الشرق الأوسطعاجل

الـــــثورة كــممارسة مرحـــــــة…عشر سنوات من ذاكرة الربيع الديمقراطي

بقلم:  د. يوسف محمد بناصر – باحث وكاتب مغربي

  • المركز الديمقراطي العربي

 

يبدو أن الأنظمة العربية أصبحت عتيقة وقابلة للاحتراق السريع كاحتراق البارود في ليلة شديدة الظلام، فالثورة فيها تشتعل فيها وحولها كالنار في الهشيم، واشتعالها بسرعة وتحقيقها في نفس الوقت لهذه المكاسب المبهرة وبهذا الإصرار الدموي المأساوي، يجعل المرء متفاجئا مما تبديه الشعوب من استماتة وروح تحررية بله مما كانت تخفيه الأنظمة الاستبدادية المنهارة من هشاشة وضعف وترهل، وهذه الصفات الأخيرة، قد تكون صفات نفسية لصيقة أيضا بالشخصيات الحاكمة بكل تفاصيلها، فلا  تخفي هذه المظاهر إلا الألبسة الغالية الثمن التي يرتديها بعض رؤساء الدول العربية أو “الماكياج” الذي يظهرهم أصغر من سنهم الحقيقة، وهو ما يلاحظه الجمهور العربي عموما، وأكاد أجزم أن غالبية الناس ينتظرون تلك الصورة المفاجأة التي سيظهر عليها كل مستبد مخلوع، فبعد كل سقوط لنظام ما، يتغير شعر الرئيس من أسود داكن إلى أبيض ناصع أو مختلط، وهذا التغير ليس طارئا فهو لم يحدث لحظة الثورة بل كان شيئا يخفيه هؤلاء عن شعوبهم، لكي يستبدوا بالسلطة ويظهروا على أنهم في عز عنفوانهم وشبابهم، يستحقون منصب الحاكم، ولو بلغوا العقد السبعين والثمانين، ومنذ سقوط صدام حسين وظهوره المهين على الشاشات العالمية بشعر أبيض وبلحية كثة إلى سقوط العقيد القذافي وظهوره بوجه وشعر مستعار، غير الذي عهده به المواطن العربي والمشاهد عموما، ترددت الكثير من النكت الساخرة من الصور المزيفة للزعماء العرب. حتى إن بعض المواطنين العرب من كثرة تقديسهم لقادتهم لم يقدروا بعد على تصور أو تصديق أن شخصية الزعيم أو الرئيس شخصية إنسانية تمتلك من المميزات والخصائص الإنسانية الطبيعية الشيء العادي، كأن يعتريها الترهل والشيخوخة والمرض والنسيان والضعف..، بل إن أغلب الناس يسرحون بخيالهم وتقاذفاتهم الذهنية بعيدا وهم يرسمون ملاحم غرائبية لكل شخصية ارتبطت بالحكم، وها هم اليوم بعد عقد تقريبا، يكتشفون أن خيالهم مارس عليهم بدوره التزييف والابتذال كما مارسه عليهم الحكام، فبعدما علموا أن كل تلك الإدعاءات عن قوة وجمال وشباب ورقة وأناقة الحاكم هي مزيفة وأنهم خدعوا فيهم، بدأوا يهزؤون بهم ويبدعون النكت ويتبادلون الأقاويل الساخرة والمرحة عن بعض أسرار هذا الزعيم أو ذاك، والتي كانت مستورة وظهرت بمجرد نجاح الثورة.

كما كان من المجازفة الحديث -إلى وقت قريب- عن مرض الزعيم أو القائد، فالقادة في الوطن العربي لا يمكن أن يعتريهم المرض أو الخطأ والعجز أو هكذا تعتقد الدوائر الأمنية والرسمية المحيطة بأسرار الحكام، فكلما تسرب خبر مرض أحد القادة العرب إلا وأسرعت الدوائر الرسمية إما لطمأنة الشعوب أو إلى تغريم وتوبيخ ناشر الخبر، وقد يتم إغلاق الصحيفة، أما اليوم فقد تسربت أسرار شخصية كثيرة عن القادة خصوصا منهم الذين تم الإطاحة بهم، وبدأ المواطن العربي يروي فضوله للأسرار، كما اكتشف بعض الكتاب والمدونين مدى سذاجة اعتقادهم في قوة الحاكم، فانتقموا منه بنشر أخبار مبتذلة ونكت ساخرة، زيادة في النكاية به.

إذا كانت الثورة حررت التونسيين والمصريين والليبيين من الاستبداد أو كادت تحررهم، فإنها حررت كذلك ابتساماتهم ومخيالهم وإبداعاتهم. لقد جعل “الربيع الديمقراطي” الضحك والكلمة والغناء والسخرية مجالات محررة، وفك عقدة اللسان والشفتين والعقول..، فأصبح من الممكن أن نسخر من حكامنا ونبدع رسومات كاريكاتورية لهم ونكتب عنهم النكت والمقالات النقدية ونخوض في أغلب خصوصياتهم، وأتساءل هل هذه فرصتنا لتفكيك قيم الاستبداد وتحرير الضمائر والعقول والنفوس من الخوف والاستعباد وفقط أم هي فرصة للتأريخ لشيء أكبر؟

لنحاول مرة أخرى تبسيط فكرة المرح في ظل الثورة بشكل أوضح، كثيرا ما تحدث  المفكر الفرنسي دو لابسي في كتابه: “العبودية المختارة” عن الشعوب الجاهلة التي تمتنع عن الحرية وتتلذذ بالاستعباد، لمجرد أنها لا تستطيع تصديق أنها قادرة على التحرر، اليوم فكت طلاسم الحرية في البلاد العربية وصدق الناس قدرتهم على صناعة المعجزة، فحرروا أنفسهم بأنفسهم، كما اكتشفوا أنهم هم الذين يصنعون الخوف وهيبة الأنظمة كما يصنعون الخبز، فكان من السهولة بمكان أن يخرجوا بشكل نشيط في تظاهرات تطالب بإسقاط الاستبداد والأنظمة، فوازنوا بين  إرادة التحرر و إرادة الحياة.

أغاني الثورة وأشعارها ورسوماتها ونكاتها ورقصاتها وحفلات الزواج التي أقيمت في خضم مسيرات الاحتجاج كلها أشياء معبرة عن إبداع الناس وتماهيهم مع لحظة التحرر، فغالبا ما يتبادر تعريف الثورة في الذهن الإنساني إلى أنها سفك للدماء وصوت رصاص وقنابل ورائح برود، لكن “الربيع الديمقراطي” أثبت اليوم أن الثورة يمكن أن تكون مرحة أيضا، فهي أغاني وزغاريد ورقص وزواج ورسم ومسرح و”تنكيت”، والدليل هو ظهور رموز وأسماء جديدة ولافتة ولوحات ساخرة في مختلف  الميادين، ويحضر في ذهننا في مجال الغناء على سبيل المثال مغني الثورة السورية المقتول المرحوم إبراهيم قاشوش الذي ألهمته الثورة كلمات من مثل:”يالا ارحل يا بشار” و”بس اسمعوني” ومغني الثورة اليمنية أيوب العنسي ومحمد الاضرعي الذي أبدع أغاني مثل:”ياصحابي ليش الخصام” و”أنا حر” و”يا أخي دقيقة اسمع” والمغني المصري رامي عصام الذي له أغنية:”عيش حرية وعدالة اجتماعية”و”طاطي طاطي” و”الجحش قال للحمار”ومغني الراب المغربي معاذ الحاقد والذي اشتهر مع حركة 20 فبراير واشتهر من أغانيه:”المغاربة عيقوا”و”أغنية إذا الشعب يوماً أراد الحياة،”ينوض يدوي على راسو باركة من السكات”، لقد أجمعت جماهير غفيرة على كلماتهم فرددوها في ساحات وميادين التغيير المختلفة وآمنوا بأنها تعبيرات تخص أحلامهم ولحظتهم السعيدة، كما أنها رد على الخطب السياسية الرسمية بشكل رمزي. أما فن الرسم والكاريكاتير و”التنكيت” فالنصيب الأكبر كان من إبداع المواطن المصري الذي تمتع بخفة الدم طيلة فترة الثورة، وكان أكثر قدرة على تسخير روحه المرحة من أجل تحفيز الناس والتخفيف من آلمهم، كما كانت  رسالة للرد على بلطجة نظامهم المستبد الذي كبت على أنفاسهم، فشاهدنا مواطنين يحملون لافتات مكتوب عليها على سبيل المثال: ارحل يا عم خلي عندك دم، ارحل بقه عايز ادخل الحمام أو مرآتي عايزة تولد، ابني عايز يروح للمدرسة، مكتوب ارحل بالهيروغريفي؛ يمكن تفهم يا فرعون، رابطة نجاري مصر يسألون الأسطى مبارك ما نوع الفراء الذي تستخدمه؟ وربما كانت نفس الشعارات مستعادة في كل مسيرات الشعب المصري ضد حكومة مرسي والسيسي.

لقد اكتشفنا مع الأحداث المتوالية في الجغرافية العربية أن “الشعب العربي” لا يزال قادرا على رسم مصيره في لحظات احتجاج سلمي وعصيان مدني، وأن من “الكوميديا السوداء” أن نجد زعماء يتوعدون بالانتقام في لحظة جنونهم وعنفوانهم، ثم يسقطون بعدها في يد الثوار من بني جلدتهم فيطلبون منهم العفو والرحمة، وما كانت الأخلاق السياسية غير الفاضلة للحكام، ولا تاريخهم الحافل بالظلم والتبذير والاستعباد، تسمح للشعوب بأقل من السخرية والتشفي، أليسوا هم من استبد لسنوات بأحلام الناس بل وفي لحظة جنون العظمة السياسية والأمنية؛ سخروا معاونيهم وجلاوزتهم لتقتيل وتعذيب مواطنيهم دون رحمة أو شفقة ولا يزال بعضهم يمارس ساديته؟

لقد كان كافيا لدى الشعوب العربية لتحقيق التغيير أن تتحرر إرادتهم ويؤمنوا بقدرتهم على صناعة تاريخ جديد وحافل بالانتصارات الرمزية والحقوقية، ثم ليعتقدوا أنه لم يكن قضاء مقضيا ومقدرا عليهم بقاء الاستبداد والظلم والقمع أبد الدهر، بل الأصل دائما هو الحرية والعدالة والكرامة، كما تأكد أن التحرر كان مجرد مسألة وقت وإرادة، وأن انهيار جدار الخوف يشبه انهيار لعبة دومينو كبيرة، وأن الغضبة الشعبية شبيهة بغضبة طفل بريء أحس بأنه يـهان طول الوقت ليثور في أول فرصة.

وفي الأخير كانت كلمات هذه الثورات وهذه الانتفاضات في زمن الذلقراطيات – بتعبير البرفسور المرحوم المنجرة- ممجدة للقيم الإنسانية والفضائل والقيم الكبرى، وبالمقابل نسيت هذه الشعوب في لحظة انتشاء خطابات الوعيد وما نطق به الزعماء من خطب عصماء مرتجلة ومرتبكة بل سخروا منها أشد السخرية، بذلك هم يمجدون إرادة الحرية، فانعتقوا من روح الجبرية والممارسات الأمنية والطلاسم الخرافية التي تدعي التحكم المطلق  في قدر  ومصير الجماهير إلى وقت قريب. ويبقى تاريخ الشعوب أرسخ وأقوى مما سطرته الأنظمة المستبدة فهو يعلو على مجموع ما خطه التاريخ الرسمي في ذاكرته، وتجود حركية التاريخ بمكر بمجموعة اختيارات صعبة، وبمزيد تداول دورات صعود للقمة وسقوط مدوي، وصدق الشاعر الاندلسي أبو البقاء الرندي حين قال:  هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ==== منْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءتْهُ أزْمَانُ

2.7/5 - (4 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى