الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الموانئ الأفريقية في الاستراتيجية الصينية: نفوذ اقتصادي أم توسع جيوسياسي

اعداد : محمود سامح همام – باحث مصري سياسي متخصص في الشؤون الأفريقية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تمهيد

في العقود الأخيرة، تسارعت وتيرة التوسع الصيني في أفريقيا، حيث أصبحت الموانئ البحرية في القارة جزءًا أساسيًا من استراتيجيات بكين الاقتصادية والجيوسياسية. وبينما تؤكد الصين أن هذه الاستثمارات تُسهم في تعزيز التجارة والتنمية الاقتصادية للدول الأفريقية، يرى بعض المراقبين أن الأمر يتجاوز ذلك ليصل إلى تعزيز النفوذ الصيني وخلق نقاط ارتكاز بحرية قد يكون لها أبعاد عسكرية مستقبلية. فهل تمثل هذه المشروعات نموذجًا جديدًا للتعاون الاقتصادي، أم أنها امتداد لاستراتيجية أوسع تسعى من خلالها الصين إلى تكريس وجودها كلاعب رئيسي في المعادلة الجيوسياسية العالمية؟

التمدد الصيني في موانئ أفريقيا: نفوذ اقتصادي أم توسع استراتيجي؟

تُعد الشركات الصينية المملوكة للدولة جهات رئيسية في تطوير وإدارة الموانئ الأفريقية، حيث تمتد أنشطتها إلى 78 ميناءً في 32 دولة. يتركز النفوذ الصيني بشكل أكبر في غرب أفريقيا، التي تضم 35 مشروع ميناء صيني، مقارنة بـ 17 في شرق أفريقيا، 15 في الجنوب، و11 في الشمال. وبذلك، تتواجد الصين في أكثر من ربع مراكز التجارة البحرية في القارة، وهو انتشار يتجاوز أي منطقة أخرى في العالم، حيث لا تمتلك في أمريكا اللاتينية سوى 10 موانئ، وفي آسيا 24 ميناءً فقط.

(1)

في العديد من المواقع، تتحكم الشركات الصينية في مشاريع تطوير الموانئ من التمويل إلى التشغيل. فمثلاً، في ميناء ليكي النيجيري، تولت شركة تشينا هاربور إنجينيرينغ (CHEC) عمليات البناء، وحصلت على تمويل من بنك التنمية الصيني (CDB)، وتمتلك حصة 54% في الميناء، الذي تديره بموجب عقد إيجار يمتد لـ 16 عامًا. وتحقق الصين عائدات تجارية تصل إلى 13 دولارًا أمريكيًا مقابل كل دولار تستثمره في الموانئ، مما يمنحها ميزة اقتصادية واستراتيجية بارزة. (2)

السيادة والمخاوف الأمنية: الهيمنة الصينية وتداعياتها

إلى جانب الفوائد المالية، يثير توسع الشركات الصينية في تشغيل الموانئ الأفريقية مخاوف تتعلق بالسيادة والأمن القومي، حيث يمكن للمشغلين التحكم في تخصيص الأرصفة، قبول أو رفض زيارات السفن، وتقديم تسهيلات تفضيلية للشحنات الصينية. لهذا السبب، تمنع بعض الدول الأجنبية إدارة موانئها لأطراف خارجية للحفاظ على أمنها القومي.

تمتلك الصين بالفعل امتيازات تشغيل في عشرة موانئ أفريقية، في وقت تتجه فيه القارة نحو خصخصة عمليات الموانئ لتحسين الكفاءة. ويُقدّر أن التأخير وسوء الإدارة يرفعان تكاليف المناولة في الموانئ الأفريقية بنسبة 50% مقارنة بالمعدلات العالمية، مما يجعل الحاجة إلى تحسين الأداء أولوية، رغم المخاطر المرتبطة بالاعتماد المتزايد على الشركات الصينية. (3) 

البعد العسكري: بين التجارة والتموضع الاستراتيجي

إحدى أبرز المخاوف بشأن توسع الصين في الموانئ الأفريقية هي إمكانية استخدامها لأغراض عسكرية. في عام 2017، توسعت الصين في تطوير ميناء دوراليه في جيبوتي، الذي بدأ كمشروع تجاري، ليضم منشأة بحرية أصبحت أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج بعد شهرين فقط من افتتاح الميناء. وأثار هذا التكهنات حول احتمال تكرار الصين لهذا النموذج في أماكن أخرى من القارة، مما يزيد من المخاوف بشأن أجندتها الجيوستراتيجية. (4)

تؤجج هذه التحركات قلق الأفارقة من الانجرار إلى التنافسات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، في وقت يتزايد فيه الحذر من استضافة المزيد من القواعد العسكرية الأجنبية. وبالتالي، يتزايد الاهتمام الأفريقي والدولي بتحليل تداعيات التوسع الصيني في الموانئ، ومدى ارتباطه بإنشاء قواعد عسكرية مزدوجة الاستخدام.

المنطق وراء استراتيجية الموانئ الصينية

تعكس الخطط الخمسية الصينية توجهات استراتيجية واضحة نحو تعزيز نفوذها البحري العالمي، حيث تضع الخطة الخمسية الحالية (2021-2025) أولوية لتوسيع شبكات الموانئ في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. ويمثل “إطار الربط” الذي يشمل ستة ممرات رئيسية، وثلاثة منها تمر عبر أفريقيا، دليلاً على محورية القارة في هذه الاستراتيجية. إذ ترتبط مصر، تونس، وكينيا وتنزانيا بهذه الممرات، ما يعزز دور أفريقيا كمنصة رئيسية ضمن الطموحات الصينية الكبرى. (5)

في هذا السياق، تسعى بكين إلى تكريس نفسها كـ”قوة بحرية عالمية”، وهو توجه يندرج ضمن رؤيتها الشاملة للارتقاء بمكانتها الجيوسياسية والاقتصادية. ويظهر مفهوم “المواقع الاستراتيجية الخارجية”، الذي تتبناه التحليلات الصينية غير الرسمية، مدى أهمية الموانئ الأفريقية ضمن أجندة النفوذ الصيني. إذ تعمل الشركات الصينية على إدارة واستثمار هذه الموانئ، مما يمنحها سيطرة مباشرة على حركة التجارة، فضلاً عن الأثر الاستراتيجي بعيد المدى.

البعد العسكري والاقتصادي: تكامل استراتيجي أم نفوذ مزدوج؟

يعد الاندماج العسكري-المدني من الركائز الأساسية للسياسة الصينية في إدارة الموانئ، حيث تتوافق البنية التحتية التجارية مع المعايير العسكرية، مما يجعلها قابلة للاستخدام في الأغراض الدفاعية. ونتيجة لذلك، أثارت هذه الاستراتيجية تساؤلات متزايدة حول الأهداف الصينية الحقيقية، خاصة بعد إنشاء قاعدة دوراليه في جيبوتي عام 2017، والتي بدأت كميناء تجاري قبل أن تتحول إلى أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج. (6)

على الجانب الاقتصادي، أدى توسيع الصين لموانئ أفريقيا إلى تعزيز اعتماد الدول الأفريقية على البنية التحتية الصينية. فقد شكلت استراتيجية “الخروج” (Zouchuqu Zhanlue) إطارًا لتشجيع الشركات الصينية على دخول الأسواق الناشئة، مستفيدةً من الدعم الحكومي والإعانات الضخمة. وأصبحت مبادرة “الحزام والطريق” امتدادًا لهذه الاستراتيجية، حيث ساعدت بكين في إنشاء منظومة تجارية بحرية عالمية تخدم مصالحها الاستراتيجية، مع ضمان بقاء الدول الأفريقية ضمن دائرة التأثير الصيني.

الهيمنة على التجارة الأفريقية: شراكة متوازنة أم تبعية اقتصادية؟

كان ضعف البنية التحتية للموانئ عائقًا أمام التجارة بين الصين وأفريقيا، ما دفع بكين إلى تمويل مشاريع كبرى لربط الموانئ بشبكات النقل الداخلي، خاصة في الدول غير الساحلية البالغ عددها 16 دولة. ونتيجة لذلك، أصبحت الموانئ الأفريقية جزءًا لا يتجزأ من المشهد التجاري الصيني، مما عزز قدرة بكين على التحكم في تدفق السلع والموارد. (7)

علاوة على ذلك، استفادت الشركات الصينية من تصدير تقنياتها وخبراتها، مما جعلها لاعبًا رئيسيًا في تطوير البنية التحتية للتصدير، والتي باتت الدول الأفريقية تعتمد عليها بشكل متزايد. ونتيجة لهذا الاعتماد، حققت بكين مكاسب سياسية غير متوقعة، حيث أصبحت الدول الأفريقية أقل ميلًا للانحياز ضد المصالح الصينية على الساحة الدولية، وأقل دعمًا للعقوبات التي تستهدفها. وكما أشار أحد الدبلوماسيين في الاتحاد الأفريقي: “إن الاعتماد على البنية التحتية الصينية يجعل الدول الأفريقية أكثر استعدادًا لدعم المصالح الصينية العالمية”.

أفق المستقبل: بين التعاون والتنافس الجيوسياسي

مع استمرار الصين في ترسيخ وجودها البحري في أفريقيا، يتزايد الجدل حول ما إذا كان هذا النفوذ يمثل شراكة متوازنة أم أداة للهيمنة الاقتصادية والسياسية. وبينما ترى بكين أن هذه الاستثمارات ضرورية لتنمية التجارة، تبرز مخاوف متصاعدة حول الأهداف الجيوستراتيجية الكامنة وراء هذا التوسع، خاصة مع تزايد المؤشرات على أن الموانئ الأفريقية قد تلعب دورًا مزدوجًا في المستقبل، يجمع بين الوظائف التجارية والعسكرية.

في ظل هذه المعادلة، يبقى التساؤل الرئيسي: إلى أي مدى ستتمكن الدول الأفريقية من الحفاظ على استقلالية قراراتها الاقتصادية والسياسية وسط النفوذ الصيني المتنامي؟”. (8)

التوسع العسكري الصيني في أفريقيا: النفوذ البحري في سياق استراتيجي

في إطار تعزيز مكانتها كقوة عالمية، تعمل الصين على تكثيف وجودها العسكري في الموانئ الأفريقية عبر نهج مزدوج يجمع بين الاستثمار الاقتصادي والبنية التحتية العسكرية. ومع تزايد عدد الموانئ التي تديرها الشركات الصينية، يبرز التساؤل حول الأبعاد الاستراتيجية لهذا التوسع، خاصة في ظل القدرات العسكرية المتنامية التي باتت تمتلكها هذه الموانئ.

الموانئ كمراكز دعم لوجستي وعسكري

تتسم بعض الموانئ الأفريقية، التي تعمل فيها الشركات الصينية، بمواصفات تتيح استقبال سفن البحرية الصينية، سواء لأغراض التزود بالوقود والصيانة أو حتى لاستضافة تدريبات عسكرية. وشهدت السنوات الأخيرة زيارات متكررة للبحرية الصينية لموانئ رئيسية في دول مثل المغرب، نيجيريا، جنوب أفريقيا، ومدغشقر، ما يعكس تنامي الاعتماد الصيني على البنية التحتية المينائية الأفريقية في دعم عملياتها البحرية.

علاوة على ذلك، استُخدمت بعض هذه الموانئ كنقاط انطلاق لمناورات عسكرية مشتركة، كما هو الحال في موانئ دار السلام (تنزانيا)، لاغوس (نيجيريا)، ودوراليه (جيبوتي). وفي بعض الحالات، لعبت المنشآت الصينية في هذه الدول دورًا محوريًا في تسهيل التدريبات العسكرية، حيث أنشأت الصين منشآت عسكرية متطورة في دول أفريقية، مثل قاعدة كيغامبوني البحرية في تنزانيا، مما يعكس الطابع المزدوج لهذه الاستثمارات. (9) 

التوسع الصيني ومخاوف عسكرة الموانئ

منذ عام 2000، أجرى جيش التحرير الشعبي الصيني 55 زيارة للموانئ الأفريقية و19 مناورة عسكرية ثنائية ومتعددة الأطراف، مما يشير إلى تحول تدريجي في دور هذه الموانئ من مراكز تجارية إلى نقاط دعم عملياتي. وعلى الرغم من أن الاستثمار الصيني في الموانئ يُبرَّر غالبًا بالدوافع الاقتصادية، إلا أن الواقع يشير إلى ارتباط وثيق بين المصالح الاقتصادية والأهداف العسكرية، كما يتضح من حصول شركة موانئ هاتشيسون الصينية على امتياز لتشغيل محطة في قاعدة أبو قير البحرية بمصر لمدة 38 عامًا، وهو مؤشر على التغلغل الصيني في البنية التحتية البحرية لدول ذات أهمية استراتيجية. (10)

الموانئ الصينية المحتملة كقواعد عسكرية مستقبلية

مع استمرار النقاشات حول أي الموانئ قد تتحول إلى قواعد عسكرية صينية مستقبلًا، تظهر بعض المؤشرات الحاسمة، مثل:

  • حجم الحصة الصينية في الميناء: تمتلك الصين نسبًا كبيرة في بعض الموانئ، مثل 66% من ميناء كريبي (الكاميرون)، 52% من ميناء ليكي (نيجيريا)، و50% من ميناء لومي (توغو)، ما يمنحها نفوذًا كبيرًا في إدارة هذه المنشآت. (11)
  • السجل العسكري السابق للميناء: استضافت 36 ميناءً أفريقيًا زيارات أو تدريبات عسكرية صينية، مما يعكس قدرتها على دعم عمليات بحرية أوسع.
  • المواصفات المادية والتقنية: تشمل عدد الأرصفة، سعتها، قدرات التزود بالوقود والصيانة، ومدى توافقها مع متطلبات الأساطيل العسكرية الصينية. (12)
  • العوامل الجيوسياسية والعلاقات الثنائية: تلعب قوة العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصين دورًا في تحديد المواقع المحتملة لأي وجود عسكري صيني مستقبلي.

الاعتبارات السياسية ومخاطر السيادة

مع تصاعد الوجود الصيني في الموانئ الأفريقية، يبرز تحدٍ رئيسي يتعلق بالسيادة الوطنية للدول المضيفة. فبينما تدافع بكين عن استثماراتها باعتبارها محفزًا للتنمية الاقتصادية، يتزايد القلق من أن هذه المشاريع قد تؤدي إلى تقويض الاستقلالية الاستراتيجية للدول الأفريقية، خاصة مع احتمال إعادة توظيف الموانئ التجارية لأغراض عسكرية. (13)

كما أن الرأي العام المحلي بات عاملاً حاسمًا في هذا النقاش، إذ تتزايد الأصوات الرافضة للوجود العسكري الأجنبي في بعض الدول الأفريقية، مما قد يُشكل عقبة أمام التوسع الصيني في المستقبل.

التوازن بين المصالح الاقتصادية والمخاوف السيادية في الاستثمارات الصينية بالموانئ الأفريقية

شهدت الموانئ الأفريقية توسعًا ملحوظًا في الاستثمارات الصينية، حيث تُعتبر جزءًا من استراتيجية متكاملة لتعزيز النفوذ الاقتصادي والجيوستراتيجي للصين. وبينما تُروَّج هذه المشاريع على أنها تُسهم في تحسين الكفاءة التجارية وخفض تكاليف النقل وتعزيز القدرة التنافسية للأسواق الأفريقية، فإنها تثير أيضًا تساؤلات حول تأثيرها على السيادة الوطنية والأمن الإقليمي.

ورغم تركيز النقاشات الرسمية على المكاسب الاقتصادية، نادرًا ما يتم تناول الأبعاد السيادية أو الأمنية لهذه المشاريع، خصوصًا في ظل تنامي عسكرة السياسة الصينية في أفريقيا، وزيادة التدريبات العسكرية وزيارات البحرية الصينية للموانئ الأفريقية. ويخشى بعض المراقبين من أن يؤدي ذلك إلى إدخال الدول الأفريقية، دون قصد، في دائرة التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، مما قد يُقوّض التزام القارة بمبدأ عدم الانحياز.

لذلك، يتطلب تحقيق توازن حقيقي بين الفوائد الاقتصادية والمخاطر السيادية تعزيز دور الحكومات الأفريقية وخبراء الأمن القومي والمجتمع المدني في تقييم تداعيات هذه الاستثمارات. ويتعين عليهم تطوير استراتيجيات تحافظ على الاستقلالية المالية، وتحمي السيادة الوطنية، وتضمن عدم تحول هذه المشاريع إلى أدوات نفوذ سياسي أو عسكري على حساب المصالح الاستراتيجية الأفريقية. (14)

ختامًا، مع استمرار الصين في توسيع استثماراتها في الموانئ الأفريقية، تبقى التساؤلات مطروحة حول الأهداف الحقيقية لهذه المشروعات ومدى تأثيرها على سيادة الدول المضيفة. وبينما تستفيد العديد من الدول الأفريقية من البنية التحتية المتطورة التي توفرها الصين، فإن مخاوف الهيمنة الاقتصادية والتوظيف العسكري لهذه الموانئ تظل قائمة. وفي ظل التنافس الدولي المتصاعد على النفوذ في القارة، يبقى التحدي الأهم أمام الدول الأفريقية هو تحقيق التوازن بين الاستفادة من الاستثمارات الصينية والحفاظ على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي.

قائمة المراجع

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى