النقد العربي
** ليس هناك نقد عربي.هذا النفي ليس تجنيا. الذين يكتبون عن الشعر يكتبون لاغراض خاصة سياسية او ايديولوجية او وظيفية. وهم غالبا مايكتبون عن شعراء او روائيين تصنعهم الدولة او الاحزاب او المؤسسات.انا شاعر لم تصنعه سلطة. على العكس السلطة ضدي وانا ضدها.ولم يصنعني حزب انما وضعت بعض الاحزاب كل ثقلها لاطفاء عزيمتي او اسكاتي وتدميري. انا الشاعر العراقي الوحيد الذي نشأ خارج السلطة وخارج الاحزاب وشق خضم التخندق السياسي باتجاه الشعر والفكر. في زمن التحالف في العراق كانت السلطة والاحزاب تحاول عزلي. انني اقاوم حصاري.لاتهمني الاضواء ولايهمني النقد. اصدرت ديواني الاول في العشرين وعشت مايكفي من احلام واوهام ومغانم وهزائم.لدي خمس مجموعات شعرية لا اطبعها لاني لا اريد ان ادفع نقدا ثمن ما اكتبه من شعر.انني ارفض هذه الطريقة وادين جميع الناشرين في العالم العربي دون استثناء لانهم يقبضون ثمن كل كتاب ينشرونه قبل طبعه.
– منذ (البكاء على مسلة الاحزان) تظهر المرأة بقوة في شعرك.كيف تنظر الى المرأة؟
** كنت انظر اليها منذ القصائد العمودية الاولى التي كنت القيها في السنة الاولى في كلية الاداب. الحديث عن المرأة لايمكن ان يتأطر مثلما لاتستطيع ان تؤطر النساء في امرأة واحدة. اراها تخرج لي من المتاحف في صورة انانا او عشتار ومن التاريخ في صورة زينب او بلقيس ومن الف ليلة وليلة في صورة شهرزاد ومن شناشيل بغداد وازقتها ومن الحياة نفسها ، من الحاضر الذي القي فيه بظلالي على ظلال ذلك الشعر الاسود فاشم رائحة تاريخ فيه حبيبات وامهات وعاشقات يمشطن الندى في ظفائرهن ويضوعن طيبا.
البتول لعبت دورا وحيدا في ديواني وقصيدتي الطويلة( صهيل في غرفة ) الذي لم يطبع بعد.وعشتارلعبت دورا كبيرا في (مناحة على بلاد الرافدين). وندى لعبت ادوارا عديدة في قصائدي.وصور نساء عديدات في امرأة واحدة تظهر في ديواني(طقوس الى الابد) المعد للطبع والذي نشرت بعض قصائده في(الحياة).
هل القول اننا نشرب من الينبوع لكي لا نظمأ ونموت عطشا يناسب توصيف الموقف من المرأة؟ نعم . وحين اقول نشرب فانني اعني اننا ناخذ من عطاء ابدي تكمن ديمومته في ضرورته وفي عذوبته.من يستطيع ان يسمي الغابة غابة دون شجر، والنهر نهرا دون ماء والنجوم نجوما دون بريق؟ بمثل هذه الضرورات اعرف ان المرأة ضرورة،ليس للرجل فحسب وانما لها هي ايضا.ليس للحياة فحسب ، وانما الحياة تعيش على ضرورة المرأة. هل نتنكر لضرورة الحياة ؟
– هناك شعراء نظروا للمرأة نظرة دونية جنسية فكيف عالج نبيل ياسين المرأة في شعره ؟
** نعم،هناك شعراء نظروا الى المرأة نظرة دونية متعلقة بالجنس وحده.واكثر من ذلك ،وجدت شاعرات في تراثنا العربي نظرن الى انفسهن نظرة احادية الجانب، مستمدة من الثقافة السائدة عن المرأة ، مثل الشاعرة الاندلسية اعتماد الرميكية وام الورد العجلانية والدهناء بنت مسحل اللواتي نظرن الى انفسهن نظرة جنسية شبقية وكتبن شعرا اباحيا وماجنا .
علينا الاعتراف ايضا ان المبالغة بموقف مضاد يحيلنا الى نوع من العدمية او الافراط في سلب المرأة بعض طبيعتها.لماذا لاننظر الى المرأة كينبوع للحب والجمال ؟لماذا لاننظر الى حقوقها الطبيعية هي الاخرى في الحب والجنس المشروع؟ ليس عارا على حركات تحرير المرأة،او الموقف التقدمي من المرأة،الاعتراف بان جمال المرأة فن رائع.لسوء حظ المرأة ان اغلب الرجال الذين يؤيدون تحرير المرأة لايدخلون المطبخ لغسل الصحون او تنظيف المائدة او كنس غرف البيت او غسل الاطفال في الحمام.
– وهل تفعل ذلك انت؟
** بالطبع.فانا شاعر اكتب قصائد تاخذ من وقتي كثيرا، سواء في التفكير والعيش بحالة شعرية او كتابتها واعدادها للنشر،واعمل في ابحاث وتأليف كتب واواصل عملي الثقافي والاعلامي التلفزيوني والصحفي، واتامل واقرأ واعاني متاعب يومية مثل الاخرين ومع هذا اجد وقتا ومزاجا ومسؤولية في كثير من الاحيان في تربية الابناء وغسل الصحون وتنظيف البيت واعداد الطعام لابنائي ولزوجتي ايضا ( حتى لو لم تكن متعبة)وفي الطبخ،وبالمناسبة فاني طباخ ماهر في البيت.
واجد وقتا وشعورا لانظر للمرأة نظرة جمالية وفنية لا اجد حرجا في التحدث عنها ، فالنظرة التقدمية للمرأة ليس تحويلها الى شبيه بالرجل وانما مناصفتها الحياة. ومناصفتها تعني ان تكون عدالة العمل والاداء والاحترام والتقدير المتبادل متوفرة، فماهي الحياة بدون المرأة التي وضعتها الاديان القديمة والشعوب ضمن الالهة التي عبدتها.وانا الذي اثور على الايادي قبلت في حياتي يد امي ويد حبيتي ويد اطفالي بعد ولادتهم.
– ماهي حالة حقوق المرأة في العالم العربي؟
** قبل ان نتحدث عن حالة حقوق المرأة في عصر الاعلان العالمي لحقوق الانسان دعنا نعد قليلا الى الماضي.في كتب التاريخ والادب العربي القديمة يتم التحدث عن المرأة هكذا (كانت عاتكة بنت يزيد بن معاوية تحت عبد الملك بن مروان)اي كانت زوجته ، وهذا هو تاريخ الثقافة العامة عن المرأة . هذه الثقافة التي تنظر الى المرأة نظرة دونية تجعلها في مرتبة ال(تحت) مغلبة طبيعة العلاقة الجنسية السائدة على كل عمر المرأة.في الواقع يمكن اعتبار هذه الثقافة سائدة في اديان وامم عديدة في الماضي، في اطار مفاهيم الدنس والخطيئة والعار. لكن المشكلة ان العالم العربي والاسلامي اليوم يشدد على هذه ال(تحت) باصرار ويمنع كل حقوق المرأة الاخرى بحجة الشريعة او الطبيعة.ماذا يحدث لو صدقنا النظرية الافتراضية التي تحيل الضمور في اثداء الرجال الى ان الرجال كانت لهم نهود في العصر الامومي يرضعون بها ابنائهم حين تخرج المرأة للعمل. هل سنشعر بالعار لو كانت هذه الاثداء اليوم بحجم ووظيفة اثداء المرأة؟ وهل كنا احلنا الشعور بالعار الى الطبيعة؟
دعني اقل ان اوضاع المرأة في عالمنا العربي ، رغم ما طرأ عليها من تقدم ، ماتزال كارثة . وتزداد الكارثة باسم الدين واستخدامه استخداما ملفقا يخدم اغراضا وغرائز وعادات شخصية. من الصفاقة ان نتحدث باسم الدين عن حقوق المرأة التي يوفرها الدين ويسلبها المجتمع الرجولي ، وحالة المرأة في بعض دول الخليج شاهد على ذلك .ان كثيرا من الرجال يصدمون حين ترفض المرأة اكوام الذهب التي يكدسها الرجل على رقبة وصدرزوجته وساعديها وتطلب حقها في التعبير والعيش بهامش حرية يتيح لها استقلالية مشروعة وبريئة.وبالطبع لا نبرئ كثيرا من (المثقفين) العرب الذين ينشدون اناشيد حرية المرأة وينظرون اليها باستخفاف ودونية واستغلال جسدي ونفسي اناني.ان ضرورة ايجاد تشريعات تضمن للمرأة حقوقها متلازمة مع ضرورة اشتراك النساء في صياغة هذه الحقوق ومناقشتها والتعريف بها ،فمايزال المجتمع العربي يجهل بالفعل ماهي حقوق المرأة بالتحديد.
انا هنا لا ادين الحجاب مثلا ، لكني ادين العودة الى الدين بالطريقة السلفية المتزمتة التي تعيد حالة الدنس والخطيئة والعار الى المرأة ، ادين ثقافة ال(تحت) التي اختصرت المرأة في هذا الموقع..
– وكيف تقيم نظرة الاسلاميين الى المرأة؟
** حين نتحدث عن الاسلاميين فاننا نتحدث عن بشر وليس بالضرورة عن شريعة. فهناك مبالغات وتناقضات كثيرة ساضرب لك مثلا واحدا منها. حين تزور صديقا من الاسلاميين فانك لاتبصر زوجته المحجبة . والقهوة التي تقدم اليك تقدم عبر ضربا الباب للزوج التي يتناولها.لا اهتم بهذه القضية كثيرا واحترم منازل وطرق عيش الناس واعيش حالة تعددية حقيقية احترمها واطالب الاخرين باحترام طريقتي في العيش في بيتي ايضا. لكني اتساءل احيانا:هل هذا التصرف صحيح دائما؟ احيانا ساأال نفسي : الا يرى الرجال وجوه زوجات الاسلاميين عند الطبيب وعند البائع الذي يشترين منه ، وفي الشارع حين تسير معه او وراءه. احيانا ارى اصدقاء اسلاميين ينزلون من سياراتهم مع زوجاتهم والغرباء يشاهدونهم دون ان يشكل ذلك حرجا ، فلماذا تمارس هذه الظاهرة في البيت ؟ مجرد سؤال يشغل ذهني عن الطريقة التي يتعامل بها كثير من الاسلاميين مع انماط الحياة والتفكير باسم الدين او باسم العادات او باسم الاجتهاد الشخصي الذي يتحول الى عرف او تشريع للجماعة.
لقد سمح بعض الاصوليين للسيدة عائشة ان تقود حربا ولايسمح لزوجته ان تقود سيارة.
– الدولة والسلطة والثقافة: تكريس النمط القهري – د.نبيل ياسين
حين اتحدث عن الثقافة , اتحدث عنها ليس باعتبارها انتاجا ادبيا وانما باعتبارها الانتاج المنعكس عن مجموعة من البنى والنظم القانونية والسياسية والايديولوجية.فلأن هذا التوصيف للاطار الثقافي الاوسع يوصلنا الى التمييز بين الوظيفة الايديولوجية للثقافة والوظيفة الاجتماعية لها.
وحين نتحدث عن المثقف كقاتل للروح، يتماهى مع سلطة السياسة القاتلة المادية عبر الانقلابات والاغتيالات والاعدامات وغيرها.فاننا نعني ان المثقف كقاتل للروح يظطلع بدور الصوت المدوي للانفجار وبالتالي فانه يتماهى مع القمع المادي ويوظف القمع الثقافي والفكري لذلك.
لماذا نلجأ الى ذلك.؟ ببساطة لان التماثل بين الثقافة والايديولوجيا قطع شوطا طويلا عكس عناصره السلبية على الاطار الثقافي بين السلطة والمجتمع. وانتج عددا من الظواهر تمثلت في مايلي:
اولا: ان السلطة ابتلعت الدولة وحولت مؤسساتها الى مؤسسات للسلطة الحزبية او العشائرية او العائلية، وحولت المواطن الى عبد او رقم محكوم بمقياس الولاء الايديولوجي.ومحكوم بالرعاية الابوية للسلطة التي تسيطر على الموارد الاجتماعية وتتحكم بتوزيعها على القطاعات الاجتماعية وفق منظور سياسي ايديولوجي.ومن خلال هذا المنظور لم يعد الفرد مواطنا في دولة وانما تابعا لسلطة دمجت الدولة والوطن والمجتمع في شكلها وعوضتها بالسلطة، وكرست ثقافة عميقة عموديا وشاسعة افقيا ترعى استمرار الاستبداد وتغذيه وتجعل منه قدرا وحتمية وعبودية معممةفي الواقع وفي نفس الوقت رفاها وحرية وتقدما في الثقافة المتماهية والمتماثلة مع الاديولوجيا.
هذا يشرح لماذا نعاني حتى الان من العثور حقيقة على عناصر الهوية الثقافية التي نحاول البحث عنها تحت ركام من التراكم الايديولوجي المطمورة تحته. فالثقافة المتماثلة مع الايديولوجيا اشاعت ثقافة فوق القانون عبر اعلام اخذ دور الثقافة هو الاخر وسعى بدعم من السلطة الى تحويل الثقافة الى دعاية تركزت في معظم البلدان العربية على اشاعة ثقافة عبادة الفرد.وهذا ينطبق على ثقافة الحزب الواحد كما ينطبق على ثقافة الطبقة الواحدة والدين الواحد والقومية الواحدة. اي ان جميع المؤسسات السياسية للايديولوجيا ، الماركسية والبعثية والقومية والدينية ، بمستويات مختلفة طبقا لحجم السلطة التي تملكها تلك الموسسات،ساهمت في تكريس دولة الاستبداد ونفي المواطن داخلها وجعله مواطنا في الثقافة الايديولوجة وليس على الارض.
لذلك فان العمل على ارساء ثقافة القانون ، اي الثقافة التي تعيد انتاج الافكار عن العلاقة بين الدولة والمواطن ضرورة قصوى امام التغيير الذي اصبح الان ضرورة بعد التداعيات الكبرى لاحداث الحادي عشر من ايلول والتي لايمكن الاستهانة باثارها السلبية العميقة وبالاثار العميقة لما تلاها من اطروحات اعادت صياغة العلاقة بين الشرق والغرب وبين الاسلام والغرب وبين العرب والغرب.والتغييرات المطلوبة ليست بالضرورة انقلابية او ثورية لان مثل هذه الاشكال ستظل بعيدة عن التغيير في المضامين ، فالمطلوب الان مضمون السلطة وليس شكلها، اي ان تصبح الدولة فوق السلطة وليس العكس.بمعنى آخر ان تستمد السلطة شرعيتها من الدولة الممثلة بمؤسسات شرعية دستورية وقانونية، وهذا يتطلب الغاء ثقافة الاتجاه الواحد الذي تكرس الاستبداد باسم الحزب الحاكم او الطبقة الحاكمة او القومية او الحاكمة وهكذا.
ان شيوع ثقافة السلطة، اية سلطة ولا اعني الحكومة، افرغ المؤسسات الضرورية للفكر السياسي والثقافي والاجتماعي من محتواها. فالديمقراطية تصبح شكلا مرحليا واسما يلحق بالتنظيم او الخطاب السياسي، وحقوق الانسان تصبح حقوق اعضاء منظمة او حزب على حساب حقوق الاخرين،ولنا ان نتساءل ماذا فعلت ثقافة حقوق الانسان؟ ان ادعاءها واحتواءها جعل لكل حزب ومؤسسة مكتبا او منظمة لحقوق الانسان وظيفتها منع التحدث عن انتهاكات هذا الحزب او تلك المؤسسة لهذه الحقوق.
وشيوع ثقافة التعددية ماذ صنع؟ صنع غوغائيين من المثقفين الذين يهاجمون ظهور تجمعات ثقافية اخرى ويتهمونها بالتمويل الاجنبي وما ان تتراجع تلك التجمعات عن الظهور حتى يحل محلها اعضاء التجمعات الثقافية الحزبية في الموسسات المدعومة اجنبيا بشكل علني وصريح.
ماذا يعني هذا بالنسبة للثقافة؟ يعني ان الثقافة الشائعة انتهازية اولا والغائية ثانيا واحتكارية ثالثا وتتمتع بعقلية تسلطية رابعا من خلال اولا وثانيا وثالثا .
ثانيا: ان السلطة اشاعت ثقافة تبعية القانون والدولة والمواطن والموارد الاقتصادية للحزب او الفرد او التجمع الحاكم،وبالتالي فان الثقافة الاستبدادية،تعرقل نمو ثقافة بديلة تعيد صياغة المنطلقات الثقافية للسياسة مثل مرجعيات دولة القانون ومرجعيات التعددية ومرجعيات الديمقراطية واعادة صياغة مرجعيات النظام الاخلاقي الذي يمكن ان يسود العلاقات السياسية،هذا النظام الذي يشيع ثقافة التخوين والاسقاط والعمالة والتمويل الخارجي والتشكيك والطعن والعمل السري في التشهير الذي يصل الى مقر العمل الوظيفي .
ان صياغة المرجعيات يعتبر نقطة انطلاق التغيير.و من المرجعيات البسيطة هي احترام الاختصاص والقدرة العامة ، اي قدرة المرجعية الثقافية والسياسية والاجتماعية معا،على التقييم.تماما كما يحدث في الغرب.لايستطيع عسكري مثلا يصعد دبابة ويقوم بانقلاب عسكري او يساهم في عسكرة المجتمع بعد عسكرة الدولة ان يعيد تثقيف المجتمع بالديمقراطية والسيادة ودولة القانون والحقوق العامة وهو يدبج خطاب القهر وتحرير فلسطين من النهر الى البحر دون ان يخوض معركة التحرير هذه وهو يراكم المليارات باسمه واسم عائلته. هذا بالضبط ضرب من العبودية والاستبداد الذي يتنافى مع كرامة الانسان والاعتراف بان له عقلا يميز بين الصواب والخطأ .
ولايستطيع صحفي مثلا كان بوقا ينفخ فيه لتلميع صورة الدكتاتور المستبد ونفى وجود اي كائن غيره ان يعيد تثقيف المواطن على دولة القانون والتعددية وحرية الثقافة والمثقف .
ان التماثل بين الثقافة والايديولوجيا والاعلام يسمح دائما بعودة الحرس القديم كما يسمح باستمرار الغياب التام للمرجعيات المتفق عليها ، فهذا التماثل يغذي الانتهازية الثقافية بتحولات فردية نفعية وليس تحولا في القيم.
وبسبب غياب المرجعيات التي ينبغي العودة اليها للاحتكام عن الخطأ والصواب فان واقع مثل هذا العسكري وهذا المثقف يمكن ان يقود المجتمع الى الهلاك مرتين ببسبب توافقات ثقافية شمولية لاتشكل مرجعية وطنية كما هو الحال في الغرب الديمقراطي، طالما نتحدث عن ضرورة النظام الديمقراطي .
ثالثا: ان التماثل بين الثقافة والايديولوجيا. انجز مرحلة محو الاختلاف والمختلف. فمهمة التماثل هي صنع نموذج موحد للمواطن والفكر والثقافة والنفسية. اي رؤية واحدية تبعية ولائية افقية ،لا فرصة فيها لرؤية الاخر مهما كان شكله. اي رؤية لقتل الاختلاف لا التخلف.
هذا التأسيس خلق الصراع الثقافي في قلب الصراع الايديولوجي وعمد الى صنع التماثل بين الثقافة والايديولوجيا ومحا عن قصد كل حد شفاف او حاد بين الاطارين الثقافي والايديولوجي.
تم هذا التماثل من خلال صناعة(وهم المهمات) التي صيغت في اطار من النعوت مثل المهمات الوطنية والديمقراطية والثورية والتحررية ومعاداة الامبريالية وغيرها من النعوت الايديولوجية .
واذا كانت الايديولوجيا سلاحا يعتمد حتى على الوهم والتخييل واشعال العاطفة وصناعة النعوت ، فاننا سنعثر ، اذا قمنا بعملية نقدية سريعة للثقافة السائدة في الاوساط العربية على التناقض بين رفع شعارات المهمات الوطنيةو الديمقراطية وبين واقع الالغاء والتغييب السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تشيعه وتمارسه غالبية القوى السياسية ومجموعات من المثقفين الذين ينتمون لها. هذا التناقض يرجع الى ثقافة احتكار الوطنية والديمقراطية واحتكار(المهمات الايديولوجية)ذاتها التي اصبحت محل نزاع الايديولوجيات في مرحلة من مراحل التاريخ العربي المعاصر، كما تصبح مهمات الديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية ودولة القانون محل نزاع الايديولوجيات الشمولية اليوم.لكن الدولة ستظل غلئبة اما السلطة فحاضرة مثل سمكة قرش تلتهم الجميع.
- الاعلام العراقي ومستقبل الديمقراطية – د.نبيل ياسين
يتطلب الحديث عن اعلام عراقي جديد ، بالضرورة ، العودة الى البديهيات والمناقشات الاولى.مثل رسالة الاعلام وتجاريته وتوجيهه وهل يكون حرا او مؤمما مملوكا حتى فكريا من قبل الدولة، وهل يكون العاملون فيه موالين لرأس المال ؟ وهل يكون مرتزقا، بعثيا سابقا، شيوعيا، مؤدلجا، محتكرا من قبل جهة او سلطة، مهنيا محترفا، مالكا لادوات الخطاب الاعلامي، مؤسسة لعمل من لاعمل له من عسكري سابق وطبيب لايجد عملا في مستشفى او عائلة تجد فرصة سانحة لسبب او اخر او لمجموعة تجيد التملق او اخرى تجيد التاليب والالتفاف وابعاد الاخرين. بمعنى هل ينعكس تراث السياسة العراقية عليه؟
في العراق كما في خارجه جيش من الاعلاميين مثلما هناك جيوش اخرى من مختلف المهن داخل العراق وخارجه.وحين اقول جيش اعني مختلف الصنوف والاسلحة من دروع ومشاة ومقاومة طائرات وسلاح هندسة واعاشة ومخابرات عسكرية. وهذا التشبيه تحقق فعلا في الصحافة العراقية في الداخل والخارج حيث تجد مختلف العسكريين وقد تحولوا الى صحفيين واعلاميين يطأون صفحات الجرائد كما يطأون ارض العدو.كما تحول غيرهم من عاطلين في وظائف واختصاصات اخرى للعمل الصحفي لسهولة الحصول عليه في الصحف الحزبية والعلاقات السياسية والايديولجية.
ومنذ عام تقريبا جرى اعداد صحفيين عراقيين من قبل الادارة الاميركية لتولي العمل في صحافة عراق مابعد صدام حسين واقيمت دورات تمخضت عن انشاء (شبكة الاعلام العراقية) التي كانت وماتزال جزء من قوات التحالف الاميركية والبريطانية في العراق.
ستكون المنافسة وربما الصراع قاسية بين اعطاء حق التعبير مساحته وبين المصالح والنوايا الاقليمية والدولية ذات الاغراض المتعددة قوميا ومذهبيا وثقافيا ودينيا والتي تمول الصحف ووسائل الاعلام للتاثير بمختلف نواياه الايجابية والسلبية.فناك فوضى اعلامية ضاربة في العراق اليوم سببها فقدان النظام والقانون وانهيار الاسس التي قام عليها النظام السابق والتي تتيح للجميع استثمار واستغلال الفرص المتاحة لوضع قدم منذ الان في مستقبل العراق،وفضلا عن الصحف والقنوات الفضائية العربية خارج العراق ومكاتبها في العراق والتي توجه الشعب العراقي وفق نوايا وخططها هناك هجوم على الاعلام داخل العراق الغرض منه توجيه المستقبل منذ الان عن طريق تضليل العراقيين وخداعهم ووبلورة تصوراتهم وتوجييههم نحو هذا الفريق او ذاك ، ولدينا تجربة طويلة مع الاعلام المعارض الذي قام على الالغاء والواحدية وقمع الرأي وتغييب الاخر وحرمان الاخرين من التمتع بحرية الرأي والاعلام والتعبير ، وطبيعي ان يكون هذا الاعلام المعارض هو الذي حل محل اعلام نظام صدام حسين بعقليته وافراده المتحزبين والساعين الى قمع الرأي وحرمان الاخرين من حق التعبير ، خاصة وان الذين تقدموا لشغل وظائف شبكة الاعلام العراقية التي تتولى مهمة الاعلام العراقي الان يمارسون الان حجب الرأي الاخر ومقاطعة تغطية فعاليات الاخرين ولم يتعد اعلام هذه الشبكة الدعاية لقوات الاحتلال.
ستكون معركة حرية الاعلام معركة الديمقراطية في العراق. وستكشف الى اي مدى ينوي الاميركيون والبريطانيون بناء نظام ديمقراطي في العراق يكون نموذجا للمنطقة .كما ستكشف الى اي مدى يستطيع الحكم الجديد والعراقيون بصفة عامة بناء نظام ديمقراطي دستوري تكون فيه الصحافة سلطة رابعة غير مقيدة وليست دعائية.
هناك مخاطر تواجه عماية بناء الاعلام الحر تتمثل في ثلاثة مظاهر. المظهر الاو هو حزبية الاعلام العراقي، فحتى الآن تنتشر صحف الاحزاب سواء التي في مجلس الحكم او خارجه ، وهي تعبر عن وجهات نظر حزبية وايديولوجية على الطريقة القديمة المعتادة المشحونة بالدعاية الحزبية وحرمان الآخر من التغطية الاعلامية المطلوبة مهنيا وموضوعيا.وينطبق هذا المظهر على اعلام التحالف الاميريكي البريطاني وبالذات على (شبكة الاعلام العراقي )التي تنطق بلسان قوات الاحتلال والعاملون فيها متعاقدون مع وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) وقد اثارت تغطيتها للاحداث العراقية ردود فعل سلبية عديدة.
ويتمثل المظهر الثاني في شيوع الايديولوجيا في الاعلام العراقي والتعامل مع الخبر والرأي من منطلقات ايديولوجية ضيقة تسبب انتهاكا لحق الاخر في الظهور والتغطية العادلة، فوسائل الاعلام مباعة سلفا لجهة ممولة لها ايديولوجيتها ومصالحها الحزبية الخاصة.وعادة ماتستخدم وسائل الاعلام الحزبية في التضييق على حرية الرأي والتزام جانب واحد في التعبير والتسويق والدعاية سواء في السياسة او الثقافة او الاقتصاد .
اما المظهر الثالث فيتمثل في احتكار وسائل الاعلام سواء كان الاحتكار حزبيا او ماليا او ثقافيا، وسواء كان احتكار الدولة او احتكار الاحزاب الحاكمة، لان الاحتكار سيغي حرية الرأي ويكرس دكتاتورية طرف على حساب الاطراف الاخرى.
اذا القينا نظرة على شارع الصحافة في العراق فاننا سنقرأ قرابة مائة وعشرين اسما لصحف جديدة صدرت بعد سقوط نظام صدام حسين.ثمة عوامل متشابكة ساعدت على ذلك، منها استغلال الفراغ السياسي والاعلامي ومحاولة الظهور لسد جزء من هذا الفراغ ومسك موقع فيه، ومنها الاستيلاء على ممتلكات الدولة الاعلامية والمطابع واصدار صحف احزاب تعاونت مع واشنطون وحصلت على امتيازات الاستيلاء دون جهد ودون صرف دينار واحد مقابلها، يضاف اليها انفجار التنوع السياسي والقومي والديني واعتبارالصحيفة او الراديو تعبيرا سريعا عن الوجود واثباتا ازليا له، فضلا عن سقوط القمع سقوطا سريعا اتاح للصمت العميق والطويل الامد ان يأخذ مديات تعبير متعددة وسريعة كانت بمثابة رد فعل على تكميم الافواه طوال عقود صعبة.
كان صحفيون عراقيون وطامحون من خارج المهنة ومتطفلون عليها متعاقدون مع وزارة الدفاع الاميركية بمبالغ ضخمة عبر صفقة كبرى وقعت بيد مقاول صغير وزع الوظائف المستقبلية لعراق المستقبل على اقاربة ومعارفه وحسب مزاجه وعلاقاته ، ينتظرون على حدود العراق فيما العمليات الحربية متصاعدة. ظلوا ينتظرون حتى سقط نظام صدام فدخلوا مع الاميركيين وتوزعوا على المؤسسات الاعلامية السابقة وصادروها واستولوا عليها وباشروا عملهم دون ادنى شعور مهني او اخلاقي بحس المهنة او الحقيقة او العدالة او النزاهة، الامر الذي القى الاعلام العراقي الجديد المرتبط بعملية بناء الديمقراطية في مجاهل الصراعات الشخصية واتضحت الهوة السحيقة بين الخبرة والولاء والانتهازية والتعصب الفئوي والحزبي بحيث غدت معركة الاعلام العراقي الجديد هي معركة الديمقراطية بلا جدال.
قبل الحرب وخلالهاانطلقت بمساعدة من قوات التحالف عدة اذاعات وصحف عراقية بعضها كان يعمل من خارج العراق مثل راديو المستقبل التابع لحركة الوفاق العراقي الذي كان يبث من العاصمة الاردنية عمان ويتقوى من الاواضي الكويتية وكان انشئ عام 1996 ويبث ست ساعات يوميا ومعه ساعتان من البث من كردستان العراق باسم اذاعة القوات المسلحة كانت تحرض الجيش العراقي على التمرد ضد صدام حسين مع بث عدد من الاغاني العراقية.وكانت المهنية هي الشئ الاول المفتقد في هذا البث اضافة الى الارتجال والاجتهاد الشخصي والاعتماد على الاشخاص الفارين من نظام صدام..وكانت حركة الوفاق قد تجاورت عرضا تقدم به الجيش الاميركي خلال الحرب لجعل بث اذاعة المستقبل والبث التلفزيوني لشركة النجم العربي التي تنتجها الحركة يتم من خلال عربتي همفي عسكريتين متحركتين مع ناقلتين عسكرتين من خلال نظام يدعى(اس او ام اس- بي)(نظام العمليات الاعلامية الخاصة) وذلك لان هذا النظام يعمل بقوة 1 كيلو واط ولايغطي مساحات كبيرة مثل نظام الـ 05 كيلو .
- الاسلام والديمقراطية – د.نبيل ياسين
سيكون البحث في الاسلام والديمقراطية معقدا،من الناحية الموضوعية،اذا وضع الاسلام برمته امام الديمقراطية.اولا لان الاسلام اصلا معتقد سماوي من المجازفة مقارنته بآليات سياسية وحقوقية وضعية متحركة. وثانيا لان الديمقراطية اسلوب لنظام يقوم على سياسية ومؤسسات فصلت الدين عن الدولة وبالتالي فان الديمقراطية لاتنظر الى التشريع عبر البرلمان الا بديلا عن التشريع الكنسي الذي ساد لقرون طويلة.
فضلا عن ذلك فان الديمقراطية تقوم على تكامل مؤسساتي مدني لادخل للدين فيه الا بقدر كون الدين مؤسسة ملتزمة بالقانون الذي يحافظ على حقها في ممارسة دينية مقابل ممارسة جميع المؤسسات الاخرى لحقوقها،بما فيها المؤسسات المتعارضة مع الدين، وبضمنها تلك التي تعتنق فكرة الالحاد.
هكذا سيتعارض الاسلام مع الديمقراطية منذ نقطة الانطلاق. وستكون فكرة الشورى مطروحة كبديل عن الديمقراطية.غير ان الاسلام من ناحية اخرى مجموعة من المؤسسات هو الآخر. والمؤسسة السياسية،من خلال قراءة موضوعية للتاريخ والتجربة التاريخية، ليست بالضرورة مطابقة للايمان والقرآن والسنة النبوية. وهذا يعني ان الشورى ليست بالضرورة تجربة تاريخية ارتبطت بالممارسة السياسية للخلافة الاسلامية.والاصح ان غياب الشورى كان طابعا بارزا للنظام السياسي للخلافتين الاموية والعباسية اللتين حكمتا باسم الاسلام واستمدتا شرعيتهما في الحكم بادعاء تطبيقه .
تبدو الوصايا الالهية للانبياء والمرسلين التي وردت في القرآن مرتكزة على بناء اخلاقي اجتماعي اكثر منه سياسي .وابرز فكرة وردت في هذه الوصايا هي الايمان بالله . اي ان المنطلق الاسلامي يقوم على الدعوة لوحدانية الله والايمان به. وتتوزع عن هذه الدعوة نظم اخلاقية واجتماعية متعددة وردت في قصص الانبياء مثل هود ولوط وصالح وابراهيم ترتبط بالايمان بوحدانية الله .وهذه المنظومة الاخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالايمان بالله يمكن ان تكون نظاما مدنيا للجماعة التي تعيش في ظله يلتزمون به طوعيا كونه التزاما اخلاقيا للجماعة . هكذا هي حال الانظمة الديمقراطية التي شكلت عقدا يتم احترامه والالتزام به طوعيا.
من هذه النقطة المشتركة بين الاسلام والديمقراطية يمكن الانطلاق.واذا توخينا المقاربة بين السماويات والوثنيات من الناحية الاخلاقية والاجتماعية سنجد وصايا وتعاليم مشتركة من الناحية المدنية.وما يفصل الوثنيات عن السماويات يقوم على الواحدية والتعددية بالنسبة للاله او الآلهة والتجسيد في الوثنيات لعدة آلهة.فالنظام الاخلاقي للمجتمع يقوم على توافق في تحريم او تحليل الافعال.فالسرقة محرمة في السماويات والوثنيات كما هو القتل والظلم والزنا مثلا.وهي محرمة خارج الفترات الزمنية لوضعها.اي انها محرمة ازلية سواء في الماضي او الحاضر وسواء في الشرق او الغرب، وسواء في الامبراطوريات الكبرى او في المشاعات القروية الصغيرة المعزولة. هذا يعني ان النظام الاخلاقي الاجتماعي لايشكل افتراقا بين السماويات والوضعيات المعاصرة .
ان اختراق النظام الاخلاقي شكل محرما في القانون والفقه. غير ان الاختلاف في تنفيذ العقوبة كان مثار اختلافات في زمكان الفعل . وبالتالي فانه في الانظمة الاوربية المعاصرة، سواء كانت ديمقراطية ليبرالية ام اشتراكية شمولية, شهد تطورا في موقعه الاجتماعي بالنسبة الى الفعل كفعل محرم.فالزنا مثلا تختلف عقوبته من دولة الى اخرى حسب الموقف الاجتماعي منه.انه مايزال قانونيا فعلا غير سوي.ورؤية الزنا في بلدان اوربا لاتفرض اقامة حد عام وتترك الى الشخص المعني مباشرة. وغالبا مايكون الطلاق او الافتراق بين الزوجين هو العقوبة وليس الرجم.اي ان العقوبة في الانظمة الديمقراطية في الزنا لم تعد حقا عاما وانما مسألة شخصية.غير ان السرقة مثلا بقيت حقا عاما يطالها القنون الجنائي وكذلك القتل والاختلاس والتزوير وغيرها من الخروقات الاخلاقية .
هذا يعني ان ماكان عقوبة دينية اصبح مختلفا في موقعه في المجتمع بقدر موقع الدين في المجتمع وعلاقته بقانون السلطة السياسية وليس بقانون الدين .
غير ان الاسلام يختلف في هذه النقطة.فالمؤمنون،خاصة مشايعي الحركات الاسلامية ،يصرون على انه دين يشمل جميع الجوانب الشخصية للفرد والجماعية للمجتمع .وهو يتجاوز حق الفرد وعمله الطوعي.وهذا العمل الطوعي كان ينطوي تحت الاعتراف بالوهية الله ونبوة النبي محمد.والانسان الفرد نفسه يراقب تنفيذ هذا الاعتراف دون تدخل مباشر من قبل السلطة الدينية. فالسلطة الدينية هي الناس الذين يعترفون بالاسلام دينا وليس الحاكم.وهذه التجربة كانت تجربة الرسول والخلفاء الراشدين عدا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي تدخل في تنفيذ هذا الاعتراف بالله وبالنبوة في بعض ممارساته التي اتسمت بالصرامة.اما من حيث الاجراءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فلم يكن تدخله ينم عن صرامة كالتي اتسم بها تدخله في امور الصلاة مثلا.واكثر من ذلك فانه كان يستشير عددا من الصحابة خاصة الامام علي بن ابي طالب في عدد من الاجراءات الاقتصادية والسياسية،مما يعني ان الافق مفتوح في هذا الجانب وان هناك انفصالا يمكن ان يقوم مابين واجبات الايمان بالله والنبوة والاجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
وهذه ايضا نقطة التقاء مابين الديمقراطية والاسلام .
واذا كانت الديمقراطية نظاما سياسيا لادارة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة ، وادارة الصراعات الاجتماعية بصورة سلمية من جهة اخرى، فان الاسلام ليس نظاما سياسيا . انه دين سماوي يقوم على الاعتراف بواحدانية الله وممارسة مجموعة من الشعائر التي تؤكد هذا الاعتراف. وفي هذا السياق فان الدولة ليست صيغة دينية . اي انها ليست جوهرا ومضمونا للدين . انها الوعاء او الشكل الذي ينظم العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين وليس علاقة المؤمن بالله . ولا يرد شكل الدولة في القرآن او الاحاديث النبوية بقدر مايرد تنظيم العلاقة بين الله والمؤمن ، وبين المؤمنين كمجموع باعتبارهم متوحدين بوحدانية الخالق . وفي هذا الاطار اختلف شكل وتنظيم الدولة في الاسلام كما اختلفت طبيعتها .
فضلا عن ذلك فان الديمقراطية نظام يحد من سيطرة الدولة على جميع المرافق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع . اي ان الديمقراطية تقوم على تعددية لمؤسسات مدنية تقوم بالحد من تحول الدولة الى دكتاتورية فردية او حزبية او دكتاتورية طغمة او عائلة او جماعة . انها بتعبير سئ : تقمع تحول الدولة الى مؤسسة بيد دكتاتورية الفرد او الحزب او العائلة او الطغمة .
هنا ايضا يمكن ان نعثر على نقطة التقاء كون الاسلام دين يعطي الجماعة قوة الضغط على السلطة كي لاتتحول الى ملك عضوض او كي لايساء استخدام السلطة من قبل فرد او عائلة او طغمة . وبالطبع نحن هنا لانتحدث عن التاريخ وانما عن الاساس النظري للعلاقة بين السلطة والفرد في الاسلام كدين . هذا يعني ان الجماعة تملك حق الاختيار والنقض كما تملك حق المراقبة وليس العكس . اي ان الجماعة هي التي تملك حق مراقبة السلطة وليس العكس .
غير اننا اذا عالجنا الدولة و الدين في الاسلام من وجهة نظر سياسية معاصرة فاننا سنجد عدة اسئلة مطروحة حول مفهوم الدولة الاسلامية ومجتمعية الدين . ويمكن النظر الى مفهوم الدولة في الاسلام فيما اذا هي نص ام واقع ؟ كما يمكن طرح اسئلة عن التاريخ الاجتماعي للدولة في الاسلام وهل هي دولة قامت على المبررات الدنيوية ام المبررات الدينية ؟لان ذلك سيقودنا الى معرفة اليات عمل السلطة في الاسلام وما اذا كانت هذه الآليات تشبه آلاليات الديمقراطية في الغرب ام لا ؟
الاسئلة حول مفهوم الدولة الاسلامية لم تعد مطروحة على الاسلاميين وحدهم فقد اصبحت مطروحة على غير الاسلاميين من العلمانيين الذين تقوم علمانيتهم على اساس سياسي يستند على الفصل بين المهمات الدينية والمهمات السياسية.
ان المشكلة الاساسية يواجهها مفهوم الدولة نفسه.فالدولة لاتقوم على مضمون وانما على «شكل».وهذا الشكل بالذات يخضع الى «مفاهيم» اكثر مما يخضع لوقائع. وسبق لي ان عالجت مشكلة المفهوم حتى بالنسبة للدولة الاسلامية في مقالة سابقة في احدى الصحف اللندنية (٭).فالمفهوم هو نتاج الوقائع التي تصوغه على شكلها في اول مرة،لكن المفهوم سرعان مايثبت ليقوم بقياس الوقائع الجديدة التي يطالبها بمطابقته دون ادنى تقدير للتطور الذي يحصل على الوقائع.وهنا تتجلى المشكلة المفهومية في جميع الافكار السياسية والاجتماعية وتلعب دورا اساسيا في الصراع الايديولوجي الذي يقوم على المفاهيم ولايحيد قيد انملة عن دوغمائياته التي تعارض الحياة.ومن الواضح ان الصراع الايديولوجي في العالم العربي منذ الخمسينات حتى اليوم،هو صراع مفاهيم لا صراع وقائع.ومعنى ذلك ان المفهوم لايتخلى للحقيقة عن دوره.ويصبح التطور والتنمية،مثلا، مجرد مفهومين في الايديولوجيا السياسية العربية،ومفهومين دعائيين يدخلان في جملة ادوات الصراع السياسي والاجتماعي والايديولوجي.
والمشكلة الثانية ان اعادة انتاج الوقائع على ضوء المفاهيم لاتعيد انتاج المفاهيم نفسها. واذا طبقنا هذا على الدولة القومية والدولة الاشتراكية والدولة الدينية سنجد ان مفاهيمها ثابتة في تصور نظري ثابت يضحى بالوقائع لاجل البرهنة على صحة المفهوم .
هل الدولة الاسلامية دولة ايمان ، ام منافع ؟ وهل الدولة الاسلامية دولة الامامة ام دولة الخلافة ؟ دولة الشريعة ام دولة السياسة ؟ دولة الامة ام دولة الفرد والعائلة ؟
انها اسئلة لن يجد الاسلاميون عليها اجوبة نافعة لهم في التاريخ والوقائع الاسلامية . لكن من الممكن الاجابة عنها بسهولة في المفاهيم المتداولة عن الدولة الاسلامية نفسها بين الاسلاميين .بيد ان ذلك لن يحل المشكلة بل يزيدها تعقيدا ويجعلها على تناقض مع نفسها لان « المفاهيم » هي التي ستجيب وليست الوقائع .
اسئلة الدولة الاسلامية كما قلت مطروحة من قبل الاسلاميين والسياسيين المدنيين لانها مشروع سياسي قائم ضمن ماهو قائم من مشاريع سياسية ، لكن صواب طرحه لايعتمد على التاريخ وحده . ولا على المنطلقات المفهومية النظرية وحدها .
لقد فشلت مشاريع الدولة القومية العسكرية والمدنية ، كما فشلت مشاريع الدولة الاشتراكية ، والدولة الثورية التي كانت الغطاء لهذين الشكلين من اشكال الدولة . اذن مايطلق عليه « الاسباب الموجبة » لاصدار هذا الحكم قائمة ، واكثر من ذلك فان اطروحة ان مثل هذه الدولة ستعيد الوجه الحضاري للعرب والمسلمين بتمسكهم بدينهم ، لن تكون دعامة فقهية او مادية لتبرير الدعوة الى الدولة الاسلامية ، اذ عادة ماتكون هذه الديباجة المعتادة امنية ينقصها البرهان على صحة وقائعها التاريخية في التاريخ العربي الاسلامي نفسه الذي لن ينجد دعاة الدولة الاسلامية كثيرا . فالعوامل التي صنعت الوجه الحضاري للعرب المسلمين لم تكن بالضرورة عوامل دينية بحتة ولم تنطلق من الشريعة والفقه بالدرجة الاولى .لكن دعونا نرى الفرق الهائل ، حتى في تاريخ الاسلام ، بين استخدام الدولة لتحقيق ذلك ، واستخدام الوسائل الدعائية او الدعوتية لانجاز هذا الهدف . فالاسلام لم يصبح دينا لمسلمي مكة ، وحتى مسلمي الجزيرة باستخدام الدولة ، لانه ببساطة لم تكن هذه الدولة قائمة اثناء ظهور الاسلام . بل لم يكن لدى النبي وسائل اغراء او اكراه مادية مما تستخدمه السلطة او الدولة عادة سواء منها ما هو قرار حكومي ملزم بالاكراه او اجراء شمولي ضد المجتمع . وبالتالي فالدولة غير ملزمة بتطبيق الاسلام من وجهة النظر هذه .
عادة ما ينزع كل فكر الى تكوين اطاره السياسي ليعبر عن نفسه من خلال اداة الدولة او التنظيم.والفكر الاسلامي (وليس الاسلام نفسه) ينزع كذلك الى مثل هذا الاطار. لكن المشكلة هي هنا بالضبط قدر تعلق الامر بالاسلام وبمفهوم الدولة معا . المشكلة في البحث عن «شكل »و«طريقة »تطبيق هذا الاطار . ولما كان هذا الاطار عادة ذا طابع سياسي او شكل سياسي فان الاسلام السياسي هو الوسيلة الوحيدة للمطالبة بهذا الاطار .وهنا حصلنا على امرين سوية هماالاسلام كدين والدولة كوعاء للسلطة التي تحكم.اذن الدولة ليست بالضرورة ملازمة للاسلام،ولكنها شكل يمكن ان يتجلى فيه. وتاريخ الاسلام نفسه ، يدلنا على دول اموية وعباسية وفاطمية وعلوية وعثمانية وبويهية وسلجوقية وتترية ومملوكية وغزية وغيرها تجلى فيها الصراع على السلطة بعيدا عن اي وازع او هدف ديني، سوى ان هذا الاخير كان راية خاضت تحتها جميع الاطراف المتصارعة صراعها ضد بعضها البعض مستخدمة الاسلام باعتبار ان قدسية حربها وصراعها مستمدة من السالام الذي يحارب بعضه البعض الآخر.اما الاسلام ،الدين ، فقد كان خارج ذلك تماما،ممثلا في مسالك الفقهاء والمثقفين المسلمين والقضاة والزهاد ورجال الحديث من الصحابة والتابعين وغيرهم الكثير في تاريخ الاسلام ممن تجنبوا لعبة الدولة لصالح التمسك بالدين.والامثلة على ذلك اكثر من ان تحصى من ابي ذر وعمار بن ياسر والحسن البصري وواصل بن عطاء حتى ابي حنيفة وسفيان الثوري ومالك بن دينار واحمد بن حنبل والفضيل بن عياض وعمر بن عبيد وغيرهم ممن كانوا يتجنبون الدخول في الدولة قبل ان يقرر ابن تيمية حق التغلب باعتياره شرعية للحكم مخلفا وراءة كل التراث السياسي للصراع العقائدي على السلطة. .بل ان الخليفة عمر بن عبد العزيز عد الخلافة بلاء ، وبذلك عبر عن تجسيد موقف الفقهاء والمثقفين المسلمين،كما اعتبرها سلفه الخليفة عمر بن الخطاب وزرا حين رفض توريثها لابنه عبد الله بن عمر قائلا «يكفي آل الخطاب ان حمل وزرها واحد منهم ».او كان ممثلا بالمجموع العام للمؤمنين الذين بلعوا غصة التناقض بين ايمانهم وبين سلوك واجراءات الحكام المسلمين من امراء المؤمنين الامويين والعباسيين والعثمانيين.ان جمهور الامة المتوزع في ارجاء الامبراطورية الاسلامية يواصل اسلامه دون امر ديني من الدولة ودون ان ينخرط في صراعها مع الاتجاهات الاسلامية الاخرى المتصارعة لا على اسلامية الدولة بل على الدولة نفسها . فهل من اللازم ان يرتبط الايمان بالدولة ؟
لو اخذنا بشكل اكاديمي وحيادي ، صور الخلافة الراشدة الاربعة ، اي الطريقة التي تم بها استخلاف كل من ابي بكر وعمر وعثمان وعلى، وعرضناها على استاذ في العلوم السياسية لاخلفية لديه عن هذه الصور ، وطلبنا منه تصنيفها في«نظام حكم» او في طرق الوصول الى «السلطة »او«الدولة» كما يؤمن البعض فكيف يصنفها ؟
من المؤكد انه سيجد اربع طرق تختلف الواحدة عن الاخرى اختلافا واضحا.فمجئ ابي بكر الى الخلافة يختلف عن مجئ عمر اليها كما يختلف مجئ ابي بكر وعمر عن مجئ عثمان، مثلما يختلف مجئ عثمان عن مجئ عمراو مجئ ابي بكر كلا على حدة، مثلما يختلف مجئ على بن ابي طالب الى الخلافة عن كل من الخلفاء الثلاثة منفردين او مجتمعين .
فضلا عن ذلك سنذهب الى رؤية الطريقة التي انتجت خلافة ابي بكر دون ان تضع قواعد لخلافة عمر وعثمان وعلي ومن بعدهم .
ففي سقيفة بني ساعدة كان الصراع على اشده بين المهاجرين والانصار الذين كادوا ان يخطفوا الخلافة فطرح عمر بن الخطاب مجموعة من المبررات التي ظهرت في سياق الصراع ولم تكن جاهزة من قبل.فلكي يبعد الانصار عن الخلافة حصرها بالمهاجرين. وكانت هذه خطوة موفقة اولى لغلق الباب امام الانصار وتضييق ميدان الصراع على الخلافة.لكن الباب انفتح هذه المرة امام قوى عديدة في المهاجرين انفسهم ، شخصيات وقبائل، فجاءت الخطوة الثانية لاخراج هذه القوى من الحلبة، فقصر الخلافة على قريش. هنا ضيق من مساحة الصراع على الخلافة لمزيد من التحكم بادارة هذا الصراع،الذي سرعان مافتح ابوابا اخرى. فالهاشميون كانوا ،بمنطق حصر الخلافة بالمهاجرين وقريش، اقرب الى هذا المنطق الذي اعتمد عليه عمر، لأن النبوة فيهم . ومن هنا بالضبط سينفتح الصراع ، لان الاسس التي صاغها عمر كمبررات لخلافة ابي بكر ستكون مبررات للهاشميين بنفس منطق تضييق الصراع من القريب الى الاقرب ومن الفاضل او المفضول للافضل
ولو كان الشكل الراشدي قياسا دينيا او فقهيا بشكل ادق لوجب عدم اتباع التوريث من قبل معاوية وما بعده، لان هذا العهد لم يورث ، حتى ان عمر بن الخطاب رفض نصيحة بترشيح ابنه عبدالله بن عمر للخلافة . وقياسا على ذلك يصبح توريث معاوية ليزيد وما جرى بعد ذلك من توريث باطلا لايتناسب مع الموروث الاسلامي .
اذن نحن امام اشكال متعددة ومفاهيم مختلفة للحكم في الاسلام ، كما اننا امام اسئلة عميقة عن طبيعة هذا الحكم نفسه ومدى وصوله الى الممارسة السياسية ، وهل ان هذه الممارسة من حروب ومعاهدات واجراءات كانت دينية اصلا ام استمرارا لماقبل الاسلام ، لكن بقوة مركزية شاملة . وهل ان الخليفة منصب ديني ام سياسي ام الاثنين معا؟ وفي هذه الحالة ماهو دور المؤسسة الدينية التي ظهرت فيما بعد بواجبات دينية لا صلاحية سياسية مباشرة لها ، بحيث كرست الفصل بين الدين والدولة ، فليس من واجب الفقيه ورجل الدين ادارة المجتمع او الدولة ، وانما من واجب السلطة السياسية الممثلة بالخليفة ، الذي رغم صفته الدينية ، كان لايبت بالقضايا الدينية دون العودة الى رجل الدين الذي اقتصر على الافتاء وتوضيح الامور الفقهية لاغير .
كل هذه الامور تعيدنا الى الاقرار بعدم حسم قضية الدولة الدينية حسما اخيرا . وعلينا ، قدر تعلق الامر بالدولة في الاسلام ، العودة الى ماحدث في سقيفة بني ساعدة ، لنرى حقا ، طبيعة العلاقة بين الدولة والاسلام وطبيعة السلطة السياسية فيه . فمن هذا المكان انطلق الصراع لا على الخلافة فحسب ، بل على الطريقة التي يتم فيها تعيين او اختبار الخليفة ، والمهمات التي يمارسها وطبيعتها الدينية او السياسية.
هذا يعني ان الحديث عن الاسلام والديمقراطية مرتبط قبل كل شئ بطبيعة الدولة في الاسلام وبالطريقة التي تدار فيها العلاقة بين الحاكم والمسلمين .
في هذه السقيفة لم يكن احد ،لا ابوبكر،ولا عمر، ولا سعد بن عبادة يدرك بالضبط ، لا نظام الادارة ولا ادارة السلطة، سواء السياسية او الدينية. اكثر من هذا لم يكن احد منهم يدرك على وجه الدقة ماذا ينبغي ان يكون النظام او الحكم القادم. فالقضية كانت تستند برمتها على استمرار الاسلام كدين. فابوبكر يستخدم كلمة «الامر» كما قال سعد بن عبادة يحث الانصار« فشدوا ايديكم بهذا الامر» وقال الحباب « فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر» وهكذا نرى ان الموضوع ملتبس اساسا على المسلمين بعد وفاة النبي.فالنبوة الت انتهت لم تترك وراءها شكلا آخر من اشكال السلطة.فالسلطة لم يكن لها شكل محدد لا عند المهاجرين ولا عند الانصار ، كما ان طبيعة ومضمون هذه السلطة لم يكن واضحا. ولم يكن واضحا ما اذا كانت سلطة ام لا . واشتداد النزاع بين المهاجرين والانصار لم تكن له شرعية دينية ولكن كانت له مبررات سياسية وقبلية واجتماعية . وعلى الرغم من اعتماد الطرفين على عناصر دعم دينية مثل «اول من اسلم» للمهاجرين و «اول من نصر» للانصار الا ان هذه كلها كانت مبررات وليست مبادئ اساسية لتوصيف السلطة .فتقاليد الحكم لم تكن قائمة حتى في السقيفة ، كما لم تقم في مكة والمدينة .
لقد حاول العباس مبايعة على بن ابي طالب، وحاول الانصار مبايعة سعد بن عبادة،وحاول عمر وابو عبيدة مبايعة ابي بكر،حتى ان مؤلف كتاب «الامامة والسياسة» يقول «فاتى الخبر (اي خبر مبايعة الانصار لسعد بن عبادة )الى ابي بكر ، ففزع اشد الفزع ) ولا يمكن تفسير هذا الفزع دينيا اطلاقا.فليس هناك ادنى شك في ان الانصار مسلمون، وان اختيارهم لسعد يعبر عن ارادتهم رغم انهم ليسوا كل المسلمين . وكان يمكن اعتبار ذلك ترشيحا منهم لزعيم انصاري لذلك «الامر» الذي لم يتضح بعد ما هو : هل هو ديني ام دنيوي؟ثم ان اتهام ابي بكر للانصار بالظلم اذا لم يؤيدوا مطالبه يعتبر اتهاما سالفا غير مبرر ولايقوم على اسس دينية،انما على ذرائعية واضحة ، فهو يقول عن نفسه «انهم احق الناس بالامر لاينازعهم فيه الا ظالم» ولايوجد نص لا في القرآن ولا في الحديث النبوي يتهم من ينازع المهاجرين على الخلافة بانه ظالم لكي يكون مبررا لابي بكر يستند عليه في دفاعه من اجل الخلافة. كما ان الذي حسم موضوع «الامر» لابي بكر هو التنافس القبلي بين الاوس والخزرج وليس المبررات الدينية التي ساقها ، لان المبررات الدينية تنطبق على علي بن ابي طالب اكثر مما تنطبق على اي شخص آخر، لان هذه المبررات ستكون عونا لعلي بن ابي طالب في مطالبته بالخلافة وفق الافضليات التي عددها ابو بكر مثل «اول الناس اسلاما» و «نحن عشرة رسول الله» وقد اعطى ابو بكر نوعا من العصبية القبلية في مبررات الخلافة في قوله«نحن اوسط العرب انسابا» في حين ان الاسلام لم يؤكد على مثل هذا النسب كافضلية. كما ان الشورى لاتستند على النظام القبلي والحسب والنسب، وقد كرر عمر مثل هذه الاطروحة في رده على الانصار قائلا «لا يرضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم،ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم واولو الامر منهم.لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين،لا ينازعنا سلطان محمد وميراثه (وكلمة ميراث تناقض هنا الحديث الذي اثار المشكلة بين فاطمة وابي بكر حول فدك )ونحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم او متورط في هلكة» .
نحن هنا اذن امام مبررات لا نص دينيا فيها لا من القرآن ولا من السنة.انما حجج ساقها عمر في سياق النزاع،وهي حجج ومبررات تستند على وجهة نظر عمر ومنطقه في سياق تدعيم موقف ابي بكر لوراثة «سلطان وميراث محمد» ، في حين ان النبوة لم تكن سلطانا ولاميراثا، كما ان احالة من يختلف مع ابي بكر وعمر في حقهما بهذا«السلطان والميراث» الى الباطل والاثم سابقة لم يشهدها الاسلام في عهد الرسول الذي لم يمارس هذا النوع من الاكراه الديني والتأثيم الاعتباطي. بينما لم يرد مثل هذا التكفير من الانصار وخطبائهم خاصة الحباب بن المنذر الذي تصدى لعمر. فضلا عن ان اطروحة ابي عبيدة مخاطبا الانصار«انتم اول من نصر وآوى فلا تكونوا اول من يبدل ويغير» اطروحة لاتستند على تقليد او عرف او نص ، فماذا يغير ويبدل الانصار ولم يسبق ان كان هناك تقليد لحكم او خلافة.فنحن اذن امام حجج وقتية ساقها ظرف الدفاع عن الموقف الآني الملح ، رغم افتراض ابي بكر ان ذلك « الامر » هو « خير ساقه الله اليهم » اي الى ابي بكر وعمر اللذين تكلما باسم المهاجرين . وليس هناك من نص قرآني او في السنة يؤكد ان هذا الخير ساقه الله للمهاجرين من دون المسلمين الآخرين . وعلى العكس من ذلك فقد اعتبر النبي الولاية والامارة شرا حين سأله عمه العباس ولاية فلم يوله .
واذا كان ابو بكر قد حصر الخلافة فيمن كانت النبوة فيهم فهذا يعني ان تكون الخلافة في بني هاشم حصرا حسب منطق ابي بكر الذي يشابه منطق عمر في حصر الخلافة بالعلاقة بالنبوة وهو حصر يعطي الحق بالخلافة لعلي بن ابي طالب دون غيره حسب منطق عمر وابي بكر .
من كل ذلك يتضح ان موضوع الحكم الاسلامية موضوع دنيوي لا علاقة لمفرداته السياسية والادارية والاقتصادية بمفردات الدولة ، واكثر من ذلك لم يكن « الخليفة » متفرغا للخلافة حيث ان ابا بكر لم يكن يقبض راتبا ولم يكن له مورد من ( الدولة ) التي يفترضها عدد من الاسلاميين حتى انه كان يبيع القماش وهو خليفة وكذلك عمر بن الخطاب وعثمان علي ، كما لم يكن هناك « تعيين » محدد لواجباتهم وصلاحياتهم واسلوب ادارتهم وطريقة تعيين ولاتهم .
– فلسفة الدولة عند الامام علي على ضوء مفاهيم الدول الديمقراطية المعاصرة – د.نبيل ياسين
رغم ان كثيرا من الكتابات تناولت فلسفة الحكم عند الامام علي بن ابي طالب على ضوء الشريعة الاسلامية،فما تزال هناك حاجة ،في العصر الحديث، لدراسة فلسفة الحكم وتطبيقاتها لدى الامام على ضوء النظم الديمقراطية المعاصرة ، التي تقوم على مفاهيم وتطبيقات حقوقية ،مثل سيادة القانون واحترام حقوق الانسان والانتخابات واحترام الرأي المعارض وحرية التعبير وتعددية الافكار والشفافية واحترام المال العام والفصل بين السلطات، وغيرها من مفاهيم حقوقية تقود الحياة السياسية في النظم الديمقراطية القائمة على مبدأ الاختيار الحر وتداول السلطة والاحتكام الى الدستور.
تشكل هذه المفاهيم صورة العالم المتقدم اليوم سياسيا واقتصاديا وثقافيا.وهي تقوم على ماعرف في الادبيات الاجتماعية والسياسية الحديثة بالعقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة، حيث تبلورت صورة المواطن الفرد باعتباره حجر الزاوية الذي يقوم عليه البناء الحقوقي والسياسي للمجتمعات الحديثة.وهذا يعني ان القانون يطبق من خلال تساوي جميع المواطنين،بمن فيهم افراد السلطة الحاكمة.اي ان القانون فوق الجميع وليس هناك احد فوق القانون.اما من من ناحية عمل الدستور فليس هناك اجراء اكبر من الدستور. اذ ان كل الاجراءات يجب ان تكون دستورية. اي مطابقة لنصوص الدستور وتتمتع بالشرعية الدستورية التي يتفق عليها الجميع.
مثل هذه المفاهيم،كانت وماتزال،القيم المرجعية لديمقراطية النظام السياسي.اي لكونه ممثلا لمصالح الغالبية من المواطنين الذين يستطيعون الحكم على هذا التمثيل من خلال الاعتراضات او الانتخابات او الاحتجاجات ،سواء من خلال التظاهر او وسائل الاعلام او التعبير عن الرأي.
يؤكد كثير من الباحثين والكتاب المسلمين على ان الاسلام يحتوي على هذه القيم او اكثر منها لضمان العدالة وتمثيل السلطة لمصالح المسلمين واحترام شؤونهم وخصوصياتهم وتطبيق الشريعة باعتبارها تطبيقا لسيادة القانون والدستور وضمان حقوق جميع المسلمين .وبالتالي فليس هناك ديمقراطية اكثر من الديمقراطية التي ينادى بها الاسلام باسم الشورى.
غير ان هذه التأكيدات لاتصمد في تاريخ الحكم عبر اكثر من الف واربعمائة سنة. صحيح ان الاسلام يتضمن مثل هذه الرؤية، ولكن تطبيقها لم يكن قاعدة وانما كان استثناء .وقد مثل هذا الاستثناء التطبيق الذي شهدته فترة حكم الخليفة الرابع علي بن ابي طالب. وسنبحث ذلك ، ليس فقط في النصوص والنظريات الخاصة بفلسفة الحكم وشرعيته التي وردت في خطب واحاديث وعهود الامام علي، وانما في التجربة التي استمرت اكثر من ثلاثين عاما وتلخصت في السنوات الاربع التي استغرقتها خلافة الامام.
كانت السقيفة بداية التجربة الديمقراطية التي خاضها فكر الامام علي السياسي المنبثق عن التصور الاسلامي والنص الاسلامي.فمنذ البداية كان هناك عدم وضوح لطبيعة (الامر) الذي تمت مناقشته في السقيفة.فوفاة الرسول(ص) انهت واجبات النبوة وفتحت الباب امام واجبات من نوع جديد. وكانت المبررات التي ساقها عمر بن الخطاب لحصر (الامر) بيده في الواقع مبررات لصالح تبوء الامام علي موقع الخلافة مثل السبق الى الاسلام والقرشية والهجرة والقرابة من الرسول.وبعد ان كانت نتيجة المجادلات في السقيفة خلافة ابي بكر بالطريقة التي تمت بها، كانت اعتراضات الامام علي تنصب على عدم اعطاء هذه الطريقة من التخليف الشرعية التي كان الامام علي يمثلها والتي جعلت ابا بكر وعمرا حريصين على الضغط على الامام علي لاعطائهالكي تأخذ الخلافة شرعيتها.
يقوم الفكر السياسي والاجتماعي الديمقراطي المعاصر على افكار ومفاهيم فلاسفة وكتاب وحقوقيين وسياسيين غربيين طوروا افكارهم وجعلوها قابلة للاعتناق والتنفيذ على مدى اكثر من ثلاثة قرون.وتتوزع هذه الافكار والمفاهيم على عدد واسع من هؤلاء الفلاسفة والكتاب والحقوقيين والسياسيين حيث اختص كل واحد منهم بتطوير واحد او اكثر من هذه المفاهيم والافكار مثل الحرية والفصل بين السلطات والتفاوت بين البشر وحقوق الانسان وحق المواطنة والعدالة ودور الدولة والدين والدستور والحكم المطلق والمقيد وغيرها من افكار ومفاهيم المجتمعات والدول الديمقراطية الغربية الراهنة.
غير ان مايثير الانتباه هو اننا نرى فصلا في اغلب الاحيان بين منتجي هذه الافكار وبين مطبقيها، فانتاجها اقتصر في الغالب على الفلاسفة والموسوعيين والكتاب والحقوقيين في حين اضطر الساة لتطبيقها والاخذ بها بعد ان تحولت الى مرجعيات قانونية وحقوقية تضمنتها دساتير الامم الديمقراطية.
امافيما يتعلق بالمفاهيم والافكار التي تضمنتها الفلسفية السياسية والاجتماعية للحكم لدى الامام علي، فاننا نرى ان هناك مصدرا واحدا مشتركا لانتاجها وتطبيقها هو شخص الامام علي نفسه.فهو يجمع بين انتاج الفكر الفلسفي والحقوقي والاجتماعي وبين ممارسته وتطبيقه من خلال عمل السلطة نفسها.
مفهوم الدولة والسلطة:
يشكل مفهوم الدولة الذي صاغه التطور السياسي والاجتماعي الاوربي حين تحللت الامبراطوريات فوق الدولة واصبحت الدول القومية الحيز الاول لممارسة السلطة.وفي المفاهيم المعاصرة فان الدولة مفهوم ظهر في القرن السادس عشر وتبلور ضمن انسحاب الامبراطوريات الى حدودها القومية وبالتالي فانها نوع من التنظيم الاجتماعي القائم على قوة مادية. لذلك يقول اهرنغ(ان انعدام السلطة المادية هو الخطيئة المميتة للدولة)(الدولة -جاك دونديو دوفابر) ص6
غير ان التمادي في استخدام السلطة المادية يحول الدولة الى مستبد. ولذلك ظهرت افكار تنادي باقامة مؤسسات المجتمع المدني لتحد من هيمنة الدولة المادية على المجتمع.
ولذلك قال فولتير في (المعجم الفلسفي):لم اعرف حتى الان اي شخص لم يحكم دولة ما)(نفس المصدر-ص5) وهو يعني(ان جميع الناس الاخرين الذين يعرضون عند تناول العشاء او في مكاتبهم اسلوبهم للحكم واصلاح الجيوش والكنيسة والقضاء والمالية)(نفس المصدر)
هذا يعني ان الدولة وسلطتها امر يهم الجميع بما ان الدولة والسلطة تعنيان بامور المواطنين. ونجد تاكيد حق المواطنين في تناول امور الدولة في عهد الاشتر جيث يقول الامام علي( ثم اعلم يامالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وان الناس ينظرون من امورك مثل ماكنت تنظر من امور الولاة قبلك ،يقولون فيك ماكنت تقول فيهم)(عهد الاشتر )ص27
يتجاوز هذا القول، قول فولتير.اذ ان فولتيريشير الى امكانية ان يكون موضوع الدولة امرا مختلفا عليه ، في حين يشير قول الامام علي الى حق المواطنين في نقدتصرفات الدولة من خلال تحقيق مصالحهم او عدم تحقيقها ، وبالتالي فان هناك تخصيصا للوظيفة الاساسية للدولة وهي تحقيق العدالة بمختلف اصنافها ، سياسية او قضائية او اجتماعية.
كما يعني قول الامام حق المواطن في التعبير عن رأيه في نقد الدولة وممارساتها، ويذهب ابعد من ذلك حين يؤكد النص على ان الدولة تعبير عن مصالح مواطنيها ولذلك فانهم احرار في نقد سياسة الدولة اذا لم تعبر عن مصالح المواطنين. وهذا يجعل الدولة او السلطة تحت معيار الرقابة الشعبية كما يحدث في الدول الديمقراطية المعاصرة.
هذا على المستوى النصي النظري، ولكن الامام علي لايتوقف عند محتوى النص، فهو حاكم مطبق لنصه ومحتواه فعليا. فاثناء خلافته طبق الامام من خلال عدة احداث التزامه ، وهو الحاكم، بتطبيق بنود نصه وفكره وموقفه.ان حوادث واقعية كثيرة تثبت ذلك ، منهاالعقد الذي استعارته ابنته من خازن بيت المال ووقوفه مع اليهودي الذي رهن لديه درعه واعتراضه على تمييزه من قبل القاضي بتكنيته ،وقبوله النقد الموجه اليه من مواطنيه وموقفه من الخوارج كمعارضة لها الحق في الاعتراض السلمي ونقد السلطة.
ان افكار ومفاهيم عدد من الفلاسفة والكتاب والتنويريين كانت اساسا للتحولات السياسية الكبرى نحو الديمقراطية التي قامت على انتاجهم الفلسفي والفكري مثل جون لوك (1632-1704) الانجليزي، وديفيد هيوم(1711-1776) الاسكتلندي، وهيغل(1770-1831)الالماني، وتوماس هوبز(1588-1679) الانجليزي وجون ستيورات مل(1806-1873) الانجليزي ومونتسكيو(1689-1755) الفرنسي.وغيرهم
مفاهيم الدولة الحقوقية الحديثة:
ناضل الفليسوف جان لوك طويلا من اجل الحرية السياسية في انجلترا في زمن الحكم المطلق، فكتب(في الحكم )و(حول الحكم المدني) 1690و(رسائل حول التسامح)1692 وكلها تحتوي على افكار ليبرالية لم تكن معهودة من قبل تتصف بالعقلانية والتجريبية وكان يعتمد على العقل والوقائع ويبشر بالتسامح بين المذاهب والافكار.لكنه كان قد عمل ثمانية عشر عاما في كتابه(محاولة في الفهم البشري) وهو بدايات الاهتمام بالعقل والانسان باعتباره هو من يقرر حاجاته ومصالحه.
اما ديفيد هيوم ، فقد قام فكره ايضا على دور الاخلاق في السياسة فكتب(فحص عن مبادئ الاخلاق) و(محاولات اخلاقية وسياسية)1741 واهتم ايضا بالفهم البشري والطبيعة البشرية ، اذ كانت هذه المفاهيم تعد حكرا على الكنيسة، ولذلك فان تناولها بصورة عقلانية كان يعد نوعا من الهرطقةوالتشكيك ، ولذلك لعبت مثل هذه الافكار دورا في اعطاء المواطن والفرد دورا تدريجيا ليكون جزء من عملية اختيار الحكم.
اما هيغل فقد كان بعيد الاثر في الافكار اللاحقة خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين(الايمان والعلم) و(المنهج العلمي للقانون الطبيعي)،لكن الاثر الذي تركه في الدولة الحديثة قام على مبادئ كتابه(مبادئ فلسفة القانون)الذي صدر عام1818 ومبادئ كتابيه(فلسفة التاريخ)و(فلسفة الدين)ومن خلال هذه الدراسات ارسى المذهب الجدلي المثالي القائم على التطور والتغير والتحول المستمر غير المتوقف للتاريخ والطبيعة والروح وهو مادفع الفلاسفة والمفكرين الالمان الى الثورية والوقوف ضد عبادة السلطة.
ويتميز هوبزيصياغة فكرة المواطن ، وكان قد خاض غمار الصراع السياسي حول الحكم الملكي المطلق الذي كان من انصاره، واضطر الى العيش في فرنسا، وكان قد كتب كتابين هما( في الطبيعة الانسانية )و( الجسم السياسي) وكانت هذه المواضيع جزء من الصراع حول طبيعة الحكم وعلاقة الانسان بها ، ولذلك فانه طور الكتاب الثاني الى (العناصر الفلسفية للمواطن) المعروف باسم(في المواطن) وكانت اثاره تتمحور على اولوية الدولة على الكنيسة ، وكتب كذلك( الحرية والضرورة) عام 1654 وكتب ايضا(العناصر الفلسفية في الجسم) (والعناصر الفلسفية في الانسان) اللذين اثارا عليه رجال الدين الانجليز باعتباره مناهضا للدين، داعيا الى ضرورة العناية بالمواطن الفرد باعتباره حجر الزاوية في النظام السياسي.وكان هوبز قد عانى من الحروب الدينية والاهلية التي عصفت في اوربا ولذلك دارت افكاره حول( الانسان ذئب مقابل الانسان) اذا لم يكن هناك قانون وسلم اجتماعي وحكم قوي ولكن بتحديد سلطة الدولة وسلطة العاهل الذي يمثلها ، وبذلك ارسى مبادئ اضعاف الحكم المطلق بقيام عناصر المجتمع المدني بذلك. وهو بذلك استبعد شرعية الحق اللالهي التي كان الحكم المطلق يقوم عليها كما انه انتقد مفهوم السلفية السياسية-القانونية لهذا الحكم. حيث اعتبر الانسان فردا محكوم بقوانين نزعة انانية نفعية فردانية تتناسب مع غريزة السيطرة وهو المفهوم الذي قامت عليه نظريته السياسية العملية.
ورغم التناقضات في فلسفته المعادية لرجال الدين الا انها فتحت الباب امام افكار فولتير وديدرو وهولباخ بعده.
يخطو مل خطوات اكثر عملية في فلفسته فهو يكتب عن (النفعية) و(اوغست كون والوضعية) و(مبادئ الاقتصاد السياسي(1848) في زمن الثورات الشعبية المناوئة للحكم المطلق والملكية في اوروبا والتي شهدت صعود الطبقات المسحوقة ، ولذلك يكتب (تأملات حول الحكم التمثيلي) وينتخب لمجلس العموم ويطالب بحق المرأة الانتخابي ويكتب(عبودية النساء) وكان يطالب بالاصلاح والسياسة الليبرالية ويهاجم الاستبداد القانوني ضد المرأة.
يبقى اخيرا مونتسكيو الذي اشتهر بدعوته لفصل السلطات وبكتابه(روح القوانين) الذي حاول ان يثبت فيه ان القوانين تتغير وهي ليست تعبيرا عن نزوات وليست اعتسافية ويعتبر الفضيلة هي ان الجمهورية ترتكز على الروح المدنية وان فصل السلطات يحمي الحريات السياسية وعني بالديمقراطية والاستيداد.
هؤلاء بشكل عام ، اضافة الى آخرين مثل ديدرو وروسو وفولتير وفورباخ وغيرهم كثيرون ، ارسوا معالم الفكر العقلاني السياسي والفلسفي الجديد الذي قامت عليه النظم الديمقراطية في اوروبا.
ونرى من خلال الاستعراض الدقيق لمفاهيمهم وافكارهم ان هناك قاسما مشتركا لها هو الانسان والحرية والقانون والعقل والحكم المدني والتسامح والموقف السلبي من رجال الكنيسة الذين كانوا يحتكرون الحقيقة والمعرفة ويحجبون الحقائق عن البشر.
ان هذه المعالم تجسدت في وثيقة الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، اكثر منها في اية وثيقة اخرى. فهذه الوثيقة خلاصة سياسية وحقوقية واجتماعية ، لعمل اكثر من ثلاثة قرون من الجدل والصراع السياسي والفكري والفلسفي والاجتماعي في اوروبا.وقد صاغت الوثيقة الحقوق الاساسية التي ناضل الفلاسفة والكتاب والمفكرون التنويريون من اجلها في مصنفاتهم. وهي ليست صياغات عابرة بل نتاج التطورالتاريخي لارضيتهاالتي شهدت هروب ونفي وسجن واعتقال ومطاردة اصحابها.
فاين تقع هذه المفاهيم في فلسفة الحكم عند الامام علي؟ هل تتناقض معها او تكون قد سبقتها في النص والممارسة؟
معالم الدولة الديمقراطية في فكر الدولة عند الامام علي:
لم يبق الامام علي صامتا امام النص القرآني، فقد كان نهج البلاغة واقوال وخطب اخرى للمام علي تفسيرا فلسفيا وروحيا وتأمليا للطبيعة والكون والروح والقدر والانسان والسلطة والتربية والتسامح والمدنية ، اضافة الى التطبيق الفعلي لهذه القيم والمفاهيم التي جسدها باعتبارها تعبيرا عن القيم القرآنية ،ولذلك لم يكن الامام علي مترددا في النصوص التي خلفها ، ولم يتردد في كشف مضامينها دون تورية او ترميز.
يتناول النص لدى الامام علي هذه الافكار والمفاهيم في مختلف الفترات والمراحل، خاصة التي سمح فيها الامام لنفسه المضي في الحديث بعد ان توقفت الاحاديث النبوية بوفاة الرسول(ص) حي اصبح حديثه امتدادا جوهريا للاحاديث النبوية شرحا وتحليلا وتكريسا.
يتضح من عهد الاشتر ان الامام علي تعامل مع الدولة كما يتم التعامل معها الان في الدول الحديثة. فهذا العهد هو عمل دستوري من جهة ، وتوصيف لواجبات الدولة الحديثة من جهة اخرى.ورغم عدم وجود مؤسسات الحديثة في عهد الاام ، الا ان وظائف هذه المؤسسات وردت في العهد من خلال تحديد موقف الحاكم من وظيفته ووظائفها. بمعنى حديث ، فان الامام علي حرص على دستورية التصرفات التي يقوم بها الحاكم متجنبا وقوع الحاكم في اتخاذ قرارات غير دستورية وغير شرعية. يتضح ذلك من الطلب من الحاكم ان يتبع في تصرفه وسولكه الفرائض والسنن التي اوجبها الله، وبالتالي فان مرجعية القرارات هي شرعية هذه الفرائض والسنن، ولذلك جعل الرأي العام رقيبا على تطبيق العدل، وهو اساس الملك ، حيث تتفرع منه وعنه بقية العدالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويتناول الامام علي الطبيعة البشرية مبتدأ بها، كونها المنطلق الغرائزي عند البشر، فيوجه الحاكم الى استشعار الرحمة في قلبه والمحبة لمواطنيه واللطف بهم فلايكونن سبعا ضاريا يغتنم اكلهم(عهد الاشتر.ص29). وبهذا يكون الامام علي قد سبق فلاسفة فلسفة الحكم الديمقراطي الذين تناولوا الطبيعة البشرية وعلاقتها بالحكم مثل هوبز وهيوم ولوك. كما انه يؤكد حق المواطنة بالاقرار بان الرعية (الواطنين) تتمتع بهذا اللطف والرحمة بالتساوي والعدل بغض النظر عن الدين، فالمواطنون، من حيث الموقع الديني، صنفان اما اخ للحاكم في الدين او نظير له في الخلق ( العهد .ص29) وهو بهذا يساوي بيين ثلاث درجات ويلغي التمايز بينهما . فالحاكم ليس اكثر من اخ في نفس الدين او مساو لبقية البشر من الاديان الاخرى.
ان هذا الاختصار الحقوق والفلسفي لمفهوم المواطنة يتوسع على مثيله لدى هوبز في تصنيف المواطن ، ويتوسع على مثيله لدى لوك في مفهوم التسام. فالتسامح عند لوك انطلق من الصراع بين الكاثوليكية والبروستانتية، بينما ينطلق مفهوم التسام عند الامام علي من نقطة ابعد واعمق< هي الانسانية والخلق، وهذا يتعدى حتى الاديان ليصل الى بلورة اهمية دور المواطنة ووظيفة الحاكم في التعامل العادل مع الحق الانساني.ان الامام علي لايذهب مع هوبز الى اولوية الدولة على الكنيسة بالطريقة ذاتها، وانما يجعل الدولة ممثلة لوظيفة الايمان بالعدالة والمساواة والرحمة وتسبق اليها قبل العقوبة الدينية كونها رادعا اكثر منها قصاصا.الحق لدى الامام يعلو على التمايز الديني كونه حقا انسانيا قبل كل شئ ، ووظيفة الدين هي تحقيق هذا الحق .
وهذا المفهوم يتطابق تماما مع المادة الثانية من وثيقة الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تقول( لكل انسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في الاعلان، دونما تمييز من اي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي سياسيا او غير سياسي، او الاصل الوطني او الاجتماعي او الثروة او المولد او اي وضع آخر).(الاعلان العالمي لحقوق الانسان)
ان مفهوم نظير لك في الخلق يختصر اللون والمنشأ والبلد واللغة وكل شئ ليعود الى الاصل الانساني الشامل.
ويتناول الامام علي مفهوم التعسف باستخدام الحق او التعسف باستخدام القانون. فالعقوبة ليست فضيلة مطلقة،اذ يقرر الامام علي بان الطبيعة البشريةللناس تجعلهم(يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل) ولذلك فان التسامح لايكون بين المواطنين فحسب، وانما بين المواطنين والحاكم.(فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه.
ان التعاليم وفلسفة الحكم لدى الامام هي تعاليم الهية موجهة الى الحاكم.لكن الامر ليس انعكاسا جامدا بقدر ماهو تطبيق فعلي لتجنب الاستبداد والطغيان والخطأ في استخدام الحق، فحق الحاكم ليس فوق حق المواطن الا بقدر ان الحاكم مسؤول عن تطبيق العدالة بمنظورها الالهي.وهذا مايتناسب وروح القوانين التي بين مونتسكيو انها ليست نزوات وليست تعسفا وانهاتستهدف حماية الانسان من التسلط والطغيان. وهو مايتفق مع المادة الحادية عشرة من الاعلان العالمي التي تقول( لايدان اي شخص بجريمة بسبب اي عمل او امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرما بمقتضى القانون الوطني او الدولي ، كما لاتوقع عليه اية عقوبة اشد من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي) الاعلان العالمي لحقوق الانسان
ان الامام علي يأمر الحاكم بان( لاتندمن عن عفو ولاتتبجح بعقوبة ولا تسرعن الى بادرة وجدت منها مندوحة(العهد .ص30) وهذا مايتناسب تماما مع نص المادة الحادية عشرة ، بل يتجاوزها الى اولوية العفو في المسائل التي يمكن ان لاتشكل ضررا اجتماعيا وان لاتكون العقوبة ضربا من الانتقام.
يهتم الامام علي بفلسفة الدولة ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع المدني ودور القطاعات المهنية والاجتماعية وتمثيلها في الحكم، فيقول(اعلم ان الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض ولاغنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل،ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس،ومنها التجار واهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده فريضته في كتابه او سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، عهدا منه عندنا محفوظا)(العهد ص53)
نحن هنا امام مبادئ سياسية واقتصادية، منها تقسيم العمل ودور الصناعات والتجارة والزراعة ودور الدولة الاقتصادي ودور النشاط الخاص وقدرته على ادارة المشروعات الاقتصادية واشراف الدولة الاقتصادي.ان مسألة الربط بين النشاطات(لايصلح بعضها الا ببعض ولاغنى ببعضها عن بعض) يؤكد اهمية الترابط بين القطاعات الاقتصادية وهو ماتقوم عليه الدولة الحديثة. فالضرائب التي تقوم عليها الدول الرأسمالية الديمقراطية توفر ميزانية الدولة الرئيسية الداخلية للصرف على الخدمات، وهنا يقوم الخراج والجزية بهذا الدور (ثم لاقوام للجنود الا بمايخرج لهم من الخراج)(العهد ص55)اما بالنسبة للجنود فهم( حصون الرعية.. وسبل الامن .. ولاتقوم الرعية الا بهم)وهذه المهمات تجعل من هذه المؤسسة مؤسسة خارج التاثيرات الساسية كما هو الحال في الدول الديمقراطية كما يقول ايهرنغ(ان انعدام السلطة المادية هو الخطيئة المميتة للدولةوالتي لاهوادة فيها ولايتحملها المجتمع او يتسامح بشأنها.ان الدولة المجردة من سلطة الاكراه المادية تتناقض مع نفسها)(الدولة ص6-7)
ويعود الامام علي الى امر الخراج كونه المصدر الاول للضرائب التي تقوم عليها الدولة(وتفقد امر الخراج بمايصلح اهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولاصلاح لمن سواهم الا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله، وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لايدرك الا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلا)العهد ص83.
تكشف التطورات اللاحقة لخلافة الامام علي صدق هذه المبادئ ، خاصة فيما يتعلق باللتاعسف الاموي في استحصال الضريبة على حساب عمارة الارض، الاداة الرئيسية للانتاج آنذاك.ويؤكد نص الامام علي على قضية بالغة الاهمية وهي ان الناتج الاقتصادي لايقوم على الجباية بقدر مايقوم على توفير المستلزمات الاساسية لاستمرار الموارد المالية، وهي اصلاح الارض ومساعدة عمالها على التغلب على العقبات الطبيعية مثل الجفاف والفيضانات فحماية مصدر الموارد اهم من الحصول عليها(وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج). وهذا المبدأ تعرض في زمن الامويين الى التخريب حيث اصبحت كثير من الاراضي الخراجية عشرية عن طريق القبالة او البيع ، ولذلك اعاد القاضي ابو يوسف على الرشيد مسآلة عدم (تقبل السواد ولاغير السواد من البلاد، فان المتقبل اذا كان في قبالته فضل عن الخراج عسف اهل الخراج، وحمل عليهم وظلمهم وفي ذلك وامثاله خراب البلاد وهلاك الرعية)(كتاب الخراج لابي يوسف 150). وهذا مايجعل من مبدأ الامام علي مصدرا لافكار ومفاهيم القاضي ابي يوسف ، خاصة وانه يستخدم تقريبا نفس المفردات التي وردت في عهد الاشتر من ( خراب البلاد وهلاك العباد).
لقد صاغ الامام علي في هذا النص مبدأ اقتصاديا من مبادئ الاقتصاد وهو مسؤولية الدولة عن حماية المصادر القومية للاقصاد.وهو مبدأ اساسي من مبادئ الدولة العصرية.يقول دوفابر(يترتب على الدولة العصرية ان توفق بين كيانها وبين التوسع العظيم لنشاطاتها ومسؤولياتها الاقتصادية)(الدولة .ص56)
ان ماتقوم به الدولة الديمقراطية الحديثة في مجال الاقتصاد يعبر عنه دوفابر بقوله (ان فكرة مسؤولية الدولة الاجمالية تجاه الاقتصاد بمجموعه تعد فكرة حديثة وعصرية وهي تبدو متصلة بالنمو الفني والصناعي وبتقدم التفكير الاقتصادي والمالي، وتطبيق انظمة الديمقراطية)(الدولة .ص57)
هذه الفكرة العصرية والحديثة وجدت انعكاسها في الترتيبات الاقتصادية للامام علي سواء في نصه الموجه الى الاشتر او في تطبيقه لها اثناء خلافته.
الدولة الحديثة ونظام الضمانات الاجتماعية:
ويتفق مفهوم ( ان الناس كلهم عيال على الخراج واهله ) مع نظام الضمانات الاجتماعية الذي اخذ يميز الدولة الديمقراطية الحديثة ، حيث تكفل هذه الضمانات التي تعتمد على الضرائب، اعالة العجزة وكبار السن والعاطلين عن العمل بتوفير الحد الادنى للعيش. كما يتفق نص الامام علي ، مع نص المادة الثانية والعشرين من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تنص على انه(لكل شخص ، بوصفه عضوا في المجتمع ، حق الضمان الاجتماعي، ومن حقه ان توفر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لاغنى عنها لكرامة ولتنامي شخصيته في حرية.) الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
يمضي الامام علي في تاكيد مسؤولية الدولة لتوفير الحد الادنى من ضمانات العيش فيؤكد(ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم)(العهد .ص56)وهذه الطبقة اصبحت تجبر الدول الحديثة على توفير ادنى الضمانات الاجتماعية التي اقرها الاعلان العالمي لحقوق الانسان كما جاء في المادة الثانية والعشرين التي ذكرناها آنفا.
مصداقية الدولة الحديثة واحترامها للمواثيق:
تشغل الازمات بين الدول بال المفكرين والقانونييين ،كما تشغل بال السياسييين الذيت يتولون ادارة هذه الازمات مباشرة.، وقد توصل الفكر المعاصر بعد حروب عالمية طاحنة الى فكرة القانون الدولي والمعاهدات الدولية.(ان كثيرا من المعاهدات والاتفاقات الدولية تنشئ اليوم او تحاول ان تنشئ منظمات دولية يلزم نشاطها الاعضاء ) (الدولة ص78).
هكذا نشأت الامم المتحدة والاتحاد الاوربي ومنظمات دولية كثيرة لكي تجعل من العهود والاتفاقيات ملزمة لاطرافها وهي صفة من صفات الديمقراطيات الغربية بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية.ان الامام علي ينص علي الاشتر في عهده مايلي ( وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة او البسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة واجعل نفسك جنة دون مااعطيت، فانه ليس من فرائض الله شئ الناس اشدّ عليه اجتماعا،مع تفرق اهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم العهود)عهد الاشتر ص131 .
يكشف هذا النص ملاحظة سياسية واجتماعية بالغة الدقة والعمق ، وهي ان اختلاف الاراء والمواقف سمة بشرية وهي مقبولة فهي ظاهرة اجتماعية عميقة الجذور.ورغم عمق ظاهرة الاختلاف في الرأي وقبول الامام علي بها كظاهرة طبيعية ذات مغزى سياسي واجتماعي ديمقراطي الا ان هذا الاختلاف والتشتت يجمعان من جديدعلى قضية حقوقية وسياسية ذات اهمية لما تسميه الديمقراطيات الحديثة بالمصداقية ، مصداقية الحكومة التي يشكل تعرضها للشك تهديدا للحكومات والاحزاب امام الرأي العام. فنقض العهود وخيانتهابالتالي هي نقض لفريضة دينية ، وبالتالي تصبح مصداقية اية سلطة مهددة مما يؤثر على شرعيتها وقبول الناس لها.
يكشف النص شيئا آخر يشيع في الديمقراطيات الحديثة ايضا ، وهي تحمل المسؤولية الاخلاقية فرديا اذا اقتضت الضرورة (واجعل نفسك جنة دون ما اعطيت) وهو مايعرف باقدام من يتحمل المسؤولية الاخلاقية على الاستقالة اذا لم يستطع ضمان ما تعهد به او تعرضت مصداقيته للخلل.وهذا يعطي التعهد والالتزام قيمة اخلاقية فوق القيمة السياسية والنفعية.
ويؤكدالامام علي اهمية مصداقية اية سلطة او حاكم بقوله( ايها الناس، ان لي عليكم حقا ، ولكم علي حق.فاما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم) فالنصيحة هي بمعنى معاصر مصداقية الحاكم وعدم الاخلال بها. تقوم الدولة المعاصرة على الاختصاص.فالفروع المختلفة من اقتصاد ومالية وتقنيات وتخطيط وتربية وغيرهاليست مهمات سياسية بقدر ماهي مهمات تقنية. وتتعامل الحكومات الديمقراطية مع هذه الفروع تعاملا تكنوقراطيا. فعدا الوزير وربما نائبه اللذين يكونان من السياسيين ، هناك فرق من الاختصاصيين التكنوقراط يخططون وينفذون امور الدولة.
الاختصاصات وتوسع مهام الدولة
ينص الامام علي في عهده الى الاشتر (واكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبيت ماصلح عليه امر بلادك واقامة مااستقام به الناس قبلك) (عهد الاشتر .ص51)
يحقق موضوع الاعتماد على الخبرة والاختصاص عدة قضايا في وقت واحد. فمن جهة يلغي المحسوبية والعلاقات الخاصة والعامة، ومن جهة اخرى يجعل العمل مشتركا بين اكثر من فريق ورأي فيحقق الرقابةالتي اصبحت في الديمقراطيات المعاصرة تسمى الرقابة البرلمانية وهي من اختصاصات البرلمان. ومفهوم العلماء والحكماء اخذ يشمل اليوم مختلف الاختصاصات التقنية والعلمية اضافة الى الاختصاصات القانونية والحقوقية. اذا كان الامام علي قد اشتهر بدعوته المتجددة والمتكررة الى العدل والمساواة ، فان الديمقراطيات الجديثة في الواقع هي دول سيادة القانون الذي يتوخى تحقيق العدالة بسريانه على الجميع بمن فيهم الحكام.
يقول دوفابر(ان الدولة الحديثة هي دولة حقوقية ،وتعني هذه العبارة من جهة ان تصرفات الحكومة تخضع لقواعد ثابتة واكيدة،كما يستطيع الافراد،من جهة ثانية المطالبة باحترام هذه القواعد عن طريق اثارتهم،امام قضاة مستقلين،الحقوق التي تمنحهم اياها إزاء الدولة)(الدولة.ص12) ويقول ماك ايلفين(ان القدماء كانوا يتكلمون عن الحقوق بالفاظ سياسية، في حين اننا نتكلم اليوم عن السياسة بالفاظ حقوقية)(نفس المصدر.ص13)
(ويتميز الدستور الانجليزي بمبدأ اساسي هوحكم القانون ،وذلك يعني انه لايعاقب احد او يمكن ان يضار قانونا في جسده او ماله الا نتيجة خرق واضح للقانون بالاسلوب القضائي العادي امام المحاكم العادية في البلاد.كما يعني في المقام الثاني انه لايوجد بيننا شخص فوق القانون فحسب، ولكن الامر الذي عكس ذلك هو ان كل شخص مهما تكن رتبته او ظروفه يخضع للقانون العادي للمملكة ويسأل امام المحاكم العادية)دراسات في نظم الحكم- الديمقراطية البرلمانية الانجليزية.ص5.
ان الدستور البريطاني يعمم بواسطة حكم القانون، مما يعطي القانون نفوذا وسلطة اكثر مما يعطي اية جهة سياسية حكومية او مدنية اخرى.ولذلك فان القانون وسيادته يعدان مرجعية للخلافات السياسية التي تنشأ في الازمات.
الدولة الحقوقية الحديثة والعدالة عند الامام علي:
تأخذ العدالة حيزا واسعا في فلسفة الحكم عند الامام علي. وهي تشكل هاجسا مستمرا لان فلسفة الحكم عند الامام علي تنطلق من سيادة القانون الذي يحقق سيادة العدالة. ان جوهر الفكر السياسي للامام علي هو العدالة مما يتطابق مع تاريخ وانتاج الفكر السياسي والاجتماعي للديمقراطية في الغرب القائم على فكرة المساواة بين البشر امام القانون. ويقتضي هذا جهازا قضائيا مستقلا غير خاضع لرغبات الحاكم، وهو الامر الذي استشرى في السلطة الاموية والعباسية بحيث نشأت في التاريخ الاسلامي محنة القضاء حيث رفض كثير من المثقفين والفقهاء المسلمين تولي القضاء لسلطة توجهه حسب مصالحها. فقد رفض اياس بن معاوية والشعبي وسفيان الثوري وغيرهم تولي القضاء وصاروا يتمسكون لاحديث الشريف (من تولى القضاء فقد ذبح بغير سكين). كما تكررت المحنة في عهد المأمون حيث اجبر القضاة على تبني مبدأ خلق القرآن.
يقول دوفابر حول وضع القضاء في الانظمة الديمقراطية (ان نظام القضاة وكيان التنظيم القضائي يتجهان نحو اقصاء ممارسة العدالة عن المنافسات السياسية والصراع الاجتماعي والنفوذ الحكومي) (الدولة.ص37)
ينص عهد الاشتر على المساواة( ولايكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء ، فان في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة ولزم كلا منهم مالازم نفسه( (العهد. ص45)، وهذا يعني ان تكون للحاكم قدرة التمييز الحصيف اولا وقدرة الحياد الثابت تجاه المسئ فليست هناك محسوبية او تردد شخصي او عائلي او عشائري في مبدأ الثواب والعقاب ، كما ان ذلك من شأنه اعادة اصطفاف القيم فيكون الاحسان والاساءة شيئا واحدا وربما غلبت الاساءة واصبحت من القيم السائدة كما حصل فيما بعد حين اصبحت العدالة رغبة الحاكم في معاقبة البعيد رغم احسانه واثابة القريب رغم اساءته.
ويعتمد هذا ايضا على شخصية الحاكم ومدى التزامه بالعادلة والقانون (ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لاتضيق به الامور ولاتمحكه الخصوم ولايتمادى في الزلة ولايحصر من الفئ الى الحق اذا عرفه ولاتشرف نفسه على طمع …..ممن لايزدهيه اطراء ولايستميله اغراء واؤلئك قليل) (العهد .ص72 )
لايكتفي الامام علي بايراد العرض في النص وفق السياق الديني او الحقوقي فحسب وانما يذهب الى اشارات مختصرة ، لكنها كافية في دلالاتها الاجتماعية والانسانية والنفسية. ان الحصول على قاض نزيه ويتصف بنكران الذات اضافة الى تمتعه بالمعرفة اللازمة لامور القضاء يمكن ان تكون متوفرة نظريا في كل نص. فالديمقراطية المعاصرة تحدد نفس الشروط تقريبا، غير ان الامر يتعقد حين يتحول الى تجربة عملية(واؤلئك قليل). انهم عملة نادرة ولكن لابد منها ولابد من معرفة النوازع التي يمكن ان تحركهم خارج العدالة والنزاهة.ان شواهد التاريخ كثيرة في هذا الصدد. انها تضم تاريخا من الاستبداد ومصادرة العدالة وعدم نزاهة القضاء، ولكنها يف الوقت نفسه تضم تاريخا من العدالة والنزاهة والثبات على القيم الحقوقية حتى على حساب المصالح الفردية حيث قدم كثير من القضاة التضحيات من اجل تطبيق العدالة رغم ارادة ورغبة الحاكم اونفوذه.وهو ما ثبتته المادة السابعة والمادة الثامنة والمادة التاسعة والمادة العاشرة والمادة الحادية عشرة من مواد الاعلان العالمي لحقوق الانسان ،الامر الذي يتفق تماما مع الرؤية االفلسفية والفكرية للمام علي في اعتباره العدالة المنطلق لجميع الحقوق والمهد الذي تتربى فيه قيم الدولة الاخرى في علاقتها بمواطنيها.
تنص المادة السابعة من الاعلان على مايلي(الناس جميعا سواء امام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دون تمييز)كما تنص المادة الثامنة على انه(لكل شخص حق اللجوء الى المحاكم الوطنية المختصة لانصافه الفعلي من اية اعمال تنتهك الحقوق الاساسية التي يمنحها اياه الدستور او القانون)فيما تنص المادة التاسعة على انه(لايجوز اعتقال اي انسان او حجزه او نفيه تعسفا).اما المادة العاشرة فتنص على انه (لكل انسان على قدم المساواة التامة مع الاخرين الحق في ان تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وفي اية تهمة جزائية توجه اليه).وتؤكد المادة الحادية عشرة على ان(كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا الى ان يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه) الاعلان العالمي لحقوق الانسان
هذه المواد تشكل الاساس الحقوقي للعدالة التي تتوخاها الانظمة الديمقراطية.وهي مواد قامت عليهافلسفة الدولة عند الامام علي بشكل واسع.يقول في عهده( واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك،وتقعد عنهم جندك واعوانك من احراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع فاني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن(لن تقدس امة لايؤخذ للضعيف حقه من القوي غير متتعتع)(العهد .ص107)
هذه الاضافة النفسية والاخلاقية والحقوقية العميقة التي تطالب القاضي والحاكم ان يبعد شرطته وحرسه وجنده عن مكان القول الحق لكي ينطلق جليا واضحا دون خوف او وجل او اشارة غدر تجعل من مفهوم الحق والعدالة مفهوما اكبر من الحاكم نفسه ومن جنده وحرسه، وهذا ماتعنيه الدولة الحديثة بسيادة القانون وكونه فوق الجميع.
ثم يتواصل العهد بالقول( والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بمايثقل عليك منه)(العهد .ص125)وهذا تأكيد آخر بان سيادة القانون تطال الجميع دون تمييز وانهافوق العواطف والمشاعر الشخصية والقوى المتنفذة سواء كانت سياسية او اقتصادية او اجتماعية.ويذهب العهد نقطة ابعد فيما يتعلق باعقوبة ونوعها فيحذر(اياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شئ ادنى لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها)العهد .ص137. وهذا يعني ان الاستبداد وخرق القانون من قبل الحاكم يعجل بالثورة والانتفاضة طلبا للحق فضلا عن تعارضه مع الحق والعدالة.
ويوصي الامام علي بتطبيق احد المبادئ الحديثة في الدولة الديمقراطية التي يستقل فيها القضاء والقضاة ويتمتعون بالكفاية المادية كي لايتأثر حكمهم بالوضع المعاشي الذي قد يدفعهم للتمييز ، فينص العهد( ثم اكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل مايزيل علته وتقل معه حاجته الى الناس واعطه من المنزلة لديك ملايطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك)العهد.ص73 .
وهذا المبدأ يعلي من شأن العدالة باعلاء من يمثلها فلايكون هناك من هو اعلى منه منزلة ليؤثر في احكامه وقراراته.كما يؤكد على اسلوب القضاء الحديث الخاضع للتفتيش والمتابعة وموافقته للقانون حرصا على نزاهة القضاء واستقامته.
ويحسم الامام علي موضوع العدل حسما اكيدا يلغي فائدة الجدل الذي نشأ فيما بعد حول الايمان والاستبداد والكفر والعدالة فلايبرر لمؤمن ان يجور ويستبد باسم الايمان حين قال(الكافر العادل خير من المسلم الجائر)( الانتفاضات الشيعية.ص 80)اذ يضع العدالة في اهميتها ومصلحتها العامة فوق الايمان الفردي، وهو مبدأ من اهم مبادئ الديمقراطيا الحديثة.
اما على مستوى التطبيق العملي لفكرة سيادة القانون وطبيق العدالة على الجميع ، فان حادثتين كافيتين لتأكيد التطبيق العملي للنص.فبعد اغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، اقدم ابنه عبيد الله على قتل الهرمزان دون محاكمة او توجيه تهمة او قضاء،وظل في حماية الخليفة الثالثة عثمان بن عفان دون قصاص رغم مطالبة المسلمين به وعلى رأسهم الامام علي.فطلبه علي حين تولى الخلافة لتنفيذ العدالة فهرب والتحق بمعاوية.اما الحادثة الثانية فكانت ايضا في زمن عثمان حين كان الوليد بن عقبة الذي كان قريبا لعثمان وكان سكيرا حتى في ايام ولايته الكوفة فخرج ذات يوم من ملهاه سكران الى المسجد فصلى بالناس الفجر اربع ركعات وقال لهم ساخرا(اذا شئتم زدتكم) في احتقار بين وواضح للفرائض فشكاه اهل الكوفة وشهدوا عليه وطالبوا باقامة الحد، لكن عثمان كان قد وصل الى مرحلة ارهاب المسلمين عبر اقاربه المتسلطين وعبر اجراءاته التي كانت تمالئ اقاربة من بني امية بغض النظر عن ايمانهم وتعادي الصحابة الاوائل مثل ابي ذر وعمار وغيرهما.لكن الامام علي، الذي يطبق العدالة على اقرب الناس اليه نهض وجلده ،وكان من اسباب النزاع بين الامام علي وعثمان الذي غضب وظهرت عليه نزعة تفضيل اقاربه على العدالة والحق.
اما العدالة في المال العام واعادة الاموال او مصادرتها قانونيا واعادتها الى بيت المال، لانها ملك المسلمين، فقد طبقها الامام علي تطبيقا سريعا بعد توليه الخلافة(الا وان كل قطيعة اقطعها عثمان وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود الى بيت المال فان الحق لايبطله شئ ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه اضيق).
كما عزل الولاة الذين عينهم عثمان ليس لكفاءتهم وعدلهم ونزاهتم وانما لقرابتهم منه، ورفض المساومات السياسية حين طلب للبيعة بعض الامويين ومن اقارب عثمان، فساوموه على الابقاء على مصالحهم مقابل بيعتهم له ، فرفض ، وتصرف تصرف رجل الدولة الديمقراطية الحديثة التي تعطي لمعارضيها الحق في البقاء على ارائهم ، حين اجاب الناطق باسمهم وهو الوليد بن عقبة الذي ذكّر الامام بما قام به في معركة بدر حيث قتل زباه في تلك المعركة، فاجابه الامام علي( اما ماذكرت من وتري اياكم فالحق وتركم، واما وضعي عنكم مافي ايديكم فليس لي ان اضع حق الله.واما اعفائي عما في ايديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم.واما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غدا،ولكن لكم ان احملكم على كتاب الله وسنة نبيه فمن ضاق عليه الحق فالباطل اضيق، وان شئتم فالحقوا بملاحقكم).
ان رجل الدولة الديمقراطية المعاصرة يعتمد على الدستور وسيادة القانون والتصرف بالمال العام تصرفا قانونيا خاضعا للرقابة والمحاسبة، وهو ماتضمنه جواب الامام علي اذ اعتبر القرآن وسنة النبي دستورا وقانونا، وهو الامر الذي لم تتعود عليه الاقلية الاموية وخرقته حالما استلمت السلطة في عهد عثمان.
والروايات التي تكرس تطبيق العدالة عند الامام علي اشهر من تناقش ، ومنها حادثة تهديده لابنته ام كلثوم بقطع يدها لانها استعارت من بيت المال عقدا لمدة ثلاثة ايام عارية مضمونة من خازن بيت المال، وامرها باعادته فورا ووبخ الخازن بانه اعارها العقد لانها ابنة امير المؤمنين ولو كانت ابنة احد من المسلمين لما اعارها اياه.
اماجوابه لاخيه عقيل وكان قد فقد البصر، حين طلب زيادة في العطاء مناموال المسلميم فقد كان عمليا اذ احمى حديدة وقربها من وجه اخيه الذي احس بالحرارة في فعل رمزي وعملي بان حرارة جهنم وراء كل من يتصرف بالاموال العامة وفق مصالحه، ولكن الامام علي عرض عليه عطاءه الخاص وهو حقه كفرد من المسلمين.
ان عمق هذا الاحترام للمال العام جاء بعد انقطاع في زمن الخليفة عثمان الذي كان عهده قد شهد صراعا بين القيم الاستبدادية والاستئثارية الجاهلية وبين القيم الاسلامية التي اخذت تتراجع امام مفاهيم الاستئثار بالسلطة والمال العام واحتقار القضاء واحتقار الرأي العام وتغيير موقع الحقوق والواجبات ومحاولات اعادة الاصطفاف الجاهلي القديم على حساب القيم الحقوقية الجديدة.
اما رفضه لولاة عثمان وخاصة معاوية بن ابي سفيان فكان في الواقع صراعا بين الديمقراطية والاستبداد، بين سلطة الدستور والقانون وسلطة احتكار السلطة واستخدام الطرق غير القانونية للاستيلاء عليها.وهو ميز بين الاساليب التي تؤكد لا اخلاقية الحكم بتطبيق مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) التي قام عليها الحكم الاستبدادي في كل الدول والعصور ، وبين الاسليب القانونية الشرعية ، فحين قيل له ان معاوية ادهى منك ، اجاب (والله مامعاوية بادهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر والفجور لكنت ادهى العرب).
ينحى عدد من الكتاب المعاصرية على الامام علي باللائمة ، كما القاه بعض الذين اشاروا عليه بابقاء معاوية، بانه لايجيد فن السياسة.نعم. انه لايجيد فن السياسة بمعناها الانتهازي النفعي الذرائعي. فهو صاحب رسالة ومشروع انساني وليس صاحب مشروع خاص للحكم.
ان المشكلة الكبرى التي واجهت الامام علي سياسيا ، كانت نابعة من الفروق الهائلة بين مشروعين للحكم. مشروع يقوم على الوسائل غير المشروعة وعلى مصادرة السلطة والمال العام واستخدام القانون لصالح اقلية حاكمة وحرمان الامة من العدالة ، وبين مشروع رسالي شرعي له مرجعياته الاخلاقية سياسيا واجتماعيا يستهدف تحقيق العدالة والمساواة والرفاهية للجميع حسب الامكانيات المتاحة وبغض النظر عن الجنس واللون واللغة والمنشأ. ولذلك فانه، حين طالبته امرأة عربية ان يفضلها على اخرى غير عربية في العطاء ، فاخذ حفنة من التراب ونظر فيها ثم قال(لا ارى في التراب فضلا لاحد على احد) فالمساواة اذن تنبع لديه من العنصر الانساني وليس من عناصر اخرى.
العلم والطبيعة والعقل في اوربا ومنزلتها في فكر الامام علي:
يعثر ، من يتابع بدايات الفكر الفسلفي الاوربي الحديث، على ظهور العقل في الكتابات باعتباره نقيضا للميتافيزيقيا القديمة التي كانت تحرم التفكير.كذلك نجد ظهور الطبيعة باعتبارها تجربة وواقعا نقيض اللاهوت القديم الذي يفصل الطبيعة عن الفكر.ذلك مانجده في كتابات فرانسيس بيكون (1561-1626) التي اثارت ضجة واسعة واعتبرت فتحا في الفكر الجديد باعتبارها تعيد الاعتبار الى العلم مثل( التجديد الاكبر: في كرامة العلوم وتنميتها)و(علامات صادقة لتأويل الطبيعة و(وصف دائرة العقل)و(مقدمات للتاريخ الطبيعي والتجريبي) حتى قال عنه فولتير ان بيكون(بذل كل مافي وسعه كيلا لاتستمر تلك الجماعت التي نصبت نفسها مدافعة عن كمال العقل البشري في افساد هذا العقل بماهياتها وبهلعها من الفراغ واستقباحها له وبصورها الجوهرية، اي كل تلك الكلمات التي اكتسبت هالة من الوقار بفعل الجهل والتي اصبحت شبه مقدسة من جراء مزجها على نحو مثير للسخرية بالدين)(المعجم الفلسفي.ص205 وكان بيكون رائد الحقائق التي تولى نيوتن فيما بعد كشفها للناس كما يقول هوراس والبول(المعجم الفلسفي .نفس الصفحة) فيما اعتبره برتراند راسل مؤسس المنهج الاستقرائي الحديث ورائد لمحاولة تنظيم الاجراء العلمي تنظيما دقيقا( نفس المصدر).
ونجد ذلك ايضا في تجارب وكتابات ديكارت((1596-1650) مثل(قواعد لتدبير العقل)و(المقال في المنهج) و(تأملات ميتافيزيقية) الذي استدعي من اجله الى المحاكمة بتهمة التجديف، و(كتاب العالم) الذي ايد فيه نظرية غاليلو.لقد قال سان سيمون عنه(ان ديكارت هو الذي نظم الانتفاضة العلمية وهو الذي رسم خط الفصل بين العلوم القديمة والحديثة. هو الذي انتزع صولجان العالم القديم من يدي الخيال ليضعه بين دي العقل)(معجم الفلاسفة . ص275).واذا تقدمنا في تاريخ الفلسفة والافكار سنجد كثيرا من الاشارات الى العقل والمنهج والطبيعة، تلك الاشارات التي وردت على شكل مساجلات للفكر القديم وكانت مهد الافكار التحررية في السياسة والاجتماع والعلوم للعصر الحديث.
كل تاريخ الفلسفة والافكار الاوربية الذي مر بعدة مراحل حول العقل والطبيعة والمنهج نجده في فلسفة الامام علي مكثفا وجليا.والواقع ان هناك دهشة تصيب الدارس لفكر الامام علي مصدرها هذه الرؤية الشاملة والمترابطة والحديثة للمفاهيم الفلسفية والفكرية التي تربط فليفة الحكم والمجتمع عند الامام علي ، حتى لتبدو هذه الرؤية التي نتجت من عقل وفكر شخص واحد وفي فترة مبكرة وفي ظروف العالم آنذاك رؤية جميع الفلاسفة والمفكرين الاوربيين على مدى اكثر من ثلاثة قرون.
ان هذ البحث لايفي بجميع المقارنات بين المفاهيم والافكار الفلسفية والاجتماعية لفكر الدولة والمجتمع لدى الامام علي ولدى المفكرين التنويرين والموسوعيين الاوربيين في القرون الاربعة الاخيرة التي صنعت تفوق اوروباوجعلت منها في المراحل الاخيرة قارة ذات انظمة حقوقية ديمقراطية ، تسير رغم السلبيات والنواقص والانتهاكات ، وفق سيادة الدستور وسيادة القانون وحكم الاغلبية في الشعب .
ورغم كثير من الدراسات التي تناولت الامام علي وحقوق الانسان ، فان المنظومة الفكرية للامام علي حول الدولة والسلطة والقانون والرأي العام والمال العام ومسائل الادارة والضمان الاجتماعي ، فماتزال هناك حاجة ماسة لدراسات اشمل في هذا الموضوع.
3 رسائل لـ 3 رئاسات – نبيل ياسين
الان ستكون خمس سنوات مرت على تسلم الرئاسات الثلاث المسؤولية في العراق. اعني ان سقوط نظام صدام وتاسيس مجلس الحكم من القوى المشاركة اليوم في الحكم والدولة في العراق كان بداية الحكم الجديد.وهذه مناسبة لرؤية التجربة السياسية الجديدة وقدرتها على التاسيس الصحيح لنظام ديمقراطي دستوري قانوني يستمد شرعيته من الدستور والقانون.
يمكن الاعتماد على حقيقة سياسية هي ان النظام الجديد تأسس على قيم وافكار وسلوك احزاب وتجمعات المعارضة السابقة لنظام صدام.لان النظام الجديد مفعم بروح تلك الاحزاب وبطريقة عملها وسلوكها وافكارها, الامر الذي اصبح يثير الان , وهي في السلطة والحكم, الكثير من ردود الافعال التي تقود الى توسيع الفجة بين الاحزاب ومصالح المواطنين في نظام انتخابي يفترض ان يقوم على قوة الروابط والاواصر بين الناخب والمنتخب باعتبار ان الثاني يمثل مصالح وآمال وحاجات ومتطلبات من انتخبه, ولذلك يسمى اعضاء البرلمان ممثلين للشعب.
الرسالة الاولى: الى مجلس رئاسة البرلمان
وضعت قوى المعارضة السابقة التي اصبحت في الحكم قبل الانتخابات لبنات لتنظيم العملية السياسية وطبيعة النظام السياسي حرصت بشكل عام ان تكون ضامنة لوجودها في الحكم. وهو امر مشروع لحد ما مثل تشريع قانون انتخابات يعتمد على القائمة المغلقة وليس على الترشيح الفردي, وهو قانون اثبت الان انه يحتاج الى تعديل جوهري يضمن وجود نواب قادرين على تمثيل ناخبيهم ويكونون مسؤولين امامهم من جهة, ويكون الناخبون قد اختاروا شخصا بارادتهم وليس بارادة زعماء القوائم من جهة اخرى. هذا يعني ان تتوفر في النائب المرشح صفات ومعايير يقررها الناخب وليس زعيم القائمة لضمان نواب مؤهلين يتمتعون بالقدرة على تمثيل المطالب والحاجات ويدركون الواقع السياسي وتطوراته. واسوق مثلا واحدا من بريطانيا وانا اقول دائما ان المقارنة مع الشئ الحسن مفيدة وضرورية ولايرفضها الا من يسعى الى ان لاتنطبق عليه. هذا المثل هو مرشح بريطاني اعرفه شخصيا من قبل حزب المحافظين. لا اتحدث عن القوانين الصارمة التي حكمت سلوكه سواء في الدعاية الانتخابية او مرحلة الترشيح التي استمرت شهورا. فقد خضع لمقابلات سياسية في المقر الرئيسي لحزب المحافظين ناقشوه خلالها على عشرات المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضايا النقل والصحة والتعليم والجريمة والعدالة والوضع الدولي والتاريخ وغيرها بحيث اضطر لطلب نصحي في بعض مسائل القراءة عن الشرق الاوسط والعالم بعد ان امده حزبه بعشرات المصادر.
استمرت فترة ترشيحه لاشهر كنت اراه خلالها مجهدا من التعرف والاطلاع والمناقشات والقراءة والسؤال ولقاء المواطنين, حتى ابلغ ذات يوم من قبله حزبه بان موعدا قد ضرب له من اجل مقابلة طبيب نفساني. سالني متعجبا وهو يحمل شهادة الدكتوراه ايضا ولماذا هذا الطكبيب النفساني. لم يكن لي جواب طبعا وبعد اسبوعين حدثني كيف ان هذا الطبيب كان يسعى الى معرفة جوانب في المرشح مثل القدرة على قول الحقيقة اوالكذب, او استخدام وسائل غير مشروعة في الحديث والسلوك والحكم على الآخرين.
لا نريد ان نطبق كل ذلك اليوم على النائب العراقي او المرشح لتمثيل الشعب, ولكن واقع البرلمان العراقي يشير الى فقر شديد بالسياسة وتاريخ السياسة وضرورات السياسة ووظيفة التشريع ودور النائب ومسؤوليته امام شعبه . فعضو البرلمان يفقد خصوصيته حالما يجلس على مقعد البرلمان ويصبح كما قال النائب وليم وندهام في القرن الثامن عشر( رغم اني لي شرف الجلوس في هذا المجلس كفارس من احدى المقاطعات فانا اعتبر نفسي مع ذلك واحدا من الممثلين لمجموع شعب انجلترا). وبالاطلاع على ملفات تاريخ البلمان في بريطانيا يمكن العثور على المئات من هذه الاقوال التي اصبحت مبادئ وقيما برلمانية مع مرور الزمن لتحدد واجبات عضو البرلمان بانه حالما يدخل برلمان وستمنستر يصبح ممثلا لمصالح الامة وليس مصالح حزبه.اما النائب وليم يونغ فيشرح الامر نفسه قائلا( بعد ان اخذنا مقاعدنا في هذا المجلس يجب على كل واحد منا ان ينظر الى نفسه كاحد ممثلي هيئة العامة في انجلترا وينبغي ان لايكون لدينا اي تحزب خاص للمقاطعة اوالمدينة او المركز التي نمثلها).
وتشتهر خطبة النائب ادمون بيرك التي يرددها نواب وناخبون كثيرون. يقول بيرك واصفا العلاقة بين الناخب والنائب(حضرات الرجال الافاضل, من المؤكد انه يجب ان تكون سعادة النائب في ان يعيش مع ناخبيه في اضبط وحدة واوثق العلاقات واكثر الصلات. ويجب ان يكون لرغباتهم اعظم وزن لديه, ولرايهم اسمى احترام , ولاعمالهم انتباه مستمر لاينقطع. ان من واجبه ان بضحي براحته وملذاته ومسراته من اجل راحتهم وملذاتهم ومسراتهم. وفوق كل شئ دائما وابدا وفي جميع الحالات ان يفضل مصالحهم على مصالحه الخاصة). ان البرلمان كما يعرفه بيرك( ليس مؤتمرا لسفراء ذوي مصالح متعادية يهم كل منهم ان يقف كعميل او مدافع عن مصالحه ضد العملاء الاخرين والمحامين الاخرين عن المصالح الاخرى, وانما الربلمان مجلس للمناقشة لامة واحدة ذات مصلحة واحدة هي مصلحة الجميع) ومن المعروف ان بريطانيا هي امة من اربع امم هي انجلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا وكل امة لها علم ينضوي تحت علم الاتحاد البريطاني الشائع في العالم.
لقد خضعت قوانين الانتخابات البريطانية الى التعديل عدة مرات وشرع البرلمان نفسه عدة قوانين لمنع الفساد الانتخابي ومنه شراء الاصوات لقاء رشاوي ومبالغ طائلة, كان اهمها( قانون تحريم التصرفات الفاسدة وغير القانونية) عام1883( والتاريخ يعتبر قريبا جدا بالنسبة للديمقراطيات الغربية خاصة بريطانيا) بعد سلسلة ظواهر فساد كشراء الاصوات خاصة قبل اي يصبح الانتخاب سريا بصدور قانون الاقتراع السري عام 1872
ليساهم في جعل الفساد الانتخابي اكثر صعوبة اعتمادا على مبدأ صاغه دوق ارغيل الذي يقول( لايمكن ان يقال بان اي انسان يدلي بصوته بحرية حينما يعلم ان عيشه او جزء من عيشه يعتمد على اقتراعه بغير مايرضي ضميره), ويضرب تاريخ الديمقراطية البرلمانية في بريطانيا مثلا على الفساد الانتخابي بانتخابات ليفربول عام 1830 حين تراوح سعر الصوت الواحد مابين 42 الى 250 دولارا باسعار ذلك الوقت.
ان هدف الانتخابات الرئيسي هو اختيار مجلس نيابي يصادق على حكومة ليراقبها ويجعل عملها علنيا ويشرف على اعمالها ويطالبها بتفسير كامل عن اي من اعمالها, التي اذا كان احدها مستحقا للاستنكار فعليه ان يستنكره, ويمنع تعسف اي من رجال الحكومة بسبب الثقة الممنوحة له اوالتفريط بالشعور العام الحازم والرصين للامة, وهذه هي فكرة الفيلسوف جيمس ستيورات ميل.
تتميز الديمقراطية البرلمانية بتحصيص وقت للاسئلة المقدمة الى رئيس الوزراء, وهي عادة ماتكون فرصة لنقاش بين الحكومة واعضاء البرلمان. وقد راينا مع الاسف ان كثيرا من اعضاء البرلمان العراقي لايحترمون برلمانهم ويستبدلونه بكاميرات الفضائيات. فبدلا من ان يكون نافعا ومفيدا ويقدم اسئلته لرئيس الوزراء والحكومة نشاهده خارج العملية السياسية والدستورية يستخدم النقد التشهيري الذي يساهم في عرقلة الاستقرار السياسي والامني ويعيق التحول الثقافي نحو الديمقراطية ويؤكد على مطالبه الحزبية والفئوية ويكرس دوره المذهبي او الديني او الحزبي ناسيا مطالب المواطنين ,مقويا الحاجز بينه وبين حاجات ناخبي قائمته ملقيا لهم مزيدا من الاحباط والندم والاسى.
لقد اصبح للعراق برلمانه المنتخب عموما, غير ان الوظيفة التشريعية له ماتزال اسيرة الاهواء الحزبية والشخصية. وبدلا عن ان يكون البرلمان هيئة نيابية تنظر بعينها دائما نحو مصالح الشعب اصبح لحد ما خنادق توزع المكاسب الحصصية وتبني امجادا شخصية عبر الفضائيات والتصريحات, حتى تغلبت وظيفة التصريحات الاعلامية على وظيفة النائب ودوره التشريعي والرقابي وتمثيل مصالح الامة.
ان البرلمان مسؤول عن تكريس المحاصصة. فالذين يمثلون امامه لشغل المناصب والوظائف الكبرى يرشحون وفق الحصص والنسب وجميع اعضاء الربلمان ومجلس رئاسته يعرفون ذلك ويقرونه حينما يقرون ترشيح المحاصص لشغل منصبه.ان هذا العمل البرلماني موجه ضد مصالح الناخبين الذين ينتظرون ان يروا تقدما في الاجراءات والخدمات لصالحهم.وهو موجه ضد الديمقراطية التي تقوم على المواطنة وتحقيق العدالة في الخدمة المدنية عن طريق الحق والكفاءة والخبرة.
ان دليل تكريس هذه المحاصصة من قبل البرلمان ورعايته لها هو ان رؤساء الهيئات المستقلة , التي يفترض ان لاتكون حزبية ولا منحازة سياسيا, مثل مفوضية الانتخابات وهيئة الاعلام ومفوضية النزاهة وغيرها, يقرون من قبل البرلمان وهو يهرف انهم منحازون ومرشحون ضمن نسب المحاصصة, االمر الذي يلقي بظلال من الشك على نزاهة العملية السياسية التي هي ضمان نزاهة جميع القطاعات الاخرى.
ان التشريع صفة خاصة بالبرلمان. لكن كثيرا من الدول شهدت تفويض السلطات التشريعية للحكومة في اوقات مثل الحرب والازمات والكوارث الطبيعية وفقدان الامن, واهمية ترك التفاصيل الفنية للسلطة االتنفيذية المختصة, رغم خطورة مثل هذا التفويض وامكانية استغلاله بسبب البيروقراطية او المصالح السياسية التي يمكن ان تقيد الحريات المدنية كما حدث في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر وانفتاح شهية الاجهزة الاميركية الرقابية للتنصت وملاحقة المواطنين للاشتباه بهم, الامر الذي تمت مقاومته لحد ما في بريطانيا في سياق سياسة محاربة الارهاب.
يقول الفيلسوف الفرنسي ومنظر الديمقراطية الان تورين( ان الحياة السياسية تصاغ من ذلك التعارض القائم مابين قرارات سياسية وتشريعية تحابي المجموعات المسيطرة, والدعوة الى اخلاق اجتماعية تدافع عن مصالح المحكومين)
ان برلمان العراق افصح عن ضعف واضح في قضايا التشريعات خاصة فيما يتعلق بالعنف والفساد وابقى مثل هاتين الظاهرتين جزء من التشهير والصراع السياسي الحزبي والحصصي.
ان عمر التجربة البرلمانية العراقية قصير حتى الان, كما ان التفويض التشريعي امر محفوف بالمخاطر في حكومة تقاوم اضعفاها واستضعافها سياسيا,ويمكن لمثل هذا التفويض ان يصيب الحكم الدستوري العطل او يوقف عمل البرلمان , لذلك فان البديل عن مثل هذا التفويض هو تحول البرلمان من هيئة احزاب تتنافس على المصالح السياسية الى برلمان لعموم البلاد يحث الحكومة على تقديم مشاريع قوانين لانجاز مهماتها والاسراع بها, لان مسؤولية البرلمان ليس الانتظار وترقب فشل الحكومة في ظروف ازمة كبرى, سياسية وفكرية وحقوقية وثقافية, وانما مسؤولية البرلمان ايضا, باعتباره سلطة رقابية , ان يحد من كسل الحكومة اذا كان مثل هذا الكسل واضحا, ويتسبب في حرمان المواطنين من حقوقهم بالحصول على الخدمات الضرورية وتطوير هذه الخدمات للوصل الى وظيفة الدولة الديمقراطية بتحقيق سعادة مواطنيها. فاين البرلمان من تحقيق هذه السعادة؟
حتى الآن لايظهر عمل البرلمان في تاكيد سيادة القانون وتحقيق العدالة وضمان الحقوق وتعريف الواجبات.وبما ان البرلمان قد فوض المجالس المحلية ومجالس المحافظات كثيرا من الصلاحيات وفق الدستور, فان تفويض الحكومة المركزية الاتحادية صلاحيات تشريعية محدودة وتحت ضمانات معينة خاصة وان اغلب اعضاء السلطة التنفيذية في العراق هم اعضاء في السلطة التشريعية(البرلمان) وليس هناك مثل ذلك الفصل الحاد بين السلطتين حتى الآن.
ان العراق بحاجة اليوم الى تفويض التشريع ومنح بعض الصلاحيات لكي تستطيع الحكومة ان تخفف من القيود المفروضة عليها دستوريا وسياسيا بعد تجربة اثبتت ان العراق يحتاج اليوم الى سرعة اكبر في التشريعات والعمل التنفيذي ومحاسبة الحكومة على اساس هذه التشريعات, وان الازمات التي يمر بها العراق يتحمل البرلمان والاحزاب البرلمانية جزء كبيرا منها لان تغليب المصالح الحزبية على المصالح الوطنية اصبح ملموسا من قبل المواطنين الذين يعبرون عن خيبة آمالهم يوميا واصبحت المقارنة مع الماضي, مع الاسف, امرا واقعيا رغم كوارث الماضي ومآسيه .
لقد آن الاوان لاعادة النظر بكثير من السلوكيات والمواقف واعطاء البرلمان دوره الوطني المطلوب , وتحويل النواب من ممثلي قوائم مغلقة الى ممثلين للامة ومسؤولين امام ناخبيهم مسؤولية مباشرة ,والاقدام على تشريعات تنهي المحاصصة والمقاسمة وتوزيع المناصب والوظائف كمغانم حزبية, واخضاع العنف والفساد الى سيادة القانون وانهاء الاستخدام السياسي لهما وللظواهر المماثلة, وانهاء اطروحة (دكتاتورية خمسة احزاب) افضل من دكتاتورية حزب واحد التي يتم تقسيم العراق سياسيا واقتصاديا وماليا ووظائفيا وفقها, فقد سمعتها عدة مرات من ممثلين عن احزاب الحكم, وبالطبع فان الدكتاتورية هي الدكتاتورية التي تحرم المواطن سواء كانت دكتاتورية حزب واحد او خمسة احزاب لان مثل هذه الدكتاتورية مفيدة فقط لحارس ملهى انضم لاحد الاحزاب الحاكمة واصبح مستشارا سياسيا في احدى السفارات وهو لايعجز عن ترديدها.
ان التشريع بالتفويض يمكن ان يسحب من قبل البرلمان في اي وقت يرى فيه تهديدا لسلطته.لكن ماهو اكثر من ذلك ان يبادر البرلمان نفسه الى دفع نفسه الى الى التشريع والاهتمام بالمسائل المالية الاكثر الحاحا في الوضع العراقي اليوم, والنقد القائم على النزاهة والوطنية والاخلاص, والتداول في شؤون الازمات التي ما ان يخرج العراق من احداها حتى يقع في فخ الاخرى, واصدار القوانين لان العراق مايزال يعيش بدون قوانين حية فيما يعيش تقريبا على اوامر وقرارات مجلس قيادة الثوة المنحل.
اختم رسالتي بتذكير مجلس رئاسة البرلمان واعضائه بضرورة اعادة النظر بمفهوم الخدمة المدنية القائمة على المحاصصة واستبدالها بالمفهوم الحقوقي والدستوري والوطني الديمقراطي القائم على الحيادية بما تتطلبه من خبرة وكفاءة واختصاص وسلوك حسن.
الرسالة الثانية: الى رئاسة مجلس الوزراء
يسود مبدأ في الديمقراطية يقول انه قد يكون لرجل او امرأة مكانة رفيعة في حزب سياسي, ومع ذلك فهو لايصلح لرئاسة ادارة كبرى من ادارات الدولة.هذا المبدأ يشمل رئيس الوزراء كما يشمل الوزراء من حزب واحد,وهو الامر الذي تقرره الديمقراطية وتفضله لكي تكون الحكومة قوية ومنسجمة وقادرة على التنفيذ, فكيف بوزراء حكومة وحدة وطنية ينتمون الى احزابهم اكثر من انتمائهم الى مجلس الوزراء, وتتغلب لديهم مصالح احزابهم على المصالح الوطنية المشتركة.
يفترض في اية حكومة ان تعمل كفريق واحد. لذلك تعطي الانتخابات عادة الحق لرئيس الوزراء ان يختار وزراءه مراعيا التنوع والكفاءة والجغرافيا الوطنية ايضا
, وعادة ما يحرص رؤساء الوزارة المعاصرون الى تشكيل حكومات مصغرة لاتتعدى احيانا خمسة عشر وزيرا ضمانا لانسجام الوزارة وحرصا على العمل المباشر والتنفيذ السريع والتركيز على المهمات الاساسية التي تواجه البلاد.
ثمة في العرف الديمقراطي مبدأ يؤكد على ان مجلس الوزراء مؤسسة تتمتع بالقوة والقدرة على اتخاذ القرار طالما يتمتع مجلس الوزراء هذا بدعم وتاييد الاغلبية البرلمانية. هذا يفترض ان تكون حكومة المالكي اليوم اقوى حكومة في تاريخ الديمقراطيات, فهي لاتحظى بتاييد الاغلبية من خلال كتلة برلمانية واحدة او من خلال كتلتين وانما تتمتع بتأييد اغلبية مطلقة وكاسحة , فمن اصل 275 نائبا هناك اكثر من 260 نائبا يشتركون في تاييد الحكومة ودعمها يمثلون اربع كتل برلمانية هي كتلة الائتلاف والكتلة الكردية وكتلة التوافق وكتلة العراقية التي تملك جميعها وزراء في مجلس الوزراء, فكيف اصبح مجلس الوزراء عرضة للضعف والتقهقر؟في حين يفترض ان يقود رئيس مجلس الوزراء حكومة قوية قادرة على اتخاذ قرارات توفير جميع الخدمات الاساسية, وتقدم للمواطنين مايحتاجونه من امن وتعليم وصحة وكهرباء وماء وتعيد اعمار العراق وتفرض سياستها على المحافظات لكي تنفذ, وتقلص( اذا لم تستطع انهاء) التدخل الامريكي في القرار السياسي وتكمل السيادة وتتفاهم مع الولايات المتحدة لسحب قواتها وتعيد بناء المجتمع على اساس ثقافة التسامح والقانون والحق والواجب, اي ان يعمل مجلس الوزراء ككيان واحد موحد منسجم مع سياسة مجلس الوزراء ومنفذ لها وهي السياسة التي يعهد الى مجلس الوزراء تنفيذها بعد اقرارها من قبل البرلمان.
يذكر تاريخ الديمقراطية الانجليزية لجنة هالدين التي قامت في عشرينات القرن العشرين بتقديم توصيات حول مهام وطبيعة مجلس الوزراء فاوصت بان يكون مجلس الوزراء صغير الحجم لايتجاوز اثني عشر عضوا وقد ايد ذلك مفكرون وسياسيون منهم هارولد لاسكي واللورد صموئيل , لكن مايواجه مجلس الوزراء في العراق هو ايجاد وزارة لكل شخص يرغب حزبه في ان يجعله وزيرا.
يفترض في ان تكون الانتخابات قد اختارت الحكومة وهذه الوسيلة هي افضل من اية وسيلة استبدادية تفرض حكومة باستخدام القهر والقمع. فارسطو يقر نمط الحكومة الدستورية التي توفر الحريات التي هي اساس الديمقراطية وهذه الحريات يحكمها القانون في اطار سيادة ومؤسسات دولة مسؤولة عن استتباب الامن وضمان سيادة القانون وتنفيذ برنامج الحكومة بما يخدم مجموع مواطني الدولة.ان الليبرالية تعني حماية الحرية الفردية , وهذا يعني وضع حدود دستورية لحكم الاغلبية لضمان حقوق الاقلية ومشاركتها, وهذا بدوره يقتضي قيام حكومة وطنية تقوم على اساس تمثيلها لمجموع المواطنين حتى لو تشكلت من حزب واحد.فالامن والدفاع والخزينة والتعليم والصحة والعمل والعدالة تعتبر اهم واجبات الحكومة التي تتطلب, حسب ارسطو, توازنا بين الكم والكيف. ومع الاسف تفتقر حكومة الوحدة الوطنية الى هذا التوازن. فكمية الوزراء تفوق كمية وزراء حكومتين, ونوعيتهم تحتاج الى اعادة نظر وطنية ومراجعة فنية. فالوزير منصب سياسي ولكنه في نفس الوقت منصب نوعي ايضا, يسميه ارسطو(الوسط العادل) الذي يكون وسطا بين الطبقات والفئات والاحزاب والمالكين والمحرومين, كما يكون بعيدا عن الثراء الفاحش والفقر المدقع لتحقيق النزاهة والالتزام بالحس الاخلاقي للمسؤولية, تجاه المواطنين وواجبه تحقيق الصالح العام في ظل سيادة القانون.ويعيد مونتسكيو التاكيد على فكرة ارسطو بفكرة الهيئات الوسيطة ذات النبل الاخلاقي والمسؤولية العالية وخلق توازن سياسي واجتماعي بين القوى كما يشرح التوسير افكار مونتسكيو في السياسة والتاريخ.
هذه في الواقع مهمة رئيس مجلس الوزراء, فهو المسؤول الاول عن اختيار وزرائه وفق هذه المواصفات. وبما اننا نعرف ان منصب رئيس الوزراء يمثل موقع حزب الدعوة في الائتلاف الفائز في الانتخابات فان بقية الوزراء لم يكونوا من اختيار رئيس الوزراء وانما من اختيار المجلس الاعلى والتيار الصدري والفضيلة والمستقلين من قوى الائتلاف, ومن اختيار التحالف الكردستاني اي ممثلي الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد, ومن اختيار العراقية الذين يمثلون حركة الوفاق والحزب الشيوعي وبقية قواها ومن اختيار التوافق الذين يمثلون الحزب الاسلامي وبقية قوى التوافق.
لدينا اذن اكثر من عشرة احزاب مشتركة في تشكيل الحكومة, وهو عدد لايحسد عليه اي رئيس وزراء في العالم يخرج وزراؤه ويدخلون بنايات وزاراتهم بالتنسيق مع احزابهم وليس بالتنسيق مع رئيس مجلس الوزراء, وبتنسيق بعض احزابهم مع السفارة الامريكية وسفارات اخرى اكثر مما تنسق مع البرلمان او الدستور العراقي على علة النواقص والتناقضات واختلاط الصلاحيات فيه. هذه الحالة قيدت ايدي السلطة التنفيذية ورئيس هذه السلطة التي يفترض ان يكون قادرا على العمل. فحتى صلاحيات رئيس الوزراء الدستورية يجري الالتفاف السياسي الحزبي عليها,. ان الانتقال من نظام استبدادي الى نظام ديمقراطي يقتضي غالبا تحالفات ومشاركات من احزاب ومنظمات واشخاص واتحادات. لكن هذه التحالفات يجب ان تقوم لتحقيق الاستقرار والتحول السلمي وليس الانقسام. يضاف الى ذلك ما يقوم به مكتب مستشاري رئيس مجلس الوزراء من تضييق حركة مجلس الوزراء وعزل رئيس الوزراء وتقييده بسياسة الحزب الذي يمثلونه وهيمنتهم الحزبية بحيث اصبحت الدولة ,ممثلة باهم اجزائها وهي الحكومة, ممثلة بحزب وليس باطار وطني. ان العيب ليس في وجود مستشارين من حزب واحد فهذا شأن متعارف عليه في الديمقراطية ايضا, ولكن العيب في ان يكون هؤلاء المستشارون يعملون لحزبهم او لانفسهم اكثر مما يعملون لمجموع البلاد. كما ان عدم وجود فكرة التخطيط السياسي وانتاج الافكار لدولة في طور اعادة التشكيل يقلل من فرص اعادة بناء مؤسسات الدولة التي يفترض ان تساهم الحكومة في تشكيلها وارساء مؤسسة الدولة على اسس وطنية سياسيا وجغرافيا وثقافيا.ٍوحين اقول ثقافيا لا اعني رعاية الادب والفن وانما اعادة رسم الاطار الثقافي للعلاقة بين المجتمع والدولة بما يعنيه من ترسيم معالم سيادة القانون ودور المجتمع المدني وطبيعة السلطة الدستورية الحقوقية وتكريس فكرة المواطنة والتحول السلمي نحو النظام الدستوري ورسم معالم الحقوق والواجبات والعلاقات الوطنية واشاعة التسامح والعفو والعدالة, وهو عمل ليس هينا ولا يمكن احتقاره او السخرية منه باشاعة فكرة ان المجتمع العراقي متخلف ولايستطيع ممارسة الديمقراطية مما نسمعه ردا على ضرورة انجاز هذه المهمات.
ان الدستور ينص على ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام, غير ان ذلك لايبرر تديين الدولة من خلال عقيدة حزب وتغليب الطقس على المهمات السياسية المدنية التي تواجه دولة حديثة ومجتمعا متعددا ومتنوعا مثل المجتمع العراقي على الرغم من الطابع الديني الذي تميز به العراقيون في هذه المرحلة. هذا لايعني عدم القبول بالحق الذي ناله الاسلاميون من خلال الانتخابات فهو حق دستوري لايمكن انكاره. لكن هذا الحق يصبح ممثلا لجميع المواطنين بعد الفوز وليس حكرا على حزب او عقيدة.فالممارسة السياسية في قيادة دولة او حكومة ممارسة وطنية وليست حزبية, وممارسة سياسية وليست دينية رغم العقيدة الدينية للحزب الفائز. فواجب الحزب الفائز واجب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي مدني ياخذ بنظر الاعتبار المسؤولية تجاه الجميع وتحقيق قاعدة( ان الانسان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) وهي القاعدة التي ارسى نظريتها الامام علي في عهده المشار اليه.
ان القانون الدستوري يعرّف الدولة بانها جماعة منظمة من الافراد تملك اقليما محددا وذات سلطان ولها شخصية معنوية. وهذا يقتضي ان يكون العراق, وهو اقليم العراقيين,سلطانا للعراقيين لكي تملك الدولة العراقية هذا السلطان وتكون شخصيتها المعنوية هوية لجميع العراقيين.هذه المهمة مشتركة بين جميع الرئاسات ولكن الحكومة تتحمل القدر الاعظم من تاسيس هذه الشخصية, التي يرى هيغل انها ستكون مقبولة من قبل المواطن العاقل اذا وجد فيها ارضاء الرغبات والمصالح المعقولة واذا امكن الاعتراف بعدالة قوانين الدولة, وحينذاك تصبح الدولة تنظيما عقلانيا للحرية كما يرى هيغل.
اكد الدستور العراقي على النظام الفدرالي اللامركزي,وعلى صلاحيات الحكومات المحلية التي نشأت من خلال قرارات الحاكم المدني للاحتلال بول برايمر. لقد اصبحت الشكوى من اللامركزية واضحة. فسوء الفهم يسود في استخدام المفهوم ويقود الى التعسف في استخدام صلاحيات مفترضة خاصة في المحافظات واحيانا حتى في الجيش مع انه مركزي. فبعض القطعات في المحافظات الجنوبية تعصي الاوامر او تؤجل تنفيذها باعتبارها مرتبطة القوات البريطانية وتتلقى اوامرها منها, وبعضها في المنطقة الوسطى والشمالية تقوم بمثل ماتقوم به بعض قطعات الجنوب باعتبارها مرتبطة بالقوات الامريكية وتتلقى اوامرها منها. فضلا عن الهيئات والمفوضيات المستقلة انقسمت على نسب المحاصصة وبعضها لاعلاقة له اصلا ولاتعرف عنه الحكومة العراقية شيئا لانه ممول ومرتبط بالولايات المتحدة, وهناك تاكيدات على ان اهم جهاز استخباراتي وهو جهاز المخابرات العامة مايزال سرا بالنسبة للحكومة العراقية,فلايوجد له تخصيص في الميزانية العراقية ولا ينسق مع وزارة الداخلية اووزارة الامن الوطني, ولاتعرف تشكيلته من قبل رئاسة مجلس الوزراء , وهناك تعيينات حتى في الامانة العامة لمجلس الوزراء لا علاقة لها برئيس الوزراء وانما تتم من قبل جهات اخرى.
يقول لاري دايموند الذي يتابع تقدم الديمقراطيات في العالم اليوم( في الدول التي تتمتع بارتفاع عدد سكانها واتساع مساحتها فان الفدرالية تشكل اطارا متكاملا للنظام السياسي اللامركزي, وذلك من خلال توفير حكومة وسيطة تتمتع بسلطات خاصة. في مثل هذه الدول, التي هي بحجم القارات كالولايات المتحدة وكندا واستراليا والبرازيل والهند وروسيا, تبدو الحكومات المحلية كبيرة في عددها ولكنها صغيرة في مجال معادلتها لميزان قوة الحكومة المركزية, غير انها في الوقت ذاته, تتمتع باستقلالية جيدة في التقدير الديمقراطي للحاجات والمصالح المحاية الخاصة بها)
تحمي الفدرالية حقوق الاقليات التي ينص عليها الدستور وتعزز اللامركزية وتقلص الصراعات وتضعف فرص الانفصال وهي ايضا تحمل مخاطرها في طياتها اذ يمكن استخدام الصلاحيات ضمن الاقليم الفدرالي لفرض حكم فردي واستبدادي واستغلال اقتصادي ومصادرة بعض حقوق الافراد لصالح الحكم المحلي حيث لاتستطيع الحكومة المركزية التدخل لحمايتهم, وتعزيز النعرة القومية ضمن الاقاليم الفدرالية وبالتالي المطالبة بالانفصال.
يقول دايموند ان المركز يجب ان يمتلك القوة للتدخل في الوحدات الفرعية لحماية الحقوق الدستورية وكل مايتعلق بها من اجراءات.
ان الحكومة العراقية الحالية لاتملك مثل هذه القوة ولاتملك , سياسيا, القدرة على التدخل. فالنزعات الاستقلالية, السياسية والادارية والثقافية, اصبحت فوق الفدرالية واللامركزية. فالفدرالية في الحكومات الديمقراطية ينبغي ان تعزز الديمقراطيةوتحمي حقوق الافراد فهي حكومات محلية تنسجم سياساتها المحلية مع سياسة الحكومة المركزية لا ان تتعارض معها. فهي موجودة لنقل نشاط المركز الى الاقليم , اذا يبقى المركز مكانه, لا لمجئ المركز الى الاقاليم او اضطراره لملاحقة الاقاليم لتكون جزء من الدولة والسياسة العامة لها.
في العراق اليوم نظام يسميه بعض السياسيين بالديمقراطية التوافقية. ان هذا النوع من الديمقراطيات ضرب من الاتفاقات السياسية وليس الدستورية الحقوقية يعقب سقوط انظمة مستبدة ويتيح فرص المشاركة. لكن المشاركة تأتي في عراق اليوم على حساب المواطنين اذ انها ديمقراطية تضعف مجلس الوزراء وتقيد صلاحياته ونشاطه واجراءاته خاصة مع وجود قوتين الاولى وجود اكثر من 150 الف جندي اجنبي على اراضيه يملكون الارض, ووجود سفارة اميركية هي الاكبر في العالم تتدخل في القرار السياسي, اضافة الى قوة ثالثة مدعومة بهاتين القوتين وقوة بعض دول الجوار لاعادة النظام السابق بمايعنيه من كونه حلقة في سلسلة النظام العربي التقليدي غير الديمقراطي القائم على حكم الاقلية الى السيطرة على الحكم.
الرسالة الثالثة الى مجلس رئاسة الجمهورية:
في الدستور العراقي الحالي يكون مجلس الرئاسة ممثلا لهيبة الدولة ورمزيتها وسيادتها وشخصيتها.فالسلطة التنفيذية تكون بيد رئيس مجلس الوزراء.ويضم مجلس الرئاسة ثلاثة شخصيات هي الرئيس ونائباه , كما في مجلس رئاسة البرلمان.وقد اصبحت صلاحيات بعض نواب الرئيس تفوق الدستور في طموح شخصي مدعوم بتدخل خارجي, اقليمي ودولي,ينذر بنشوب نزاعات قوية ومثيرة قد تقود الى نسف الدستور وتعطيله لترسيخ هذه الصلاحيات المفترضة كامر واقع.
ان الديمقراطية لاتعتبر الدولة هدفا وانما وسيلة. وحده موسوليني طبق الفكرة الكليانية او الشمولية بقوله(ان مايسمى بالازمة لايحل الا بالدولة وضمن الدولة..كل شئ في الدولة ولاشئ خارج الدولة) هذا يعني ان يتقدم المواطنين ويتخلوا عن حرياتهم وحقوقهم لصالح سلطة تبتلع الدولة وتدعي تمثيلها كما هو حال الانظمة الدكتاتورية وتلغي القوانين ليكون كل شئ من اجل الدولة التي هي في النهاية موسوليني او هتلر او ستالين او صدام او من شابههم.
لذلك نجد في النظام البرلماني التمثيلي مؤسسات لخدمة المواطن الفرد باعتباره اساس مجموع المواطنين في دولة ومجتمع.ان المجتمع السياسي ليس مجتمعا ازليا, فهو ينبغي ان يكون انعكاسا لمصالح المواطنين, وبالتالي فان المجتمع المدني يعمل على مساعدة الدولة بالانفصال عن الحكومة وتذكيرها عبر العمل والنشاط لتكون حكومة في دولة حقوق وقانون وعدالة وفرص عمل وعدم تمييز وتوفير مستلزمات العيش الكريم وتوفير الامن والاستقرار.
ان مجلس الرئاسة يمثل مؤسسة الدولة اكثر مما يمثل الجمهورية او النظام السياسي رغم انه وليد نظام سياسي, وهذا النظام السياسي يقوم على حكومة تنفيذية وليس على دولة تنفيذية تصادر تحت معطفها السلطة والمجتمع والقانون والدستور لتتحول الى سلطة باسم الدولة التي تبتلعها السلطة بعد ان تكون الدولة قد ابتلعت كل شئ.
لذلك , مثلا, تبدو تصرفات نائب رئيس الجمهورية ضربا من الطموح الشخصي وليس تطبيقا دستوريا. عملا حزبيا يسعى الى تحقيق مكاسب شخصية او حزبية او فئوية على حساب الحكومة. لقد حضر رئيس الجمهورية جلال الطالباني مؤتمر القمة في السعودية في العام الماضي ولم يحضره رئيس الوزراء الذي يفترض ان يكون صاحب الصلاحيات في مؤتمر مثل هذا.ان الطالباني شخصية سياسية مرموقة وقادر على المناورة المطلوبة في مثل هذه القمم رغم شكليتها, ووجود الطالباني كرئيس عراقي كردي في مؤتمر القمة سابقة مهمة ورسالة للعرب على ان العراق الجديد ديمقراطي وموحد وعليهم التعامل معه على هذه الصورة التي اختارها اهله . لكن الدستور شئ وشخصية الرئيس شئ آخر.ان الطالباني شخصية تحظى بما يقترب من الاجماع , وهو حكم مقبول في النزاعات والخصومات . وهذا وحده كاف ليكون الرئيس ممثلا لهيبة الدولة وكونها رمزا للجماعة.لا يتعلق الامر بالبروتوكول الذي استخدم لوصف مهمات الرئيس في بعض الاعتراضات. فالرئيس يعكس هيبة الدولة وتمثيلها للجميع ,وهذه الهيبة اكبر من البروتوكول واكبر من بعض الصلاحيات. ان الدولة في العراق غابت لصالح سلطة الحزب والفرد طوال اربعة عقود, وبالتالي فان مجلس الرئاسة يمثل استعادة الدولة لهيبتها وتمثيلها للمواطنين وهويتهم وهذا امر ليس سهلا او بروتوكوليا.
هذا الواجب لمجلس الرئاسة في العراق يجعل هذا المجلس في هذه المرحلة خصوصا اكثر اهمية, خاصة حين يعمل على مساعدة الحكومة لتكون سلطة تنفيذية قوية تؤكد شرعية مجلسي البرلمان والرئاسة, اذ ان الرئاسات الثلاث جزء من المجلس التشريعي, اي مجلس النواب,فاعضاء الرئاسات هم اعضاء في البرلمان وهذا يؤمد ان لانفصال بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, وهذا يقتضي ترسيخ استقلالية السلطة القضائية وهذه مهمة مجلس الرئاسة دستوريا بقدر ماهي مهمة مجلس الوزراء سياسيا واجرائيا.اذ ان التعارض يمكن ان يقوم بين السلطة التنفيذية وبين السلطة القضائية وهو امر خطير جدا في الانظمة السياسية, ويمكن لرئيس الجمهورية ان يلعب دوره السياسي والدستوري في حل مثل هذه المشكلة, وهذا مايجعل رئاسة الجمهورية شأنا كبيرا وليس امرا بروتوكوليا, وشأنا وطنيا ومرجعية سياسية ووطنية وليس شأنا تنفيذيا.وكما يرى هوبز فان العقل والضمير المهني هما سيادة مجلس الرئاسة والرئيس, لانه يرعى الدولة الذي هو جزء منها لترعى المصالح العامة عبر رعايتها للمصالح الخاصة للمواطن وتوفير الحماية له والدفاع عنه. الدولة تتحلى بالفضيلة والعدالة والسلم والرفاه وحين تحققها حكومة وطنية فان واجب مجلس الرئاسة حماية هذا المنجز وهي ليست مهمة سهلة او بروتوكولية.
ان لوك يؤكد ان الحرية لاتنفصل عن السعادة لان الانسان كائن عاقل يبحث عن الحرية والسعادة. والسعادة تكمن في الامن والاستقرار والسلام ولاسعادة بدون ضمانات سياسية ولا سياسة حقة اذا لم تكن تهدف الى نشر السعادة المعقولة. وهذه الضمانات تقع بالتاكيد على عاتق مجلس الرئاسة. وهذه الضمانات ليست مثالية او طوباوية وانما هدف عقلاني للسياسة, فقد تحققت في دول عديدة في العالم بغض النظر عن المشاكل الازلية التي تواجه الانسان.
حتى الآن تمثل الرئاسات الثلاث ثلاث مفردات دخلت الى القاموس السياسي العراقي واصبحت مفردات عرفية رغم انها لم تدخل الدستور بالفاظها. هذه المفردات هي الشيعة والاكراد والسنة.وعدا عن الاكراد, فان الشيعة والسنة ليسا مفردتين سياسيتين, وهما ليس قياسا للاغلبية والاقلية السياسية, وانما قياس للاغلبية والاقلية المذهبية في العراق. لذلك لن يكون هناك توازن كمي الا حين تصبح العملية السياسية قائمة على مفهوم الاغلبية والاقلية السياسية بغض النظر عن مذاهب من يشكلهما.
لقد كتب الدستور الاميركي عام 1787 لثلاثة ملايين اميركي هم سكان الولايات المتحدة الاميريكية آنذاك. لكن تاثير ذلك الدستور الذي يمكن قراءته باقل من ساعة ولايتجاوز خمس عشرة صفحة اصبح عالميا ومثارا للاقتباس والتقليد رغم انه اقتباس عميق لافكار الانجليزي لوك حول المواطنة والحرية والتسامح والحكومة المدنية وافكار الانجليزي هوبز عن المواطن والحق والقانون.
ليس بالضرورة اقتباس الدساتير او اقتباس اعمال ساسة مثل فرانكلين وجيفرسون او كرومويل او دزرائيللي او ديغول او غاندي او مانديللا او غيرهم, وانما من الضروري رؤية الروح التي انطلقوا بها ورؤية الامكانيات التي اتاحوها قبل ان تتاح لهم الامكانيات لتطبيق مبادئهم وافكارهم وسياساتهم.
وليس بالضرورة استنساخ تجارب وانما الضرورة ان نضع الحاجات الانسانية المشتركة للمجتمعات مثل الحرية والعدل والمساواة والشعور بالامن كاساس مشترك للانظمة السياسية الدستورية والديمقراطية وبالتالي تكون الديمقراطية صناعة انسانية وليست غربية, فختى في الفكر الرافديني القديم في دويلات المدن وفي الامبراطوريات الرافدينية مثل بابل واكد ظهرت الحاجات الانسانية قائدة للقوانين والتنظيمات التي تتوخى العدالة والمساواة وتحقيق الامن بوضع حجر الحدود من قبل الحاكم ليحدد رقعة مسوؤليته تجاه مواطنيه, وفي الاسلام حيث ظهرت وصايا تحقيق العدل والحرية والمساواة على لسان عمر وفي النص الفلسفي الفكري الذي حرره الامام علي لواليه على مصر مالك الاشتر وحدد وظائف الدولة ومسؤولية الحكم على غرار فلاسفة الانوار والفكر الديمقراطي الحديث وغير ذلك من افكار صاغها مثقفو الاسلام الذين رفضوا اطروحة الملك العضوض واكدوا على دستورية حقوق الفرد المستمدة من الحق الطبيعي او من الفطرة.
وحتى الان ماتزال التجربة العراقية جديدة وهي عرضة لمبدأ الخطأ والصواب, لكن ماينبغي ان لاتتعرض له هو النكسة التي تجعل من النظام السياسي الجديد فرصة لفئات على حساب اخرى , ولاحزاب على حساب مجموع المواطنين, ولافراد على حساب مجتمع , ومناسبة عاجلة لكسب المنافع الفردية والحزبية .واذا كان مجلس رئاسة الجمهورية يقدم نموذج وحدة الدولة ووحدة المسؤولية الاخلاقية تجاه سعادة المواطنين في العراق ويقدم في الوقت نفسه القدرة على ان يكون مرجعية سياسية دستورية تعمل على تخفيف الخصائص التي ظهرت في العملية السياسية الجديدة وانقاص وزنها الى الحد الاقصى مثل المحاصصة والفساد والاستهانة بالعدالة والقانون وتوزيع الوظائف على الاقارب والنقص الهائل بالشعور بالمسؤولية المهنية والاخلاقية في الوظائف التي تفشت فيها الرشوة بشكل كارثي والبطالة ونقص الخدمات والتخلف المريع الذي يجد العراق فيه نفسه وهو بلد غني.وهي ظواهر ساهم فيها الجميع منذ سقوط النظام السابق حتى الان سواء الحكومات او الاحزاب او الافراد او المنظمات او جماعات في الجهاز البيروقراطي او العسكري او الامني, كما ساهمت فيها الهيئات والمنظمات التي انشأها الامريكان سواء اعطيت صفة المستقلة ام لا.
يربط الفكر الديمقراطي بين شرعية النظام وبين ادائه, فكلما تحققت رغبات المواطنين كلما كرس النظام شرعيته. وهذه هي المعركة الحاسمة بين الرئاسات الثلاث التي تمثل النظام الدستوري في العراق, فهو شرعي دستوريا, وبين نيل شرعيته من قبل المواطنين باعتباره نظاما يسهم في حل المشكلات التي يواجهونها في حياتهم.
المصادر:
١- ( اوستن رني-اسس الحكم. ترجمة الدكتور حسن الذنون- المكتبة الاهلية . بغداد ١٩٦٦.الجزء الثاني- ص ٢٠٥
٢-(John Locke. An Essay Concerning Human Understanding.P361.penguin classic.2004
٣-87.John Locke. Second Treatice of Government.P46.Hackett Publishing.Cambridge 1980
٤-نفس المصدر 57. P33
٥-95 P52
٦- ( دوفابر-الدولة- منشورات عويدات. بيروت بيروت١٩٨٢ ص ١٠٩
٧- الاحكام السلطانية-القاضي ابو يعلى الفراء. دار الكتب العلمية.بيروت.الطبعة الثانية ٢٠٠٦ .ص١٩)
٨-الاحكام. ص ٢٤
٩- ( الاحكام. ص ٢٠).
١٠-(جان توشار.الاسس النظرية والفلسفية للانظمة السياسية والقانونية-منشورات دار الاستقلال٢٠٠١)
١١-Model of Democracy .David Held.Third Edition.Stanford University Press.2006.
١٢-(Held .p 59)
١٣- – Geoffrey Hindley،–(The magna
carta: The Story of The Origins of Liberty
(Pxxi.Introduction)
١٤- British Parliamentary Democracy.Sydney bailey.1962
١٥- (Hobbes.Richard Peters.Penguin Book.p178-182).
١٦-Philosophy of Right.Hegel.Dover publication.2005.P42
١٧- ( محمد عمارة-تيارات الفكر الاسلامي.دار الوحدة.١٩٨٥.ص١٣١)
١٨-(الميرزا حسين النائيني-تنبيه الامة وتنزيه الملة. وردت ضمن كتاب توفيق السيف: ضد الاستبداد). المركز الثقافي العربي.الدار البيضاء ١٩٩٩).
١٩-(Locke: Second Treatise of Government.p18
٢٠- جان مورانج:الحريات العامة ،ص٣١.منشورات عويدات.بيروت-باريس ١٩٨٩
٢١- Hegel.(Philosophy of right
22-ي)On Liberty.John Stuart Mill .Penguin Classic.1985
٢٣-علي بن ابي طالب. عهد الاشتر. تحرير الشيخ محمد مهدي شمس الدين.مؤسسة الوفاء-بيروت١٩٨٤ص٢٩.