رأس المال الإجرامي: قراءة جيوسياسية في اقتصاديات التطرف بالساحل الإفريقي

بقلم : أ. محمود سامح همام – باحث سياسي مصري متخصص في الشؤون الأفريقية
- المركز الديمقراطي العربي
في قلب الصحراء المترامية الأطراف، حيث تتقاطع طرق القوافل القديمة مع مسارات التهريب الحديثة، تقف منطقة الساحل على خط الزلازل الجيوسياسي، حاملةً في طياتها مزيجًا متفجرًا من التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. فهنا، تتشابك خيوط التطرف العنيف مع شبكات الجريمة المنظمة، ويذوب الحد الفاصل بين الدوافع الأيديولوجية والمصالح الربحية في سياق إقليمي تتسارع فيه الانهيارات المؤسسية والانقسامات السياسية. إن الاقتصادات غير المشروعة، من الذهب غير القانوني إلى تجارة الأسلحة والمخدرات وتهريب البشر، باتت شرايين تمويل رئيسية للتنظيمات الإرهابية التي تنخر في جسد المنطقة، وتعيد رسم خرائط النفوذ بعيدًا عن سلطة الدولة. وفي ظل محدودية قدرة الحكومات على فرض القانون، وتراجع فاعلية الأطر الإقليمية، يجد الاتحاد الأفريقي نفسه أمام اختبار وجودي، يفرض عليه تجاوز مقاربة “إدارة الأزمات” نحو استراتيجية حاسمة لتفكيك الهياكل التي تغذي التطرف وتطيل أمد الفوضى.
أولًا: المشهد الاستراتيجي والأمني في الساحل: عقدة الصراعات ومختبر التهديدات العابرة للحدود
تمثل منطقة الساحل الإفريقي اليوم واحدة من أكثر المسارح الجيوسياسية هشاشة وخطورة في النظام الدولي. فهي ليست مجرد نطاق جغرافي يمتد من موريتانيا غربًا إلى السودان شرقًا، بل هي حزام استراتيجي هش يفصل شمال أفريقيا العربي عن عمق أفريقيا جنوب الصحراء، ويمثل معبرًا تاريخيًا للتجارة والتهريب والحركة البشرية.
خلال العقدين الماضيين، تحولت هذه المنطقة إلى مسرح مركب للصراعات، حيث تتقاطع التهديدات الأمنية مع أزمات الحوكمة المزمنة، وتتصاعد التوترات بين المكونات الاجتماعية على خلفية الصراعات حول الموارد الشحيحة، وخاصة الأراضي والمياه، والمؤشرات الدولية، مثل مؤشر الإرهاب العالمي 2025، تكشف عن واقع مقلق، إذ تستحوذ منطقة الساحل على 51% من إجمالي الوفيات الناتجة عن الإرهاب عالميًا، متقدمة على بؤر النزاع الأخرى في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.
لكن وراء هذه الأرقام تختبئ بنية اقتصادية موازية، تمثل المحرك الفعلي لاستدامة الصراع، حيث تمتزج الأيديولوجيا بالعوائد المالية، ويتحول الإرهاب من مشروع سياسي/عسكري إلى منظومة اقتصادية قائمة بذاتها، قادرة على تمويل ذاتها واستقطاب عناصر جديدة دون الاعتماد الكلي على مصادر خارجية.
ثانيًا: الذهب غير المشروع ورأس المال الاستراتيجي للجماعات المتطرفة
تعتبر الموارد الطبيعية، وبخاصة الذهب، العمود الفقري لاقتصاديات الحرب في الساحل. فالمنطقة غنية برواسب الذهب، لكن ضعف سيطرة الدولة على الأطراف النائية فتح الباب أمام الجماعات المسلحة للتمدد والسيطرة، ووفق تقرير للأمم المتحدة (2023)، فإن التعدين الحرفي والصغير النطاق – وغالبًا غير القانوني – يمثل نحو نصف إنتاج الذهب في المنطقة. هذا الواقع لا يعني فقط خسارة الدول لإيرادات بمليارات الدولارات، بل يعني أيضًا أن جزءًا كبيرًا من العوائد يذهب مباشرة إلى الخزائن السرية للجماعات المسلحة.
جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التابعة لتنظيم القاعدة، وضعت يدها على عدد من المناجم الحيوية، وفرضت نظامًا ضريبيًا موازٍ على العمال والمجتمعات المحلية. هي تقدم نفسها باعتبارها “سلطة حاكمة بديلة” تمنح التراخيص، وتسمح بالتعدين وحتى قطع الأشجار في المحميات الطبيعية، في مقابل دفع الرسوم وتقديم الولاء، والأخطر أن هذه الجماعات لا تكتفي بتحصيل الضرائب، بل تدير سلاسل القيمة الكاملة: من الاستخراج، إلى النقل، ثم التهريب عبر الحدود، وغالبًا بالتنسيق مع شبكات إجرامية دولية تمتلك القدرة على تصريف الذهب في الأسواق العالمية.
هذا الدمج بين النشاط المسلح والنشاط الاقتصادي حول الذهب إلى عملة صراع استراتيجية، حيث يُقاس النفوذ ليس فقط بعدد المقاتلين أو حجم الأراضي المسيطر عليها، بل أيضًا بحجم المناجم والطرق التجارية الواقعة تحت السيطرة.
ثالثًا: أسواق السلاح غير المشروع و البنية التحتية للعنف المستدام
لا يمكن فهم تصاعد العنف في الساحل دون النظر إلى اقتصاد السلاح غير المشروع، الذي يمثل شريان حياة للجماعات المتطرفة وشبكات الجريمة المنظمة على حد سواء.
تقدّر التقارير الأمنية أن هناك نحو 12 مليون قطعة سلاح غير مشروع متداولة في غرب أفريقيا، تشمل الأسلحة الصغيرة، والذخيرة الحية، والعبوات الناسفة، والقذائف الصاروخية، وحتى الطائرات المسيّرة التي أصبحت أداة جديدة في الحرب غير المتماثلة.
هذه الأسلحة تصل إلى المنطقة عبر ثلاثة مسارات رئيسية:
- تدفق مخزونات ليبيا بعد 2011، حيث وجدت الجماعات المسلحة في الساحل سوقًا مثالية لهذه الترسانة.
- الفساد داخل بعض المؤسسات العسكرية، حيث يتم تسريب الأسلحة من مخازن الجيوش إلى السوق السوداء.
- الإنتاج الحرفي المحلي، الذي يزدهر في ورش سرية، ويشكل في بعض الدول – مثل بوركينا فاسو – نحو 60% من الأسلحة المضبوطة من المدنيين.
المدن الحدودية، مثل تين زوتين وملام فاتوري وتيرا، تحولت إلى مراكز لوجستية للأسلحة، حيث يجري التبادل بين الإرهابيين والمهربين، أحيانًا مقابل الذهب أو المخدرات بدلًا من المال النقدي، وهذه السوق السوداء لا تغذي فقط الجماعات الجهادية، بل أيضًا الميليشيات العرقية وجماعات الحماية الذاتية، التي تملأ فراغ الدولة الأمني، لكنها غالبًا ما تكرس الانقسام العرقي والطائفي، وتدفع باتجاه دوامة من الهجمات الانتقامية المتبادلة.
رابعًا: المخدرات كأداة تمويل وإضعاف للمجتمع
تجارة المخدرات في الساحل ليست نشاطًا عرضيًا، بل هي مكون أصيل في اقتصاديات الصراع. المخدرات منخفضة التكلفة، مثل الترامادول والمواد الأفيونية المصنعة، تنتشر على نطاق واسع بين الشباب العاطل، الذي يجد فيها متنفسًا من الإحباط الاقتصادي والاجتماعي.
الجماعات المسلحة، وخاصة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، تدرك هذه الديناميكية جيدًا، وتفرض ضرائب على طرق تهريب المخدرات التي تمر عبر مناطق سيطرتها، خاصة تلك التي تنطلق من غرب أفريقيا نحو شمالها ومنها إلى أوروبا، وبهذا الشكل، يصبح الإدمان أداة مزدوجة: فهو يموّل التنظيمات من جهة، ويضعف البنية الاجتماعية للمجتمعات المحلية من جهة أخرى، مما يسهل عملية التجنيد.
الأخطر أن طرق تهريب المخدرات غالبًا ما تتقاطع مع طرق تهريب الذهب والسلاح، مما يؤدي إلى تشابك شبكات الإجرام العابر للحدود، ويجعل من الصعب تفكيكها دون استراتيجية شاملة تستهدف جميع هذه الأنشطة في آن واحد.
خامسًا: الحدود الرخوة وممرات مفتوحة للجريمة العابرة للحدود
ضعف الرقابة على الحدود في الساحل هو نتيجة تفاعل بين العوامل الجغرافية والسياسية والمؤسسية. فالحدود تمتد لآلاف الكيلومترات عبر تضاريس صحراوية قاسية، مما يجعل من المستحيل تقريبًا إحكام السيطرة عليها بموارد دولة واحدة، والأحداث السياسية الأخيرة، مثل الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وانسحاب هذه الدول من إيكواس، فاقمت المشكلة، إذ أضعفت البنية المؤسسية للتعاون الحدودي، وخلقت بيئة تتنافس فيها الدول على النفوذ بدلًا من التنسيق الأمني.
استكمالًا، في هذه البيئة، تتحول الحدود إلى شرايين إمداد مفتوحة للشبكات الإجرامية، التي تستخدم مسارات تهريب مرنة يمكن تعديلها بسرعة لتجنب نقاط التفتيش القليلة المتوفرة، والنتيجة هي أن هذه المساحات غير المحكومة أصبحت مناطق نفوذ فعلية للجماعات المسلحة، التي تستغلها لتأمين خطوط الإمداد وحركة المقاتلين، وتعزيز الاقتصاد الموازي.
سادسًا: الاتحاد الأفريقي بين القدرة الكامنة والإرادة السياسية الغائبة
الاتحاد الأفريقي يتمتع من الناحية النظرية بموقع مؤسسي يسمح له بلعب دور مركزي في تنسيق الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في الساحل. لكن هذا الدور ظل محدودًا بفعل:
- الإحجام السياسي عن فرض قرارات ملزمة على الدول الأعضاء المخالفة لمعايير الحوكمة.
- التأخر الميداني في نشر قوة إقليمية فعّالة على الأرض رغم الحديث عن ذلك منذ أكثر من عقد.
- الانقسامات الإقليمية التي أضعفت التعاون مع التكتلات الفرعية مثل إيكواس.
ورغم أن مبادرات مثل عملية نواكشوط (2013) وضعت إطارًا للتنسيق في مكافحة الإرهاب، إلا أن غياب الثقة بين الأطراف، وضعف تبادل المعلومات الاستخباراتية، وغياب الموارد الكافية، جعلت هذه الأطر أقرب إلى منصات حوار منها إلى آليات تنفيذية فاعلة.
سابعًا: مسارات العمل المقترحة: استراتيجية متعددة الأبعاد لتعطيل اقتصاديات الحرب
إذا كان الهدف هو كسر الحلقة المفرغة بين التطرف والاقتصاد غير المشروع، فإن الاستجابة يجب أن تكون شاملة، وتشمل:
- تعزيز أمن الحدود
- إنشاء دوريات مشتركة على الحدود المتاخمة لمناطق التهريب.
- الاستثمار في التكنولوجيا مثل المراقبة بالأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة لرصد التحركات المشبوهة.
- استهداف المعاقل الاقتصادية للتطرف
- تنفيذ عمليات عسكرية/شرطية منسقة لإغلاق المناجم غير القانونية.
- فرض سيطرة الدولة على الأسواق الحدودية التي تعد نقاط ارتكاز لتجارة السلاح.
- تنظيم الإنتاج الحرفي للسلاح
- تقنين ورش التصنيع المحلية وإخضاعها لرقابة الدولة.
- مراقبة المواد الخام اللازمة للتصنيع ومنع تهريبها.
- خلق بدائل اقتصادية للشباب
- برامج تنمية اقتصادية موجهة للمجتمعات الحدودية.
- تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة توفر وظائف وتحد من الاعتماد على التهريب أو الانضمام للجماعات المسلحة.
- إعادة بناء التعاون الإقليمي
- إحياء عملية نواكشوط مع إدخال آليات إلزامية لتبادل المعلومات.
- دمج جهود الاتحاد الأفريقي مع التكتلات الفرعية مثل إيكواس لتعزيز التنسيق.
في الختام، إن معالجة الأزمات المتشابكة في منطقة الساحل لا يمكن أن تتم من خلال حلول أمنية متفرقة أو مبادرات إنمائية منعزلة، بل تتطلب رؤية سياسية متكاملة تُدرك أن الإرهاب والجريمة المنظمة وجهان لعملة واحدة، وأن الاقتصادات غير المشروعة ليست مجرد أنشطة عابرة، بل منظومات نفوذ موازية تتحدى سلطة الدولة. ولعل الاتحاد الأفريقي، بما يملكه من شرعية إقليمية وأدوات دبلوماسية وأمنية، يقف اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة هندسة المشهد الأمني عبر بناء جبهة موحدة، تعالج جذور الصراع، وتعيد السيطرة على الموارد والمعابر الحدودية، وتعيد دمج الشباب في مشاريع تنموية تُخرجهم من دائرة الاستغلال والتجنيد. فإما أن يتحول الساحل إلى نموذج ناجح للتنسيق القاري في مواجهة التهديدات المركّبة، أو أن يبقى ساحة مفتوحة لصراع بلا نهاية، حيث تذوي الدولة وتتقدم الفوضى.