الــــــــبـــــلاغ الـــــــقــــرآنــي عـــن الــــفــــــســــاد
اعداد : السفير بلال المصري – المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
التعريف الإسلامي المنُبثق عن آيات بالقرآن الكريم يظل هو التعريف الأدق حتي علي عموميته لأن المرء ببساطة يمكنه إستنزال بيئة الفساد في هذا المجتمع أو ذاك علي هذه التعريف فيجده مُعبراً وواصفاً للحالة , كما أن التعريفات المُتعارف عليها تقصر الفساد علي الجانب المالي وإستغلال النفوذ الإداري والسياسي , وهي في تقديري القشرة أو الغلاف الخارجي للفساد , فأصل الفساد يكمن في العقيدة والتي مسكنها الضمير, فإذا فسدت العقيدة فسد الضمير وذوي بحيث لم يعد قادراً علي تحمل مشاق الطريق المُستقيم كثير الإبتلاءات التي تتطلب من المرء كي يتجاوزها أن يتخلي عن الأثرة وإشباع غرائزه الأولية بغير الحق إن حادت به عن هذا الطريق , فأقدم القوانين علي الإطلاق هي التي أبلغها أنبياء الله سبحانه وتعالي لبني البشر وهي مُؤسسة علي قاعدتين لا ثالث لهما : الحلال والحرام فالضمير الإنساني مجبول علي التعرف عليهما فيما القوانين الوضعية تعبر عن زمانها وصيغت لتفي بمتطلبات السلطة الزمنية التي وضعتها وهي كنتيجة قوانين وقتية ويُتوقع دائماً الخروج عن نصوصها هذا إن لم تكن بهذه النصوص ثغرات تكفل ذلك بحيث لا يكون هؤلاء الخارجون من هذه الثغرات تحت طائلة هذه القوانين , ولا يعني ذلك أن القوانين معيبة بصفة مُطلقة وإنما يعني أن الأبنية القانونية التي تمثل جدران المجتمعات والحامية بقوة لبنيانها لا تفي بتحقيق فــــعال لهدف الحماية الكافية لهذه المجتمعات من هؤلاء الفاسدون ممن يجب وصفهم بالمجرمين .
الـــــشــــــيــطــان كــــمــــصـــدر أســـــاســــي لـلــفـــســــاد :
هناك كثير من الآيات بالقرآن الكريم تحدد كنه الشيطان خلقه ودوره ومآله ومن بين هذه الآيات ما يجيب عن معظم هذا السؤال المُشار إليه ومنها الآية 22 من سورة إبراهيم ونصها “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي” وفي تفسير الإمام الشعراوي لهذه الآية قال :
” نفى الشيطان أن يكون له سلطان على ابن آدم والسلطان – كما نعلم – إما سلطانَ قَهْر أو سلطانَ إقناع وسلطان القَهْر يعني أن يملك أحدٌ من القوة ما يقهر به غيره على أنْ يفعلَ ما يكره بينما يكون كارهاً للفعل أما سلطان الحجة فهو أن يملك منطقاً يجعلك تعمل وفق ما يطلبه منك وتحب ما تفعل وهكذا يعترف الشيطان للبشر يوم الحشر الأعظم ويقول : أريد أنْ أناقشكم ؛ هل كان لي سلطان قَهْريّ أقهركم به ؟ هل كان لي سلطان إقناع أقعنكم به على اتباع طريقي ؟ لم يكن لي في دنياكم هذه ولا تلك فلا تتهموني ولا تجعلوني ” شماعة ” تُعلِّقون عليّ أخطاءكم فقد غويتُ من قبلكم وخالفتُ أمر ربي ولم يكن لي عليكم سلطان سوى أن دعوتُكم فاستجبتم لي وكل ما كان لي عندكم أنِّي حرَّكْتُ فيكم نوازع أنفسكم وتحرَّكت نوازع أنفسكم من بعد ذلك لِتُقبِلوا على المعصية إذن : فالشيطان إما أنْ يُحرِّك نوازع النفس أو يترك النفس الفاجرة و الأمارة بالسوء تتحرك من تلقاء نفسها بنوازعها إلى المعصية وهي كافية لذلك وقد يكون ما أشارت إليه الآيتين التاليتين من سورة يوسف له علاقة بهذا المعني إذ يقول الله تعالي في محكم آياته : ” قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) , فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ” فالنبي يوسف بشر وفيه نوازع البشر والشيطان محيط به من جهة نوازعه الغريزية التي قد تدفعه دفعاً للمعصية .
أما ” نَزْغ الشيطان “فهو أن ينتقل الشيطان من معصية إلى أخرى محاولاً غواية الإنسان إنْ وجده رافضاً لمعصية ما ؛ انتقل بالغواية إلى غيرها لأن الشيطان يريد الإنسان عاصياً على أيِّ لَوْن فالمهم أنْ يعصي فقط لذلك يحاول أن يدخل الإنسان من نقطة ضعفه فإنْ وحده قوياً في ناحية اتجه إلى أخرى ويعلن الشيطان أنه ليس المَلُوم على ذلك : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ… } [إبراهيم: 22] , فالملُوم هنا هو مَنْ أقبل على المعصية لا مَنْ أغوى بها .
إن سورة الإنسان تكشف العلاقة بين الشيطان الرجيم والإنسان وتتخطي حجاب الأزمنة والمرجفين في الأرض فتقول ما نصه “هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا , إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا , إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفور ا, إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا , إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا , عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا , يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا , فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا , وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا , متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريراً , ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا , ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير , قوارير من فضة قدروها تقديرا , ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا , إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ” صدق الله العظيم .
كما أن سورة التين تُظهر لنا عاقبة الفساد يصفة واضحة مُحددة إذ تقول هذه السورة الجميلة التي أقسم في بدايتها سبحانه وتعالي بالتين والزيتون وهما من الحاصلات سهلة الزراعة بشكل مُلفت ومُثير : “وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ (3) لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ (4) ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ (5) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ (7) أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ (8)”فالله يرد الفاسدين مهما كان وضعهم الإجتماعي إلي مكانتهم الواقع كسفلة ولهذا كان عبارة “أسفل سافلين” فهم وإن إرتقوا بمعونة الفساد للذروة في المجتمع البشري إلا أن مكانتهم الحقيقية هي أسفل سافلين والدرك الأسفل في العالم الأخروي عند الله سبحانه وتعالي بعدما يُحاسبوا ويأخذون كتابهم بشمالهم وربما في هذه الدنيا في مرحلة أخيرة من حــياة هؤلاء .
الأنماط الخمسة للنفس البشرية :
ورد في نص بعض آيات القرآن الكريم ذكر للنفس البشرية التي إستخلفها الله تعالي في الأرض لعمارة الكون وهذه الأنماط خلافية في عددها تتضمن وفقاً لذلك الانماط الخمس التالية أو بعضها وهي :
النمط الأول : النفس الفاجرة : وهي التي قال فيها الله تعالي في سورة الشمس : ” فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا “آية 8 .
النمط الثاني : النفس الأمارة بالسوء وهي التي أشار إليها تعالي في سورة يوسف بقوله جل وعلا : ” وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) , وﻫﻰ ﺍﻟﺘﻰ ﻻ ﺗﺄﻣﺮ ﺇﻻ ﺑﻜﻞ ﺳﻮﺀ , ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻲ ﻣﺼﺪﺭ ﺍﻟﺸﺮ ﻛﻠﻪ .
النمط الثالث : النفس اللوامة ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﺚ ﺍﻟﻨﺪﻡ ﻋﻠﻲ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺸﺮ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ وهي تمثل ﺻﺤﻮﺓ ﺿﻤﻴﺮ ﺍﻟﻌﺒﺪ فهي نفس تلوم ذاتها وإن إجتهدت في الإحسان والعمل الصالح وقال الحسن البصري ” إن البار لا تراه إلا لئماً لنفسه وإن الفاجر يمضي قدماً لا يُعاتب نفسه” والنفس اللوامة لا تستقر علي حال من قلقها وخوفها أن تكون قصرت فيما يجب عليها من بلوغ الكمال الديني والأخلاقي المطلوب منها وهي تحي في هذه الدنيا لا يدعها خالقها من فضله ولا يمنعها من عدله فهو سوف ينقلها إلي دار كرامته ويغمسها في في كوثر رضاه ورحمته .
إن قسم الله تعالي بالنفس اللوامة ثناء عليها وتنويه بــســمـو شأنها , وقالوا إن المراد بها النفس التي لا تزال تلوم ذاتها وإن إجتهدت في الإحسان والعمل الصالح , وقال الحسن البصري ” إن البار لا تراه إلا لا ئماً لنفسه , وإن الفاجر يمضي قدماً لا يُعاتب نفسه” , وقد ذكر الوحي في سورة الفجر أختاً للنفس اللوامة , وهي النفس المُطمئنة وهي الثابتة في عملها المُوقنة بما وعد ربها , وهذه النفس علي فضلها وعلو منزلتها عند رها مذ قال لها (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) , يوشك أن تكون أختها , والنفس اللوامة أفضل منها وأعلي منزلة , لأن اللوامة لا تستقر علي حال من قلقها وخوفها أن تكون قصرت فيما يجب عليها من بلوغ الكمال الديني والأخلاقي المطلوب منها .
النمط الرابع : النفس المُطمئنة وهي تلك التي خاطبها الله عز وجل فقال : ” یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ (٢٧) ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِیَةࣰ مَّرۡضِیَّةࣰ (٢٨) ” سورة آية الفجر , وهي المُؤمنة الذاكرة لله جل وعلا والتي قال فيها سبحانه وتعالي : ” الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ” سورة الرعد آية 28 .
النمط الخامس : النفس التقية : “فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ” سورة الشمس آية 8 وﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻲ ﺍﺣﺴﺎﻥ , ﻓﻼ ﺗﻄﻤﺌﻦ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﺨﻴﺮ ﻭﺫﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ تعالي .
وهناك في تقديري علاقة تداخلية بين النمطين الأول والثاني أي بين النفس الفاجرة وهي أدني النفوس وهي مستودع الشر كله وهي مجبولة غريزياً علي الشر فهي مُنتجة له وبين النفس الأمارة بالسوء وهي نفس قد يأتي عليها يوم وتقلع عن الأمر بالسوء فالله تعالي قد يفتح لها باب من أبواب رحمته عندما تتوب : ” إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴿160 البقرة﴾ فبالآية وعد إلهي بالإٍستثناء وهذا الإستثناء إرادة إلهية ليس لمخلوق أن يعلم أسبابه فالذي خلق هو الذي يعلم وحده متي وأين ولماذا يفيض برحمته عن من أمروا أنفسهم بالسوء والقرآن الكريم أشار علي لسان سيدنا يوسف أن النفس أمارة بالسوء وهو يخشي أن تكون نفسه كذلك ومن ثم إستجدي رحمة الله تعالي له من هذه النفس كي لا يقع في براثنها : ” وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( سورة يوسف الآية 53) فالآية تشير إلي ذلك .
من جهة أخري فالنفس النفس اللوامة والنفس المُطمئنة والنفس التقية نفوس بينها وبين بعضها البعض قاسم مُشترك هو الميل نحو الخير والصلاح والإصلاح والصراع علي الأرض دائم بين النمطين الأول والثاني وهذه الأنماط الثلاث وهذه النفوس كلها يستهدفها الشيطان الذي لم يستثن حتي الأنبياء من وسوسته وغوايته ففي سورة يوسف قال الله تعالي عن سيدنا يوسف في محنة غواية الشيطان لإمرأة العزيز وله : ” وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ” (سورة يوسف الآية 24 ” , وفي آيتين آخريين بنفس السورة قال النبي يوسف عليه السلام : (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ” 33″ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ “34”) فطبيعة النفس تعزز درجة المقاومة ورفض الإنسياق وراء الغواية الشيطانية وهذه المقاومة تزداد مع طبيعة النفس فهي في ذروتها مع النفس التقية فهذه النفس ألهمها الله تعالي التقوي أي أن تقواها مُستودعة فيها بأمر إلهي لا علاقة للعوامل المُكتسبة بتكوينها فهي خلقة , أما النفس المُطمئنة فهي نفس مُستودع فيها الإيمان بالله تعالي وتطمئن بذكر الله تعالى وبثوابه راضية بقضاءه ومع ذلك فالشيطان يعطي أولوية في غواياته للنفوس التقية والمُطمئنة واللوامة فهي نفوس تبدي مقاومة عالية ومستمرة لغوايته أما النفسين الفاجرة والأمارة بالسوء فمقاومتهما أقل بطبيعة الحال , وفي هذا أشار القرآن الكريم إلي مقالة الشيطان : “قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ”(سورة ص الآية 82) لكن الشيطان لأنه يدرك صعوبات مهمته الإغوائية إستدرك فقال في الأية 83 من نفس السورة : ” إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ “وهو بالضبط ما يُشير ثانية إلي أن علم الله تعالي بالنفس البشرية وميلها للصلاح والإصلاح هو الرد الأمثل علي الملائكة لرب العالمين الذين :”قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ” فالله تعالي سوي النفس البشرية وألهمها فجورها وتقواها لإبتلاء وإمتحان بني آدم في المعركة الدائرة بين الخير والشر بين الإصلاح والمًصلحون والفساد والمفسدون إلي يوم يُبعثون ولم يكن هذا الصراع إرادة إلهية لا بديل لها , فالله تعالي صاحب المشيئة المُطلقة هو الغالب علي أمره وهو كما وصف نفسه سبحانه : ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ” (سورة الأنعام الآية 18) وهو القائل وعز من قال : ” وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (سورة السجدة الآية 13) .
هذه الأنماط الخمس للنفس البشرية مُعرضة بدرجة أو بأخري لغواية الشيطان الرجيم لكن – وكما أشرت- يجد الشيطان أعلي درجات المقاومة من النفس التقية يليها النفس المُطمئنة فالنفس اللوامة لكن وسائله الإغوائية تجد إستجابة تلقائية من النفس الفاجرة يليها النفس الأمارة بالسوء التي غالباً ما تُخضع غواية الشيطان لها بمصفوفة المصالح الشخصية والمنفعة المباشرة حتي تصدر الأمر بالنزوع نحو العمل السيئ المُفعم بالشر , والشيطان لا يسجل أي نجاح في مهمته الإفسادية إلا عندما يتبعه من اغواهم من بني البشر , مصداقاً لقوله سبحانه وتعالي : ” إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ” سورة الحجر آية 42 , والشيطان نفسه يدرك محدودية إرادته ومن ثم قدراته , فسلطان الله تعالي عليه مُطلق وسرمدي وهو ما قاله الشيطان نفسه بنص القرآن الكريم : ” كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ” سورة الحشر آية 16, والشيطان لا يستثني أي من الإنماط الخمسة المُشار إليها في ممارسته للغواية , ولذلك خاطب الله تعالي الذين آمنوا فقال لهم : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ” (سورة النور آية 21) .
الحكم الإلهي أن المعركة بين الفاسدين والمصلحين ستنتهي لصالح المصلحين : “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ “(سورة الأنبياء الآية 105) وهو حــــكـــم بطبيعته الألهية حكم نـهـائي لا رجــــعـــة فيــه Ultima et irrevocabilis domination وذلك بالرغم من سطوة الفاسدين وتنظيماتهم وسيطرتهم ونفوسهم الفاجرة الأمارة بالسوء , ” أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ “(سورة التوبة الآية 78) فالمعركة التي مازالت تدور رحاها بين الفاسدين والمصلحين .
تـضـمـن الـقـرآن الـكـريم آيـــات مُتعددة مختلفة تشير وبصفة مُباشرة وواضحة إلي أنواع عـدة من فساد بني آدم لـكن كان أول بــــلاغ قـــرآني عن الــفسـاد كـان بـلاغـاً إسـتـبــاقــيـاً مـصـدره المـــلائـكــة ومـــكــان صـــدوره الحــضـــرة الألـــهـــيـــة في الــمـــلا الأعـــلي أما تـاريــخـــه فهو ســـابق علي خـــلــق ســيــدنـــا آدم أبو الـــبـــشر وهذا الــبـــلاغ كــان علي الـنــحــو الآتي في الـنـص الـــقـــرآني :
” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” البقرة (30)
هذه الآية آية محورية في تتبع نشأة الفساد في الأرض و تأكيد عــلي أن أمر الفساد وتداعياته واقع في علم الله سبحانه وتعالي من قبل الخلق ومع ذلك أوجد الله تـعالي الـصلاح لـتكون عملية الـخـلق مُتـــعـــادلـة وفي الوقت نفسه شـــامــلة.
في تفسيره لهذة الآية في ” ظلال القرآن” يقول الأستاذ سيد قطب :
” …. قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ ” قال الأستاذ قطب “ويُوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال , أو من تجارب سلبقة في الأرض , أو من إلهام البصيرة ما يكشف لهم عن شيئ من فطرة هذا المخلوق أو من مُقتضيات حياته علي الأرض , وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيُفسد في الأرض وأنه سيسفك الدماء … ثم هم – بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المُطلق , والسلام الشامل – يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له هو وحده الغاية المُطلقة للوجود وهو وحده العلة الأولي للخلق … وهو مُتحقق بوجودهم هم يسبحون بحمد الله ويُقدسون له ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العُليا في بناء هذه الأرض وعمارتهاوفي تنمية الحياة وتنويعها وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها , علي يد خليفة الله في أرضه هذا الذي قد يُفسد أحياناً وقد يسفك الدماء أحياناً ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل خير النمو الدائم والرقي الدائم , خير الحركة الهادفة البانية , خير المحاولة التي لا تكف والتطلع الذي لا يقف والتغيير والتطوير في هذا المُلك الكبير , عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء والخبير بمصائر الأمور : “قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” ويستطرد الأستاذ سيد قطب فيشير إلي أن الملائكة بنص الآية التالية سجدوا إمتثالاً للأمر العلوي إلا إبليس “أبي وأستكبر وكان من الكافرين وهنا تتبدي خليقة الشر مُجسمة : عصيان الجليل سبحانه والإستكبار عن معرفة الفضل لأهله والعزة بالإثم والإستغلاق عن الفهم ويُحي السياق أن أبليس لم يكن من جنس الملائكة إنما كان معهم فلو كان منهم ما عصي , فصفتهم – أي الملائكة – أنهم ” لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ” … والإستثناء هنا لا يدل علي أنه من جنسهم , فكونه معهم يجيز هذا الإستثناء كما تقول : جاء بنو فلان إلا أحمد وليس منهم إنما هو عشيرهم وأبليس من الجن بنص القرآن والله خلق الجن من مارج من نار وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة ,,, والآن لقد إنكشف ميدان المعركة الخالدة المعركة بين خليفة الشر في إبليس وخليفة الله في الأرض المعركة الخالدة في ضمير الإنسان المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته ويبعد عن ربه .
قال الإمام الشعراوي في تفسيره لهذه الآية : ” الله تعالى قبل أن يخلق آدم حدد مهمته فقال : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَة والآية الكريمة التي نحن بصددها لم تأت في الأعراف ولا في الحجر ولا في الإسراء ولا في الكهف ولا في طه وبهذا نعرف أنه ليس هناك تكرار.. فالله سبحانه وتعالى أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة هنا لابد لنا من وقفة أخلق آدم كفرد أم خلقه الله وكل ذريته مطمورة فيه إلى يوم القيامة ؟ إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] , الخطاب هنا للجمع لآدم وذريته فكأنه سبحانه وتعالى يشير إلى أن الأصل الأول للخلق آدم وهو مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلى أن تقوم الساعة فساعة خلق آدم كان فيه الذرات التي سيأخذ منها الخلق كله هذا عن هذا.. حتى قيام الساعة ولقد قلتُ إن كل واحد منا فيه ذرة أو جزئ من آدم فأولاد آدم أخذوا منه والجيل الذي بعدهم أخذ من الميكروب الحي الذي أودعه آدم في أولاده والذين بعدهم أخذوا أيضا من الجزيء الحي الذي خُلِق في الأصل مع آدم وكذلك الذين بعدهم والذين بعدهم والحياة لابد أن تكون حلقة متصلة كل منا يأخذ من الذي قبله ويعطي الذي بعده ولو كان هناك حلقة مفقودة لتوقفت الحياة كأن يموت الرجل قبل أن يتزوج فلا تكون له ذرية من بعده تتوقف حلقة الحياة فكون حلقة الحياة مستمرة دليل أنها حياة متصلة لم تتوقف , ومادامت الحياة من عهد آدم إلى يومنا هذا متصلة فلابد أن يكون في كل منا ذرة من آدم الذي هو بداية الحياة وأصلها وانتقلت بعده الحياة في حلقات متصلة إلى يومنا هذا وستظل إلى يوم القيامة فأنا الآن حي لأنني نشأت من ميكروب حي من أبي وأبي أخذ حياته من ميكروب حي من أبيه وهكذا حتى تصل إلى آدم ، إذن فأنت مخلوق من جزيء حي فيه الحياة لم تتوقف منذ آدم إلى يومنا هذا ولو توقفت لما كان لك وجود إذن فحياة الذين يعيشون الآن موصولة بآدم لم يطرأ عليها موت والذين سيعيشون وقت قيام الساعة حياتهم أيضا موصولة بآدم أول الخلق والحق سبحانه وتعالى حين أمر الملائكة بالسجود لآدم فإنهم سجدوا لآدم ولذريته إلى أن تقوم الساعة وذرية آدم كانت مطمورة في ظهره وشهدت الخلق الأول إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيه جزئية جديدة لقصة الخلق , وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن يقول أنه عند خلق آدم خلقه خليفة في الأرض والكلام هنا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحدا في الخلق بدليل أنه قال (إني جاعل) إذن فهو أمر مفروغ منه ولكنه إعلام للملائكة …. والله سبحانه وتعالى عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة فهناك المدبرات أمرا والحفظة الكرام وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد فكان الإعلام لأن للملائكة عملا مع هذا الخليفة .
قد يقول بعض الناس أن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس نقول ما يدريك أن وراء كل ناموس ملكا ؟ , ولكن هذا الخليفة سيخلف من ؟ قد يخلف بعضه بعضا في هذه الحالة يكون هنا إعلام من الله بأن كل إنسان سيموت ويخلفه غيره فلو كانوا جميعا سيعيشون ما خلف بعضهم بعضا وقد يكون الإنسان خليفة لجنس آخر ولكن الله سبحانه وتعالى.. نفى أن يخلف الإنسان جنسا آخر واقرأ قوله جل جلاله: {… إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ}.. [إبراهيم: 19-20] والخلق الجديد هو من نوع الخلق نفسه الذي أهلكه الله والله سبحانه وتعالى يخبرنا أن البشر سيخلفون بعضهم إلى يوم القيامة.. فيقول جل جلاله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] ولكن هذا يطلق عليه خَلْفٌ ولا يطلق عليه خليفة والشاعر يقول :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق وجعل الكون مسخرا له فكأنه خليفة الله في أرضه أمده بعطاء الأسباب فخضع الكون له بإرادة الله وليس بإرادة الإنسان والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي : (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك.. وإلا تفعل ملأت يدك شغلا ولم أسُدّ فقرك) , إذن كلمة خليفة تأخذ عدة معان , ماذا قالت الملائكة : {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} , كيف عرف الملائكة ذلك ؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض ولكن كلمة سفك وكلمة دم كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد ؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة والله سبحانه وتعالى يقول : {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم}.. [الحجر: 27] , فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان وقوله تعالى : {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} , معنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك أما علم الله سبحانه وتعالى .. فهو أزلي لا نهائي , ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنا أم أسروه في أنفسهم ؟ سواء قالوه أم أسروه فقد علمه الله لأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون وأنه يعلم السر وأخفى فما هو السر وما هو الأخفى من السر؟ السر هو ما أسررته إلى غيرك فما أسر به إلى غيري فهو السر وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد هو أخفى من السر فلا يقال أسررت إلا إذا بحت به لغيري , أما ما أخفيه في صدري فلا يعلمه أحد إلا الله فهذا هو ما أخفى من السر , وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أراد أن يعطي القضية بعدها الحقيقي وقد حكى القرآن الكريم قول الملائكة : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} , والتسبيح هو التنزيه عما لا يليق بذات المنزه والتقديس هو التطهير.. مأخوذ من الْقَدَس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به ولذلك نحن نقول سُبّوح قُدوس سُبّوح أي مُنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وقدوس أي مُطَهَّرْ .. التسبيح يحتاج إلى مُسبِّح وإلى ما نسبحه والملائكة قالوا : {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} , وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى.. والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة.. والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده , لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى فلا تسمع في حياتك أن إنسانا قال لبشر سبحانك وهكذا صرفت ألسنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى وقول الملائكة : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} كأن نقول سبحان الله وبحمده ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته.. فلا تشبّه بذات وفي صفاته فلا تشبّه بصفات وفي أفعاله فلا تشبه بأفعال.. ولكن ما معنى كلمة وبحمده ؟ معناها أننا ننزهك ونحمدك أي يا رب تنزيهنا لك نعمة , ولذلك فإني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك .. والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار ولأنك يا ربي قدوس طاهر لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر , إنه عرّفنا معنى نسبح بحمدك ونقدس لك ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال : {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ولم يطلقها هكذ ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع .
ولبيان أكثر لآيات الخلق الأول أورد فيما يلي ما كتبه الأستاذ عبد الكريم الخطابي في مُؤلفه : “التفسير القرآني للقرآن” إذ قال:” تفسره للآية (30) من سورة البقرة “حين أصبحت الأرض صالحة لإستقبال الكائن البشري أعلن الله تعالي في الملاء الأعلي هذا الخبر وآذن الملائكة بأن كائناً بشرياً سوف يظهر في الكوكب الأرضي وستولي قيادة هذا الكوكب ويكون خليفة لله فيه فالآية صريحة في أن هذا الكائن البشري أرضي المولد والنشأة والموطن وأنه من طينة الأرض نشأ وفي الأرض يتقلب وفي شئونها يتصرف : “إني جاعل في الأرض خليفة “ولكن ًآدم وهو إبن الماء والطين لا يتوقع منه إلا أن ينضح بما في الماء والطين وبما يتخلق من الماء والطين من طبائع بهيمية تُغري بالعدوان والفساد وهذا ما جعل الملائكة يقولون هذا القول بين يدي الله تعالي في آدم وما يُتوقع منه فما هو إلا إنسان في مسلاغ حيوان ذي مخالب وأنياب وذلك قبل أن يكشف لهم الله عن ملكات أخري لهذا الكائن الترابي لا يملكها الملائكة في عالمهم العلوي عالم النور والصفاء .”
الإسلام دين إصلاح وحب لا كراهية :
لقد أطلق الله تعالي حبه سبحانه وتعالي للمصلحين وللصلاح والإصلاح لكنه سبحانه وتعالي أطلق عدم حبه ولا يجمل القول بكراهية الله – حاشا لله – للفساد والمُفسدين أن نقول هذا عن الرحمن الرحيم فـــهــو ســبــحــانه وتــعـــالي لا يكــره خــــلــقــه حتي هؤلاء الــعـــصـــاة والـفـاسديــن فالقرآن لم يقرن لفظ الكراهية بالله تعالي إلا في موضعين به وكان موضوع الكراهية سلوك أو فعل وليس لبشر أو لــمــخــلـوق وهاتين الآيتين هما :
1- “وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ” (الآية 46 من سورة التوبة﴾
2- ” كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا” ﴿الآية 38 من سورة الإسراء﴾
وفي هذا دليل دامغ بأن الإسلام دين حب لا حيز فيه للكراهية للبشر أو حتي لمن ينتهكون أوامر الله تعالي ونواهيه ففيما عدا هاتين الآيتين نجد أن لفظ “يكره ” أو الكراهية لم تُقرن به سبحانه وتعالي بل إستبدلها سبحانه بكلمة : “لا يحب”وهو ما يؤكد رحمته وإشفاقه علي عبيده فمن دقة التعبير القرآني عدم إستخدام لفظ” يكره” مقرونة بالله الواحد الأحد اللطيف بعباده فسبحانه يقول لعباده كافة ويخصهم بالظالمين منهم ويقول لهم: (إن الله لا يحب الظالمين) ؟ أي يكره الظالمين بل إن الله تعالي نهي رسوله الكريم عن إكراه الناس حتي يُؤمنوا فقال في محكم آياته : “أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”﴿سورة يونس . آية 99)فلم تكن هناك ثمة آية ورد في نصها أن الله سبحانه وتعالي “يكره هؤلاء الكافرون” فهناك فرق في أسلوب الخطاب بين أن تقول لا يحب أو يكره فمعنى صيغة لا يحب الظالمين أنه يفتح أمامهم المجال لو أنهم تخلوا عن صفة الظلم هذه عندئذ سيحبهم الله تعالى وهذا من باب رحمة الله تعالى بالناس أجمعين أما صيغة يكره فهي تسد الأبواب وتغلقها أمام الظالمين كأن الله تعالى يوجه خطابه إلى الظالمين أو الكافرين أو غيرهم أنه يا من فيه صفة من هذه الصفات التي لا يحبها الله تعالى تخلّوا عن هذه الصفات حتى أحبكم وكأنه سبحانه وتعالى يفتح الباب أمام الناس …. كل الناس حتى يشملهم حبه تعالى لهذا نجد القرآن الكريم يُشير إلي عدم حب الله تعالي للفاسدين ومن يقترفون إثم الفساد والإفساد والمُعتدي والخوان الفرح شماتة والمختال الفخور والظالم والمُسرف والكفور و المُستكبر والأثيم والمُجاهر بالسوء في الآيات التالية :
“وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ” (سورة البقرة . الآية 205)
“وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” ﴿١٩٠ . سورة البقرة﴾
إ”إن اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا” ﴿١٠٧ النساء﴾
هناك 12 أخري في الــقــرآن الكريــم تتضمن كلمتي : لا يــحــب بدلاً من إستخدام فـعـل : يـــكـــره .
خطاب الله مباشر للصالحين وغير مباشر للفاسدين :
” سورة يونس الآية 81 , وذلك خلافاً لما ورد في شأن الصالحين الذين خاطبهم المولي عز وجل خطاباً مباشراً كما لو كانوا في حضرته في السماء العلي بقوله تعالي لهم في آيات كثيرة مـــنـــهـــا :
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم” ( البقرة آية 104)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين ” ( البقرة آية 153)
” يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون” (البقرة آية 172)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم ” ( البقرة آية 178)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون” (البقرة آية183)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين “( البقرة آية 208)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون” (سورة البقرة 254) .
مثلما تعرض القرآن الكريم في آيات عدة عـن الفساد والإفساد والمُفسدين تعرض أيضاً في آيات أخـري عن الصلاح والإصلاح والمُصلحين وهذه الآيـــات – ولــهــذ مــغزي إيـجـابي طـبـعاً – أكثر عدداً من تلك التي تحدثت عن الفساد والإفساد والمُفسدين ومآلاتهم ومن الضروري ونحن نعرض لموضوع الفساد والمفسدين وتناول القرآن الكريم له أن نضع ثبت لتلك الآيات التي تناولت قضية الإصلاح والمصلحين علي الأٌقل لبيان أن الإسلام دين إصلاحي بطبيعة منهجه الفطري وهو دين إصلاحي بالمعاني الواردة نصاً آياته لا بلسان هؤلاء الذين يناصبون الفطرة العداء ممن يعانون من نقص في العقل وبالتالي في الإدراك لصحيح هذا الدين الذي يتضح من كل ما تقدم أنه دين التوازن المنهجي فبقدر ما عرض وتعرض القرآن الكريم لقضية الفساد والمفسدين تعرض ربما بمساحة أكبر من النصوص القرآنية لقضية الإصلاح ومن يصلحون والآيات التالي بيانها والتي تناولت قضية الإصلاح والمصلحين لا حاجة لنا – بحكم أن موضوعنا يتعلق بالفساد والمفسدين – لبيان تفسير أئمتنا الإجلاء لها إكتفاء بالحد الأدني من تفسيرها الذي يستطيعه المسلم المتوسط ووهو حد قد يُمكنه من إستنباط مقاصد القرآن الكريم من بيان قضية الإصلاح ومن ينهضون بها من المصلحين علي مر الزمان إذ أن القرآن الكريم وآياته يبسط معانيه علي مساحة الكون قاطبة وعلي شريط الزمن من بدء الخليقة وسكني الإنسان للمعمورة حتي ما بعد نهاية الحياة الدنيا بإستدعاء البشر من أجداثهم توطئة لحسابهم الحساب الأوفي .
إن النظم التي يستشري فيها الفساد طاردة بطبيعة تكوينها وبدافع من أهدافها الأبعد مدي للتخلص من قوي الإصلاح المُقاومة والمُعارضة للفساد والفاسدين في أي مجتمع وهو نهج تبنته الأنظمة الفاسدة من زمن بعيد حتي يومنا هذا ومن بين هذه الأنظمة نظام أهل مدين وقد أوضح رب العزة في مُحكم آياته ذلك في الآية88 من سورة الأعراف ونصها : ” قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ “والتهديد الذي وجهه أهل مدين كان مُوجهاً للنبي شعيب ومن آمن معه بدعوته المُضادة لفساد هذا النظام هذا النبي الذي كان يقود معركة ضد فسادهم وطغيانهم الذي يبدأ بالكفر بالله عز وجل وينتهي بفساد ذممهم في البيع والشراء وقطع الطرق والعدوان علي الآمنين , والشرط الوحيد لقبول نظام مدين الفاسد للنبي شعيب ومن آمن معه هو العودة لملة الكفر بالله سبحانه وتعالي وما ينبثق عن ذلك من إتباع الأساليب الفاسدة في البيع والشراء والعدوان علي الآخرين من خارج مجتمع مدين إنه نظام فساد مُتكامل الأركان قائم علي قاعدة الكفر ودعائم الغش والإحتيال والعدوانية ولم تكن النظم الإستعمارية ومنها الكيان الصهيوني بمختلفة عن مجتمع ” مدين” فهذه النظم قطعت طريق التنمية الحقيقية عن المجتمعات التي إحتلتها بقوة السلاح وليس من المناسب إطلاق صفة الإستعمار عليها فالإستعمار تعمير وهم لم يفعلوا ذلك ولم يحققوه لأصحاب الأراضي والبلاد التي إحتلوها إنما كان لأنفسهم ولشعوبهم حصراً فالله تعالي يقول في قرآنه :”وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ “(سورة هود الآية 61)إن الفاسدين والأنظمة الفاسدة لا تحتمل دعوة إصلاح واحدة فهي تريد ترسيخ منهج الفساد في المجتمع بحيث يكون عقيدة لدي كل أفراد هذا المجتمع لكن المرء يجد دائماً أن قوي الفساد إن تمتعت لفترة بحرية العمل فإنها لا شك تصطدم في وقت ما وفي ظروف غير مواتية لها بقوي الإصلاح في الإطار العام للمعركة الأزلية بين الخير والشر .
آيات القرآن الكريم عن الصلاح الإصلاح والمُصلحين :
كما تحدث المولي سبحانه وتعالي في القرآن الكريم عن الفساد والمفسدين , تحدث تعالي أيضاً عن الصلاح والإصلاح والمُصلحين وحديثه سبحانه وتعالي من الصلاح والإصلاح بيان واضح أن الأرض سخرها الله سبحانه وتعالي صالحة للعيش والسكني والتمتع كل بقدر ولكل إنسان نصيب منها منذ نشأتها وحتي يبعث الله الأرض ومن عليها ويردهم إليه يوم القيامة ولإن الصالحين والمُصلحين هم من يحافظون علي ناموس خلق الله تعالي للأرض لذلك وعدهم الذي لا يخلف وعده مصداقاً لقوله تعالي “وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (سورة الروم آية6) و”وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ” [الحج الآية47] وعدهم المُنعم سبحانه وتعالي بمكافأة علي عملهم هذا في الأرض وفي السماء .
هناك إرتباط مباشر بين الصلاح والإصلاح والصالحين والصالحات والمُصلحين وبين الإيمان كما هو واضح من الآيات القرآنية التالية ويكاد أن يكون هذا الإرتباط شرطي فلا صلاح وإصلاح حقيقي مُستديم إلا بإيمان نقي بالله الواحد الأحد وفيما يلي مـــثــال فقط الآيات المعنية فـهـذه الآيـات كـثـيـرة جـــداً كما ســبـق وأشـــرت :
“وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ” ﴿٢٥ البقرة﴾
“وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ” ﴿٨٢ البقرة﴾
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ” ﴿٢٧٧ البقرة﴾
“وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ” ﴿٥٧ آل عمران﴾
رؤية لمضمون ومغزي الآيات التي تناولت الصلاح والإصلاح والمُصلحين :
لا يمكن التعرض لقضية الفساد دون أن نشير لمواجهة الصالحين المؤمنين لها ومن الوجهة المبدئية ينبغي القول أن الفاسد من الممكن جداً أن يدين بدين ما لكنه أبداً لا يُعد مؤمناً بالله سبحانه وتعالي فلا يجتمع الفساد والإيمان في نفس واحدة والمؤمن ينفر من الفساد بطبيعته ولإن الفساد في حد ذاته قضية تم الإبلاغ عنها وسجلها القرآن الكريم قبل أن تطأ قدم الإنسان هذه الأرض لذلك نجد في القرآن الكريم أن الآيات التي تناولت قضية الإصلاح والمُصلحين أكثر عدداً من تلك التي تناولت قضية الفساد والمُفسدين وكما أشرت تبدأ بعض هذه الآيات بنداء الله تعالي لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو نداء حُرم منه هؤلاء الفاسدون والسبب المنطقي لهذا الإختلاف العددي في تناول القرآن الكريم للقضيتين وأيضاً في الإختلاف في الصياغة القرآنية المُتعلقة بالقضيتين مرجعه أن الآيات التي تناولت الفساد كانت من حيث المضمون آيات نهي آمرة ومُنذرة بسوء العاقبة والمصير وضمنها الله القاهر فوق عباده منتهي عدم حبه وعدم رضاه تعالي لهؤلاء الفاسدون وللفساد ذاته كموضوع وليس أدل علي ذلك من الآية التي تقول : “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”(سورة القصص الآية77) فيما الآيات التي وُجهت وتحدثت عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات تضمن بعضها إخطار من الخالق البارئ المُنعم بأنه تعالي يحب المؤمنين إذ قال في كتابه الكريم : “لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” ( سورة المجادلة الآية 22) , وقال تعالي : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( سورة المائدة الآية 54) كما أن الله تعالي يُوجه نداءه لقوم منحهم رضاءه عنهم هم هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقال تعالي عنهم “وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (سورة التوبة الآية100) وقال تعالي أيضاً : “جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (سورة البينة الآية 8) .
لماذا أرتبط ذكر الفساد بالأرض ؟ :
إرتبط ذكر الفساد والإفساد والفاسدين بنصوص آيات القرآن الكريم بالأرض فمعظم الآيات التي أشارت للفساد وللفاسدين حددت نطاق ممارساته ومداها ووجود الفاسدين والفساد والإفساد بأنه في الأرض وهو مالم يكن في حالة الإصلاح والمصلحين فلم يرتبط فعلهم بمكان ما وهو ما يتضح جلياً في الآيات التي تناولت القضيتين – وفي تقديري- أن الله سبحانه وتعالي عندما خلق آدم وحواء قال للملائكة أنه سبحانه سيمنح هذا الإنسان أول بني البشر الخلافة في الأرض تحديداً وليس في أي مكان آخر من الأكوان التي خلقها الله تعالي وبعد إخطارالملائكة وكان إخطاراً لمجرد العلم وليس للمشورة فالله الخالق سبحانه وتعالي قرر جعل خلافة الإنسان علي الأرض , لذلك أمرهم الله سبحانه وتعالي أن يسجدوا لآدم عليه السلام فصدعوا للأمر وأستجابوا برضي وعبادة للآمر إلا إبليس أبي السجود كبراً وحسداً منه وهو ما يتضح في الآية 30 من سورة البقرة : ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” , وقد تكون في إجابة الملائكة الكرام علي العلي القدير “بسابقة خلق” أخري ولهذا قالوا من فورهم : “قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ” أي أن الله تعالي خلق إنساناً بشكل ما وبتكوين مختلف نسبياً في مكان أو كون آخر وأتي أفعال فاسدة ولهذا كان ردهم الفوري علي الله حين أخبرهم جعل الإنسان خليفة في الأرض أن قالوا تعليقاً علي إخبارهم : فالله سبحانه وتعالي أخطر الملائكة بأن الإنسان سيكون خليفة علي الأرض ورد الملائكة الكرام بناء علي علمهم من الله تعالي أن الأرض هي مكان وموضوع خلافة الإنسان بأنه أي الإنسان سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء فيها ومعني الأرض في الآية 30 من سورة البقرة ينصرف إلي الكون أو كوكب الأرض , ومما يؤكد ذلك الآية 56 من سورة يوسف والتي ينصرف فيها معني الأرض إلي مصر تحديداً وفقاً لكل سياق السورة الكريمة إذ قال سبحانه وتعالي : “وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ “كذلك وعلي نحو مختلف تماماً لم تكن هناك إشارة مباشرة للأرض في قضية الإصلاح والمصلحين بآياتها المُتعددة , وليس معني ذلك بالطبع أن الإصلاح والمُصلحين ليسوا في الأرض بل لإن الإصلاح والمصلحين آثارأعمالهم مُمتدة من الأرض إلي السماء فأفعال الإصلاح والمصلحين ولو أنها كانت علي هذه الأرض إلا أن ثمارها عند الله تعالي من نصيب هؤلاء المصلحين وهو تماماً المعني المباشر الذي تضمنته الآية الكريمة التي تقول : “تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (سورة القصص الآية 83) وهذا يعني أن المصلحين سيكون لهم حظوة الإستقرار في الدار الآخرة أما الفاسدين فليس لهم بها من مكان فهم في الجحيم والعياذ بالله العلي العزيز .
إن الإصلاح وما يترتب عليه من نتائج إيجابية بناءة وجهود المصلحين وما ينتج عنها من منافع تستفيد منها الأجيال المتعاقبة للإنسانية ولإنه إسهام إيجابي مُنتج فسيستحق عليه هؤلاء الصالحون وعد الله تعالي لهم الذي بشرت به آيات مُتعددة بالقرآن الكريم منها : ” وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا “﴿سورة الإسراء الآية 9﴾ و” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ﴿سورة مريم الآية 96﴾ و”وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ”﴿سورة طه الآية75﴾ فالفساد يُمارسه الفاسدون علي الأرض كما قالت الملائكة , لكن الإصلاح والمُصلحون هم من ينطبق عليهم قول الله تعالي للملائكة :” إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” حين “قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ” فالله تعالي يعلم أن فطرة بني آدم هي الخير والصلاح وأن الفساد ليس هو القاعدة بل هو سلوك إستثنائي ينزع إليه من يعلم الله أيضاً أنهم فاسدين : “وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ ۚ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ “(سورة يونس الآية 40) فكلاهما في علم الله سبحانه وتعالي فالملائكة أطلقوا حكما مُسبقاً عاماً وكاسحاً علي بني آدم بأنهم فاسدون وسفاكون للدماء وهو ما يخالف علم الله تعالي الذي يعلم قال في محكم آياته :” وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ “﴿سورة البقرة الآية 220﴾ .
إذا ما شاع الصلاح والإصلاح في مجتمع ما وقويت شوكة المُصلحين فيه وتولوا القيادة بمستوياتها الإدارية المختلفة العُليا والوسطي والقاعدية فإنك حينئذ عليك أن تتوقع مجتمعاً صالحاً مُستقراً آمناً أما إذا لم يستطع المجتمع كبح جماح الفاسدين فيه بالوسائل المعروفة وفي صدارتها القانون فإنه بذلك يتيح لنفوسهم الفاجرة الآمرة بالسوء أن تنطلق من عقالها وتقترف الفساد والإفساد مُتحررة من ضوابط الشريعة و / أو القانون ومن ثم فلا ريب والحالة هذه أن الحكم الإلهي سيتحقق وهو الحكم الذي جاء واضحاً بالآية الكريمة : “وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴿سورة هود الآية 117﴾ فالمجتمع الذي يضعف أمام الفاسدين الذين من أولويات إفسادهم جعل المصلحين فئة قليلة بل ومُتناقصة مُحاصرة مُقيدة بإستخدام الإدارة الفاسدة والإعلام الضال الأمر الذي يُؤدي حتماً في الحساب الختامي إلي جعل المجتمع ضعيفاً يسهل تماماً للفاسدين إختراقه بحيث يتحول وضعهم الإجتماعي والإقتصادي فيه إلي تحولهم من مجرد قوة سلبية فاسدة ضاغطةLobby إلي قوة مُسيطرة مُنشأة لمنظومة مُتكاملة من الفساد أي أنهم يصنعون فساداً مؤسسياً Institutionalized والقرآن قد صور هذه المنظومة في سورة النمل الآية 48 فقال تعالي : “وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ” والتسعة رهط رمز للعائلات أو الأسر التي كانت تتسيد مجتمع ثمود والذين عقروا الناقة التي أرسلها الله تعالي آية لهم وبالتالي يكون هذا المجتمع مُرشحاً للهلاك الإلهي لا محالة فهؤلاء الـ : “تسعة رهط” أصروا علي المضي في فسادهم فحق عليهم عقاب الله تعالي لهم في الحياة الدنيا وقال تعالي في نفس هذه السورة : ” فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) , وبعد أن إنتهت دورة فساد هؤلاء ودمرهم الله تعالي إستعاد المجتمع إستقراره وأمنه فقال تعالي : “وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ” (سورة النمل الآية53) .
الإيمان قرين الصلاح :
جاء الإيمان بالله تعالي لفظاً مُتكرراً في مقدمة نداءه سبحانه وتعالي للذين عملوا الصالحات فاالإيمان بالله الواحد الأحد هو السبيل الأوحد الذي يجب علي بني آدم أن يسلكوه كي يتقبل الله منهم أعمالهم الصالحة فقال سبحانه وتعالي : ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴿سورة النحل الآية 97﴾وقال سبحانه وتعالي أيضاً : “وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ” (سورة طه الآية 82) أما الفاسدين فبالطبع لم يكن هناك ثمة رابطة بينهم وبين الإيمان بالله فالله تعالي فالله سبحانه وتعالي حدثنا عن الفساد والفاسدين عبر آيات القرآن الكريم خلواً من ذكر أي رابطة بينهم وبين الإيمان أو تقواه سبحانه وتعالي فقال سبحانه فيهم مثلاً : ” الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ “(سورة الشعراء الآية 152) إذ كيف يتأتي أن يكون لفاسد قدر ما من الإيمان ويكون فاسداً ؟ إن الإيمان والفساد لا يجتمعان في نفس واحدة .
إن قضية الإصلاح تحظي بمباركة ودعم الله سبحانه وتعالي منذ بداية الخلق إلي حد أنها كانت وما زالت وعداً إلهياً تضمنته الآية 81 من سورة يونس : ” إن الله لا يصلح عمل المفسدين ” , حتي وإن أدعي بعضهم أن ما يقوم به إنما هو من قبيل الإصلاح السياسي و / أو الإقتصادي كما درجوا علي الزعم بذلك : ” قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ” ﴿سورة البقرة الآية11﴾ , فهؤلاء يمكنهم الإدعاء والترويج لإصلاحاتهم المزيفة وإشاعة أنها حقيقية لكن الله تعالي قال : “ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “(سورة البقرة الآية 220) فالمؤسسات الإعلامية قد تعين الفاسدين علي الترويج لإدعاءهم بالإصلاح وقد تنجح في تضليل الجماهير لوقت ما لكن أما وأن ” الله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ” إذن فحملات الترويج للإصلاح الوهمي أو المُزيف لن تكون في النهاية إلا سراب ينقشع إذ سينكشف الغطاء عنها ويميط الله اللثام عنها لأنك تستطيع خداع البعض والآخرين بعض الوقت , لكنك لن يكون في طاقتك خداعهم كل الوقت كما أنك لن تجد مجتمعاً بدءاً من زمن النبي نوح عليه السلام حتي يومنا هذا إلا وبه مصلحون وهو ما أيده القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالي:”فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ “(سورة هود الآية116) .
” إن الله لا يصلح عمل المفسدين “, ولذلك سبب ومبرر في منتهي القوة , إذ أن هذه الآية في حد ذاتها قاعدة آمرة ناهية من الله عز وجل هي وستظل كذلك إلي يوم يبعثون أن ” وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ﴿سورة الأعراف . الآية 85﴾ هذه الآية “إن الله لا يصلح عمل المفسدين ” شأنها شأن كل آيات القرآن الكريم باقية وتعمل تروسها بلا توقف مع عجلة الزمن إلي أن ينتهي ويتوقف ليبدأ تنفيذ حكم الآية 40 من سورة مريم : ” إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ “وهذه الآية لم تُقرر فقط حقيقة سرمدية بل إنها كذلك تُؤكد أن معركة الخير والشر والفساد والصلاح محسومة سلفاً للخير والصلاح فعندما قالت الملائكة : “أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ” قال رب العزة : ” ِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ “(سورة البقرة الآية 30) أي أن أن الله تعالي يعلم ما يتجاوز تصور الملائكة عن الإنسان وميله المحتمل للفساد وسفك الدماء فالأصل في الدنيا صلاحها وقابليتها الدائمة للعمران وهي لذلك أمانة من حيث وجوب تجنب الإنسان إفسادها وتحري عمرانها دائماً وهذه الآية حكم بات ونهائي علي كل أعمال المفسدين في الأرض فحتي الأعمال التي يفترضون أو يُشيعون أنها صالحة أو تخلد ذكراهم لن يكتب لها الله البقاء ولا إنتفاع الناس بها فأعمالهم كمسجد ضرار الذي أمر الله تعالي نبيه محمد صل الله عليه وسلم ألا يصلي فيه فهدمه النبي الكريم أذ كيف يتأتي لفاسد أن يعمل صالحاً وهو مصر علي مواصلة الفساد والإفساد هؤلاء الفاسدون ليسوا بمؤهلين لتحقيق عمل صالح ولوجه الله تعالي ومن ثم فإن أعمالهم ستكون في النهاية كسراب بقيعة فالله تعالي يعلم أن أعمالهم حتي تلك التي يروجون أنها “من أجل الشعب” أو “لتحقيق التنمية ” أو ” من أجل الوطن” أعمال ســـفــلــيــة لن تكون إضافة لقوة الشعب ولن تحقق تنمية لسبب بسيط هو أن إستمرار بقاء الفاسدين أنفسهم في المواقع القيادية بالإدارة معناه بقاء الفساد ومن ثم فلن يكتب لأي من أعمالهم القليلة التي يفترضون هم أو غيرهم الصلاح وسوف يكون عمرها قصيراً وهو أول عقاب من الله تعالي لهؤلاء فهو سبحانه حكم علي أعمالهم مُسبقاً وللأبد بأنه لن يصلح أعمالهم , هذا في الحياة الدنيا أما في الدار الآخرة فيسنزل عليهم عقاب الله تعالي الذي قال وقوله الحق : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] , أما الذين أصلحوا وعملوا علي الإصلاح قدر ما إستطاعوا : ” إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ “﴿سورة هود الآية 88﴾ فيحق عليهم قوله تعالي : “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ” ﴿سورة العنكبوت الآية 7) ولنا في التاريخ عبرة فستري كل الفاسدين والفساد هنا ليس بالضرورة الفساد المالي فالفساد متنوع وأشده خطراً وأطول مدي فساد العقل والفكر والضمير فله تداعيات خطيرة متتابعة تصل إلي التأثير المُدمر علي الإقتصاد والتعليم والصحة والإعلام فهو بإختصار يُضعف المجتمعات قبل أن يهدمها .
إنني مُوقن كغيري من المسلمين بأن القرآن الكريم مُوجه إلي كل المُؤمنين المُوحدين توحيداً خالصاً نقياً في كل زمان ومكان ومن ثم قالأيات الكريمة سواء تلك التي تناولت أو إشارت إلي الفساد والمُفسدين والإصلاح والمُصلحين ومآلاتهم كانت وستظل خطاب عام مُوجه للناس إلي آخر الدهر حتي لو كانت هذه الآيات نزلت بمناسبة ما أو حدث معين ومن ثم فهي حقائق قرآنية تلقاها الرسول النبي الأمي محمد صل الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام لتكون مكتوبة في لوح الزمان ليعلمها الناس بدءاً من زمن البعثة المحمدية حتي يرث الله تعالي الأرض وما عليها وتكفي الإشارة تأكيداً لهذا إلي أن الفساد والمفسدين والإصلاح والمُصلحين كانوا ومازالوا علي هذه الأرض في مواجهة ونزال مباشر أحياناً مُستتر أحياناً فهو نزال بلغ حد الصراع الأبدي الشرس بينهما فأحدهما يمثل قوي الشر والآخر يمثل قوي الخير وكليهما مُصر أو يكاد أن يكون كذلك علي تحقيق النصر أو علي الأقل تحييد الطرف الآخر .
ذخيرتي ومؤونتي وهي كافية لأنها تفيض بيقيني بالله الواحد الأحد الذي أوحي إلي النبي الرسول الأمي مُحمد صل الله تعالي عليه وسلم هذا القرآن الكريم وبسبب هذه الطمأنينة لما معي من مؤونة الإيمان بالله الواحد الأحد فسوف أستخرج من نفسي المُسلمة ما أفهمه أو أشعر به حيال الصلة بين الفساد بأنواعه وأنماطه المُشار إليها في القرآن الكريم وواقعنا اليوم ولا أعتبر ذلك تفسيراً لهذه الآيات لكني أعتبره محاولة لإستنزال النص ومعناه علي حوادث زماننا ولا يظنن أحد أنني أرمي إلي ما يُقال عنه أنه تفسير عصري فلا تفسير عصري مُطلقاً للقرآن الكريم فهو كتاب أنزله الله للمسلمين المُوحدين به توحيداً خالصاً نقياً وصالح كما هو لكل الزمان وكل الأمكنة إلا أنه وفي الجيل الأول للذين أسلموا من يهود بدأت تدخل الفهم الإسلامي عناصر من تأويلاتهم وشروحهم فيما عُرف بالإسرائيليات وكانت تلك ثغرة تسللت منها هذه العناصر إن القرآن يُجمل غالباً قصص القرون الخالية تركيزاً علي موضع العبرة منها وجوهر الحادث وفيه كذلك آيات عن غيبيات ما كان المسلمون الأوائل ليخوضوا فيها ولا علم لهم بشيئ منها إلا ما جاء في القرآن عنها وهؤلاء اليهود أهل كتاب وقد تضخم تراثهم من المقولات الدينية وقد تتابعت آيات القرآن تحذر المؤمنين من شر هؤلاء المُزيفون الأشرار وهيهات أن يُميز عامة المسلمين فيما يسمعون من إسرائيليات بين ما هو من أصل التوراة وما هو من تحريف يهود وأسطورياتهم وعقدة ميراثهم من التيه والتشرد والحقد والشر لذلك فقد دخلت بعض من هذه الإسرائيليات كتب التفسير مروية عن صحابة يتحرج المرء من إتهامهم وبمضي الزمن نشبت في فهم المسلمين للقرآن فما إستطاعوا أن يتحرروا منها حتي اليوم , وكانت هناك شروط مُلزمة لا يتهاون العلماء في ضرورتها للمفسر ولا يجرؤ احد علي التصدي لتفسير القرآن الكريم دون إستيفاءها منها : الدراية بعلوم اللغة العربية ومعها سائر علوم القرآن مما لا يتصور أن يتصدي مُفسر لتأويله كذلك لابد من الدراية بعلوم الحديث من حيث كانت السنة مُفسرة للقرآن ومُفصلة لما أجمل منه أيضاً لابد من الدراية بعلم التوحيد وأصول الدين وأحكام الفقه المُستنبطة من الكتاب والسنة وكذلك لا يستغني المُفسر بعد هذا كله عن معرفة بالفرق الإسلامية وإتصال بعلم الكلام وتاريخ الإسلام وسأختار هنا بعض من هذه الآيات لا لأفسرها بل فقط لأصلها بالحوادث في زمننا وذلك كما يلي :
– ” الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ “البقرة آية 27” الإشارة في هذه الآية لهؤلاء الذين لا ذمة لهم ولاعهد ممن ينقضون عهودهم مع الله تعالي وأول معني لهذه الآية ينطبق علي جماعة المسلمين ( دولة / منظمة / مؤسسة / شركة) لقد أسس المسلمون الأوائل قاعدة إحترام المعاهدات بداية من صلح الحديبية والذي وقع في ثلاث أسطر لا غير الذي عقده المسلمون مع قريش بعد بيعة الرضوان وهو صلح فرضته مقتضيات الأمور علي قريش حتي لا يتحدث العرب عن أن النبي صل الله تعالي عليه وسلم دخل مكة عنوة , وهذا الصلح جرت في سبيله محادثات تمهيدية طويلة قبل إمضائه والتصديق عليه وكان في هذاا الصلح إعترافاً ضمنياً من المُشركين بالدولة الناشئة للإسلام وبعد ذلك كان صلح خيبر وهو صلح قضي علي سلطان اليهود السياسي في جزيرة العرب وكانت له نتائج سياسية وعسكرية وإقتصادية كبيرة للمسلمين وكذلك عُقدت معاهدة حدود مع صاحب “أيلة”وهي وغيرها معاهدات إسلامية داخل شبه الجزيرة العربية بعدها عُقدت معاهدات في عهد الخليفة عمر بن الخطاب داخل جزيرة العرب وخارجها مع الإمتداد والتوسع الإسلامي في فارس والعراق وكان المسلمون احرص الناس علي حفظ عهودهم والوفاء بها لقوله تعالي ” وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (سورة الإسراء الآية 34) ولقوله تعالي “وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ “(سورة النحل الآية 91)فالإسلام لا يجيز نقض المعاهدات إلا إذا خاف من الطرف الآخر خيانة أو رأي نقضاً فإذا بدت الخيانة وجب علي المسلمين النبذ والإعلام بذلك لقوله تعالي”وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين “(سورة الأنفال الآية 58) وإذا نقض الطرف الآخر وجب علي المسلمين أن ينقضوا كما حدث بعد صلح الحديبية ولما نقض أهل فارس عهدهم مع المسلمين في سنة 29 سار إليهم عبيد الله بن مُعمر ليقاتلهم وكذلك فعل معاوية بن أبي سفيان في سنة 33 مع أهل قبرص حين نقضوا عهدهم مع المسلمين وأعانوا الروم علي الغزو في بحر الروم (بحر العرب آنئذ) ففتح معاووية الجزيرة عنوة وسبي من أهلها خلقاً كثيراً وكان المسلمون في معاهداتهم ومهادناتهم يؤمنون غيرهم علي أنفسهم ومللهم وأموالهم وأرضهم فلا يغيرون عليه ولا يُحال بينهم وبين شرائعهم .
وعهد الله معني مُتسع فهو يشمل ما يبذله المسلم من وعود أو عهود مع الآخرين في حياتهم العامة تحت إسم الله تعالي , وللأسف يفتقد كثير من المسلمين اليوم معني قطع العهد علي النفس فالنفس التي سواها الله تعالي فألهمها فجورها وتقواها عندما تقطع عهدا أو تبذل وعداً فإن ذلك يتم من خلال ضمير الإنسان أو ما يُسمي بالذات العليا أما من يحنث وينقض الميثاق أو الوعد أو العهد فهو الذات السفلي التي دائماً ما تكون في حالة صراع دائم مع الذات العُليا وهذا الصراع تخف حدته بل قد تتلاشي هذه الحدة في حالة النفس التقية وتنخفض تدريجياً في حالتي النفس المطمئنة واللوامة فالذات السُفلي مليئة بدوافع وغرائز وشهوات إذا لم تجد من يحكمها ويضبطها فإنها تسوق الإنسان إلي أن ينزع إلي الإتيان بتصرفات وسلوم خارج عن صحيح الدين وهو ما إلا تجميع وتركيب لكل الأعراف والتقاليد ومتطلبات أي مجتمع إنساني والتي يعبرعنها ما يُسمي ” بالعقد الإجتماعي ” وهو عقد عرفي في كل المجتمعات الإنسانية التي تقول لكل فرد فيها ” لا تسرق حتي لا يسرقك غيرك ولا تقتل حتي لا يقتلك غيرك ” و وكلما إحترم أفراد مجتمع ما هذا العقد فإنه يكون أقرب ما يكون لوضع الإستقرار والأمان والتوازن وتكافئ الفرص أمام أعضائه , والسلوك الصالح والسلوك الإجرامي تتوقف غلبة أ؛دهما علي الآخر علي النسبة بين شدة وحدة الدوافع الهمجية المنافية لأعراف المجتمع وبين القوي الضابطة والمسيطرة علي هذه الدوافع من خارج النفس (الرادع القانوني) أو من داخل النفس .
إن القوي الضابطة في مجتمعات العالم المسلم وغير المسلم متنوعة وبها قواسم مُشتركة كثيرة بين كل المُجتمعات وهذه الضوابط أو القوي الضابطة نالها ما نالها من فساد من قوي النفوس الفاجرة والآمرة بالسوء التي أشار إليها الله تعالي في كتابه الكريم فبالنسبة للعالم المسلم يبدأ تكون القوي الضابطة وهي مختلفة متنوعة لكن أهمها مصدره البيت أي الأسرة والتعريف الشائع للأسرة هو أنها “مجموعة إجتماعية تعيش في مكان إقامة مُشترك فيه الزوجان معاً وتتميز بالإنجاب والتعاون الإقتصادي فيما بينها” وهذه المجموعة والمجموعات الأخري التي علي غرارها هي التي تُشكل المجتمع وللأسف فإن هذه المجموعة أو الخلية الإجتماعية منذ أن تأسس النظام الشيوعي بعد الثورة البلشفية في أكتوبر 2017وبعد الثورة الصناعية التي نجم عنها في القرن التاسع عشر والعشرين ما يُسمي بالرأسمالية المتوحشة هذه الخلية ظلت في مرمي ضربات عملت علي إضعافها وتفكك روابطها وهو بالضبط ما أشارت إليه الآية الكريمة :”وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ” فالروابط العائلية وصلة الرحم تتمزق في الوقت الراهن لأسباب مختلفة لكن أهمها الرسائل الإعلامية الموجهة والجدل في ثوابت الدين التي يزعم البعض أنها ليست بمُستثناة من الثورة عليها بالرغم من أن أي مجتمع مُستقر يجب أن تتوفر له قواعد (ثوابت) تعامل راسخة ثابتة كي يستمر ويأمن شر التقلبات والهوي الذي يخامر هؤلاء ” الثوريون” الذين يريدونها فوضي كي لا يمكن محاسبتهم وتقييدهم بهذه الثوابت وهي في الحقيقة قيود العقد الإجتماعي التي لو إستبدلناه بثوابت الإسلام الإجتماعية ما وجدنا تباينا ولا إختلاف وهؤلاء الثوريون يجدونها سهلة وبدون تثريب عليهم وهم يشاقون الله تعالي وسنة رسوله صل الله تعالي عليه وسلم , لكنهم يضعون ألسنتهم في أحذيتهم الرثة أمام الظالمين والطغاة لا يراجعونهم ولا ينتقدونهم وتباين الموقفين يؤكد أنهم لا يخافون الله بل يخافون عبيده من الطغاة وهذا يقيناً لا يدعو المرء لا لإحترامهم ولا حتي لإعتبارهم شيئاً ولهذا قال الله تعالي أن يُشاقق الله تعالي ولرسوله الكريم مآله العقاب الشديد : “فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ “وقادة هؤلاء “الثوريون ” أنفسهم هم ممن يؤسسون أو تؤسس لهم بعض المنظمات غير الحكومية التي أعتبرها في تقديري منظمات ضاغطة في إتجاهات معينة أهمها إتجاه تغيير والعبث بالثوابت الدينية والإجتماعية وكلامي هنا لا يستثني دين فالأديان السماوية الثلاث بينها مُشتركات مؤسسة للمجتمعات الإنسانية المسئولة التي يمليها من يمولها , ومن بين هذه المنظمات تلك التي تعتنق عقيدة أو ” Dogma “النسوية أو ما يُسمي بالـ “Feminism “والتي ترمي إلي الدعوة إلي وترسيخ مبدأ المساواة المُطلقة بين الجنسين وما يرتبط به من تداعيات علي مبادئ الدين الإسلامي وغيره , إذ أن مبدأ عدم المساواة بين الجنسين الذي تضمنته الأديان السماوية الثلاث هو – عند إستحضار آيات القرآن الكريم في شأن موقع الجنسين في المجتمع الإسلامي وعند الله تعالي يوم الحساب – سنجد أن عدم المساواة ذاك إيجابي أو ما يمكن القول بأنه Le principe de l’inégalité positive ففي القرآن الكريم وفي سور كثيرة نجد ما يدحض دعاوي من يعتنقون عقيدة النسوية تلك Feminism.
اللامساوة الإيجابية في الإسلام :
هذا المبدأ من المهم جداً فهمه علي نحو مُتزن بعيداً عن صخب الحركة النسوية أو ما يُقال عنهم الـ Feminism لأن الثقب الذي أحدثه ما يُسمي بالفكر الليبرالي تسلل منه فساد مجتمعي لا يدفعه إلا العودة للحذور أو الأصول ولا أقول الأصولية لانهم أي الليبراليين مرمغوا إصطلاح الأصولية في الرَّغامُ وأوحلوه , فالأصول تعني إحترام من يتم تطبيق المبدأ عليهن والعكس صجيج والأكثر أهمية صلاح من يتولي تطبيق الأصول لهؤلاء العائدون والعائدات للجذور علينا أن نجعل من ذلك الأمر إتجاه أو طريق وجعله ممهداً للسير فيه .
تؤكد هذه الآيات أن الدين الإسلامي بموجب الشريعة الإسلامية يعمل بمبدأ عدم المساواة الإيجابي Le principe de l’inégalité positive وهو بهذه الصفة يراعي الإختلافات البيولوجية والنفسية والعقلية بين النوعين إن الإعتراض علي تطبيق مبدأ “عدم المساوة”في موضوعات اللون (أي لأسباب عنصرية) ومكان المنشأ والعمر مؤكد ومنطقي ومُبرر بطبيعته أما تطبيق عدم المساواة في موضوع الجنس (رجل / إمرأة) فهو خلافي حتي اليوم رغم حجج النسويين بل يقال أن بعض ما جبل الله عليه الأنثى هو نوع من الكمال في حقها وإن كان نقصاً في حق الرجال(ألا ترى أن الضعف الخَلْقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب) .
هذا هو حكم الله القدري: أن الذكر ليس كالأنثى، وهذا حكم الأعلم بالحِكَمِ والمصالح ـ، هذا كلام الذي خلق الخلق، وعَلِمَ ما بينهم من التفاوت والاختلاف: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، وقد تفرع على ذلك: اختلاف بين الذكر والأنثى في جملة من الأحكام الشرعية ـ وإن كانا في الأصل سواء ـ
وهذا الاختلاف في الأحكام الشرعية (كالميراث وكالشهادة في المحاكم)بين الذكر والأنثى راجع إلى مراعاة طبيعة المرأة من حيث خلقتها ، وتركيبها العقلي ، والنفسي وغير ذلك من صور الاختلاف التي لا ينكرها العقلاء والمنصفون من أي دين وليعلم المؤمن هاهنا قاعدة تنفعه في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة وهي : أن الشرع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين ولا يجمع بين متناقضين وشأن المؤمن الحق أن لا يعارض الشرع بعقله القاصر بل شأنه أن يتلمس الحكم من وراء ذلك التفريق أو هذا الجمع ويقول الشيخ ناصر بن سليمان العمر : في تفسيره للآية الكريمة : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) :أن خلاصة قصة هذه الآية أن امرأة عمران ـ وهي أم مريم ـ قد نذرت أن يكون مولودها القادم خادما لبيت المقدس ، فلما وضعت مولودها ، قالت معتذرة: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لأن قدرة الذكر على خدمة بيت المقدس ، والقيام بأعباء ذلك أكثر من الأنثى التي جبلها الله تعالى على الضعف البدني وما يلحقها من العوارض الطبيعية التي تزيدها ضعفاً : كالحيض والنفاس ولقد بين القرآن هذا التفاوت بين الجنسين في مواضع كثيرة، منها : قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ } وهم الرجال {عَلَى بَعْضٍ} وهن النساء ومنها: قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (وذلك لأن الذكورة في كمال خلقي وقوة طبيعية وشرف وجمال والأنوثة نقص خلقي وضعف طبيعي كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء ولا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] ؛ فالأنثى تنشأ في الحلية ، أي: الزينة ـ من أنواع الحلي والحلل ـ لتجبر بذلك نقصها الخَلْقي) , بل يقال : إن بعض ما جبل الله عليه الأنثى هو نوع من الكمال في حقها وإن كان نقصاً في حق الرجال (ألا ترى أن الضعف الخَلْقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب) هذا هو حكم الله القدري: أن الذكر ليس كالأنثى وهذا حكم الأعلم بالحِكَمِ والمصالح هذا كلام الذي خلق الخلق وعَلِمَ ما بينهم من التفاوت والاختلاف: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، وقد تفرع على ذلك: اختلاف بين الذكر والأنثى في جملة من الأحكام الشرعية ـ وإن كانا في الأصل سواء وهذا الاختلاف في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى راجع إلى مراعاة طبيعة المرأة من حيث خلقتها وتركيبها العقلي والنفسي وغير ذلك من صور الاختلاف التي لا ينكرها العقلاء والمنصفون من أي دين وليعلم المؤمن هاهنا قاعدة تنفعه في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة وهي: أن الشرع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين ولا يجمع بين متناقضين وشأن المؤمن الحق أن لا يعارض الشرع بعقله القاصر بل شأنه أن يتلمس الحكم من وراء ذلك التفريق أو هذا الجمع أي أن عدم المساوة بين الذكر والأنثي ليس مُطلقاً فهناك مساواة بين الجنسين في فساد أيهما وصلاحه ومن بين الآيات الدالة علي ذلك :-
1- “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا “(سورة الأحزاب الآية 35) وفي هذه الآية نجد الرجل والمرأة يمتلكان بالتعادل والمساواة نفس الصفات مؤمنين ومؤمنات وصادقين وصادقات وصابرين وصابرات ألخ بلا أدني تباين في هذه الصفات المُشتركة وفي هذه الآية نجد المساواة المُطلقة بين الجنسين في التكوين القيمي والروحي وليس المادي فهو أمر لا يمكن تحقيقه حتي بين أبناء الجنس الواحد .
2- ” إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” (سورة النور الآية 23) , في هذه الآية نجد الدفاع الإلهي عن سمعة وشخصية المرأة المُحصنة المؤمنة , فالله سبحانه وتعالي جعل التعريض بتلك المرأة عملاً آثماً يستحق من يقترفه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة .
3- ” الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ” ( سورة النور الآية 26) , هذه الآية تشير مرة ثانية إلي التعادل والإستحقاق المُتبادل في علاقات الرجل بالمرأة وكذلك تبين براءة ساحتهما عند الله تعالي كما تشير أيضاً إلي تعادلهما في المكافأة الربانية بلا أدني تمييز .
4- ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ” (سورة النحل الآية 97) مرة أخري يخبر الله تعالي الرجل والمرأة أن عملهما الصالح مُستحق للمكافأة والإغداق عليهما بدون تمييز فالعمل الصالح الذي يؤديه الرجل كالعمل الصالح الذي تُؤديه المرأة لا إنقاص من مردوده الدنيوي ولا الأخروي بسبب النوع .
5- الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (سورة النساء الآية 34) وهذه هي الآية التي تؤكد مبدأ عدم المساواة الإيجابية , ففي تفسير الإمام إبن كثير لها قال : ” يقول تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ) أي : الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ( بما فضل الله بعضهم على بعض ) أي: لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة; ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم : ” لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ” رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك , ( وبما أنفقوا من أموالهم ) أي : من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه ، وله الفضل عليها والإفضال ، فناسب أن يكون قيما عليها ، كما قال ] الله [ تعالى : ( وللرجال عليهن درجة ) الآية [ البقرة : 228 ] , وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( الرجال قوامون على النساء ) يعني : أمراء عليها أي تطيعه فيما أمرها به من طاعته وطاعته : أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك وقال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعديه على زوجها أنه لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” القصاص ” فأنزل الله عز وجل : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية فرجعت بغير قصاص رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي أورد ذلك كله ابن جرير وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال : حدثنا أحمد بن علي النسائي ، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : أتى النبي رجل من الأنصار بامرأة له ، فقالت : يا رسول الله ، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ليس ذلك له ” فأنزل الله : ( الرجال قوامون على النساء [ بما فضل الله بعضهم على بعض ] ) أي : قوامون على النساء في الأدب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أردت أمرا وأراد الله غيره “وقال الشعبي في هذه الآية : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) قال : الصداق الذي أعطاها ألا ترى أنه لو قذفها لاعنها ولو قذفته جلدت وقوله : ( فالصالحات ) أي : من النساء ( قانتات ) قال ابن عباس وغير واحد : يعني مطيعات لأزواجهن ( حافظات للغيب ) قال السدي وغيره : أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك ” قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( الرجال قوامون على النساء ) إلى آخرها ورواه ابن أبي حاتم ، عن يونس بن حبيب عن أبي داود الطيالسي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن سعيد المقبري به مثله سواءوقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر :أن ابن قارظ أخبره : أن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها; وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت “تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف .
وقوله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن) أي : والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن والنشوز : هو الارتفاع فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه المبغضة له فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ” وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه ، لعنتها الملائكة حتى تصبح ” ورواه مسلم ، ولفظه : ” إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح “ولهذا قال تعالى : (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن )وقوله : ( واهجروهن في المضاجع ) قال علي بن أبي طلحةعن ابن عباس : الهجران هو أن لا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره وكذا قال غير واحد وزاد آخرون – منهم : السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية – : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس : يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها وذلك عليها شديد وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة : الهجر : هو أن لا يضاجعها وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع ” قال حماد : يعني النكاح , وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا ؟ قال : “أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت “وقوله : ( واضربوهن ) أي : إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال في حجة الوداع : ” واتقوا الله في النساء ، فإنهن عندكم عوان ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ” وكذا قال ابن عباس وغير واحد : ضربا غير مبرح . قال الحسن البصري : يعني غير مؤثر قال الفقهاء :هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضرب ضربا غير مبرح ولا تكسر لها عظما فإن أقبلت وإلا فقد حل لك منها الفدية , وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تضربوا إماء الله “فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ذئرت النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم ” رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود – يعني أبا داود الطيالسي – حدثنا أبو عوانة ، عن داود الأودي ، عن عبد الرحمن المسلي عن الأشعث بن قيس قال ضفت عمر ، فتناول امرأته فضربها ، وقال : يا أشعث احفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر . . .ونسي الثالثة وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة عن داود الأودي وقوله : (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ) أي : فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك وليس له ضربها ولا هجرانها , وقوله : (إن الله كان عليا كبيرا ) تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن .
يأتي بعد ذلك التعليم فالمدرسة هي النطاق المُكمل وليس البديل للبيت في التربية والتعليم ومن الضروري لغرس مبادئ وقيم الإسلام البدء بتعليم الطفل وتحفيظه قصار سور القرآن الكريم وأولها سورة الإخلاص ففيها جماع عقيدة الإسلام وهو التوحيد الخالص النقي لله الواحد الأحد وبعد ذلك يُلحق الطفل بالتعليم الأولي الإبتدائي ثم باقي المراحل التعليمية بشقها القرآني الإسلامي (بالأزهر الشريف) والعام والذي لابد من تزويده بدعم من التعليم الديني فهذا الجزء في مناهج التعليم كالأسمنت في عملية البناء للنشأ والشباب فالقرآن الكريم لا يجب أن نهجره أو ندعه بعيداً عن تكوين ضوابط الضمير أو الذات العُليا للمواطن المُسلم وهذا التعليم يتدرج من مرحلة الكتاتيب و/أو المدارس القرآنية وبعدها مراحل التعليم العام جنباً إلي جنب مع العلوم الأخري من رياضيات وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وتاريخ وفنون مختلفة , فهذا المزيج من التعليم ينتج عنه إنسان بذاته العُليا (ضميره) مزيج مُقدر متجانس من الضوابط التي تضمن لنا نشوء مجتمع مُلتزم بتنفيذ”العقد الإجتماعي”وهو مجتمع يمكنه أن يقبل التحديدات المختلفة أفراده مستعدون للذودعنه حماية وصوناً لأرضه وموارده وهويته وبغير هذه المنظومة التعليمية سيكون هناك بلا شك ثمة فراغ في الضميروالهوية .
6- “لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ” (سورة النساء الآية 7) , المرأة المُسلمة ترث وتحمل اسم أبيها في إنتسابها وتعود إلي بيته إن لم تُوفق في زواجها وعكس ما يفعله النصاري ومع إنكار هؤلاء علي المسلمين أمر قوامة الرجل علي المرأة إلا أنهم يجعلون للرجل عندهم سلطة تفوق القوامة فـفي العهد الجديد نجد هذه العبارة : (ليس للمرأة تسلط علي جسدها بل للرجل) *(19) ومن المعروف في الشريعة الإسلامية كذلك أن زواج المرآة لابد وأن يكون برضاها أو وليها وأن لها ذمة مالية مُستقلة عن زوجها وأنها دائماً موضع حماية وصيانة الأب والأم وذوي القربي والمجتمع نفسه وهي أمور تفتقدها المرأة في مجتمعات الغرب الذي يناصب شريعة الإسلام العداء .
– ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ “(البقرة آية 30) هذه الآية – كما سبق وأشرت – أول بلاغ عن الفساد في الأرض هذا البلاغ صدر عن مخلوق من مخلوقات الله تعالي وهم الملائكة الكرماء وهم مخلوقات نورانية لا قبل لها بالنزوات ولا الشهوات كما هي حالة البشر ولا هي مُصابة بالكبر كحالة الشيطان أما مكان صدوره فلن يُضيف شيئاً بجوهر الإعلان لكن ربما يكون هو المكان الذي ليس لأحد من البشر تصوره أو تخيله علي نحو مُحدد وهو سدرة المُنتهي إذ أن الله تعالي قال لأبليس عندما أبي السجود لسيدنا آدم كأمره تعالي له : ” قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * “فكلمة “منها” هنا لا يُعرف علي وجه التحديد واليقين معناها إلا أن يكون هذا المعني إستنتاج غير مُكتمل يقيناً علي أي حال فالبلاغ عن الفساد في الأرض عن الملائكة بلاغ صادق وموضوعي , لكنه ليس جامعاً مانعاً , إذ أن الله تعالي قال وقوله الحق : “إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” وهو تعالي بهذا القول لم ينف قول الملائكة وإنما زاد عليه بعلمه تعالي المُحيط بكل شيئ قال فبنو آدم منهم من سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء لكن منهم أيضاً المصلحون وهم من الذين آمنوا وسيعملون الصالحات فسبحانه وتعالي قال قولته وهي حق مُطلق فقال سبحانه وتعالي في سورة الشمس وعلي سبيل القسم ” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * ” وهو التقسيم النوعي العام لنفوس البشر النفس الفاجرة والنفس التقية , ومما يؤكد بداية أمر الفساد أن إبليس الملعون أفصح وأبلغ هو الآخر عن نيته المُشاركة في معركة الخير والشر معركة الصلاح والفساد عندما قال :” قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * (سورة ص)وهي معركة خاسرة حتماً لأن الله تعالي أخبر إبليس اللعين في نفس هذه الآية : “قَالَ ” فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ” (سورة ص) .
– “وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ” (البقرة آية 205) تُشير هذه الآية إلي سعاة الفساد في الأرض والذين يشمل فسادهم إهلاك الحرث والنسل أما إهلاك الحرث فبالإضافة إلي ما أشار إليه أئمة التفسير الثلاث من أن الحرث مقصود به النشاط الزراعي وكذلك النسل والإنجاب كقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ * فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] فإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الأولاد والآن نحن نجد سعاة الفساد ممن يهلكون الزرع يقومون بالعبث بالبيئة التي تحتاجها العملية الزراعية بدءاً من تلويث الهواء وتصريف عوادم المصانع في مجاري الأنهار والترع والقنوات وكذلك تجريف التربة الزراعية والبناء عليها بدلاً من تخصيبها وزراعتها خاصة في ضوء محدودية الأراضي الزراعي مع تزايد الإستهلاك الغذائي .
– “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ” (البقرة آية251)
– ” مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” (سورة المائدة آية 32)
– ” ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” (سورة المائدة آية 33)
– ” وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ” (الأعراف آية 74)
– “وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ” (سورة الأعراف آية 86) , إذا إستنزلنا هذه الآية الكريمة علي واقعنا المعاصر , فنحن إذن أمام مجتمع عجز أو أتاح أو غض الطرف من لديهم سلطة الحكم والقيادة علي لجم دوائر الإجرام به , هذا الإجرام الذي يُرتكب في حق المجتمع ويستهدف إفقاده الأمان والإستقرار بأفعال هؤلاء الذين يحرضون أفراد المجتمع علي الخروج عن مقتضيات والعقد الإجتماعي بين أفراده وجماعاته النوعية وهذا التحريض أصبح في عالمنا المعاصر ميسوراً إلي أبعد مدي عن ذي قبل فيكفي أن يجلس أحدهم ويمسك الميكروفون وتوجه إليه آلات التصور لينطلق في إحدي القنوات الفضائية يهذي مدعياً أن ما أستقر عليه المجتمع من قيم تأسست عليها هويته قابلة للنقد بل والإلغاء بدعوي أن زمننا المعاصر لا يصلح للعمل بها وأن كتب السلف التي تفسر القرآن الكريم وتعرض للسنة النبوية كتب صفراء فيما الأصفربحق هو عينيه وسريرته فهذه القيم هي القيم التي إستقرت في ضمير مجتمعاتنا وجعلته يأمن ويتعامل وفق عقد إجتماعي متوازن ومحترم تضمنتها دفتي كتاب كريم وهو القرآن الكريم وهو كتاب لا يأتيه الباطل تلقاه النبي الأمي محمد صلي الله تعالي عليه وسلم وتعهد الله تعالي بحفظه أبد الدهر ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (سورة الحجر الآية 9) وبهذه القيم قامت أول دولة في الإسلام في المدينة المنورة ومنها إنطلقت الحضارة الإسلامية لتبلغ في مداها االصين شرقاً والأندلس غرباً , والواقع أن القاعدين علي كل صراط كانت مهمتهم بالغة الصعوبة في الماضي فالوصول Reach – out لكل شرائح المجتمع لم يكن مُيسراً وإن كان صغر حجم المجتمعات عمل علي إمكانية التأثير نسبياً لكن التطور التقني في زماننا أتاح لهؤلاء الفاسدين الذين يقومون بإفساد ما هو صالح ومُتفق علي كونه صالح حتي بالمقاييس غير الإسلامية , إذ أن الإسلام أو القرآن الكريم بصفة مُحددة لم يأت بجديد فيما يتعلق بالفساد إذ أن تعريفه في معاجم اللغة العربية يكاد يتطابق مع اللغتين الأنجليزية والفرنسية كما سبق وأشرت , فهو في الإنجليزية 1-destroy or subvert the honesty or integrity of . 2- To ruin morally , pervert .3- To taint , contaminate .4- To cause to become rotten , spoil. 5- To change the original form of , وفي الفرنسية 2- fig. Aleration morale , dereglement de moeurs : Vous sonderez combine est grande la corruption feminine (Balzac) .3+ Specialem. Action de detouner quelqu,un de son devoir , par de l,argent , des presents , faute de celui qui se laisse detourner de son devoir en trafiquant de son autorite , ومن ثم فالقرآن الكريم وهو يتناول قضية الفساد تناولها بإعتبارها مُشكل إنساني يقتضي المواجهة , ومن المُجتمع الإنساني وهو ما يدعمه الله تعالي الذي يدخر للفاسدين سوء المآل والعاقبة لأنهم يفسدون في الأرض التي إستودعها سبحانه وتعالي في أيدي بني آدم الذي إستهوي الشيطان الرجيم بعضاً منهم لبغونها عوجاً والله تعالي في سورة الفاتحة عرض علي بني آدم الطريق الآمن إليه تعالي , هذا الطريق هو ” الصراط المُستقيم” , وهو ما لا يريده هؤلاء الفاسدون الذين يحرضون المجتمع علي الإعوجاج بالصد عن سبيل الله تعالي وهو السبيل الذي يعرفه بني آدم بالفطرة السليمة والذي يعتبر الضمانة الوحيدة لتنفيذ “العقد الإجتماعي”الذي يحفظ للمجتمعات إستقرارها وشيوع قيم الرحمة والعدالة والتعبير الحق عن الرأي دون إفساد لما هو صالح من القيم الإنسانية الأساسية.
– -“وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ” (سورةغافرآية26) و “وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ “(سورةالأعراف آية 127) هذه الآية تشير إلي منتهي الظلم والإصرار علي الفساد في الأرض فملأ فرعون وهم نخبة المجتمع المصري ممن ينتفعوا من سلطة هذا الظالم الكافر فرعون يتزلفون إليه برمي النبي موسي بإقتراف جريمة التي أثبتها الله تعالي عليهم في القرآن الكريم أعني جريمة الفساد وكأنهم في هذه الآية الكريمة يشنون علي سيدنا موسي هجوماً مُضاداً Counter- attack بعد إنتصاره علي سحرة فرعون والذين بهتوا بالقدرة التي تجاوزت قدراتهم فآمنوا مما دعا فرعون رغم ما يعتقد شعبه فيه بأنه إله – حاشا لله – أن يقول علي مسمع من ملأه المتمسكين به ظالماً ومُتجبراً وسحرته الذين آمنوا برب موسي : ” قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ” (سورة الأعراف آية 123) وهذا ديدن من وصلوا في فسادهم إلي ذروته , يسبغون علي من يقاومهم أو يكشف زيفهم صفة الفساد ليترك قضيته الأساسية وهي مقاومة فسادهم وينهمك في البحث عن أدلة براءته من تهمة الفساد التي رُمي بها ففرعون كان يتوسل بنفوذه وسلطته وملأه أي النخبة التي تشغل المواقع القيادية والمُؤثرة بدوائر الحكم وهي بطبيعة الحال اقريبة ومُستفيدة ببقاء ظلم فرعون وفساده , وفي هذا قال القرآن الكريم في سورة الزخرف إلي : “﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) وواصل فرعون دعايته المُغرضة وتصغيره لشأن المُؤمنين وحشده وتعبئته لرعاياه وفي صدارتهم النافذين في مركز دولته والأقاليم في حربه النفسية ضد النبي موسي عليه السلام , فقال واثبت القرآن الكريم ذلك في سورة الشعراء : ” ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( 53 ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( 54 ) وإنهم لنا لغائظون ( 55 ) وإنا لجميع حاذرون ( 56 ) “وهذه هي الخطوط العامة لفساد الحكم علي مر الزمان من عهد موسي حتي وقتنا هذا , فالمعركة بين الفساد هنا تقوم علي إستخدام الدعاية السوداء ولي الحقائق والدور السيئ الذي تلعبه النخبة في المعركة بين قوي الفساد وقوي الصلاح والإصلاح , وكل ذلك تأكيد علي أن أساليب التضليل للرأي العام عن طريق النخبة أسلوب تقليدي معهود من قديم الزمان .
– ” وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ ۚ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ” (سورة يونس آية 40) , نعم وحقاً فالله أعلم بالمفسدين ودوافعهم في الإفساد إذ أن هؤلاء موضوع فسادهم هو الأخطر بصفة مُطلقة إذ أنه يتعلق بأساس لا غني عنه لأي إنسان دوافعه فطرية وطبيعية هذا الأساس هو الإيمان الحق بالواحد الأحد الفرد الصمد وهؤلاء لطالما قضوا أيام وليالي حياتهم الدنيا يشنون حملاتهم في التضليل والإفساد والفساد تحت عنواين مُضللة تفتقد إلي الحد الأدني من الشفافية , وهذه الآية مُوجهة علي نحو خاص لهؤلاء الذين يعملون في أيامنا هذه بأعمال الوكالة لحساب أعداء الإسلام دين التوحيد الخالص النقي فهؤلاء يبغونها عوجاً بما يكفل لهم تمهيد السبيل لحملات التشكيك في الكتاب والسنة التي يمارسونها ويُؤجرون عليها من وكل لهم هذه المهمة التدميرية للقيم الإنسانية التي أكد عليها الإسلام في قرآنه وسنة نبي الله محمد صل الله تعالي عنه وسلم فالآية الكريمة يُوضحها الآيات الثلاث السابقة عليها وهي : ” وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وهي مهمة يستوحي ويقتبس وكلاء حملات التشكيك من أبناء جلدتنا عناصرها وربما تفاصيلها من بعض المُستشرقين الذين دأبوا علي التشكيك والطعن في المصدرين اللذين يضمان الفكر الإسلامي التوحيدي الخالص لله وحده لا شريك له والسنة النبوية الُطهرة وهؤلاء وهؤلاء , ولقد أخبرنا الله في قرآنه الكريم مآل معركة التشكيك تلك ومن يقومون علي تنفيذها عبر الوسائل الإعلامية المختلفة وكذا القرارات السياسية التي تتخذها السلطات السياسية في هذا البلد المسلم أو ذاك دعماً لهؤلاء جميعاً ومن يحركونهم , فقال تعالي في نفس هذه السورة : “قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) أي أنهم سوف لا يفلحون في النهاية , وأنهم وهم ينفذون مهمتهم الآثمة التي تطعن في فطرة الإنسان وفي الخلق الإنساني سيستمتعون بمكافآت وإستحسان أمراء الأثم في العالم لكنهم حتماً سيرجعون إلي من خلقهم ليذوقوا ما يستحقونه من عذاب توعدهم الله تعالي في القرآن الكريم بأنه سيكون شديد لأنه نتيجة مُستحقة لولائهم لحزب الشيطان الذي وجههم بالكفر بأنعم الله وفي صدارتها الفطرة السليمة المُبرأة من أدران الشر والشرك والكفر وهؤلاء وصفهم الله تعالي وصفاً مرعباً مُذهلاً مُذعباً للعقل لو كانوا يفهون ويعون , فقال سبحانه وتعالي في سورة الحج : ” وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍۢ سَحِيقٍۢ ” (31) فهؤلاء المُشككين الضالين الكاذبين قبل مرجعهم لله تعالي سوف لا يفلحون في مهامهم الإضلالية الإفسادية وحين يصلون لله تعالي يوم البعث سيجدوا في إستقبالهم عذاباً شديداً مُعداً لهم وهو عذاب لا رجعة فيه فهؤلاء الساقطون الذين خروا ساقطين من سماء القيم والفطرة الإنسانية كانت تتخطفهم شياطينهم كالطير وهم في رحلة سقوطهم تلك سيستقرون في مكان سحيق مُخصص لسفلة بني البشر .
– ” آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ” (سورة يونس آية 91)هذه الآية تتحدث عن حكم الله تعالي علي الطغاة جميهم ومن بينهم كان فرعون الذي وصفه الله تعالي بأنه “من المُفسدين ” وجعله نموذجاً للطغاة وفساد الحكم , وهو حكم بات يصدق علي كل من يقتفي أو يُحاكي من الحكام سيرة فرعون مع نبي الله موسي وكذلك مع شعبه من المصريين فالقرآن الكريم أشار إلي أن فرعون ما كان له أن يستمرأ الظلم والإصرار علي الكفر إلا لإنه كما أشار القرآن : ” فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ” (سورة الزخرف الآية 54) فمن الواضح أن الشعب المصري كان تحت حكم فرعون شعباً سهل قياده وفسوقه الذي أشار إليه الله تعالي – وهو المحيط بعلمه لكل شير – كان بسبب إنقياده للكفر وعبادة الأوثان كعقيدة حكامه مرة يعبدون الشمس أو آمون رع لكن المصريين القدماء كما أشار إلي ذلك جيمس ألين عالم المصريات عبدوا آلهة قدر عددها بنحو أكثر من 1,400 آله وُجدت أسماءها في النصوص المصرية في حين يقول زميله كريستيان يتز بأن هناك “الآلاف والآلاف” من الآلهة , فأي فسوق وأي تبعية تلك التي إتسم بها شعب يقوده الطاغية فرعون ؟ كذلك وبسبب إنقياده الأعمي لفرعون وقادته فاسدي العقيدة كان ضمور إحساس هذا الشعب بالكرامة , فالآيات الساابقة علي هذه الآية المُتضمنة لهذا الحكم الإلهي علي فرعون تُفسر خلفية ومنطلقات هذا الحكم إذ قال الله تعالي في نفس هذه السورة : ” وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (۸۸) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)فقد من الله تعالي علي فرعون وملأه أي النخبة المصرية المحيطة بفرعون بالزينة والأموال الطائلة ومع ذلك لم يُشكر هؤلاء علي أنعمه وأستخدموا ما آتهم الله تعالي في الفساد والضلال ضلال أنفسهم وشعبهم وأصروا علي رفض رسالة النبي موسي لفرعون وملأه وهي رسالة الإيمان بالله الواحد الأحد وهو ما جعل النبي موسي يتمني علي الله تعالي أن يطمس علي أموالهم ولا يمنحهم نعمة الرجوع للحق قبل أن يذوقوا من العذاب الأليم منه وهو ما أستجاب الله تعالي له ولم تقتصر معاناة النبي موسي علي فرعون جراء أفعاله , بل إمتدت حتي أنه عاني من قومه الذين عبدوا العجل وهو في لقاء الله سبحانه تعالي والذين قال الله تعالي فيهم : “إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ “فلم يكن فساد الضمير عند فرعون وملأه فحسب بل كان صفة عند البعض من قوم النبي موسي ممن عبدوا العجل وهؤلاء تاب الله تعالي عنهم بعدما صدعوا لأمر النبي موسي عليه السلام بقتل بعضهم بعضاً تكفيرا عما فعلوه بعبادتهم للعجل : “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرةالآية 54] ونحن في عصرنا الراهن نري هؤلاء الفاسدون وهم يمارسون أحط أنواع الفساد وهو الخوف من أصحاب السلطة والنفوذ والخوف علي مكتسباتهم ويصدعون لأوامرهم خشية و / أو زلفي بإقتراف كل ما يخالف شرع الله تعالي وإنتهاكا لحقوق الإنسان التي أشار إليها القرآن الكريم وهم بهذا علي غرار البعض من بني إسرائيل وهم يعبدون العجل والإختلاف بين الموقفين أن هذا البعض من بني إسرائيل تاب – كما أشار بذلك القرآن الكريم – أما هؤلاء الذين في عالمنا المُعاصر مصرين علي عبادة العجل والعجل في أيامنا هذه هو السلطة والنفوذ وهو المال وهو الشهوات المختلفة وهو الفساد بعينه .
– أخبرنا الله تعالي في قصة قوم مدين مع نبيه شعيب بدعوته إليهم والتي كانت تدور حول محورين هما الإيمان بالله تعالي وعدم الغش والتطفيف والتخسير في الميزان والمكيال لجمع المال الحرام , وكانت الإشارة إلي ذلك في سور من القرآن الكريم منها سورة هود الآيات التالية : ” وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ” (الآية 84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”(الآية 85) ” بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ” (الآية 86) ” قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ” ( الآية 87) ” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ” (الآية 88) “وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ” ( الآية 89) ” وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ” ( الآية 90) ” قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ” (الآية 91) ” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ” (الآية 92) ” وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ” (الآية 93) ” وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ” (الآية 94) ” كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ” (الآية95) , كذلك كانت هناك إشارة أخري لهذه القصة بسورة الشعراء من الآية 176 حتي الآية 190 :” كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) , كذلك تناولت سورة الأعراف هذه القصة في الآيات التالية : “قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ” (سورة الأعراف 88) , “وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ” (سورة الأعراف الآية 90) “الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ “(سورة الأعراف الآية 92) , وفي سورة العنكبوت كانت هذه الآية “وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (الآية 36) , كل هذه الآيات تكون صورة مُحددة كما لو انها تُعرض أمامنا ونراها لقوم مدين والنبي شعيب يدعوهم للتراجع عن كفرهم وغشهم وفسادهم الإقتصادي والتجاري , وإنني علي يقين من أن قصة أهل مدين مع النبي شعيب فيها جماع قصة الفساد علي الأرض فأهل مدين كان لديهم شبق لا يرتوي بالمال , والمال أس الفساد إن كان حراماً أو غصباً مال ملوث جمعه ملوثون بالفساد وأدرانه وهو أيضاً أداة إصلاح وتنمية ودعم لخلافة الإنسان علي الأرض .
المال في القرآن الكريم أداة فساد وإصلاح :
المال واحد من أكثر الوسائل التي إخترعتها البشرية أهمية وبدونها فإن الإقتصاد الحديث المُعقد لن تسير عجلته هذا الإقتصاد القائم علي تقسيم العمل والذي أصبح نتيجة للمدي الواسع جداً لتبادل السلع والخدمات بين دول العالم من المُستحيل إتمام عمليات التبادل المال والعملات المختلفة , فالمال هو الوسيط لتبادل الأشياء , وقبل إختراع هذه الوسيلة في الإقتصاديات البدائية وتلك التي تتسم بالعزلة والتعقيد كان الناس يقايضون أشياءهم بأشياء أخري لدي الغير ممن يتعاملون معهم , وكانت تلك طريقة غير كفئة إذ أنها تقتضي أن يجد المرء ذلك الشيئ الذي يريد أن يقايضه بما معه أي لابد من توافق الإحتياجات لدي الطرفين البائع والمُشتري وفي نفس الوقت والمكان , وهذا الوضع عندما كانت المجتمعات غير مأهولة بالسكان كاليوم وعندما كان العمران محدوداً جداً , لكن أما وأن عدد سكان العالم تجاوز الستة مليارات نسمة موزعون علي ست قارات تفصل بينهم بحار ومحيطات , فكان لابد من هذه الوسيلة الوسيطة : المال , كوسيلة دفع لقيمة محددة مُدونة علي الأوراق المالية (العملات) بقيم مختلفة لقاء سلعة أو خدمة معينة , وبالتالي يعتبر المال في حد ذاته وسيلة رئيسية من بين وسائل تحديد قيم السلع والخدمات المختلفة , وقد مرت العملات المالية بمراحل مُتتابعة بدأت بالعملات الذهبية والفضية التي تحتفظ بقيمتها في حد ذاتها ثم تطور هذا الأسلوب في الدفع إلي أن وصل إلي إصدار العملات الورقية , وتطور امر المال – وفقاً للنظرية النقدية – إلي درجة أن التغيير في المعروض من المال ينتج عنه تغيير في الأسعاروالدخل .
وهذه بعض هذه الآيات التي تُشير إلي ذلك :
– وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ ﴿١٧٧ البقرة﴾
– الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿٤٦ الكهف﴾
– وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴿٢٠ الفجر﴾
– وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ﴿١٥٥ البقرة﴾
– وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴿١٨٨ البقرة﴾
– لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١٨٨ البقرة﴾
– مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴿٢٦١ البقرة﴾
– الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴿٢٦٢ البقرة﴾
– وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴿٢٦٥ البقرة﴾
– إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴿١٠ آل عمران﴾
– وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢ النساء﴾
– وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿28 الأنفال﴾
– خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴿103 التوبة﴾
– إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿88 يونس﴾
– أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴿87 هود﴾
– يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿88 الشعراء﴾
– وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴿33 النور﴾
– وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ﴿39 الروم﴾
– وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿19 الذاريات﴾
– اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
– “رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا” . ﴿21 نوح﴾
في قصة أهل مدين نجد نفس القصة قصة المال الفاسد والفساد المالي , وبالتوازي مع ذلك نجد الدعوة إلي الصلاح ومحاولة إصلاح هؤلاء ‘صلاح عقيدته بإبعادهم عن عبادة غير الله تعالي الواحد الأحد وتحري الأمانة والصدق والشفافية في معاملاتهم التجارية وإصلاح نظامهم الإقتصادي كله القائم علي الغش والتدليس والتلاعب بالإسعار , والقصتان قصة الفساد وقصة الصلاح والإصلاح يعيشهما العالم منذ دعوة النبي شعيب ونضاله مع أهل مدين الذين إنتقم الله تعالي منهم وقضي عليهم , وقصة الصلاح , والقصتان تتكرران مرة أخري بنفس السيناريو والمعاني ولكن بشخوص وأزياء وألوان ومسارح مختلفة عن زمن النبي شعيب بطبيعة الحال , تجري في عالمنا المعاصر وفيه كحالة أهل مدين موجات الكفر والإلحاد تتوالي فيه وتلقي تشجيعاً من الذين أوغلوا في فسادهم من أصحاب النفوس الفاجرة , بينما يتصدي لهذه الموجات المُصلحون المؤمنون بالله تعالي الذين دائماً ما يُوجه الله تعالي لهم النداء في القرآن الكريم بيا أيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
قصة قوم النبي شعيب قصة فـــســـاد مـــجـــتـــمـــع :
من الملائم حتي يمكننا إستنزال قصة أهل مدين و أصحاب الأيكة – الذين كانوا يعبدون شجرة ضخمة – علي واقعنا ولكلاهما وجه النبي شعيب – وهو أحد أربع أنبياء عرب – دعوته أن نعرض أولاً لموجز عن هذه القصة مُستوحاة من القرآن الكريم فبلدة أو مدينة مدين (يقول البعض أنها مدينة معان الأردنية حالياً ويقول آخرون انهم ساكني المنطقة المُمتدة بين خليج العقبة وشبه جزيرة سيناء) تقع بالقرب من خليج العقبة وأهلها من أبناء سيدنا إسماعيل نبي الله وكان يحكمهم ملك جبار مكروه من حكام عصره و أمرهم هذا الملك بإحتكار تجارة الطعام وإنقاص مكاييلهم وموازينهم , ولما تدخل النبي شعيب لمنع التجار من الإستجابة لدعوة هذا الملك إستدعاه ولما قابله سأل الملك شعيباً : أراض أنت عما نفعل أم ساخط ؟ رد النبي شعيب: لقد أوحي الله تعالي إلي أن أي ملم يفعل مثل ما تفعله أنت يكون ملكاً فاجراً , فأمر الملك بإخراجه أو نفيه من المدينة : ” لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا ” (الآية 88 من سورة الأعراف) , ومع كل ذلك لم يفت النفي والتهديد في عضد النبي شعيب فواصل دعواه لأهالي مدين وأصحاب الأيكة حتي يحيدوا عن سبيل الكفر والفساد التجاري وكان النبي شعيب خطيباً مفوهاً بليغاً وكان عرضه لدعواه يتميز بالصدق والمنطق , وخشي الملك وأصحاب النفوذ التجاري أن تؤثر دعوة النبي شعيب في رواج تجارتهم أو تحولها من مدينتهم وأسواقهم إلي مدينة وسوق آخرين بسبب كشفه للعامة والمتعاملين مع هؤلاء غشهم وتخسيرهم في الموازين والمكاييل تماماً كما هي الحال في عصرنا الراهن ين إتحادات الدفاع عن المُستهلكين والمؤسسات الصناعية والزراعية والخدمية , وقد ربط النبي شعيب ربطاً عضوياً بين كفر قوم مدين وأصحاب الرس وبين عدم صدقهم في التسعير : ” وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ” {سورة الشعراء آية 183} وعدم وفاءهم في المكاييل , ومن المعلوم أن قصة النبي شعيب لم تُذكر في العهد القديم وكان سلوك أهل مدين سلوكاً شائناً فهم بعبادتهم الشجرة أنكروا توحيد الله عز وجل كما أنهم أيضاً كانوا يعمدون إلي الإلتواء والعناد في سلوكهم مع من يتعاماون معهم في التجارةوهم الذين تنكب أهل مكة أو قريش خطاهم في كفرهم وطغيانهم وأهل مدين إحترفوا العمل التجاري بحكم موقعهم بين الشام ومصر وشبه الجزيرة العربية وقد كان من الطبيعي في مجتمع كهذا أن يدعوهم النبي شعيب إلي الإيمان بالله الواحد الأحد وإلي تحري السلوك القويم والنزيه المُدعم بالشفافية في تعاملاتهم الإقتصادية مع الآخرين وبالرغم من غناهم في مجتمع إجتمعت فيه أسباب الوفرة إذ أن النبي شعيب ذكرهم بهذه الوفرة التي لا تجعله مُضطرين لإتباع أساليب الغش والإحتكار والتلاعب بالأسعار لولا أنه من طبيعته ونقائصهم الأخلاقية فقد قال لهم : ” إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ” إلا أنهم أبوا بكل العناد الإستجابة لما دعاهم النبي شعيب إليه فقد كذبت الأكثرية من أهل مدين دعوة النبي شعيب إليهم بالكف عن الكفر بالله تعالي وأنعمه والتوقف عن الفساد التجاري والذي تضمن الغش والتدليس والتزييف وهو سلوك مازال رائجاً في أيامنا هذه ولهذا وأمام تغول قوي الفساد وافتقاد الشفافية أسست كثير من الحكومات أجهزة وهيئات لمكافحة الفساد وإستعادة الشفافية وهنام منظمة عالمية للشفافية تُلقي الضوء علي تحري الحكومات للشفافية من خلال وضع ونشر مؤشر عالمي للشفافية علي مستوي العالم لكشف مستوي أداء هذه الدول إقتصادياً وإجتماعيا ألخ .
ظل قوم مدين يكذبون ويجادلون نبي الله شعيب ويرمونه بكل التهم ويهددونه إن لم يرعوويبتعد عنهم وأستضعفوه هو ومن معه فقالوا له كما سبق وقالوا لأنبياء من قبله : ” فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (الآية 27 من سورة هود) , ولم يكن تكذيب أهل مدين للنبي شعيب وتكذيبهم أياه وإلقاء التهم جزافاً عليه وعلي من إتبعه وهم القليل من المؤمنين لم يكن ذلك إلا تكراراً لموقف الفاسدين في كل زمن من دعوة الصلاح والإصلاح ونظرة إلي حرب المُصطلحات والمفاهيم التي تُصنع فيما وراء أسوار المجتمعات ثم تُرسل لعلب الإعلام المصنوعة من صفيح صدئ لترويجها بين الناس إستغلالاً لتآكل النزعة والقواعد الإيمانية لديهم مع جهلهم المُطبق أو مع تدني تعليمهم توفر لنا رؤية أوسع وأعمق للجبهة العريضة جداً التي تجري عليها المعركة بين قوي الفساد والصلاح في عالمنا وتقدم أدواتها وأسلحتها , هذه المعركة التي تبدأ أول ما تبدأ بالتكذيب فهكذا كان أمر الأنبياء ممثلي قوي الصلاح والهدي مع قوي الفساد والضلال والشر في مجتمعاتهم , إذ أننا نجد أنهم بنص القرآن الكريم كذبوا النبي شعيب : ” كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (الآية 176) كما كذبت ثمود أخوهم صالح : ” كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ” (الآية 141) و قبلهم قوم عاد الذين كذبوا النبي هود : ” كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ” (الآية 123) وقبلهم قوم نوح كذبوه أيضاً : ” كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ” (الآية 105) و تكذيب كل هؤلاء الفاسدون لم يكن مُستنداً علي دليل لديهم بل لإت طبيعتهم الفاسدة أذهبت عقولهم فلم يروا سبيل الرشاد وللأسف فإن من لم يهتد منهم كان الكثرة ففي نفس السورة يقول الله تعالي : ” إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ “(الآية 67) وتكرر نفس المعني حرفياً مع قوم عاد” وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ” وبعدهم قوم ثمود وقوم شعيب , وهو معني يُستنبط منه – فيما يتعلق بقضية الفساد في الأرض- أن الكثرة من بني آدم أميل للفساد وسفك الدماء , كما قالت الملائكة في الملأ الأعلي لله عز وجل : ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ “(سورة البقرة الآية 30 أما القلة المُؤمنة فهم من حق عليهم قوله سبحانه وتعالي : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴿٢٤سورة ص الآية24﴾ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴿الآية 14 من سورة الواقعة﴾” بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ” (الآية 88 من سورة البقرة) “وَلَٰكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا” (الآية ٤٦ من سورة النساء﴾ , ” كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴿الآية249 من سورة البقرة﴾ ” وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ” (الآية 83 من سورة النساء﴾ ” بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ” (الآية ١٥٥ من سورة النساء﴾ “وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ” ( الآية 40 من سورةهود) “وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ “( الآية41 من سورة الحاقة﴾ وهذا القليل من المؤمنين هم أنفسهم الذين أستودع الله فيهم كراهية الفساد ومقاومته , هؤلاء هم من حافظوا علي فطرتهم وهؤلاء هم من يدعمهم الله تعالي في معركة الدائرة بين قوي الفساد والضلال والشر وقوي الصلاح والهدي والخير وهو ما قاله سبحانه وتعالي فيهم : ” يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ “(الآية 116 من سورةهود﴾ وهذا الدعم الإلهي يجعل من هذه القلة كثرة غالبة بإذن الله علي الأمد البعيد فالله سبحانه وتعالي قال في محكم آياته : “وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ” (الآية 86 من سورة الأعراف﴾ .
القلة المُؤمنة بالتوحيد والمناهضة لفساد العقيدة :
في قصة النبي شعيب كما في قصص عاد وثمود ونوح وغيرهم من قصص الأمم الموغلة في القدم نجا هؤلاء الأنبياء مع القلة المؤمنة برسالتهم وهلكت الأكثرية التي أصرت علي الكفر والفساد وكان عقابهم رهيب أسماه القرآن الكريم “يوم الظلة” فإذ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ وَ الْغَيْمَ لتسعة أيام إلي أن صار ماؤهم حميماً ساخناً غير صالح للشرب ولا للري , فتوجهوا إلي رس أي منطقة غابية بها أشجار كثيرة ليستظلوا فيها و لكن الله تعالي رفع فوقهم سحب سوداء أمطرت عليهم ححم بركانية في صورة جمرات أحرقتهم صرعتهم عن بكرة أبيهم ويُقال في بعض المصادر أن زلزالاً تزامن مع ذلك قضي علي من تبقي منهم كل ذلك مصحوب بصرير مرعب فلم تعد الأكثرية بذلك أكثرية إذ أن الله أهلكهم وقضي عليهم فتحولوا من أكثرية غالبة إلي ذكري أو أثر من بعد عين وأنتصرت القوي المؤمنة قوي الصلاح والإصلاح وهو ما قاله الله تعالي للملائكة عندما أمرهم بالسجود سجود تحية لا عبادة لسيدنا آدم قال تعالي : ” إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (الآية 30 من سورة البقرة) وقضايا الفساد في أيامنا هذه تختلف في التفاصيل والأماكن لكنها لن تختلف في النهاية فنهاية الفساد كتبها الله القاهر فوق عباده إذ قال تعالي : ” إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (الآية15 من سورة الدخان﴾ و :” نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ (الآية24 من سورة لقمان﴾ فالله تعالي الذي سوي النفس الإنسانية وألهمها فجورها وتقواها يعلم : ” يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ” (الآية 19 من سورة غافر) ومن ثم فهو سبحانه يعلم أن هؤلاء الفاسدون في كل زمان ومكان حتي لو كشف عنهم العذاب قليلاً فسيعودون إلي ممارساتهم الفاسدة في مجتمعاتهم بل ومع تقدم وسائل وأدوات الإتصال سيصلون بفسادهم إلي مجتمعات أخري فيما يمكن وصفه “بـعـولـمة الفساد” ورغم ما يراه ضعاف الإيمان بالله تعالي في عالمنا من أن هؤلاء الفاسدون لا يصيبهم أذي أو ضرر ما بل ولا تصل إليهم يد العدالة الإنسانية إذ أن فسادهم الثقيل لا يزنه ميزان العدالة الذي تحمله المرأة معصوبة العينين والتي قد لا يعرف أينا إن كانت إراداتها مسلوبة أم حرة حتي تكون مؤهلة لهذه المهمة فلربما كانت هذه المرأة من نسل قوم مدين ؟ فوفقاً للحسابات الإيمانية ليست الكثرة بكثرة ولا القلة بقلة ونُستدل علي ذلك من أختلاف حسابات البشر للزمن عن الحساب الآلهي له وهناك إشارة واضحة في القرآن الكريم عن ذلك منها قوله تعالي في سورة المعارج الآية الرابعة : ” تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ” , و كذلك في سورة السجـدة الآية الخامسة إذ يقول تعالي: ” يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ”هذا غير ما ورد في سورة الكهف عن المؤمنين الذين لجأوا للكهف وناموا فيه سنين عدداً فلما إستيقظوا لم يدركوا ما المدة التي مكثوها سادرين في نومتهم ؟ ولهذا فلا يمكن أن يتطابق ولا حتي يتقارب وصف القلة بالمفهوم الآلهي مع وصف القلة بالمفهوم البشري ففي حسابات المعركة الجارية منذ الأزل بين قوي الفساد وقوي الصلاح تُوصف الكتلة البشرية الفاسدة بأنها “الكثرة” فيما تُوصف القوي المواجهة لها وهي قوي الصلاح بأنها “القلة” ومن الخطأ الجسيم بمعيار الإيمان الحق الإعتماد علي الترجمة البشرية الرقمية الرياضية للقوتين ذلك أن الله تعالي أصدر حكمه الأبدي في هذه المسألة بقوله تعالي : ” وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ” (الآية 44 من سورة الأنفال﴾ ” وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴿الآية 44 من سورة الأنفال﴾ وهذا يعني ان الحسابات الرقمية والرياضية في المعركة بين قوي الفساد والصلاح قد تكون مُعتمدة عند بني البشر لكنها ليست كذلك عند الخالق الأعظم مُدبر الأمر كقوله تعالي , فالآيتين الخامسة من سورة السجدة والرابعة من سورة المعارج وهذه تُؤكدان وبجلاء قدر التباين بين حساباتنا وحسابات الحسيب العادل كما أنه سبحانه قال في محكم آياته : ” كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ” (الآية٢٤٩من سورة البقرة﴾ والنتيجة أنه رغم غلبة الفاسدين من الناحية العددية والمالية إلا أن المعركة لا يحسمها كثرة العدد ولا الغلبة المالية والنفوذ إنما يحسمها المؤمنين إيماناً راسخاً بالصلاح والإصلاح هؤلاء هم من يتمسكون بالقيم الإنسانية الصالحة لإستمرار الحياة علي الأرض والمحافظة علي قابليتها للحياة بإبقاءها صالحة لا تطالها يد الفاسدين وهؤلاء هم من علي كاهلهم تحقيق الآية الكريمة : “إن الله لا يُصلح عمل الفاسدين” سورة يونس آية 81 وكما سبق وأشرت فإن آيات القرآن الكريم بداخلها تروس تعمل بلا أي توقف منذ خلق الله تعالي الأرض وما عليها وأستخلف بني آدم فيها وبالتالي فأحكام هذه الآيات حقائق واضحة تعمل حتي يرث الله تعالي الأرض وما عليها وهي أحكام واضحة وضوح الشمس إلا لمن ضل فلن يري ذلك لطبيعته الفاسدة .
كما سبق وأشرت فإن قصة النبي شعيب مع أهل مدين وأصحاب الأيكة جوهرها هو نفس جوهر ما يحدث في أيامنا هذه ولكن مع تغيير طبيعي للأماكن والأسماء فالإختلافات ينحصر في شكل وإتساع مسرح الأحداث وربما اللغات المُستخدمة ونظم الحكم وأزياء الناس والتعداد السكاني ووسائل المواصلات والإتصال ألخ في الزمنين أما الثوابت في قصة أهل مدين وقصة بني آدم في أيامنا الحاضرة فهي كما أشرت في قضية الفساد فساد الكثير من النفوس ذلك الفساد قاد الكثرة من أهل مدين إلا القليل منهم إلي الغش والخداع والتدليس وتكذيب المصلحين وتهديدهم بالنفي أو القتل إيهما أنسب ويقود أهل الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم لنفس هذه الجرائم إلا القليل منهم للنزوع إلي إقتراف نفس هذه الجرائم والإنتهاكات للحقوق الأساسية للبشر .
مما يدل علي صعوبة مهمة المصلحين في زمن النبي شعيب وكذلك في زمن هؤلاء المصلحون الحادبون علي مقاومة الفساد بمختلف أشكاله في عصرنا الراهن أن الفاسدين في الزمنين يفصلون فصلاً تاماً بين قضيتي الإيمان بالله تعالي وما يقترفونه من جرائم وآثام في حق مجتمعاتهم والآخرين ففي قصة النبي شعيب مع قوم مدين وأصحاب الأيكة نجد الكثرة من هؤلاء وهي تجادل النبي شعيب تتبني إعتقاداً معوجاً كالذي أشرت إليه فهم قالوا للنبي شعيب : ” قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (سورة هود الآية 87) فمنطق هؤلاء أن الصلاة مُنفكة الصلة عن الحياة الإنسانية وعن المجتمع مع أن صلاة النبي شعيب لله تعالي الذي قال النبي لفومه الفاسدين : ” قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ( سورة هود الآية 84) وقال لهم “وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (سورة هود الآية 90)” وقال الله تعالي له وللمؤمنين في كل الأزمان ” إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ (الآية ٤٥ من سورة العنكبوت﴾ ولإن فساد التصرفات أو النزوع نابع من فساد النفس , لذلك تبني هؤلاء الفاسدون شأنهم في ذلك شأن فاسدي هذا الزمان إعتقاداً مفاده أن لا صلة بين الفساد والدين وفي صدارته الصلاة التي هي عماد الدين , لذلك سألوا النبي شعيب سؤالاً إستنكارياً هو : ” أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ” وبذلك بات واضحاً للنبي شعيب إستحالة هداية هؤلاء الذين يجعلون الدين مُنفصلاً عن الدنيا , وكيف ذلك والدنيا دار إبتلاء وإختبار؟ ولم يكتف هؤلاء بالتصريح بفساد إعتقادهم بل زادوا بأن ألقوا علي النبي شعيب باللائمة كونه في نظرهم رجل حليم رشيد ولا علم له أو إعتقاد بأنه لا صلة بين الدين والصلاة لله والكفر به سبحانه وتعالي عما يصفون وممارستهم لجرائم الغش والتدليس والخداع التجاري والإقتصادي , فالرشد في نظرهم أن تكون وتظل فاسداًوإن كان هذا مفهومهم عن الرشد فما عسي الضلال أن يكون ؟ لذلك كان من الطبيعي أن يكون رد النبي شعيب عليهم بلهجة مُفعمة بالإصرار واثقة من إستحالة هدايتهم أذ قال لهم : ” وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ۖ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (سورة هود الآية 93) , والناس كما يُقال أعداء ما يجهلون فهؤلاء جهلوا نعمة الإيمان وإحترام حقوق الإنسان أي إنسان وأصروا علي الغي والخداع , أصروا علي إشاعة الفساد في مجتمعهم ومجتمعات الآخرين فشبكات الفساد مُتصلة وبمراجعة مؤشري الفساد والشفافية في العالم الذين وضعتهما منظمات مُتخصصة يتأكد أمر إتصال شبكات الفساد في عالمنا المُعاصر علي النحو الذي سأستعرضه لاحقاً .
تقودنا قصة النبي شعيب مع أهل مدين وأصحاب الأيكة إلي ركن هام من أركان قضية الفساد في عصر النبي شعيب وكذلك في عصرنا وهذا الركن هو ما يُطلق عليه “المحسوبية (Favoritisme أو Népotisme) , إذ قال القرآن الكريم في سورة هود إتصالاً بهذا الركن من أركان الفساد : “قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ” (91) وكان رد النبي شعيب عليهم أن قال : ” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ” (سورة هود الآية 92) , وهو بعد إجتماعي , فهؤلاء الفاسدون لأن رهط النبي شعيب في الغالب علي شاكلتهم لهذا إعتبره هؤلاء الفاسدون مانعاً لهم بسبب صلة القربي بين النبي شعيب وهذا الرهط المُرتبط بمصالح تجارية وإقتصادية مع هؤلاء الفاسدون بمجتمع مدين , ولهذا نجا النبي شعيب فيما لم ينج نبي آخر في حالة أخري مُشابهة وهي حالة أصحاب الرس(لم يذكر القرآن الكريم أسم هذا النبي صراحة) حيث أغرقه الكفار الفاسدين في البئر, وكانت الإشارة القرآنية لهذا النبي في نص الآية الآتية : ” كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ” (سورة ق الآية 12) , ولقد خشي أهل مدين الفاسدين أن يصيبوا النبي شعيب بأذي حفاظاً علي روابطهم التي هي في الغالب إقتصادية , ولذلك قال النبي شعيب لهم : ” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ” , إذ لو كان رهط النبي شعيب من القليل الذين آمنوا لرد عليهم وقال لهم مباشرة : ” اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ” , فالفاسدون بلا مبدأ ثابت , أي ليس لديهم ثوابت أو نظام أخلاقي أوقيمي محدد , فهم أناس مصلحيين إنتهازيين يمكنهم التخلي عن أي مبدأ يعتنقونه بسهولة وبضغط حاجتهم وأطماعهم لقاء الحصول علي ونيل فرصة صعبة أو مكسب مغر عليه تنافس حاد , ولذلك لم يتمادوا في إلحاق الأذي بالنبي شعيب خوفاً علي مصالحهم مع رهطه , أما في الإسلام فالقاعدة هي : أن لا محسوبية ولا فساد يعترض سير العدالة , ففي صحيح مسلم ” عن عائشة – رضي الله عنها – أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة ، حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم – فكلمه أسامة , فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « أتشفع فى حد من حدود الله » , ثم قام فاختطب فقال : « أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » ,
– ” فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ” (سورة هود آية 116) , مرة أخري تؤكد هذه الآية حكم الله تعالي في خلقه منذ بدء الخلق حتي يوم يُبعثون , فالله تعالي قال للملائكة الذين رأوا في الإنسان فاسد وسافك للدماء , لكن الله تعالي إستودع في الإنسان فطرة سليمة البعض من بني آدم يحافظ عليها ويستمسك بها والكثير يفسدها بأفعاله الشريرة فتتحول صفحة وجه الإنسان مع غيه وفساده إلي مسخ شائه , وقد تناول الأديب الإيرلندي أوسكار وايلد نفس هذه التحول في نفس الإنسان وإنعكاسه علي صفحة وجهه في روايته المعروفة وعنوانها ” The Picture of Dorian Gray ” والتي ورد فيها هذه العبارة : ” ”
– ” قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ” (سورة النمل آية 34) تفسير الإمام الشعراوي لهذه الآية : أن الـمـلـكة بلقيس تـعـرض رأيها في {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] ذلك لأنهم يريدون مُلْكاً فينهبون كل ما يمرُّون به بل ويُخربون ويفسدون , لماذا؟ لأنهم ساعةَ يصل الملِك المغير لا يضمن النصر لذلك يُخرِّب كل شيء حتى إذا ما عرف أنه انتصر وأن الأمور قد استقرتْ له يحافظ على الأشياء ولا يُخربها {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] لأن الملْك يقوم على أنقاض مُلْك قديم فيكون أصحاب العزة والسيادة هم أول مَنْ يُبدأ بهم لأن الأمر أُخِذ من أيديهم وسوف يسعَوْن لاستعادته ولابد أنْ يكون عندهم غَيْظ ولَدَد في الخصومة أما قوله تعالى: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] فللعلماء في ذلك كلام: قالوا إنه من كلام بلقيس وكأنه تذييل لكلامها السابق لكن ماذا يضيف {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] بعد أن قالت {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] فالرأي الصواب أن هذه العبارة من الحق سبحانه وتعالى ليُصدِّق على كلامها وأنها أصابت في رأيها فكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية مما يدل على أن الحق سبحانه رب الخلْق أجمعين إذا سمع من عبد من عبيده كلمة حق يؤيده فيها لا يتعصب ضده، ولا يهضمه حقه)
خـــــاتــــمــــة
أشــــرت إلي أن القرآن الكريم كله عبارة عن رسالة سرمدية مُوجهة لبني آدم من يوم نزوله وحياً إلي يومنا هذا ولآخر الزمان , وفي هذا قال تعالي :” وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ (196) (سورة الشعراء) , والظهور في هذه الآية لغوياً يعني الإنتصار والغلبة والعلو والنفوذ , وهو أمر واقع في عالم الأمس كما هو في عالم اليوم ولاحقاً , وألاحظ في هذه الآية التي موضوعها الفساد أنه سبحانه وتعالي لم يُقرن الفساد فيها بالأرض , كما قرنه في كل الآيات التي تحدثت عن الفساد , لكنه سبحانه قرنه بالبر والبحر وكلاهما يتشكل منه كوكب الأرض ولقد أشار القرآن الكريم إلي البر في 13 آية وذكر البحر في 32 آية , وهناك آية أخري أشارت إلي البر وهي الآية 63 حتي الآية 66 من سورة الأنعام وفيها يقول سبحانه و تعالي : ” قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ” , وفي الآية 22 من سورة يونس يقول سبحانه : ” هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ” , فالبر أو اليابسة تشغل 29% من مساحة الأرض فيما تشغل البحار والبحيرات والمحيطات النسبة الباقية أي 71% , وإشارة الله سبحانه وتعالي إلي البر والبحر لحكمة , فالله تعالي قال ” وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ” (سورة النمل الآية 6) , وبناء علي ذلك تكون الإشارة إلي البر مُتضمنة مجتمعات اليابسة التي يحيا عليها المجتمع الإنساني ومعه الجزء الأكبر من المملكتين الحيوانية والنباتية , ومكونات الحياة الأخري كالماء العذب في الأنهار والبحيرات العذبة والمالحة والسماء والغازات ( بالنسبة للغازات فبدراسة الجزء المُدرك من الكون إتضح تكونه أساساً من غاز الهيدروجين بنسبة تتعدي 74% وأن هذا الغاز يليه في الكثرة غاز الهليوم بنسبة 24% من مادة الكون المنظور , وأن باقي “105 عناصر” يعرفها إنسان اليوم تكون أقل من 2% من مادة الجزء المُدرك من الكون , وقد قادت المُلاحظة إلي الإستنتاج الصحيح بأن الله تعالي يخلق لنا جميع العناصر من غاز الهيدروجين بإندماج نوي ذرات هذا الغاز – وهو أخف العناصر وأبسطها بناء – مع بعضها البعض ومع مضاعفات ذلك في داخل النجوم , وينشأ عن هذا التفاعل النووي كل الطاقات الهائلة التي تنتجها تلك النجوم) * (21) , والبترول والمعادن التي في باطن الأرض , وفي البر أو اليابسة دائماً ما تكون الغلبة لطائفة الفاسدين أما المصلحين والمؤمنين فقليلون كما سبقت الإشارة , وغلبة الفساد والفاسدين ليست مُطلقة ولا هــي دائــمــة فهي دورات أو موجات غير متتالية كانت وستظل كذلك لأن المجتمعات البشرية أصبحت رخوة وتماهي أفرادها مع قواعد عمل وضعها أو يتحكم فيها الفاسدين , وبعض هذه القواعد عرفية ترسخت مع إستقرار ممالك وإمارات الفساد والفاسدين وبعضها الآخر قواعد قانونية من وضع البشر وهي لذلك قابلة للصواب وللخطأ , وبعض هؤلاء الفاسدون أفرزتهم عمليات ديموقراطية شكلية بدعم من إعلام مُستأنس تنازل عن ولاءه للقيم والمثل العُليا التي أصطلحت عليها المجتمعات البشرية في عقدها الإجتماعي الذي تراضي أفراد المجتمع علي الحفاظ عليه بل والدفاع عنه من أجل الإستقرار والأمان الإنساني , ولذلك نجد أنه في معظم أنحاء العالم أصبح بعض الفاسدون نافذون في صناعة القرار في بلادهم بل ومُشرعون بموجب مواقعهم بالبرلمانات أو وزراء أو قادة جماعات ضغط Lobbies ذات شكيمة كجمعيات رجال الأعمال أو ما شابه , وهم ومن يتواطئ معهم من رجال السلطة كل في موقعه يضعون الخطط الإقتصادية والقوانين المالية والنقدية بما يجعل من المالية العامة لهذه الدولة أو تلك في خدمة تحقيق أهدافهم التي هي في الواقع البنية الأساسية لمجتمع الفساد المليئ بمستنقعات الفساد التي لا يمكن أن تكون بيئة صالحة لنمو مجتمع صالح مشرعة أبوابه أمام جميع أفراده بالعدل كل حسب إمكاناته ومواهبه , مجتمع طارد للفساد والفاسدين , وهذه الآية المُحكمة البنيان والمغزي تؤكد أن ظهور أو إنتصار الفساد إنما هو إنتصار وهزيمة في نفس الوقت للجميع فهو إنتصار الفاسدين علي الصالحين من جانب وهو هزيمة للمجتمع بأسره فاسديه وصالحيه في الحسابات الختامية للمسألة من جانب آخر , فلا يمكن حتي للفاسدين وجماعات الضغط الفاسدة أن يعزلوا أنفسهم في حجر صحي أو Quarantine ضد أمراض الفساد وعواقبه وهي مُتفشية في المجتمع الذي يُفسدونه , كما أنهم حتي مع إنتصاراتهم الوقتية فهم ليسوا بمأمن عن عقاب الله تعالي لهم , والقرآن الكريم أشار إلي ذلك في سورة الإسراء إذ قال تعالي :{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ” (الآية 58) , }وكما قال الإمام الشعرواي ” ….. ولسائل أنْ يسأل : هل لابد للقرى الظالمة أن ينالها الإهلاك أو العذاب قبل يوم القيامة ؟ نعم , لابد أن يمسَّهم شيء من هذا ؛ لأن الله تعالى لو أخَّر كل العذاب لهؤلاء إلى يوم القيامة لاستشرى الظلم وعمَّ الفساد في الكون،وحين يرى الناس الظالم يرتع في الحياة ، وينعم بها مع ظلمه لأغراهم ذلك بالظلم ، أما إذا رأوه وقد حاق به سوء عمله ، ونزلت به النوازل لارتدعوا عن الظلم ، ولَعلِموا أن عاقبته وخيمة ، ولن يفلت الظالم من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة , أما لو تأخر عذاب الظالمين إلى الآخرة فالوَيْل مِمَّنْ لا يؤمنون بها , إنهم مع كل أفراد أي مجتمع مُعرضين للإصابة بها , فالله سبحانه وتعالي- كما قال فضيلته – يتدخل ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما عملت أيديهم ,فهم إنتهكوا قانون صلاح الأرض وإنتظام حركة مجتمعاتها وفقاً لقانون الله سبحانه وتعالي : ” قانون افعل ولا تفعل “, والذي مواده الأساسية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و تحري الحلال وإجتناب الحرام , إذن فالفساد عمل إنساني صرف فهو كما قال الله تعالي { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ…} , ولأنه خروج عن قانون: ” افعل ولا تفعل “, لذلك فهو يستحق العقاب: “{ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ..} [الروم: 41] .
إن مواجهة الفساد في أيامنا هذه مهمة ربما إعتبرها البعض أكثر صعوبة وقسوة من الفساد الذي كان في عصر النبي شعيب عليه السلام , كما أن المدد الإلهي إنـــقــطــع عن الأنبياء والرسل وبعد خاتم الأنبياء والرسل مُحمد صل الله تعالي عليه وآله وسلم أيضاً فــ:” مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ” (سورة الأحزاب الآية40) , وصارت مواجهة الفساد مهمة بني البشر بأنفسهم ولكن بوسائل أخري من صنع بني البشر , فبفضل التقدم التقني في أيامنا هذه في أدوات وسائل المواصلات والإتصالات والإعلام وتسارع حركة التعمير أمكن الإحاطة والكشف والتشهير بالفاسدين وقضايا الفساد , وبإستخدام هذه التقنيات إضطلع المصلحين – في النظم الحية في عالمنا المُعاصر – بإقامة وإدارة مؤسسات ومنابر كاشفة وفاضحة للفساد والفاسدين في البر أو في يابسة كوكبنا مثل منظمة الشفافية الدولية Transparency International وHuman Rights Watch وِAmnisty International و مراسلون بلا حدود Reporters Sans Frontières (منظمة غير حكومية أُسست عام 1985 إستنادا علي المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من أجل حرية الصحافة وتداول المعلومات مقرها باريس تتمتع بصفة مستشار لدى الأمم المتحدة) وغيرهما لمواجهة الفساد المالي والإقتصادي والحقوقي والإجتماعي , , .
الـــــــــــــــســــــــــفـــــيــــر : بـــــــــــلال الـــــمــــصــــري –
حصريا المركز الديمقراطي العربي – الـــــقــــاهـــرة تـحــريـــراً في 28 نوفـــمــــبـــر 2024