مقالات

الأمن القومي المصري: قراءة شاملة في المحددات والتحديات والآفاق

بقلم : د. حمدي سيد محمد محمود – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة

 

يمثل الأمن القومي المصري منظومة مركبة تتشابك فيها المحددات الداخلية مع المؤثرات الخارجية في صورة شبكة معقدة من التفاعلات الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالموقع الجغرافي الفريد لمصر عند ملتقى القارات الثلاث، وسيطرتها على شريان الملاحة العالمي المتمثل في قناة السويس، واعتمادها شبه الكامل على مياه النيل، جميعها عناصر تشكل ركائز رئيسية لتحديد معادلة أمنها القومي. هذه المحددات تمنح مصر ثقلًا استراتيجيًا ومكانة محورية، لكنها في الوقت ذاته تجعلها عرضة لأخطار متعددة قد تتحول إلى تهديدات وجودية إذا لم تُدار برؤية متكاملة. ويضاف إلى ذلك الوزن السكاني الكبير الذي يتخطى المئة مليون نسمة، وما يفرضه من ضغوط على الموارد والبنى التحتية والخدمات، مما يجعل الأمن القومي مرتبطًا بدرجة عالية بكفاءة إدارة الدولة وقدرتها على تحويل هذه التحديات إلى فرص للنهوض.

وعلى المستوى الإقليمي، تواجه مصر بيئة جيوسياسية مضطربة تمثل فيها الأزمات في السودان وليبيا والقرن الأفريقي دوائر خطر دائمة التفاعل. فهذه البيئات تشكل مصادر محتملة لتدفق اللاجئين والأسلحة والجماعات المسلحة، فضلًا عن كونها مسارح لتنافس إقليمي ودولي على النفوذ ينعكس على الأمن المصري بصورة مباشرة. كما أن استمرار الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وتداعياته الأمنية والإنسانية يشكل تحديًا حيويًا للأمن المصري، خصوصًا على صعيد سيناء وما تمثله من خط تماس حرج بين الأمن الداخلي والتوازنات الإقليمية. وفي هذا السياق، يصبح بناء تحالفات إقليمية فعالة وصياغة سياسة خارجية مرنة أداة لا غنى عنها في تخفيف حدة التهديدات الخارجية وتأمين المصالح الحيوية للدولة.

ويأتي ملف المياه في صدارة التحديات الهيكلية التي تفرض نفسها على الأمن القومي المصري، حيث يشكل الخلاف حول سد النهضة الإثيوبي أحد أخطر الأزمات الاستراتيجية المعاصرة. إذ تعتمد مصر اعتمادًا شبه مطلق على تدفقات نهر النيل، وأي تغيير في كميتها أو انتظامها يهدد الأمن الغذائي والاقتصادي والاجتماعي. ولا يقتصر الأمر على كونه صراعًا حول مورد طبيعي، بل إنه يعكس توازنات قوة إقليمية جديدة تتطلب من مصر الجمع بين الدبلوماسية النشطة، والقدرة على الحشد الدولي، وتطوير استراتيجيات داخلية لترشيد الاستهلاك المائي وتوسيع مصادر بديلة من خلال تحلية المياه ومعالجة الصرف. إن معالجة هذه القضية تتطلب رؤية تتجاوز إدارة الأزمة إلى بناء نظام مائي وطني مرن قادر على الصمود أمام الأزمات طويلة الأمد.

أما على الصعيد الداخلي، فتمثل سيناء تحديًا أمنيًا معقدًا نظرًا لوجود جماعات مسلحة، وطبيعتها الحدودية الحساسة، وبنيتها الاجتماعية الخاصة. وتعكس هذه الحالة تداخل الأبعاد الأمنية بالتنموية والاجتماعية؛ إذ لا يكفي التعامل معها عبر المقاربة العسكرية وحدها، بل يتطلب الأمر تبني استراتيجية شاملة تركز على التنمية المحلية، ودمج المجتمع القبلي في منظومة الدولة، وتفعيل مسارات العدالة والمساءلة بما يعزز شرعية الدولة في عيون مواطنيها. فغياب التنمية العادلة وتردي الخدمات يمكن أن يشكلا بيئة خصبة لإعادة إنتاج التهديدات الأمنية مهما بلغت قوة الردع العسكري.

ولا ينفصل الأمن القومي عن المحددات الاقتصادية والاجتماعية التي تمثل الوجه الداخلي الأكثر حساسية. فالاقتصاد المصري يعاني من ضغوط متزايدة بفعل الاعتماد على مصادر محدودة مثل قناة السويس والسياحة والتحويلات، وهي مصادر هشة أمام التقلبات الإقليمية والعالمية. ومع تصاعد الضغوط التضخمية، وتزايد معدلات البطالة، وتفاوت مستويات المعيشة، تبرز هشاشة الاستقرار الاجتماعي كأحد أبرز الأخطار غير التقليدية للأمن القومي. إن أي اهتزاز في العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع قد يتحول إلى تهديد سياسي وأمني يصعب احتواؤه بوسائل القمع أو الأدوات العسكرية وحدها. لذا، فإن تحقيق الاستقرار الاقتصادي عبر إصلاحات هيكلية وتنمية مستدامة يعد من محددات الأمن القومي لا من ترف السياسات الاقتصادية.

وفي ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة، أصبح الأمن السيبراني مكونًا أساسيًا في معادلة الأمن القومي المصري. فالهجمات الإلكترونية لم تعد مجرد عمليات تخريبية محدودة، بل باتت قادرة على شل قطاعات حيوية كالبنوك والطاقة والمرافق الصحية، مع ما يترتب على ذلك من خسائر اقتصادية واضطراب اجتماعي واسع. وفي هذا الإطار، يصبح الاستثمار في منظومات سيبرانية وطنية، وتحديث التشريعات، وبناء وعي رقمي لدى الأفراد والمؤسسات ضرورة استراتيجية لا تقل أهمية عن تحديث القدرات العسكرية التقليدية.

ومن زاوية استشرافية، يمكن القول إن مستقبل الأمن القومي المصري سيُبنى على ثلاثة محاور مركزية: أولها تعزيز مرونة الموارد الحيوية، من خلال بناء بدائل استراتيجية للمياه والغذاء والطاقة، وإقامة شبكات ذكية للرصد والإدارة. ثانيها ترسيخ الاستقرار الداخلي عبر عقد اجتماعي جديد يقوم على التنمية المتوازنة، وتوسيع المشاركة المجتمعية، وتحصين المجتمع ضد الانقسامات. أما المحور الثالث فهو تأمين الفضاءات الحيوية في البحر والفضاء السيبراني والنطاق الإقليمي عبر تحالفات وشراكات مرنة، تسمح لمصر بالحفاظ على نفوذها وردع خصومها في بيئة دولية شديدة السيولة.

إن الأمن القومي المصري لم يعد قضية جيوسياسية أو عسكرية فحسب، بل بات منظومة شاملة تتقاطع فيها اعتبارات المياه والاقتصاد والمجتمع والتكنولوجيا. ومن ثمّ، فإن الرؤية الاستشرافية الواعية تقتضي الانتقال من إدارة الأزمات إلى بناء بنية صلبة للمرونة الوطنية قادرة على امتصاص الصدمات والتكيف مع التحولات، وبذلك يتحول الأمن من مجرد هدف دفاعي إلى مشروع وطني جامع يضمن بقاء الدولة وتعظيم قدرتها على المنافسة في المستقبل.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى