مقالات

دارفور بين الواقع والانفصال: ملامح ولادة كيانٍ على أطلال الدولة السودانية

بقلم : د.حمدي محمود – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر

تبدو دارفور اليوم وكأنها تسير بخطى متسارعة نحو مصيرٍ جديد، مصيرٍ لم تختره بإرادتها الكاملة بقدر ما فُرض عليها بفعل حربٍ طويلةٍ أنهكت السودان وأعادت رسم خريطته السياسية والاجتماعية. سقوط مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية والسياسية لدارفور، لم يكن مجرد حدثٍ عسكري؛ بل كان منعطفاً تاريخياً حاسماً كشف عن عمق التصدع في بنية الدولة السودانية، وأظهر أن الإقليم الذي ظل لعقود مسرحاً للنزاعات والهامشية، أصبح اليوم أقرب ما يكون إلى كيانٍ منفصلٍ بحكم الواقع، حتى وإن لم يُعلن استقلاله رسمياً بعد.

من الناحية الجغرافية والسياسية، تشكل دارفور مساحة شاسعة تمتد عبر حدود مع تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، مما يمنحها موقعاً استراتيجياً استثنائياً يجعل السيطرة عليها ذات بعد إقليمي يتجاوز الداخل السوداني. فالإقليم لم يعد مجرد إقليمٍ غربي تابع للعاصمة، بل تحوّل إلى منطقة تماسٍ معقدة تتقاطع فيها مصالح قوى داخلية وإقليمية ودولية، ما جعلها أشبه بمنطقة نفوذ مستقلة بحكم الأمر الواقع. منذ أن فقدت الحكومة المركزية السيطرة على الفاشر، أصبحت قوات الدعم السريع اللاعب الوحيد الذي يفرض سلطته في الإقليم، فتدير الأمن والطرق والإمدادات وحتى بعض المرافق المدنية، مما يعني أن السلطة الفعلية لم تعد في يد الخرطوم، بل في أيدي سلطة محلية تتصرف كأنها حكومة موازية.

البعد التاريخي لهذا التحول لا يمكن تجاهله، فدارفور كانت ذات يوم سلطنة مستقلة ذات نظام سياسي وإداري متكامل قبل أن تُدمج قسراً في السودان عام 1916. تلك الذاكرة التاريخية لم تندثر، بل ظلت كامنة في وجدان سكان الإقليم، وها هي تعود اليوم لتغذي سردية “الهوية المستقلة” التي يجد فيها البعض مبرراً لإحياء حلم الانفصال أو الحكم الذاتي الكامل. ومع انهيار الدولة المركزية في الخرطوم وتآكل مؤسساتها، يجد هذا الخطاب أرضاً خصبة للنمو، إذ يتزايد الشعور بأن دارفور لم تعد ملزمة بالانتظار إلى أن تُحل أزمات السودان الكبرى، بل تستطيع أن تعيد بناء ذاتها على أسس جديدة تعكس خصوصيتها الثقافية والإثنية والسياسية.

في الوقت نفسه، تلعب العوامل الإنسانية والدولية دوراً بالغ الأهمية في ترسيخ فكرة الانفصال غير المعلن. فالإقليم يعيش واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في إفريقيا، مع ملايين النازحين ودمار شبه كامل للبنية التحتية. ومع دخول المنظمات الدولية كفاعلٍ رئيسي في إدارة الحياة اليومية للمدنيين، تتشكل منظومة شبه مستقلة في مجالات الصحة والإغاثة والإدارة، ما يعزز صورة دارفور ككيانٍ يعيش خارج منظومة الدولة السودانية فعلياً. ومع استمرار الحرب، تتعامل بعض القوى الخارجية مع دارفور كمنطقة قائمة بذاتها، ليس من باب الاعتراف السياسي المباشر، بل من باب الواقعية الميدانية التي تفرضها الظروف.

ورغم أن الانفصال الرسمي لا يبدو قريباً في ظل غياب اعترافٍ دولي أو قيادة سياسية موحدة تمثل الإقليم بأكمله، إلا أن المؤشرات كلها تشير إلى أن دارفور باتت في مرحلة “الانفصال الصامت”، حيث تتحول الإدارة والموارد والهوية تدريجياً إلى إطارٍ ذاتيٍ منفصل عن الدولة الأم. ومع تصاعد الخطاب الإثني والعسكري، وتراجع سلطة القانون، قد يجد المجتمع الدولي نفسه قريباً أمام واقعٍ جديد يصعب تجاهله، تماماً كما حدث في جنوب السودان قبل عقدٍ من الزمن.

ومع ذلك، يظل انفصال دارفور – إذا ما حدث – سيفاً ذا حدين. فمن جهة، قد يحقق نوعاً من الاستقرار الذاتي ويُنهي حالة التبعية والصراع الطويل مع المركز، لكنه من جهة أخرى قد يفتح الباب أمام تفكك السودان بشكل أوسع، إذ إن سابقة الانفصال ستغري أقاليم أخرى بالمطالبة بمصير مشابه. كما أن دارفور، بما تحويه من تنوع قبلي حاد وصراعات موارد معقدة، قد لا تجد نفسها موحدة تحت سلطة واحدة حتى بعد الانفصال، ما يجعل فكرة الدولة الجديدة محفوفة بالمخاطر من لحظة ميلادها الأولى.

في النهاية، يمكن القول إن دارفور اليوم ليست مجرد إقليمٍ على هامش الصراع، بل أصبحت رمزاً لتحول السودان من دولةٍ مركزية إلى فسيفساء من الكيانات المتنازعة. سقوط الفاشر لم يكن نهاية معركةٍ فحسب، بل ربما كان بداية عصرٍ جديد يعاد فيه تعريف معنى السودان وحدوده وهويته السياسية. وإذا لم يأتِ حلٌّ وطني عاجل يعيد التوازن بين المركز والأطراف، فقد تتحول دارفور من جرحٍ مفتوح في الجسد السوداني إلى كيانٍ جديد يولد من رحم الحرب، حاملاً معه كل تناقضات التاريخ وآمال الشعوب في آنٍ واحد.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى