الجيش والحياة السياسية فى ساحل العاج
إعداد الباحث : محمود خليفة جودة
- المركز الديمقراطي العربي
تمهيد :
يعتبر تدخل العسكر في اللعبة السياسية ظاهرة منتشرة، درسها خبراء العلوم السياسية باستفاضة, وتمثل هذه الظاهرة تحد كبير لإرساء وسيرورة الأنظمة السياسية الديمقراطية, فتدخل العسكر في السياسة يعني أن يكون هناك كيان ممأسس له هيكلية تراتبية ويمتلك القوة ولكن لم يُطلب منه التصدي للحكم عن طريق الاقتراع الشعبي، وأن يستأثر هذا الكيان بالسلطة السياسية أو على الأقل أن يمارس تأثير كبير على هذه الأخيرة.
أن ﻗﻀﯿﺔ ﺗدوال اﻟﺴلطة ﻓﻲ أﻓﺮﯾﻘﯿﺎ ﺗﻌد ﻣﻦ أﻛﺜﺮ اﻟﻘﻀﺎﯾﺎ اﻟﻤﺜﯿﺮة ﻟﻠﺠدل واﻟﺘﻲ ﺗدور ﻓﻲ فلكها ﻛﺎﻓﺔ اﻷزﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎﻧﻲ منها دول هذه اﻟﻘﺎرة منذ حصولها ﻋﻠﻲ اﻻﺳﺘﻘﻼل ﻓﻲ ﺳﺘﯿﻨﯿﺎت اﻟقرن اﻟﻤﺎﺿﻲ ، ﻓﺄي ﺣدث ﯾﻘﻊ ﻓﻲ اﻟﻘﺎرة ﯾﻤﻜﻦ إرﺟﺎﻋﮫ اﻟﻲ اﻷﺳﻠﻮب الذى تم ﻣﻦ خلاله ﺗداول اﻟﺴلطة ، ﺑﻞ إن اﻟﻔقر واﻟﺤﺮوب الاأهليه واﻟﻤﺠﺎﻋﺎت واﻷﻣﺮاض اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎﻧﻲ منها هذه اﻟﻘﺎرة كلها ﻋﻮارض ﻟداء واﺣد أﻻ وھﻮ اﻟﺘﻨﺎﺣﺮ ﺑﯿﻦ مختلف اﻟﻘﻮي ﻓﻲ اﻟﻘﺎرة .
وﻗد ﻋﺎﺻﺮت اﻟﻘﺎرة اﻷﻓﺮﯾﻘﯿﺔ ﻧﻤﺎذج ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺗداول اﻟﺴلطة اﺳﺘﺨدم ﺑﻌﻀﮭﺎ أساليب ﺳﻠﻤﯿﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل اﻟﻲ اﻟﺴلطة ، ﺑﯿﻨﻤﺎ اﺳﺘﺨدم اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ أساليب ﻗﺴﺮﯾﺔ ﻋﻨﯿﻔﺔ ﻋﺎﻧﺖ ﻣﻨﮭﺎ اﻟﻘﺎرة اﻻﻓﺮﯾﻘﯿﺔ ﻋﻠﻲ ﻣدار ﺗﺎرﯾخها ، وﻣﻦ هذه اﻷﺳﺎليب اﻟﺘﻤﺮد واﻟﻌﺼﯿﺎن اﻟمدﻧﻲ ، واﻟﺤﺮوب اﻷهلية ، واﻻﻧﻘﻼﺑﺎت اﻟﻌﺴكرﯾﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌد ﻣﻦ أﺑﺮز اﻟﻤﻌﺎلم اﻟﺴﯿﺎﺳﯿﺔ اﻟﻤﻤﯿﺰة ﻟﻠﻘﺎرة اﻷﻓﺮﯾﻘﯿﺔ .
ﻓقد اﻧﺘﺸﺮت ﻣﻮﺟﺔ ﻣﻦ اﻻﻧﻘﻼﺑﺎت اﻟﻌﺴكرﯾﺔ اجتاحت اﻟﻘﺎرة اﻷﻓﺮﯾﻘﯿﺔ منذ منتصف ﺳﺘﯿﻨﯿﺎت اﻟقرن اﻟﻤﺎﺿﻲ ، وﻣﻊ ﺣﻠﻮل ﻋﺎم 1978 أﺻﺒﺢ ﻣﺎ ﯾﺰﯾد ﻋﻦ نصف دول اﻟﻘﺎرة ﯾﺤكم بواسطة اﻟﻌﺴكرﯾﯿﻦ ﺑﻞ إن أﻛﺜﺮ هذه اﻟدول ﺧضعت ﻟﻠﺤكم اﻟﻌﺴكري منذ اﺳﺘقلالها أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻓﺘﺮة ﺧﻀﻮعها ﻟﻠﺤكم اﻟمدﻧﻲ وﻣﻦ هذه اﻟدول ﻧﯿﺠﯿﺮﯾﺎ وﻏﺎﻧﺎ وﺑﻨﯿﻦ ، ولم ﺗﻔﺮق هذه اﻻﻧﻘﻼﺑﺎت ﺑﯿﻦ الأنظمة اﻷﻓﺮﯾﻘﯿﺔ ﺳﻮاء ﻣﻦ ﺣﯿﺚ النظام اﻟﺴﯿﺎﺳﻲ أو اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ أو ﻣدي اﻟﺘﺄﯾﯿد اﻟﺸﻌﺒﻲ ﻟﻠﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ[1] .
ونجد إن طموح العسكر و القوى المدنية الحاكمة لتجاوز بديهيات الديمقراطية هو الخطر السياسي الأول في غرب إفريقيا هذه السنوات, و فيما نجحت السنغال و ساحل العاج و غينيا في الانتصار الديمقراطي فإن عكس الأمر حدث في موريتانيا و مالي, و لم يكن النجاح في الانتصار للديمقراطية دوما بدون ثمن فقد اقتضى الأمر حربا أهلية شبه عرقية في ساحل العاج ما زالت البلاد تحاول التخلص من إرثها, و في السنغال تم تحييد الصراع الأساسي المبني على الطيفية السياسية ليتحول إلى صراع رجال ورموز مما أدى للإتيان بمنافس شخصي – أكثر مما هو فكري- لعبد الله واد هو رئيس وزراءه السابق، ماكي صال, أما في غينيا فقد جاء الإنقاذ من خلال عناية إلهية نجمت من صراع أحقاد بين مدبري الانقلاب ففشلت ريحهم,و من حسن حظ السنغال و غينيا و ساحل العاج أن ضعف الحضور السياسي للجيش و ضعف الاستثمار العسكري الغربي فيها و الغياب المباشر من مشروع الأفريكوم أضعف فيها من دول الساحل المطلة على الصحراء[2].
مشكلة البحث:
تموج القارة الأفريقية بالانقلابات العسكرية ففى 46 عاما شهدت الدول الأفريقية 80 انقلابا عسكريا ناجحا و108 انقلابا فاشلا و139 محاولة انقلابيية, يصعب فهم ظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا دون فهم طبيعة المؤسسة العسكرية ودورها في الحكم في أفريقيا لفهم سلوكها السياسي, ومن هنا جاءت الأهتمام بالدراسة لتناول العلاقات العسكرية المدنية بالتركيز على أحد الدول الكبرى فى دول غرب القاره وهى ساحل العاج” كوت دايفور ” , ومن ثم فالدراسة تحاول الأجابة على تساؤل رئيسى هو : ما هى طبيعة وملامح العلاقات المدنية العسكرية : بالتطبيق على ساحل العاج؟
تساؤلات البحث:
يحاول هذا البحث الإجابة على مجموعة من التساؤلات الفرعية تتمثل فى :
1- ما هو مفهوم العلاقات المدنية العسكرية؟
2- ما هى حدود دور المؤسسة العسكرية فى اللعبة السياسية؟
3- ما هى طبيعة وملامح النظام السياسى فى ساحل العاج؟
4- ما هى طبيعة دور الجيش فى الحياة السياسية فى ساحل العاج؟
الفترة الزمنية:
تتركز فترة البحث على الفترة من 1999 حتى الآن, حيث شهدت البلاد ولأول مرة فى تاريخها انقلابا عسكريا فى ديسمبر 1999 أطاح بحكم الرئيس كونان بيديه الذى خلف بوانييه فى السلطة ولم يدم الانقلاب الذى قادة الجنرال روبرت جى أكثر من عشرة أشهر فقد أطيح به فى انتفاضة شعبية فى أكتوبر 2000م وما تبع ذلك من انتخابات رئاسية فى 2000 وما شابها من توترات وما تلها من محاولات انقلابية ومشكلات عدة فى ساحل العاج.
تقسيم البحث:
تمهيد
الفصل الأول : الإطار النظرى والمفاهيمى
الفصل الثانى: الجيش واللعبة السياسية فى ساحل العاج
المبحث الأول: طبيعة وملامح النظام السياسى
المبحث الثانى: دور الجيش فى الحياة السياسية
خاتمة
قائمة المراجع
الفصل الأول : إطار نظرى ومفاهيمى
تهتم دراسة العلاقات المدنية-العسكرية بكيفية تكامل الأدوار وتوزيع السلطات بين مؤسسات الدولة المدنية والمؤسسة العسكرية. زاقورسكي (القوات المسلحة في المجتمع “الأرجنتين” 1988) يعرف العلاقات المدنية العسكرية بأنها تشير إلى أنماط علاقات الانصياع والضبط والتأثير فيما بين القوات المسلحة والقيادة المدنية السياسية للدولة. ففي النظم الديمقراطية ترسم القوانين والدستور حدود هذه العلاقات وطبيعتها بحيث تكون هذه الحدود جزأً لا يتجزأ من ثقافة المؤسسة العسكرية, ترعاها الحكومة وترضى بها المؤسسة العسكرية وينصاع لها المنتسبون لها من جنود وضباط.
ففي الأعراف الديمقراطية تخضع المؤسسة العسكرية للقرار المدني الصادر من القيادة السياسية للدولة وتكون مباشرة تحت امرة الرئيس والبرلمان والمؤسسات التشريعية. يشير صمويل هنتجتون إلى جدوى هذه العلاقة حيث أن المؤسسة العسكرية تقبل بوصاية السلطة المدنية عليها حسبما تحدده القوانين والدستور للمصلحة العامة للمجتمع. وهم يقبلون بذلك كونهم جزءاً من المجتمع. وعلى الرغم من خضوع المؤسسة العسكرية لقرارات السلطة المدنية على أنها السلطة العليا في الدولة, إلا أنه يكون لها استقلالها التام فيما يتصل بلوائحها الداخلية المنظِّمة لشؤون العمل العسكري داخل المؤسسة.[3].
من المفيد التأكيد على أن الحدود الفاصلة بين المدني والعسكري ليست أبدية ولانهائية، بل أن هناك تداخل بين الحياة العسكرية والحياة المدنية. يظهر ذلك في عدد الضباط والجنود المسرحين سنويا من المؤسسة العسكرية سواء لانتهاء عقودهم أو انتهاء مدة عملهم أو تقاعدهم عن العمل في سن الشيخوخة أو الكهولة. حيث سيعودون مجددا إلى الحياة المدنية وهذا ما يؤدي إلى تداخل وتفاعل بين المزاج العسكري والمدني في الوجدان الاجتماعي. كما أنه من الخطأ الاعتقاد أن الحياة العسكرية أكثر تسلطا من الحياة المدنية، فالإدارة مثلا يمكن أن تمارس السلطة على المجتمع أكثر مما يمارسه العسكريون فيما بينهم وأكثر مما يمارسه السياسيون على المجتمع. هذا التداخل بين العسكري والمدني هو الذي «يغري» الجيش في بعض الأحيان على التدخل المباشر في الحياة الاجتماعية المدنية.
العلاقات المدنية العسكرية في مرحلة التحول[4]:
مع بداية مرحلة التحول بعد انتقال السلطة إلى حكومة يمقراطية منتخبة( يكون على الحكومة الديمقراطية المنتخبة القيام بعدد من المهام للوصول إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية، من خلال دعم المؤسسات والثقافة والممارسات الديمقراطية والمجتمع المدني والتعميم المدني وتعزيز الاقتصاد الوطني، وحسم العلاقات المدنية العسكرية في الدول التي شيدت دورا محوريا لاجيوش. ونجد أن معالجة العلاقات المدنية العسكرية( تتطمب وقتا قد يمتد لسنوات ) نحو سبع سنوات بإسبانيا، وأكثر من عقد بالأرجنتين والبرتغال.
ويوجد عدة حقائق، ربما يجب التذكير بها والاستفادة منها:
أولا: لا ينجح قادة التحول في معالجة هذه المسائل في كل الحالات، ففي دراسة أميركية جاء أن من بين 58 حالة انتقال بين العامين 1974 و 1999 هناك 63 حالة أدت إلى ديموقراطية حقيقية مقابل 67 حالة عادت فيها البلاد إلى الحكم المطلق،و 54 حالة انتقلت فهيا البلاد إلى ديمقراطية شكبية. ومن هنا تأتي أهمية الإدارة الصحيحة والمحسوبة لهذه المرحلة.
ثانيا: تتضمن القضايا المختمفة التي تطرح عند معالجة العلاقات المدنية العسكرية موضوعات عدة مها: السيطرة المدنية وعدم خضوع المدنيين لنفوذ العسكريين في تحديد الأولويات والمصلحة القوميةالمؤسسة العسكرية ووضع النشاطات الأخرى لممؤسسة العسكرية تحت سيطرة المدنيين، عدم تسييس القادة العسكريين، وضع ضوابط لتدخل الجيش في التأمين الداخلي، إسناد قرار الحرب للبرلمان، تصديق البرلمان على تعيين كبار القادة، تنظيم شؤون القوات المسلحة.
ثالثا: كلما كان للجيش الدور الأبرز أثناء المرحلة الانتقالية وسيس الجيش، كان من الصعب معالجة العلاقات المدنية العسكرية. فأي تنازلات رسمية أو غير رسمية تقدمها القوى السياسية للجيش في المراحل الانتقالية تؤثر بالسلب على قدرة هذه القوى على التفاوض بعد الانتقال.
ربعا: كلما كانت الحكومة موسعة وتحظى بقبول شعبي واسع، كانت المعالجة أقل صعوبة.
خامسا: تتأثر المهمة بالسلب أيضا إذا لم تفتح قنوات للحوار والتفاوض بين المدنيين والعسكريين، وينتشر بالتبعية سوء فهم وعدم ثقة متبادلة.
سادسا: لم يمنح الجيش مكانة مميزة في دساتير الدول التي شيدت انتقالا ناجحا، وذلك فيما يتصل بدور الجيش في حماية الدستور عمى وجو الخصوص. وعموما كمما ارتفعت شرعية الحكومات المنتخبة تضاءلت حاجتيا إلى استدعاء الجيوش للحفاظ على الشرعية. لهذا كانت تقوية المؤسسات والثقافة الديمقراطية في غاية الأهمية.
الإشكالية المزمنة للعلاقات العسكرية – المدنية[5]:
فرغم تمتع القوات المسلحة بخصوصية مؤسسية واحترام داخل الدولة، نظرا لارتباطها بشكل مباشر بحماية أمنها القومي، فإن إشكالية العسكريين والسياسة تبقى حاضرة بشكل أكبر في دول العالم الثالث والدول الشمولية الكبري. ونحن هنا بصدد ثلاثة نماذج عرفت تقليديا في التاريخ الحديث، ألا وهي:
1– النموذج الأول: الدول الديمقراطية المستقرة المتقدمة، حيث تقل هذه الإشكالية، نظرا لوضوح الشكل المؤسسي للدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية، مع استقرار التشريع والاختصاصات والمهام في الظروف العادية والاستثنائية، حتى إن بعض وزراء الدفاع في تلك الدول مدنيون، ولكن ذوو خلفية عسكرية واستراتيجية، كما توجد قلة منهم من النساء (إسبانيا كمثال).
2– النموذج الثاني: الدول المتحولة من النظم الشمولية إلى النظم الديمقراطية المدنية، ويتطلب ذلك وقتا وجهدا. وأبرز أمثلة النجاح في ذلك هي (البرازيل) خلال ثمانينات القرن الماضي، و(تركيا) من خلال عقيدة (أتاتورك) بخصوصية المؤسسة العسكرية لضمان استقرار الدولة ونظام الحكم. إلا أن التطبيق العملي، مع طول المدة الزمنية وعدم الاستقرار السياسي، أدى إلي زيادة نفوذ المؤسسة العسكرية عما هو مخطط، مما أفضي إلي تغيير ذلك مع بداية هذا القرن.
3– النموذج الثالث: الدول الشمولية في معظم العالم الثالث، والذي تنتمي إليه دول القارة الأفريقية، سواء نظم الحكم الملكية، أو الجمهورية. ففي النظم الملكية، لا تبدو الجيوش كشخصية اعتبارية ومؤسسية مستقلة، حيث القيادات العليا والمتوسطة من الأسر المالكة، ويحظي معظمهم بتأهيل أكاديمي عسكري جيد، خاصة من المدرسة الغربية. أما النظم الجمهورية، فإنها تنقسم إلي قسمين فرعيين، الأول: حيث يتولي منتسبو النخبة الحاكمة قيادة الجيش. وطبقا للتقسيم القبلي والعشائري في اليمن وموريتانيا، والتقسيم الطائفي في لبنان، مع وجود ميليشيات لمعظم الطوائف خارج الجيش المركزي.
الفصل الثانى الجيش والسياسة فى ساحل العاج
المبحث الأول
طبيعة وملامح النظام السياسى فى ساحل العاج
حصلت جمهورية ساحل العاج على استقلالها عن فرنسا في السابع من أغسطس عام 1960 على يد هوافيه بوانييه أول رئيس للبلاد، وقد اعتمد الاقتصاد الإيفواري منذ استقلال البلاد على انتاج وتصدير المحاصيل الزراعية وخاصة الكاكاو، وقد ساهم استقرار أسعار المحاصيل الزراعية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي مع استقرار النظام السياسي في إحداث نهضة اقتصادية وتنموية فريدة من نوعها في منطقة الغرب الأفريقي، ولكن مع حدوث أول انقلاب سياسي تشهده البلاد عام 1999 على يد الجنرال روبرت جي بدأت مرحلة جديدة من تاريخ ساحل العاج اتسمت بعدم الاستقرار السياسي والأمني، وقد استمرت هذه المرحلة وازدادت حدة عدم الاستقرار مع وصول الرئيس لوران باجبو لسدة الحكم عام 2000، واندلاع الحرب الأهلية عام 2002 والتي قسمت البلاد إلى شطرين، أحدهما في الشمال تحت سيطرة المتمردين “القوات الجديدة”، والأخرى في الجنوب تحت سيطرة الرئيس باجبو، وهو الوضع الذي مازال مستمرا بالرغم من توقيع اتفاقية سلام واجادوجو في مارس 2007 بين الطرفين[6].
تقع جمهورية كوت ديفوار في غرب أفريقيا ، يحدها شمالاً مالي وبركينا فاسو، وجنوباً المحيط الأطلنطي، ومن الشرق غاناً ومن الغرب غينيا وليبيريا، تنقسم الدولة إدارياً إلى 19 منطقة، وبها عدد من المدن الرئيسة، أبيدجان : كبرى المدن والعاصمة الاقتصادية, و ياموسوكرو : العاصمة الرسمية للدولة, يواكيه : كبرى مدن الإقليم الشمالي للبلد, ويبلغ عدد سكان كوت ديفوار قرابة 18 مليون نسمة، ويمثل المسلمون 40% من سكان البلاد في حين يمثل المسيحيون 30%، وذوي الديانات القبلية 30% من إجمالي السكان، كما تعد اللغة الفرنسية اللغة الرسمية للبلاد والأكثر تداولاً بين السكان، في حين تحتفظ كل مجموعة قبلية بلغتها الخاصة (60 لغة محلية)[7].
ساحل العاج دولة جمهرية تاخذ بالنظام الرئاسى القائم على التعددية الحزبية ،ويعين الريئس رئيس الزراء والوزراء ،وينتخب الريئس بلاقتراع المباشر لفترة رئاسية تمتد خمس سنوات لكن وتحديداً منذ أن قرر رائد الاستقلال ومؤسس الدولة العاجية الحديثة “فليكس هوفيه بوانيي” الاعتراف بالتعددية الحزبية عام 1990 تحت الضغط الأميركي- في تثبيت دعائم الوحدة الوطنية, بحيث أصبح الاقتراع بعد رحيل بوانييه 1993 يستخدم لاختبار مدى استعداد طرفي الصراع للجوء إلى العنف المسلح والبحث عن الغلبة بوسائل أخرى ، تقنية الاقتراع تظل عاجزة عن حل خلافات وطنية تأسيسية يحتاج حلها إلى مساومة تاريخية ينال بموجبها كل ذي حقٍ ما يرضيه, أن أصل المشكلة يعود في جوهره إلى وجود نزاع تاريخي وعرقي معقد بين الشمال ذي الغالبية المسلمة والمنتج للثروة والجنوب ذي الغالبية المسيحية والوثنية المتحكم بالسلطة .
تعانى الدولة العاجية من وجود عجز في القوة المؤسسية اللازمة للتغلب على الانقسام العرقي ، وعدم السيطرة على الأراضي وعدم وجود الدعم والشرعية من سكانها والمجتمع الدولي ، في الواقع يمكن القول ان من سمات الدولة الضعيفة انها لا تفشل فقط لمنع الصراع العرقي ولكنها تسهم أيضا في اندلاع أعمال العنف العرقية.ونجد أن الديمقراطية قد رسخت الاختلافات العرقية وقدمت المجموعات العرقية المختلفة في الديمقراطيات ، مع الأصوات الفردية في العملية السياسية. واتسعت بشكل كبير في نطاق السياسة العرقية في افريقيا،وهذا يمثل التحدي المتمثل في الإدارة والسكان المتنوعة عرقيافى ساحل العاج[8].
المبحث الثانى : الجيش والحياة السياسية
خلال الأشهر الفترة الماضية عاشت ساحل العاج أزمة سياسية حادة كادت أن تدفع هذه الدولة الصغيرة التى تقع فى غرب أفريقيا إلى دائرة الحرب الأهلية من جديد، بعد أن رفض الرئيس المنتهية ولايته لوران باجبو التخلى عن السلطة بإقرار فوز منافسه المعارض الحسن واتارا فى الانتخابات الرئاسية التى عقدت فى نوفمبر2010 وكانت جزءا من ترتيبات المصالحة الوطنية التى أنهت الحرب الأهلية التى شهدتها البلاد خلال عامى 2002 و2003.
وزادت تعقيدات الأزمة بعد استخدام باجبو للجيش العاجى فى حماية نظامه، ورفضه كافة الوساطات الإقليمية والدولية التى حاولت تسوية الأزمة بعيدا عن استخدام القوة. حتى تمكنت قوات الحسن واتارا المدعومة من القوات الدولية من القبض عليه، لتُنهى هذه العملية مرحلة هامة من مراحل الصراع على السلطة فى تاريخ ساحل العاج راح ضحيتها المئات من أبناء الشعب العاجى واعتبرها الكثيرون أزمة ديمقراطية تقاطعت خلالها مصالح دولية وغلفتها اعتبارات وتوازنات إقليمية مخلفة وراءها حزمة من التحديات تمثل اختبارا حقيقيا لقدرة الرئيس الجديد الحسن واتارا على استعادة الوحدة والاستقرار للبلاد[9].
ففور إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات فوز الحسن واتارا بغالبية 54.1% من الاصوات، بادر الرئيس المنتهية ولايته لوران باجبو بالطعن فى هذه النتيجة. وسانده فى ذلك المجلس الدستورى وهو أعلى هيئة قانونية فى البلاد، وقام بإلغاء مئات الأصوات فى المناطق المؤيدة لـ الحسن واتارا. وأعلن المجلس باجبو رئيسا للبلاد وقام الأخير بدوره بتأدية اليمين الدستورية كرئيس للبلاد تدعمه القوات المسلحة , وفى الوقت نفسه كان الاتحاد الأفريقى والامم المتحدة وعدد كبير من الدول والمنظمات الاقليمية قد اعترفت بالرئيس واتارا كرئيس شرعى لساحل العاج وبحكومته التى شكلها تنفيذا لنتائج الانتخابات، مما خلق أزمة سياسية حادة عجزت الوساطات الأفريقية عن تسويتها باقناع الرئيس المنتهية ولايته لوران باجبو بتسليم السلطة إلى منافسه الحسن واتارا والحيلولة دون استمرار المواجهات المسلحة التى اندلعت بين مؤيدى الرئيسين وفى المناطق التابعة لكل منهما وخلفت عددا ضخما من القتلى قدرته الأمم المتحدة بنحو 850 قتيلا غير الجرحى والنازحين الذين قُدرت أعدادهم بنحو مليونى شخص.
وقد عبرت هذه الأزمة بما لا يدع مجالا للشك عن فشل عملية ” التحول الديمقراطى” فى العديد من النظم الأفريقية بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على محاولات تطبيق مبادئ التعددية السياسية والانتقال السلمى للسلطة فى ظل استمرار التأثيرات الضارة للتحيزات الاثنية والدينية على التطورات السياسية للدول[10].
تختزل الصراعات على المقعد الرئاسى فى ساحل العاج (الكوت ديفوار ) التى جرت فى أعقاب الانتخابات الرئاسية فى 2010م, المفردات التقليدية للمشهد الافريقى العام، الذى تلعب فيه التقاطعات القبلية والعرقية، إضافة إلى الانقسامات الدينية محددات حاكمة للتفاعلات السياسية بشكل عام.
وتبدو عملية التطور الديمقراطى بهذه المدخلات المتقاطعة ذات تكلفة عالية تصل إلى حالة الصراع المسلح وربما الحرب الأهلية, خصوصا أن عملية التنافس الانتخابى لاتقوم على أساس البرامج السياسية للمرشح ولكنها تستدعى الولاءات الأولية لتلعب الدور الأساسى فى الانحياز لمرشح دون غيره. وفى هذا السياق يمكن قراءة الموقف المأزوم فى ساحل العاج، بكونه مهددا باندلاع حرب أهلية مثيلة لتلك التى عانت منها البلاد فى العام 2000 وذلك تأسيسا على الصراعات المرتبطة بعمليات الترشح على المقعد الرئاسى. حيث حرم «الحسن وتارا» من الترشح على المقعد الرئاسى على خلفيات مرتبطة بانتمائه الإسلامى فى العام 1995 بمزاعم التشكيك فى جنسيته حيث ينحدر من أم تنتمى الى بوركينا فاسو.
وقد أسفر هذا التطور عن تفاقم للصراعات من جهة وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية العاجية على أسس عرقية وذلك فى أعقاب وفاة الرئيس المؤسس لدولة الاستقلال الوطنى فى ساحل العاج «فيليكس هوفييه بونيييه» (1960ـ1993), وطبقا للدستور العاجى تولى رئيس البرلمان «هنرى كونان بيديه» الرئاسة لمدة عامين، وانتخب رئيسا عام 1995 فى الانتخابات التى منع فيها «الحسن وتارا» من حق الترشح. على أن استبعاد «وتارا» للمرة الثانية فى الانتخابات الرئاسية فى العام 2000، والتى تم التنافس فيها بين «روبير جى» و «لوران جاجبو» أسهمت فى تعقيد المشهد السياسى ودخول ساحل العاج فى سلسلة من الإضطرابات خلال العقد المنصرم[11].
وفى انتخابات عام 2000 فاز «روبير جى» على «جاجبو» الرئيس المنتهية ولايته حاليا بفارق 10% من الأصوات، ولكن الأخير لم يعترف بهذه النتائج فى خطوة مماثلة لموقفه الراهن من «وتارا»، ودعا أنصاره من عرقية «البتى» والتى تقدر بـ 18% من السكان للنزول فى تظاهرات لمساندته, ولكن انتخابات محلية اكتسح فيها «الحسن وتارا» الممنوع من الترشح للمقعد الرئاسى كانت كفيلة بأن يسعى إلى انتزاع السلطة التى تأهل لها بفوزه فى المحليات, وقد أنتجت هذه التطورات حربا أهلية فى 19 سبتمبر 2002، بدأت بتصفية وزير الداخلية القوى «إيميل بوجا دودو» والشخص الثاني في الحزب الحاكم «أميل بوكا»، وانتهت بتمرد انطلق في منطقة الشمال وفي مدينة «بواكيه» تحديدا. هذا التمرد ـ وإن شارك فى قيادته مسيحيون ـ إلا أن الشمال المسلم كان وراءه في إطار الإستقطاب الديني والعرقى الذي تشهده ساحل العاج منذ طرحت مشكلة جنسية «الحسن وتارا» زعيم تجمع الجمهوريين .
منذ هذا التاريخ إنقسمت السلطة فى ساحل العاج فعليا إلى قسمين، شمال مسلم ومهمش تنمويا يقطنه الفلاحون من مزارعى الكاكاو، الذى يمثل أحد أهم مصادر الدخل القومى تحت سيطرة «الحسن وتارا» وتجمع الجمهوريين، وجنوب وغرب مسيحى تقطنه النخب السياسية والأقتصادية المسيحية والمهيمنه على عمليات صناعة القرار بقيادة «لوران جاجبو» والجيش العاجى الذى تمت إعادة هيكلته على أسس عرقية لتكون قياداته ومفاصله المؤثرة منتمية الى عرقية الرئيس «جاجبو».
وطبقا لهذا المشهد يتحكم فأن الجيش كان لأعبا أسياسيا ومحورا بل كان الاعب الأقوى على الساحة العاجية, فالجيش العاجى الذى يستند إليه الرئيس المنتهية ولايته، ومن هنا تحاول واشنطن حاليا اختراقه فى محاولة لتحويل ولاءاته, وهو ما دفع واشنطن علنا مع الاتحاد الأروبى الجيش لأعلان العصيان على جاجبو وهو مايرصده الرئيس «جاجبو» جيدا ويتحوط له بمحاولة اللعب على نغمة القومية العاجية ضد التدخلات الأجنبية ودعوته علنا إلى الكف عن تحريض الجيش, بالأضافة إلى الدور الذى يتمثل فى حزب تجمع الجمهوريين بقيادة «الحسن وتارا» وهو كيان سياسى وتنظيمى مسلح يسيطر بالفعل على جزء من السلطة ومدعوم من قبيلة «الجيولا» المسلمة، وإن كان الأمين العام للحزب امرأة مسيحية، وذلك فى رسالة واضحة للغرب بوسطية هذا الحزب.
فخلاصة القول نجد أن
البيئة فى الدول الأفريقية توفر تربه خصبة لتدخل الجيش فى الحياة السياسية فساحل العاج شأنها شأن كثير من الدول الأفريقية حيث البنى الاجتماعية والسياسية للدولة مفتتة بين القبلية والإقليمية والدينية، فالاستقلال عن الاستعمار فى مطلع الستينات لم يصنع دولة أفريقية حقيقية من خلال تطورات اعتملت تاريخيا، وإنما صنع دولة كانت أقرب إلى الورقية أو ما يسمى بالدولة الرخوة وفى هذه الدولة تكون الانتماءات الأولية(سواء القبلية أو الإقليمية أو الدينية)هى المسيطرة على كل المواطنين والساسة لأنهم يرون فى ذلك المعبر الوحيد للحصول على السلطة والمال فى أن واحد، وما شعارات القومية التى أطلقها زعماء الاستقلال الأفارقة ليست سوى تعبير عن مصالح نخبة من الأفارقة الذين تعلموا فى الغرب وأرادوا استيراد نموذج الدولة الأمة فى الغرب إلى الواقع الأفريقى الذى لم يعرف سوى الإثنية كمكون رئيسى للدولة ولم تستطع هذه البنى المفتتة أن تنصهر فى دولة الاستقلال فى أفريقيا، لذا نشبت ما تسمى بأزمة الاندماج الوطنى والتى حاولت الدول الأفريقية علاجها بأدوات مختلفة، إما سياسية(حزب واحد يجمع كل القوى القبلية والدينية فيه)أو اقتصادية(بمعنى تنمية اقتصادية تستفيد منها كافة القوى والقبليات داخل الدولة)أو قمعية(بمعنى قمع الدولة للمطالب القبلية) غير أن عدم نجاح إدارة عملية التنمية الاقتصادية والشخصنة الزائدة للسلطة وفشل الحزب الواحد فى أن يكون بوتقة للخلافات القبلية حال دون أن يكتب النجاح لهذه الأدوات فى مواجهة أزمة الاندماج الوطنى، ومن ثم تعمق مفهوم عدم الاستقرار فى الدول الأفريقية الذى كانت أبرز مؤشراته ازدياد وتيرة الانقلابات العسكرية ورغم أن بعض النظم العسكرية الأفريقية ونظم الحزب الواحد استطاعت أن تبقى لمدد طويلة فى السلطة نتيجة لظروف الحرب الباردة التى كان النموذج السوفيتى وسيطرة الحزب الواحد على السلطة فيه مبررا حينها خاصة لدى بعض الدول فى ظل صراعها مع القوى الرأسمالية الغربية غير أنه بسقوط الاتحاد السوفيتى وانتهاء مرحلة الحرب الباردة سيطر النموذج الليبرالى التعددى على غالبية نظم الحكم فى العالم، ومن ثم أجبر العديد من الدول الأفريقية على انتهاج التعددية الحزبية مع مطلع التسعينات وكذلك بدأ تطبيق برامج اقتصاد السوق والخصخصة كطريق مواز للتعددية السياسية وقد عمق النموذج الغربى بشقية الاقتصادى والسياسى من الانقسامات التى تعانيها أصلا الدول الأفريقية حيث سمح للاحتقانات القبلية والدينية والإقليمية أن تتقاطع وتنشئ أحزابا تهدف للاستيلاء على السلطة لا كأحزاب تقبل بالتداول السلمى للعملية الديمقراطية، وإنما الوصول للسلطة لمنع الآخرين من الاستفادة من مميزاتها والسيطرة الكاملة على توزيع القيم السياسية والاقتصادية داخل الدولة إزاء ذلك التصور انفجرت الأوضاع فى كثير من الدول الأفريقية ومنها ساحل العاج.
[1]- أميرة عبد الحليم, ” الحكم فى أفريقيا : من الأنقلابات العسكرية إلى التداول السلمى للسلطة”, ( مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: مجلة الديمقراطية) , ص1, منشورة اليكترونيا على الموقع التالى:
www.al-forqan.net
[2]- أبو العباس ابرهام,” سيناريوهات الانقلابات في إفريقيا: موريتانيا ومالي والسنغال وساحل العاج” نشر مارس 2012, متاح على الرابط التالى:
http://aqlame.com/article7800.html
[3]-أحمد حموده حامد,”العلاقات المدنية-العسكرية (1) طبيعة المهنية العسكرية”, نشر 24 مارس 2013, متاح على الرابط التالى:
http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-19004.htm
[4]- عبد الفتاح ماضى, الجيوش والتحول الديمقراطى, دراسة بحثية, معهد الربيع العربى , 2012, ص:ص 3-4.
[5]- اللواء أ. ح محمد قشقوش, ” العلاقات المدنية العسكرية: الآشكاليات السبع للجيوش العربية “, ( مؤسسة الأهرام: مجلة السياسة الدولية), العدد 188, متاح على الموقع التالى:
http://www.siyassa.org.eg/
[6]-ساحل العاج, الموقع الرسمى لوزارة الخارجية المصرية: متاح على الرابط التالى:
http://www.mfa.gov.eg/Arabic/ConsularServices/TravelGuide/Details/Pages/CountryDetails.aspx?country=Ivory%20Coast
[7]- نفس المرجع السابق.
[8]- فريدة بندارى, ” الصراع السياسى فى كوت دايفوار”, نشر فى 24 مايو 2011, متاح على الرابط التالى:
http://www.elsyasi.com/article_detail.aspx?id=383
[9]- اميرة محمد عبدالحليم, ساحل العاج وأزمة انتقال السلطة, ملف الأهرام الاستراتيجى مايو 2011.
[10]- نفس المرجع السابق.
[11]- أمانى الطويل, “ساحل العاج .. الحرب الأهلية وصراعات القوى الدولية”, نشر 27ديسمبر 2010, الأهرام اليومى