مقالات

كومونة روج آفا. انتخابات الكومينات أولاً

بقلم الباحث السياسي : سيهانوك ديبو

 

بالمحصلة غادر الإنسان المجتمع الطبيعي إلى المجتمع الوضعي. أما أسباب هذه المغادرة فلأن المجتمع الطبيعي بات موحشاً كما يشير إلى ذلك توماس هوبز، أمْ لأنه بات لا يلبي مستوى ذكائه فقرر الإنسان الحاذق المغادرة كما يقول جون لوك، أو بسبب تدني مستوى الحرية في المجتمع الطبيعي فغادرها الإنسان كما يشرح ذلك جان جاك روسو. هذه التفسيرات لا يمكن اعتبارها بأنها صحيحة؛ هي في أحسن الأحوال تحمل تفسيراً مشوشاً بخاصة إذا ما أدركنا أن المجتمع الطبيعي يمثل أعلى مراحل الحرية، والذي حصل بأن الرجل الماكر الذي انقلب على الحق الأمومي سارقاً العقد الاجتماعي في المرحلة الأمومية والمؤلف من مئة وأربع مواد (سرقة آنكي عقد إينانا الاجتماعي). والذي حدث عند المغادرة، وحتى تكون مغادرة قطعية أن هذه الرحلة حملتْ عناوين ثلاثة: الملكية التوّسعية، الثروة، السلطة/ الهيمنة، الأخيرة بشكل خاص استوجبت ولم تزل؛ الحروب والكوارث. ما يعني تطويقاً وحصاراً للديمقراطية، أو إظهارها وفق تكريسات السلطة. أسوأ الديمقراطيات هي العددية، وأكثر المفاهيم لا إنسانية هي الأقلية والأكثرية. وأكثر المفاهيم التي كانت السبب في جعل شعوب الشرق الأوسط مغتربين عن الحضارة التي أسسوها هي الدولة القومية.

ما سبق لا يعني الإشارة إلى ضرورة المغادرة العكسية؛ ربما سيكون ذلك فيما لو تمَّ بمثابة سفسطة أو رومانسية على طريقة دون كيشوت. ما سبق لا يعني القراءة على أساس أسطورة السرقة الآنكيّة؛ فيما لو جاز التعبير. ما سبق محاولة معرفة الذي حدث في التاريخ أو مصالحة قصوى معه، وحين المصالحة يبدو التشخيص لآلامنا يسيراً، وتبدو المعالجة أكثر يسراً ومن ثم الانطلاق إلى تاريخ المستقبل.

كومونة باريس الذي لم يكن ماركس مشجّعاً لها في البداية. دَعَمَها في النهاية، ولم تدم طويلاً حتى فشلت. إنها مسألة تتعلق بأخطاء الفلاسفة والمفكرين حينما يرغبون بعكس ما يفكرون؛ رغبة التفكير وتطويع التفكير إلى الرومانسيات. الوضع يبدو مختلفاً من ناحية القيمة المجتمعية في روج آفا وسوريا؛ فكومونة روج آفا؛ ثورة تمتلك آليات ثورية؛ النظرية منها أو المتعلق  بالمنحى العملي. وما يجعلها مرتقية إلى ثورة الحل في سوريا والشرق الأوسط؛ لأن الجهد المبذول الأميز فيها مجتمعية، وتشغل المجتمع، وتنطلق من خلاله إلى بتر أطراف المشكلة، أي غياب الديمقراطية.

وخمس سنوات ماضية من عمر هذه الثورة؛ هيأت جملة مهمة من المسائل المجتمعية لتنطلق بها اليوم في هذا الوقت الحساس الذي تمر به المنطقة برمتها؛ إلى ترسيخ مبادئ ثورة روج آفا؛ من مفاهيم الكومونة المجتمعية إلى المجتمع الأخلاقي السياسي.

إن معرفتنا بقضايانا التي تؤدي إلى تحقيق الحل للأزمة السورية؛ من بعد الكشف عن آليات التغيير والتحول الديمقراطي، يبدو أمراً في منتهى المسؤولية التاريخية، يمكن تسميته بالنهوض في الشرق الأوسط. واليوم فإن أزمتنا؛ الأزمة السورية؛ بات من الممكن توصيف معادلة الحل (دحض الإرهاب ميدانياً وفكرياً، التغيير الديمقراطي وآلياته في المرحلتين الانتقالية ومرحلة التسوية). أمّا اتعاب المجتمعات والنيل منها حتى الوصول إلى فرض مرحلة الحل.

فهذه عادة قديمة جديدة يتبعها نظام الهيمنة، وليس منتظرّاً منه غير ذلك. إنما المنتظِر هو ما الذي نملكه؟ كي يبدو -على أقل ما يمكن القول به- بأن فاعلية ما نملكها على الدوام، وقد تبدو نظرية وقد تظهر بشكل عملي، وقد تبدو كلتاهما كما حالنا في روج آفا، واختزلنا فيها إلى حد كبير معادلة الحل (محاربة الإرهاب وإظهار آلية دمقرطة المجتمع عبر صيغة الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا).

ولعل تبيان معنى الكومين (مرّات أخرى) قبيل القدوم على العملية الانتخابية التي تجسدها في شمال سوريا من 22 أيلول القادم سيكون مفيداً. فالمصطلح اللغوي للكومين في لهجات اللغة الآرية في الميزوبوتاميا ومنها الكردية يعني المجموعة أو التجمع أو المَجْمَع. ولأننا ابتدأنا من المجتمع الطبيعي فإن الأهم في ذلك الإدراك عن فهم في أن أول تجمع بشري في التاريخ يعود تاريخه إلى ما يقارب  10 – 11 ألف سنة أي إلى المرحلة الكلانية الكومونيالية في مرحلة المجتمع الطبيعي من عمر الانسان المستقر، وتحدد الآركولوجية بأنها راوحت ما بين 35 إلى 45 شخص، كانوا يديرون شؤون حياتهم بشكل ذاتي. وفي قامشلو/ قامشلي –مثالاً- المدينة التي تضم الكرد والعرب والسريان والأرمن؛ مسلمين ومسيحيين وإيزيديين.

فإن كوميناً موجوداً في حي البشيرية –مثالاً آخر- يديرون شؤونهم بمختلف المناحي الحياتية: الخدمية والاجتماعية والثقافية وخطوات الاقتصاد التشاركي وأيضاً في شأن الصحة وتشكيل الوعي السياسي والمساهمة في تقوية الحماية الذاتية بأشكالها المتعددة وغيرها من الشؤون المتعلقة بخاصية كل كومين على حدا. يعني ما يعنيه ذلك هو التأسيس لنويّات منظمة منتظمة ومجتمع منتمي إلى القيم التي عرفها سُلّافه ويقوم بتطويرها وتنميتها على طول الخط. المسألة أشبه بمعايرة كوانتومية مجتمعية، عدم إهمال أي جزء في المجتمع، الحرص أن يكون الجميع مسؤولاً عن صون إرادته.

وهذا هو المجتمع السياسي الذي لم يتم ملاحظته في الشرق الأوسط. وهذه هي المحاسبة الأيديولوجيّة الناجحة لمسائل القوموية والجنسوية والدينوية. أما العيش فقط ضمن الأطر التنميطية الأولية، والمراوحة فقط في الانتماءات الأولية (القومية والدينية) يعني مع فعل المراكمة الوصول إلى المجتمع المتخبِّط بجدران هذه النمطيات والتي لا زلنا ندفع أكلاف باهظة من خلالها، وكانت هذه القواقع فيها سبب التأخر والتخلف واقتلاع مجتمعات كاملة من جذورها إثر أول هبوب لرياح العولمة. علماً بأن العولمة الحقيقة هي العولمة الديمقراطية أي المكاملة ما بين الأجزاء، وأن النتيجة هي جمع من الأجزاء.

القيمة العالمية هي ناتج تلاوين متعددة لقيم الشعوب وحضاراتها ذاتها.

والكومونالية هي انشاء مجتمع صيغته  تشاركية ويكون منظماً بالدرجة الأولى,  ولا تتخذ مبادئ الدولتية أساساً لها بالإضافة إلى أن النظام الطبقي والحاكمية السلطوية والاستغلال لا وجود لها في الكومينات، الموجود هو الحرية والتشاركية بالمقاييس الديمقراطية تتساعد وبإرادة حياتية ويتم تنظيمها لكي تعطي الألوان الاشتراكية للمجتمع.

أنْ يتحول مجتمع إقليم الفرات –على سبيل المثال مرة أخرى- إلى ألف كومين على أقل تقدير. حينها تصبح السلطة فيه أدنى حالاتها وتكون السلطة متناغمة مع صفتها الحقيقية أي التمثيل.

وأن يتحول مجتمع شمال سوريا إلى أكثر من خمسة آلاف كومين يعني أن ذلك العودة إلى المجتمع الطبيعي من باب تحقيق المجتمع الديمقراطي التشاركي وتحقيق الانتماء الحر؛ لكن هذه المرة وفق مفهوم الحضارة الديمقراطية ومدخل العصرانية الديمقراطية منها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تهيمن الأنظمة السلطوية على المجتمع مستخدمة في ذلك المساحات الهائلة من الحجز المجتمعي وتقسيمه على أساس القومي والديني والطائفي والعقدي.

طالما يدرك الجميع بأن اسقاط السلطات تبدأ أفقياً، وطالما نعلم – شعوب الشرق الأوسط رأت- بأن البناء يبدأ أفقياً مجتمعياً. وحينما يتحقق ذلك تكون الدولة أيضاً؛ كما حقيقتها؛ ظاهرة فرعية علوية طرأت على المجتمعات ودخلت على خطها.

انتخابات الكومينات في شمال سوريا أولى الخطوات نحو حقيقة العيش المشترك ووحدة المصير وأخوة الشعوب. ومع وجود الذهنية الثورية الدائمة نلحظ في فترة قادمة لن تكون بعيدة؛ بأنها أولى الخطوات نحو مغادرة مجتمع الغبار والسكون والتخلف. هذه هي حقيقة هذه الانتخابات والتي لن يدير الظهر لها إلا الخائفين على قيودهم.

 

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى