الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الرؤية الرقمية الصينية 2025: بين الشراكة الاقتصادية والهيمنة السيبرانية

بقلم : د. علي بدوي – المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة تحليلية:

في عالم يتجه نحو الرقمنة كقوة دافعة للنمو والنفوذ، لم تعد الاستراتيجيات الرقمية مجرد خطط تقنية، بل أصبحت ركيزة أساسية في صياغة موازين القوى العالمية. وفي هذا السياق، تبرز “رؤية الصين الرقمية 2025” ليس كبرنامج تنموي داخلي فحسب، بل كمشروع جيوسياسي متكامل الأبعاد يجسد عقيدة “التكنولوجيا القومية” (Techno-nationalism). يهدف هذا المشروع إلى إعادة تشكيل البنية التحتية العالمية للاتصالات والبيانات بما يخدم المصالح الصينية. تقدم هذه الورقة تحليلًا نقديًا لهذه الرؤية، وتفكك أهدافها المعلنة والطموحة، وتجادل بأنها استراتيجية ذات استخدام مزدوج، مصممة لتحقيق الازدهار الاقتصادي من جهة، وفرض الهيمنة الاستراتيجية في الفضاء الرقمي من جهة أخرى. وتكشف الورقة عن الازدواجية الكامنة في السياسة الصينية التي تجمع بين دبلوماسية “طريق الحرير الرقمي” الناعمة، والقدرات السيبرانية الهجومية الخشنة التي تُستخدم كأداة لفرض النفوذ وتحقيق أهداف استراتيجية.

  1. الرؤية الرقمية: أهداف قابلة للقياس

تتضمن الخطة الوطنية لنشر «الصين الرقمية» أهدافًا واضحة ومحددة كَميًا. تسعى بكين إلى رفع مساهمة الصناعات الأساسية في الاقتصاد الرقمي إلى ما يزيد عن 10% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025، وهي قفزة هائلة تعكس عزمها على التحول من “مصنع العالم” إلى “عقل العالم الرقمي”. يترافق هذا مع هدف زيادة القدرة الحاسوبية الوطنية إلى ما يزيد عن 300 EFLOPS. هذا الرقم ليس مجرد استعراض للقوة، بل هو أساس استراتيجي يمكّن الصين من تحقيق الريادة في مجالات حيوية مثل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الضخمة، وتسريع اكتشاف الأدوية، وإجراء عمليات محاكاة عسكرية معقدة. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الخطة لبناء سوق وطني موحد لعوامل البيانات، بهدف كسر العزلة بين قواعد البيانات الحكومية والخاصة وتحويل البيانات إلى أصل اقتصادي قابل للتداول، مما يعزز من كفاءة الاقتصاد الرقمي الصيني في مواجهة النموذج الأمريكي.¹

  1. مشاريع البنية التحتية: “حوسبة الشرق والبيانات والغرب”

لتحقيق هذه الأهداف، أطلقت الصين مشاريع بنية تحتية عملاقة، أبرزها مبادرة «الشرق بيانات — الغرب حوسبة»

(东数西算). تهدف هذه المبادرة إلى معالجة الاختلال الجغرافي التاريخي بين الشرق الساحلي المطور والغرب الداخلي الأقل نموًا. فمن خلال إنشاء ثمانية مراكز حوسبة وطنية وعشرة عناقيد بيانات كبرى في المقاطعات الغربية، تحقق الصين فائدة مزدوجة: الأولى هي تحفيز التنمية الاقتصادية في هذه المناطق، والثانية هي الاستفادة من وفرة مصادر الطاقة المتجددة (الشمسية والريحية) والمناخ البارد، مما يقلل بشكل كبير من التكاليف التشغيلية والتأثير البيئي لمراكز البيانات. لا يقتصر أثر هذا المشروع على الداخل الصيني، بل يؤسس لبنية تحتية قادرة على خدمة مبادرة الحزام والطريق، مما يجعل الصين مركزًا عالميًا لمعالجة وتخزين البيانات.²

  1. السيادة السيبرانية والقبضة التشريعية

تُعامل الصين الفضاء الرقمي كامتداد لسيادتها الوطنية، وقد بنت ترسانة تشريعية لفرض هذا المفهوم المعروف بـ “السيادة على الإنترنت” (网络主权). هذا المفهوم لا يعني فقط الحق في الدفاع عن الشبكات، بل يكرّس حق الدولة المطلق في التحكم بالمحتوى والبيانات والوصول إلى الإنترنت داخل حدودها. يشكل قانون الأمن السيبراني (2017)، مدعومًا بقوانين لاحقة كقانون حماية البيانات وقانون أمن البيانات، الإطار القانوني لفرض رقابة صارمة على تدفق البيانات وتوطينها. هذه القوانين تُلزم مشغلي البنى التحتية الحيوية، بما في ذلك الشركات الأجنبية، بالخضوع لعمليات فحص أمني شاملة وتخزين البيانات الصينية محليًا. ومع التعديل الأخير لقانون أسرار الدولة، الذي وسّع تعريف “الأسرار” ليشمل البيانات الاقتصادية والتكنولوجية الحساسة، تواجه الشركات الأجنبية ضغوطًا متزايدة للاختيار بين الامتثال الكامل، الذي قد يتضمن تسليم مفاتيح التشفير أو الشفرة المصدرية، أو خطر الإقصاء من أحد أكبر الأسواق في العالم.³

  1. الصراع السيبراني مع واشنطن: ازدواجية الخطاب والفعل

تزداد حدة المواجهة الرقمية بين بكين وواشنطن، حيث تتبع الصين استراتيجية مزدوجة تجمع بين الدبلوماسية الرقمية الرسمية والعمليات السيبرانية السرية. تقارير استخباراتية غربية ربطت مجموعات اختراق متقدمة، مثل Volt Typhoon، بأنشطة تجسس استراتيجية تستهدف البنى التحتية الأمريكية الحيوية (كالطاقة والمياه والاتصالات والنقل). الهدف هنا لا يقتصر على جمع المعلومات، بل يتعداه إلى “التموضع المسبق” (Pre-positioning) داخل شبكات الخصم. هذا التكتيك يعكس تحولًا في الفكر الاستراتيجي الصيني، من التجسس لأغراض اقتصادية إلى التحضير الميداني لسيناريوهات صراع مستقبلي (مثل أزمة تايوان)، حيث يمكن تفعيل هذه الاختراقات لتعطيل البنية التحتية للخصم وإعاقة قدرته على الاستجابة. تمثل هذه العمليات أنشطة “منطقة رمادية” (Gray-zone) بامتياز، فهي عدائية بطبيعتها لكنها تقع تحت عتبة الحرب التقليدية، مما يجعل مهمة الردع وتحديد استجابة متناسبة أمرًا بالغ الصعوبة.⁴

  1. التحالف التكتيكي مع روسيا

أضاف التقارب الصيني-الروسي بُعدًا جديدًا للمشهد السيبراني العالمي. يتجاوز التعاون بين البلدين مجرد المواقف السياسية المشتركة، ليشمل، بحسب تقارير تحليلية، تبادل الخبرات التكتيكية والأدوات السيبرانية. والأهم من ذلك، ينسق البلدان جهودهما الدبلوماسية في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات، للترويج لنموذج حوكمة الإنترنت الذي تقوده الدولة، كبديل للنموذج الغربي المفتوح القائم على تعدد أصحاب المصلحة. هذا التنسيق يزيد من تعقيد عمليات الإسناد (Attribution) عند وقوع هجمات، حيث يمكن للطرفين تنفيذ عمليات مشتركة أو بالوكالة، مما يخلق حالة من الغموض الاستراتيجي ويُصعّب مهمة الردع.⁵

خاتمة: تداعيات استراتيجية على الشرق الأوسط والدول الشريكة

إن الرؤية الرقمية الصينية ليست مجرد فرصة اقتصادية، بل هي تحدٍ سيادي وأمني للدول الشريكة، خاصة في مناطق حيوية مثل الشرق الأوسط. فبينما تقدم بكين استثمارات سخية وتقنيات متقدمة في مجالات الجيل الخامس والمدن الذكية، فإنها تفرض في المقابل “تبعية رقمية” تجعل البنى التحتية الحيوية لهذه الدول عرضة للتجسس أو التأثير الخارجي. إن ربط القطاعات المالية ومرافق الطاقة بشبكات ومعدات صينية يخلق نقاط ضعف يمكن استغلالها. على دول المنطقة الموازنة بحذر بين جني الفوائد الاقتصادية وحماية سيادتها الرقمية. وهذا يتطلب استراتيجية وطنية متكاملة تتضمن تنويع الشركاء التقنيين لتجنب الاعتماد على مصدر واحد، وسن تشريعات وطنية صارمة لحماية البيانات على غرار اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR)، وتطوير قدرات سيبرانية وطنية عبر إنشاء فرق استجابة لطوارئ الحاسب (CERTs)، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتبادل معلومات التهديدات، والاستثمار المكثف في رأس المال البشري لبناء جيل من خبراء الأمن السيبراني القادرين على الصمود في وجه تحديات العصر الرقمي.

الهوامش (Footnotes)

¹ The State Council of the People’s Republic of China, “Action Plan to Advance Digital China,” May 2025.

² “China’s Eastern Data, Western Computing Initiative: A Big Move for the Digital Economy,” China Briefing, February 18, 2025.

³ “Translation: Cybersecurity Law of the People’s Republic of China,” DigiChina, Stanford University, last updated June 1, 2017. See also: “China’s revised state secrets law,” Reuters, May 1, 2024.

⁴ “Volt Typhoon: China-Linked Hackers Target US Critical Infrastructure,” SecurityWeek, May 24, 2025.

⁵ Bobo Lo, “The Sino-Russian Partnership and the Global Order,” Council on Foreign Relations, March 15, 2025.

قائمة المراجع (Bibliography)

  • China Briefing. “China’s Eastern Data, Western Computing Initiative: A Big Move for the Digital Economy.” February 18, 2025.
  • DigiChina, Stanford University. “Translation: Cybersecurity Law of the People’s Republic of China.” Last updated June 1, 2017.
  • Lo, Bobo. “The Sino-Russian Partnership and the Global Order.” Council on Foreign Relations. March 15, 2025.
  • Reuters. “China’s revised state secrets law.” May 1, 2024.
  • SecurityWeek. “Volt Typhoon: China-Linked Hackers Target US Critical Infrastructure.” May 24, 2025.
  • The State Council of the People’s Republic of China. “Action Plan to Advance Digital China.” May 2025.
5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى