طوفان الأقصى: بداية عصر جديد من التهديدات الوجودية لإسرائيل
اعداد : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
في صباح السابع من أكتوبر 2023، استفاقت دولة الاحتلال الإسرائيلي على مفاجأة غير متوقعة، تمثلت في هجومٍ منظمٍ ومدروسٍ أطلق عليه الفلسطينيون اسم “طوفان الأقصى”. هذا الهجوم الذي قامت به فصائل فلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، أسفر عن مئات الضحايا الإسرائيليين، وأدى إلى تدمير منشآت حيوية، واختراق أمني عميق لحدود إسرائيل، ما أثار تساؤلات كبيرة حول مدى قدرة الدولة العبرية على مواجهة هذا التحدي غير المسبوق. ومن هنا، يبرز السؤال الجوهري: هل يشكل “طوفان الأقصى” تهديدًا وجوديًا لدولة الكيان الإسرائيلي؟
إسرائيل، التي تأسست على أساس من الأمن العسكري القوي والردع النووي، لطالما اعتبرت نفسها محصنة ضد التهديدات الخارجية، موقنة بأن تفوقها العسكري ووجود حلفاء استراتيجيين مثل الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يضمن لها البقاء في مواجهة أي خطر. إلا أن “طوفان الأقصى” كان بمثابة جرس إنذار، إذ أظهر قدرة الفصائل الفلسطينية، رغم الإمكانيات المحدودة، على إحداث تأثير عميق في قلب الأمن الإسرائيلي، سواء على المستوى العسكري أو النفسي أو حتى السياسي. هذا الهجوم لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان بمثابة تحذير لحكومة إسرائيل، يكشف الثغرات في منظومتها الأمنية والسياسية، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الدولة الصغيرة التي اعتقدت أنها محمية من أي تهديد وجودي قد تكون في مرحلة جديدة من الصراع، تكون فيه التحديات أكثر تعقيدًا وأعمق تأثيرًا.
لكن من هو “التهديد الوجودي” بالنسبة لإسرائيل؟ هل هو تهديد مباشر يمكن أن يعصف بها ويقضي على وجودها؟ أم أنه تهديد يبرز في تصاعد التوترات الداخلية، في تراجع الثقة في مؤسساتها الأمنية، وفي تدهور علاقتها مع حلفائها الدوليين؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا الهجوم إلى تغييرات جذرية في ميزان القوى في المنطقة، بما في ذلك تعزيز موقف الفلسطينيين على الساحة الدولية وإعادة رسم ملامح القضية الفلسطينية التي لا تزال تلقي بظلالها على الشرق الأوسط؟
إننا عبر هذا الطرح نحاول الإجابة على هذه الأسئلة، من خلال تحليل أبعاد “طوفان الأقصى” وما أحدثه من تداعيات على الأمن الإسرائيلي، وعلى العلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. سنستعرض مدى تأثير الهجوم على طبيعة التهديدات الأمنية، وكيف يمكن أن يشكل بداية لفصل جديد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي قد يتجاوز الحدود التقليدية للصراع العسكري ليصل إلى تهديدات وجودية أكثر شمولًا.
هل شكل طوفان الأقصى تهديدًا وجوديًا لدولة الكيان الإسرائيلي؟
موضوع “طوفان الأقصى” يمثل واحدة من الأحداث الكبرى في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو يشير إلى الهجوم الفلسطيني الواسع الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023. السؤال المطروح، هل هذا الهجوم يشكل تهديدًا وجوديًا لدولة الكيان الإسرائيلي؟ يتطلب تحليلًا عميقًا للمواقف العسكرية والسياسية والتاريخية، فضلاً عن استشراف عواقب هذا الهجوم على مستقبل إسرائيل. لتفكيك هذا السؤال، نحتاج إلى النظر في عدة محاور:
- 1. تعريف “التهديد الوجودي“
قبل الخوض في تفاصيل الهجوم نفسه، من المهم أن نوضح ما المقصود بـ “التهديد الوجودي”. التهديد الوجودي لدولة ما يعني تهديدًا يؤدي إلى إمكانية القضاء عليها أو تدمير هويتها السياسية والاجتماعية بشكل كامل. في حالة إسرائيل، فإن التهديد الوجودي يمكن أن يكون ناتجًا عن عدة عوامل، مثل غزو عسكري شامل من قبل جيوش دول عربية، أو انهيار أمني داخلي نتيجة لأحداث كبرى مثل تلك التي تشهدها الساحة الفلسطينية.
- 2. طوفان الأقصى: خلفية وتفاصيل الهجوم
طوفان الأقصى هو هجوم منظم بدأ من قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، حيث شنّت فصائل فلسطينية، وخاصة حركة حماس، هجومًا على إسرائيل، شمل إطلاق صواريخ بعيدة المدى، واختراقات أمنية على الحدود، بالإضافة إلى عمليات عسكرية من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. الهجوم أسفر عن مئات القتلى في صفوف الإسرائيليين، إضافة إلى تدمير منشآت حيوية في عمق إسرائيل.
كان الهجوم مفاجئًا وغير متوقع، مما جعل تأثيره أكبر. لم يقتصر الهجوم على العمليات العسكرية فحسب، بل شمل أيضًا أساليب نفسية تهدف إلى زعزعة استقرار المجتمع الإسرائيلي.
- 3. التهديدات العسكرية
من الناحية العسكرية، لا يمكن القول أن طوفان الأقصى يمثل تهديدًا وجوديًا مباشرًا لإسرائيل بشكل كامل، وذلك لأسباب متعددة:
– تفوق عسكري إسرائيلي: إسرائيل تمتلك جيشًا قويًا من حيث التكنولوجيا المتقدمة، والطيران الحربي، والدفاع الجوي (مثل القبة الحديدية)، وقوات مشاة مدربة، مما يجعلها قادرة على الرد بشكل قوي على أي تهديد.
– القدرة على الردع: إسرائيل تملك سياسة الردع عبر ترسانة نووية وقوات أمنية مدربة لمكافحة الهجمات من داخل الأراضي المحتلة أو عبر الحدود.
– حرب شاملة من جميع الجبهات: رغم أن الهجوم كان من غزة، فإن تهديدًا وجوديًا لدولة إسرائيل يتطلب هجومًا من أكثر من جبهة في آن واحد، مثل الجبهات اللبنانية (حزب الله) والسورية، الأمر الذي لم يحدث بشكل كافٍ.
- 4. التهديدات النفسية والاجتماعية
ورغم التفوق العسكري الإسرائيلي، إلا أن الهجوم يمثل تهديدًا وجوديًا على مستوى آخر، وهو التأثير النفسي والاجتماعي:
– إرهاق المجتمع الإسرائيلي: الهجوم فجر أسئلة حول قدرة إسرائيل على ضمان أمن شعبها في ظل التهديدات المتزايدة من مجموعات غير حكومية، مثل حماس، والتي يمكن أن تشن هجمات بأساليب غير تقليدية.
– تدهور الثقة في الحكومة: الهجوم شكل ضغوطًا كبيرة على القيادة الإسرائيلية، خاصة بعد أن تبين أن الأجهزة الأمنية لم تكن قادرة على التنبؤ بالهجوم أو التصدي له في الوقت المناسب. وهذا يساهم في تراجع الثقة في قدرة الحكومة على حماية مواطنيها.
– زيادة التوترات الداخلية: الهجوم زاد من الانقسامات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي بين اليمين واليسار، وبين اليهود والعرب الإسرائيليين. مما يساهم في زيادة الاضطرابات الداخلية، وهي تهديد وجودي من نوع آخر.
- 5. التهديدات السياسية
من ناحية أخرى، الهجوم يمثل تهديدًا سياسيًا كبيرًا لإسرائيل، وقد يغير معادلات القوة في المنطقة:
– تعزيز التضامن الفلسطيني والعربي: هذا الهجوم قد يعزز من تماسك المواقف الفلسطينية والعربية ضد إسرائيل، خاصة إذا ارتبط بشبكة أوسع من الدعم الإقليمي والدولي. زيادة التحالفات بين الفصائل الفلسطينية قد تؤدي إلى تعزيز قدرتها على مواجهة إسرائيل.
– تدهور موقف إسرائيل دوليًا: بينما كانت إسرائيل تحظى في السنوات الأخيرة بتوسع في علاقاتها مع بعض الدول العربية عبر اتفاقات التطبيع (مثل اتفاقات أبراهام)، فإن هذا الهجوم قد يؤدي إلى تحول في موقف بعض الدول العربية، أو على الأقل زيادة الدعم للحقوق الفلسطينية.
– الضغوط الدولية: الهجوم قد يزيد من الضغوط الدولية على إسرائيل، خاصة من قبل منظمات حقوق الإنسان، مما يمكن أن يؤثر على صورتها الدولية ويقلل من شرعيتها في الساحة العالمية.
- 6. عوامل أخرى تؤثر في تقييم التهديد الوجودي
في النهاية، لا يمكن تقييم “التهديد الوجودي” بناء على حدث واحد، وإنما يجب أن نأخذ في اعتبارنا مجموعة من العوامل التي قد تتراكم على مدار الوقت:
– القدرة على الصمود الداخلي: إسرائيل قد تتأثر بهذا الهجوم على المستوى الاجتماعي والنفسي، لكن بفضل تماسك المجتمع الإسرائيلي والقدرة على إعادة البناء بعد الأزمات، قد تكون قادرة على امتصاص الصدمة والتعافي بسرعة.
– الاستراتيجيات المستقبلية: إسرائيل يمكن أن تكيّف استراتيجياتها العسكرية والسياسية لمواجهة تهديدات مشابهة، من خلال تعزيز الدفاعات الجوية وتطوير خطط للتعامل مع الأزمات الأمنية الداخلية.
– تغيير موازين القوى في المنطقة: إذا حدث تحول في الدعم الإقليمي والدولي للفلسطينيين، أو إذا أصبح هناك تصعيد من قبل إيران أو حزب الله، قد تتغير المعادلة بشكل كبير.
باختصار، فإن طوفان الأقصى، رغم كونه هجومًا مروعًا وأدى إلى تأثيرات عسكرية ونفسية هامة على إسرائيل، لا يشكل تهديدًا وجوديًا بمعنى أنه لن يؤدي إلى اختفاء دولة إسرائيل أو دمارها الكامل. لكن الهجوم يمثل تهديدًا استراتيجيًا على عدة مستويات: العسكرية، النفسية، السياسية، والاجتماعية. إذا كانت التهديدات العسكرية المحدودة قد لا تنهي الدولة، فإن الضغوط النفسية والاجتماعية والسياسية قد تكون تهديدًا بطيئًا ومستدامًا يؤثر على استقرار الدولة في المستقبل.
وفي نهاية المطاف، يمكننا القول بأن الهجوم الذي حمل اسم “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، شكل نقطة تحول فارقة في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهو لم يكن مجرد ضربات عسكرية فحسب، بل كان بمثابة زلزال فكري وأمني هز أركان دولة الاحتلال، وألقى الضوء على هشاشة الأمن الإسرائيلي الذي طالما اعتقدت إسرائيل أنها محمية منه. وبينما يتباهى الاحتلال بترسانته العسكرية المتقدمة ومنظوماته الأمنية المتطورة، جاءت هذه الهجمات لتكشف عن فجوات استراتيجية في الدفاعات، وتضع الحكومة الإسرائيلية أمام اختبار عسير يتعلق بقدرتها على التأقلم مع تحديات غير تقليدية تتجاوز الأساليب العسكرية المعتادة.
ورغم أن “طوفان الأقصى” لم يصل إلى حد القضاء على الدولة العبرية أو تهديد وجودها المباشر، فإن تداعياته قد تكون أكثر تأثيرًا مما يبدو للوهلة الأولى. فالهجوم كشف عن أزمة أمنية عميقة داخلية، وأدى إلى تآكل الثقة في قدرة القيادة الإسرائيلية على حماية مواطنيها، مما يفتح الباب أمام تصاعد الاضطرابات الداخلية والتوترات الاجتماعية. كما أن الهجوم أسهم في تعزيز التضامن الفلسطيني والعربي، وألقى بظلاله على العلاقات الدولية لإسرائيل، ما يجعلها أمام تحديات سياسية وإستراتيجية جديدة قد تؤثر على مكانتها في المنطقة والعالم.
إن “طوفان الأقصى” قد لا يكون قد هدد وجود إسرائيل على المدى القصير، لكن الدرس الأهم الذي يجب أن تستوعبه هذه الدولة هو أن التهديدات الوجودية لا تأتي دائمًا عبر الحروب التقليدية أو الجيوش النظامية، بل قد تأتي عبر حروب غير مرئية، يتم شنها من قبل فصائل مقاومة لا تمتلك إلا الإرادة والتصميم على تحقيق أهدافها. في هذا السياق، لا يجب النظر إلى هذا الهجوم كحدث عابر، بل كبداية لعهد جديد من التحديات التي قد تضع إسرائيل في مواجهة تهديدات أكثر تعقيدًا، على المستويين العسكري والنفسي، وهو ما يستدعي منها إعادة تقييم سياساتها الأمنية والإستراتيجية على كافة الأصعدة.
ختامًا، “طوفان الأقصى” لا يمثل مجرد رد فعل على ممارسات الاحتلال، بل هو تجسيد لروح المقاومة الفلسطينية التي لن تنكسر بسهولة، والتي رغم كل الصعاب، تواصل السعي نحو الحرية والعدالة. وإسرائيل، في ضوء هذا الهجوم، مدعوة لإعادة التفكير في سياساتها وميزان القوى في المنطقة، لأن المستقبل لن يكون كما كان في الماضي، والتهديدات الوجودية قد تتخذ أشكالًا جديدة تُؤكد أن الأمن لا يمكن ضمانه بالقوة وحدها، بل بالأعراف الإنسانية والعدالة المستدامة