الشرق الأوسطعاجل

الذكاء العسكري بين واشنطن وبكين وموسكو: سباق السيطرة على المستقبل وصياغة ملامح النظام الدولي الجديد

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر

 

يشهد العالم في العقود الأخيرة تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا في أنماط القوة العسكرية، يتجسد في صعود الذكاء الاصطناعي كفاعل حاسم في تشكيل القدرات القتالية وصناعة القرار الاستراتيجي. وفي قلب هذا التحول، تتنافس ثلاث قوى عظمى—الولايات المتحدة الأمريكية، وجمهورية الصين الشعبية، وروسيا الاتحادية—على قيادة هذا المجال الحرج، كلٌ وفق رؤيتها، ومواردها، وطموحاتها الجيوسياسية. وتُظهر التحركات المتسارعة لهذه القوى أن الذكاء العسكري لم يعد مجرد تقنية مساعدة، بل أصبح محورًا رئيسيًا في صياغة توازنات الردع وبنية النظام العالمي المقبل.

الاستراتيجية الأمريكية في هذا السياق تستند إلى إرث طويل من القيادة التكنولوجية، وتستثمر بقوة في مشاريع دمج الذكاء الاصطناعي ضمن المنظومات الدفاعية والاستخباراتية. وقد عمل البنتاغون، عبر مبادرات مثل “مشروع ميفن” ومركز الذكاء الاصطناعي المشترك، على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة للتفوق العملياتي، تسعى من خلالها الولايات المتحدة إلى ضمان سرعة الحسم في النزاعات، وتقليل الاعتماد على العنصر البشري في القرارات الميدانية. هذه المقاربة تعكس رؤية استراتيجية أمريكية تعتبر أن حروب المستقبل ستُكسب ليس بمن يملك العدد الأكبر من الجنود، بل بمن يملك الخوارزمية الأكثر تطورًا، والقدرة على تحليل وتحريك الكم الهائل من البيانات في الوقت الفعلي. ورغم هذه الطموحات، يُثار جدل داخلي ودولي حول البُعد الأخلاقي لهذه البرامج، خاصة ما يتعلق بالأنظمة القتالية الذاتية والقرارات التي قد تتخذها خارج الرقابة البشرية.

على الجانب الآخر، تسعى الصين إلى بناء استراتيجية تقوم على الدمج الكامل بين الأغراض المدنية والعسكرية في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويُعد مبدأ “الاندماج العسكري المدني” ركيزة أساسية في هذه السياسة، حيث تنخرط شركات التكنولوجيا الكبرى في خدمة مشروع قومي واسع لإعادة تشكيل القوة العسكرية الصينية، وتحويلها إلى قوة تعتمد على التنبؤ الذكي، والتحليل السلوكي، والتدخل الوقائي المدعوم بخوارزميات متقدمة. وتُترجم هذه الرؤية في مشاريع تطوير طائرات بدون طيار ذكية، وأسلحة تعتمد على تقنيات التعلم الآلي، وأنظمة مراقبة شاملة ترتبط مباشرة بغرف عمليات مركزية ذاتية التحديث. هذا التقدم التكنولوجي لا يعكس مجرد طموح دفاعي، بل يندرج ضمن مشروع أوسع تسعى من خلاله بكين إلى كسر الاحتكار الغربي للتكنولوجيا، وإعادة توزيع القوة العالمية على أسس رقمية ومعرفية جديدة. ويعكس هذا التوجه رغبة صينية جامحة في لعب دور محوري في رسم خرائط النفوذ الجيوسياسي عبر ما يمكن تسميته “الهيمنة الخوارزمية”.

أما روسيا، فتنطلق من خلفية استراتيجية مختلفة، تقوم على توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة لتعويض الفجوة الكمية والتكنولوجية التي تفصلها عن خصومها في الغرب. وتندرج هذه الاستراتيجية ضمن فلسفة “الحرب الهجينة”، حيث تُدمج الوسائل التقليدية بالسيبرانية والنفسية والمعلوماتية، لخلق فضاءات صراع غير متناظرة ومباغتة. وتنشط روسيا في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي المرتبطة بالحرب الإلكترونية، والتشويش على الأقمار الصناعية، وتفكيك منظومات القيادة والسيطرة لدى الخصم، فضلًا عن بناء قدرات هجومية إلكترونية تستند إلى تحليل سلوك الخصوم ونقاط ضعفهم. وقد تجلّى ذلك بوضوح خلال العمليات الروسية في أوكرانيا، حيث ظهرت نماذج لحرب تعتمد على أدوات خفية ومدعومة بخوارزميات تشويش وتضليل، ما يجعل روسيا فاعلًا معقدًا في مشهد الذكاء العسكري، يمزج بين التقدم التقني والتكتيكات غير التقليدية.

إن التداعيات المترتبة على هذا السباق الثلاثي تتجاوز حدود التنافس العسكري المباشر، وتمتد لتشمل إعادة تعريف مفاهيم الأمن القومي والسيادة والتفوق الاستراتيجي. ففي ظل صعود ما يُعرف بـ”الحوسبة الحربية”، تتزايد المؤشرات على أن ساحة المعركة قد تنتقل من الميدان إلى الفضاء الرقمي، حيث يتم شن الهجمات وتحديد الأهداف وتنفيذ العمليات من خلال أنظمة ذاتية قادرة على التعلم واتخاذ القرار دون تدخل بشري مباشر. هذا التحول يحمل في طياته مخاطر جيوسياسية كبرى، إذ قد يؤدي إلى تسريع ديناميات التصعيد، وتقليص الوقت المتاح للردع أو التفاوض، وربما يخلق بيئة استراتيجية غير مستقرة، يسود فيها الشك، وتزداد فيها احتمالات سوء الفهم والتقدير.

كما أن هذا السباق يهدد بإعادة إنتاج النظام الدولي على أسس طبقية رقمية، تفصل بين “قوى ذكية” قادرة على قيادة الذكاء الاصطناعي وتسليحه، و”قوى متخلفة” تُجرد تدريجيًا من استقلالها السيادي وقدرتها على التأثير. وفي ظل غياب إطار قانوني دولي ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية، يبرز خطر الانزلاق نحو حروب غير متوازنة أو قرارات إبادة تتخذها أنظمة مستقلة دون رقابة، ما يستدعي حوارًا عالميًا جادًا حول أخلاقيات الذكاء العسكري وحدوده المشروعة.

في المحصلة، لم يعد الذكاء العسكري مجرد سلاح من أسلحة المستقبل، بل أصبح ساحة معركة قائمة بذاتها، تتواجه فيها القوى الكبرى عبر شبكات البيانات، والخوارزميات، والقرارات المؤتمتة. ومن هنا، فإن فهم الاستراتيجيات المختلفة لكل من الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، لم يعد ترفًا تحليليًا، بل ضرورة ملحّة لفهم طبيعة النظام العالمي الجديد الذي يُرسم الآن بخيوط رقمية دقيقة، تتسلل إلى كل مفاصل القوة والسيادة والردع.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى