زلزال نيويورك السياسي: فوز زهران ممداني وانكسار أسطورة الولاء المطلق لإسرائيل

بقلم : د. حمدي محمود – مدير المركز الديمقراطي العربي في القاهرة
جاء فوز المرشح الديمقراطي ذو الأصول المسلمة زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك ليشكّل لحظة سياسية فارقة في التاريخ الأميركي المعاصر، ليس فقط لأنه أول مسلم يتولى هذا المنصب في واحدة من أهم وأكبر المدن الأميركية، بل لأن انتخابه جاء في لحظة عالمية شديدة الحساسية تتقاطع فيها أزمة الشرق الأوسط مع التحولات العميقة في الداخل الأميركي، وتتصاعد فيها النقاشات حول معاداة السامية، والدفاع عن القضية الفلسطينية، ومستقبل الحزب الديمقراطي بين تياراته التقليدية والتقدمية. إن هذا الفوز لا يمكن قراءته بوصفه مجرد انتصار انتخابي محلي، بل كظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية تحمل دلالات رمزية وجيوسياسية أبعد من حدود نيويورك نفسها، وتمتد لتكشف عن تحولات كبرى في المزاج الأميركي والعالمي على السواء.
لقد استطاع ممداني أن يحصد أصوات الناخبين من خلال برنامج انتخابي ركّز على قضايا العدالة الاجتماعية وتحسين نوعية الحياة اليومية للمواطنين، متبنياً خطاباً يتجاوز الانقسامات العرقية والدينية نحو رؤية أكثر شمولاً للمدينة كفضاء للمساواة والتنوع. تحدث عن السكن الميسور، ودعم النقل العام، والرعاية الصحية، والتعليم المجاني، ووقف ارتفاع الإيجارات، وهي قضايا تمسّ جوهر حياة سكان نيويورك الذين يعانون من فجوة طبقية متزايدة، وتفاوت صارخ في توزيع الثروة. ومع ذلك، فإنّ هذا الفوز لم يكن معزولاً عن خلفياته السياسية والفكرية؛ فممداني ينتمي إلى الجناح اليساري التقدّمي في الحزب الديمقراطي، الذي يشهد صعوداً لافتاً في السنوات الأخيرة، مستفيداً من تراجع ثقة الجمهور في النخبة التقليدية وسياساتها النيوليبرالية التي فشلت في تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
لكن ما جعل هذا الحدث استثنائياً بحق هو الجدل الحاد الذي رافق الحملة الانتخابية حول مواقف ممداني من إسرائيل والقضية الفلسطينية. فقد وُجهت إليه اتهامات بمعاداة السامية وبالتعاطف مع منظمة حماس، وهي اتهامات غذّاها خصومه السياسيون ووسائل إعلام يمينية، مستندين إلى مواقفه السابقة الداعمة لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS) وإلى انتقاداته المتكررة للسياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية. غير أن هذه الاتهامات، بدل أن تُضعفه، بدت وكأنها زادت من شعبيته بين قطاعات من الشباب التقدميين والأقليات العرقية التي رأت فيه صوتاً مختلفاً يتحدّى النفاق السياسي والإعلامي السائد، ويعبّر عن قيم العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وهنا تتجلّى المفارقة؛ إذ انتُخب ممداني في مدينة تضم أكبر عدد من السكان اليهود خارج إسرائيل، ما يعكس تحوّلاً عميقاً في أولويات الناخبين الذين باتوا ينظرون إلى السياسة من زاوية القضايا المعيشية والعدالة الاجتماعية أكثر من زاوية الانتماءات الأيديولوجية أو الدينية.
إن فوز ممداني يشير إلى أن جزءاً متزايداً من الأميركيين لم يعد يرى في إسرائيل “القضية المقدسة” التي لا يجوز نقدها، بل بات يتعامل معها كدولة يمكن أن تُحاسب مثل غيرها على ممارساتها وسياساتها، خاصة في ظل الحرب المدمرة على غزة التي خلّفت صدمة أخلاقية لدى الرأي العام العالمي. لقد عبّر هذا التحوّل عن تصدّع داخل القاعدة الديمقراطية نفسها، بين تيار مؤيد تقليدياً لإسرائيل وتيار تقدّمي بات يرى في الدفاع عنها تغطية لانتهاكات لا يمكن تبريرها. من هنا، فإن فوز ممداني لا يرمز فقط إلى صعود جيل جديد من السياسيين، بل أيضاً إلى تحوّل في الوعي الجمعي الأميركي تجاه العدالة الدولية ومفهوم التضامن الإنساني العابر للهويات.
على الصعيد الجيوسياسي، مثّل هذا الحدث رسالة صريحة إلى إسرائيل مفادها أن التأييد الأميركي لم يعد مطلقاً كما كان في السابق، وأن السياسة الأميركية تشهد إعادة تشكيل عميقة في توازناتها الداخلية. فاختيار مدينة كبرى مثل نيويورك لمرشحٍ ينتقد إسرائيل ويعلن انحيازه للقيم الإنسانية في فلسطين يشكّل ضربة رمزية للنخبة الإسرائيلية التي طالما اعتبرت نيويورك امتداداً طبيعياً لنفوذها السياسي والثقافي في الولايات المتحدة. أما بالنسبة للجاليات اليهودية الأميركية، فإن هذا الفوز يفرض تحدياً جديداً يتمثل في كيفية التوفيق بين الحفاظ على الهوية اليهودية ومواجهة تصاعد النقد السياسي لإسرائيل من داخل الدوائر الليبرالية ذاتها التي كانت تاريخياً حليفاً لها.
ولعل الأهم من كل ذلك هو أن فوز ممداني أظهر أن الجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة بدأت تتجاوز مرحلة التمثيل الرمزي إلى مرحلة الفعل السياسي المؤثر. فهو يعبّر عن جيل جديد من أبناء المهاجرين الذين يجمعون بين الوعي بالهوية والانخراط الفعلي في النظام الديمقراطي، رافضين أن يُختزل وجودهم في خانة “الأقليات الصامتة”. كما أن هذا الفوز يفتح الباب أمام إمكانية إعادة تعريف العلاقة بين الانتماء الديني والمواطنة السياسية، إذ لم يعد المسلم أو العربي يُنظر إليه كعنصر غريب عن النسيج الأميركي، بل كفاعل قادر على المساهمة في صياغة سياساته وقيمه العامة.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال التحديات التي تواجه ممداني في إدارة المدينة، فبرنامجه التقدّمي الطموح يواجه واقعاً مؤسساتياً معقداً، ومعارضة شرسة من القوى الاقتصادية والإعلامية، فضلاً عن حساسية العلاقة مع الجالية اليهودية التي تنتظر منه مواقف واضحة بشأن مكافحة معاداة السامية وضمان أمنها داخل المدينة. وفي هذا السياق، تعهّد ممداني بدعم برامج مكافحة الكراهية وتمويلها، مؤكداً أن العدالة لا يمكن أن تتحقق عبر التمييز أو الإقصاء، وأن الدفاع عن الفلسطينيين لا يعني معاداة اليهود، بل رفض السياسات العنصرية أياً كان مصدرها.
من المنظور العربي والإسلامي، يشكّل فوز ممداني حدثاً يمكن قراءته بوصفه إشارة رمزية إلى تغيّر صورة المسلم في الغرب. فبعد عقود من التنميط والتهميش، يظهر اليوم نموذج سياسي يجمع بين الاعتزاز بالهوية والانفتاح على قيم الحداثة والعدالة، نموذج يقدّم رؤية بديلة للعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، ويؤكد أن الالتزام بالقيم الإنسانية لا يتعارض مع الانتماء الديني. وفي الوقت ذاته، يحمل هذا الحدث دلالة استراتيجية للعالم العربي، إذ يكشف أن قضايا مثل فلسطين يمكن أن تجد صدى في المجتمعات الغربية ليس عبر الشعارات، بل عبر الانخراط العقلاني في مؤسسات القرار والتأثير من داخلها.
إن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك يعبّر عن لحظة تاريخية تتجاوز شخصه، لتصبح عنواناً لتحوّل ثقافي وسياسي في أميركا والعالم. إنه فوز يعيد تعريف العلاقة بين الهامش والمركز، بين الهوية والإنسانية، بين الموقف الأخلاقي والمصلحة السياسية. ورغم ما يواجهه من تحديات وضغوط، فإن هذا الحدث يفتح أفقاً جديداً أمام السياسة الأميركية التي يبدو أنها تدخل مرحلة ما بعد “الاستثناء الإسرائيلي” وما بعد احتكار تعريف الوطنية الأميركية. إنه درس في أن الديمقراطية، مهما تعثرت، تظل قادرة على إنتاج مفاجآت تُعيد الاعتبار للضمير الإنساني وللقيم التي من أجلها وُجدت السياسة في الأصل: العدالة، والحرية، والمساواة.



