تأثير التزييف العميق والأخبار المضللة على المشهد الانتخابي الأمريكي
بقلم : علي فرجاني – باحث وأكاديمي في صحافة الذكاء الاصطناعي والأمن المعلوماتي
- المركز الديمقراطي العربي
في ظل التطورات السريعة في التكنولوجيا، برزت تحديات غير مسبوقة أمام الديمقراطية الأمريكية، حيث أصبحت تقنيات التزييف العميق والأخبار الزائفة أدوات جديدة وفعالة لتوجيه الرأي العام والتأثير على خيارات الناخبين. فقد حمل هذا العام في طياته تقلبات سياسية واسعة المجال، يتجه أكثر من 4 مليارارات ناخب إلي صناديق الإقتراع في عدة بلدان تتضمن الولايات المتحدة وتايوان والهند واندونسيا، ما يجعل من الانتخابات الحالية بمثابة اضخم عام إنتخابي في التاريخ .
بالتزامن مع حملة الانتخابات لعام 2024، أصبحت المعلومات المضللة حول الانتخابات منتشرة في الفضاء الرقمي، فضلاً عن دعمها بأموال ضخمة.
في هذا السياق، تتزايد التساؤلات حول تأثير هذه الأدوات على نزاهة العملية الانتخابية وقدرة الجمهور على اتخاذ قرارات مستنيرة في ظل انتشار التزييف العميق والأخبار الزائفة .
تشير التقارير الي زيادة كبيرة في استخدام التزييف العميق في المجال السياسي، فقد استخدم الذكاء الاصطناعي مؤخراً في 16 بلداً لنشر الشكوك، وتشويه سمعة الخصوم، والتأثير في الحوار العام، وذلك وفقاً لتقرير نشرته منظمة فريدوم هاوس (Freedom House) في اكتوبر الماضي .ما كان في السابق مجرد شائعات أو حملات تضليل تقليدية، أصبح اليوم سلاحًا دقيقًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى يبدو واقعيًا بشكل يصعب كشفه، مما يشكل تحديًا للخبراء.
تسلط التقارير الضوء على دور وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى، مثل منصة X (تويتر سابقًا) وفيسبوك، التي أصبحت منصات خصبة لتضخيم الأخبار المزيفة وتحويلها إلى حقائق مشوهة، مما يهدد استقرار العملية الديمقراطية في واحدة من أعرق الديمقراطيات عالميًا.
ففي إطار السعي نحو تحقيق النو، اعتمدت المنصات على أساليب تضخيم المشاعر عبر الخوارزميات التي تشد الإنتباه وصفحات المحتوى التي تعتمد على آليات التوصية .
هذه الأساليب سلبت المستخدمي التحكم الذاتي، فنحن لانتحكم فيما نراه، حيث وضعتنا في خضم حوارات تتسم بالسجالات ، إضافةً إلي تفاقم انتشار مشكلات الصحة العقلية بين المراهقين.وهذا الواقع بعيد للغاية عن الحوار العالمي الديمقراطي الذي يجمع العالم بأكمله!
كما تشير التقارير إلى زيادة ملحوظة في استخدام تقنيات التزييف العميق، حيث أصبح من السهل إنتاج مقاطع صوتية ومرئية مزيفة لسياسيين بارزين، مما يجعل هذه الأدوات أسلحة تُستخدم لوجيه ميول الناخبين، خاصةً عبر مكالمات روبوتية، والتي تهدف إلى إثارة الخوف لدى الناخبين بشأن المشاركة، مما يعكس سهولة استهداف الأفراد بمحتوى زائف موجه.
لم تقتصر تلك الأساليب على المحتوى الصوتي فحسب، بل شملت أيضًا صورًا مزيفة لدونالد ترامب مع شخصيات مثيرة للجدل، مما يضع الجمهور أمام محتوى يبدو حقيقيًا لكنه مصمم بدقة لإحداث تأثيرات معينة، وتحديدًا لتعزيز الانحيازات السياسية القائمة بين الناخبين.
الذكاء الاصطناعي ليس مسألة غير مألوفة بالنسبة الي ترامب. ععندما كان رئيساً، وقع أمراً تنفيذياً يدعم زيادة الاستثمار في أبحاث الذكاء الاصطناعي، وطالب الحكومة الفيدرالية ززيادة اعتمادها على الذكاء الاصطناعي على أن يتولى تنسيق هذا العمل مكتب جديد حمل أسم “المكتب الوطني لمبادرة الذكاء الاصطناعي” National AI Initiative Office.
أشارت التقارير انه في حالة عودة ترامب الي البيت الابيض، أنه يخطط بشطب الأمر التنفيذي الذي أصدره بايدن، واصدار أمره التنفذه المتعلق باستراتيجة الذكاء الاصطناعي، والذي يخفف اللوائح التنظيمية للذكاء الاصطناعي، وإطلاق ما يشبه بـ”مشروع مانهاتن” لتعزيز الذكاء الاصطناعي العسكري ، وليس من المستغرب أن يعرب مايارديرات وادي السيليكون عن دعهم لترامب ولاسيما كرههم الشديد للخضوع الي الرقابة بدعوى أن هذه القيود تعيق من الابتكار !
استراتيجيات التضليل المنظم عبر الحسابات الآلية “البوتات” في سياق هذه الحملات، تساهم الحسابات الآلية، المعروفة بـ “البوتس”، بشكل محوري في انتشار التضليل على نطاق واسع، خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وتسعى دول مثل روسيا وإيران والصين عبر هذه الاستراتيجيات إلى نشر معلومات مضللة، حيث تُبنى هذه الحملات على تكتيك تضخيم المحتوى المضلل باستمرار، مما يعزز من تحوله إلى مفهوم شائع بين العامة، ويخلق واقعًا زائفًا يصعب التصدي له ويزيد من التشويش على الجمهور.
التأثيرات المباشرة على العملية الانتخابية
- تآكل الثقة العامة
أدى الانتشار الواسع للمعلومات المضللة إلى تصاعد الشكوك بين الناخبين بشأن صحة المعلومات السياسية، حيث أصبح التمييز بين الحقائق والمعلومات المضللة مهمةً شاقة. وكشف استطلاع حديث أن 65% من الأمريكيين يرون أن الوضع ازداد سوءًا منذ انتخابات 2020، حيث تتزايد صعوبة التمييز بين المحتوى الحقيقي والمحتوى المزيف في ظل تزايد تعقيد التزييف العميق وانتشار الحسابات الآلية على المنصات الرقمية مثل X (تويتر سابقًا). ولقد أثرت هذه الشكوك بشكل كبير على نزاهة الانتخابات وأصبحت تهدد الثقة في المؤسسات الأمريكية.
- التأثير على سلوك الناخبين
ومع تزايد هذا النوع من التضليل، بات سلوك الناخبين عرضة لتأثيرات متعددة، أبرزها تثبيط البعض عن المشاركة في الانتخابات، خاصةً في أوساط الشرائح الأقل قدرةً على التحليل النقدي للمعلومات. وتستغل هذه الحملات التحيزات السياسية والاجتماعية في محاولة للتلاعب بأولويات الناخبين وتعزيز الفجوة الحزبية عبر محتوى عاطفي وغير عقلاني، ما يدفع البعض إلى اتخاذ قرارات متسرعة بناءً على معلومات غير دقيقة.
تحديات مكافحة التضليل
يُعَد تطور تقنيات التزييف العميق بسرعة فائقة تحديًا كبيرًا أمام المنصات الاجتماعية والجهات التنظيمية، حيث يتطلب اكتشاف المحتوى المزيف أدوات متقدمة وخوارزميات حديثة. رغم أن هذه المنصات تحاول تحسين أدوات الكشف، فإنها تظل قاصرة أمام الدقة المتزايدة التي يتمتع بها المحتوى المزيف، ما يُبقي عمليات التضليل في صدارة التحديات التقنية التي تواجهها المجتمعات الحديثة.
صعوبة التنظيم عبر منصات التواصل
تطرح المنصات مثل X وMeta تحديات إضافية بسبب سياسات التخفيف من الرقابة التي تتبعها. فعلى الرغم من إعلان هذه المنصات عن سياسات جديدة للتصدي للمحتوى المضلل، إلا أن ضعف الرقابة يؤدي إلى انتشار الأخبار المزيفة على نطاق واسع، خصوصًا مع التزايد المستمر في استخدام الحسابات الآلية التي تسهم في تضخيم المحتوى المضلل بشكل يصعب السيطرة عليه. وهذه المعضلة تثير تساؤلات حول مسؤولية هذه الشركات ومدى التزامها بحماية العملية الانتخابية.
الحاجة لاستراتيجيات مبتكرة
تستدعي مواجهة هذه التحديات ضرورة ابتكار استراتيجيات شاملة تجمع بين التكنولوجيا والسياسات العامة، بما في ذلك تطوير تشريعات تمنع إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات السياسية. وتظل الحاجة ماسة إلى دعم المؤسسات الإعلامية بموارد كافية لتسريع عملية التحقق من الحقائق ونشر الوعي بين الجمهور، مما يساعد في تمكين الأفراد من اكتشاف المحتوى المضلل بأنفسهم.
أمثلة بارزة للتزييف وحملات التضليل
المكالمات الصوتية المزيفة
استُخدمت تقنية التزييف العميق في إنشاء مكالمات صوتية مزيفة نُسبت إلى الرئيس بايدن، حيث استهدفت هذه المكالمات آلاف الناخبين في نيوهامبشير، حاثةً إياهم على عدم التصويت في الانتخابات التمهيدية، مما أثار مخاوف واسعة من تأثير هذه المكالمات على ثقة الناخبين ونزاهة العملية الانتخابية.
الفيديوهات والصور المفبركة
ومن بين الأدوات الأخرى التي استُخدمت في التضليل كانت الفيديوهات والصور المزيفة، حيث تم تداول صور تظهر دونالد ترامب مع شخصيات مثيرة للجدل، بهدف خلق حالة من الجدل والتشكيك. هذا النوع من التضليل يلعب على وتر العواطف ويهدف إلى التأثير على قرارات الناخبين بطريقة غير مباشرة، مما يزيد من تحديات التمييز بين الواقع والمزيف.
تأثير الجمهور في نشر الدعاية عبر منصات التواصل الاجتماعي
أصبحت مشاركة الجمهور في نشر المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة متزايدة تُعرف بدعاية المشاركة، حيث يسهم الأفراد في نشر رسائل دعائية سواء بقصد أو بدون قصد. وفي هذه الظاهرة، يُسهم الأفراد في توسيع دائرة تأثير المحتوى الدعائي، ويعزز من انتشاره وسرعة وصوله للجمهور المستهدف. ويمثل هذا التداخل بين الأفراد والمنصات الرقمية تحديًا جديدًا، إذ أن التفاعل الجماهيري يسهم في تحويل المعلومات غير الدقيقة إلى مواد يراها الجمهور على أنها موثوقة.
بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية وتأكيد النتائج النهائية، والتي أظهرت تقاربًا شديدًا بين المرشحين من حيث عدد الأصوات، تجلت آثار التضليل الرقمي بوضوح، حيث أشارت الإحصائيات إلى أن المعلومات المضللة قد لعبت دورًا لا يستهان به في توجيه آراء بعض الناخبين. ففي بيئة سياسية مستقطبة، يمكن لمقاطع الفيديو المزيفة والصور المفبركة أن تؤثر على نسب التصويت ولو بقدر بسيط، لكنه قد يكون حاسمًا في معركة ضيقة كهذه.
وقد سجلت جهات الرقابة ووكالات الأمن الإلكتروني الأمريكية تزايدًا غير مسبوق في حملات التضليل التي استهدفت الولايات المتأرجحة، مما زاد من حالة الشك بين الناخبين وأدى إلى ارتفاع معدل الامتناع عن التصويت لدى البعض. ورغم الجهود المبذولة للتصدي لهذا الخطر عبر التعاون بين الجهات الحكومية والمنصات الرقمية، تظل الحاجة إلى تطوير استراتيجيات شاملة وشراكات بين القطاعين العام والخاص أمرًا ملحًا لمواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة، حيث أصبح من الضروري تضافر الجهود التقنية والتشريعية للتصدي لهذه التحديات. ومع ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إنتاج وتضخيم المحتوى، تحتاج الولايات المتحدة إلى تطوير إطار قانوني وتنظيمي يضمن حماية نزاهة الانتخابات، ويعيد بناء الثقة بين الجمهور والمؤسسات.
أمام هذه التحديات، يبرز سؤال مهم حول مستقبل العملية الديمقراطية وقدرتها على الصمود في وجه هذا النوع من التهديدات. ومع تصاعد الدعوات لإصدار تشريعات جديدة تُحكم الرقابة على المحتوى الرقمي وتضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية، يبدو أن الولايات المتحدة على أعتاب مرحلة جديدة، حيث لم يعد الأمر متعلقًا فقط بنزاهة الانتخابات، بل أصبح مسألة أمن قومي وضرورة لحماية مستقبل النزاهة الانتخابية من الخطر مانهاتن القادم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي .