الواقعيّة السياسيّة تُحوّل الخِطاب الرّاديكالي المُتطرّف الى لقاءٍ ودياً بين الكابوي الأمريكي ورجل الصواريخ الكوري
اعداد : أ. احمد كريم صالح – كلية القانون والعلوم السياسية \ جامعة الانبار
- المركز الديمقراطي العربي
انّ العلاقات الدوليّة غالباً ما تستند الى مجموعة من النظريات والتي غالباً ما تكون هي الاساس لمُجمل التفاعلات التي تجري بين وحدات النظام الدولي الأساسية , وتعد النظرية ” الواقعيّة ” واحدة من أهم النظريات التي تسير في ركابها الدولة باعتبارها الوحدة الاساسية في النظام الدولي في تفاعلاتها من الدول الاخرى الى جانب النظريات الاخرى ( المثالية , القانونيّة ,السلوكية , التوازن ) ففي التفاعلات الدوليّة قد لا تأبه الدول كثيراً للمعايير السلوكيّة أو المثاليّة أو حتى القانونيّة , اذ ان اغلب الدول تنطلق من منطلق ” المصلحة ” في تفاعلاتها العابرة للحدود الوطنيّة وهذا هو جوهر ” المدرسة الواقعيّة ” التي تقوم على ركني ” القوة ” و ” المصلحة ” كما حددهما رائد هذه النظرية ( هانز موركنثاو ) .
ولعلّنا لا نغالي كثيراً اذا قلنا ان النظرية الواقعيَة تُعد حجر الزاوية في السياسية الخارجية لأغلب الدول وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الامريكية .
- وبناءً على ما سبق فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف تحوّل الخِطاب الرّاديكالي المتطرّف الى ممارسة براغماتية ومصافحات حميمة بعد سيلٍ عرم من الاتهامات والتهديدات المتبادلة بين ترامب وجيم؟
- بمعنى هل ثمة ظروف دوليّة او ظروف داخليّة قادت الى تقريب وجهات النظر بين الطرفين والجلوس على طاولة الحوار ؟
انّ الاجابة على هذا التساؤل يقتضي دراسة دوافع كل طرف بمنأى عن الطرف الاخر, ثم كيفية تحقيق نوع من المواءمة بين الدوافع المتضادة للطرفين .
اولاً : الولايات المتحدة الامريكيّة .
ان النهج الذي اتبعته ادارة الرئيس الامريكي (دونالد ترامب) مُذْ انْ تسنّم رئاسة الولايات الامريكية تتجلّى فيه الواقعية بأبهى صورها , وأزعمُ أنني لم أُبالغ بذلك , فالمتتبع لقرارات الرئيس الامريكي دونالد ترامب سيجد انه يجسد بقرارته العقلية الامريكية الواقعيّة القائمة على القوة والمصلحة , وربما نتفق جميعاً ان قرارته احياناً مُتسرّعة وخطاباته ربما تفتقر الى اللباقة الدبلوماسية ولكنها اكثر واقعيّة من قرارات سلفه باراك اوباما , ويأتي تجاوبه مع الرئيس الكوري الشمالي جيم كونغ اون تجسيداً لهذه الواقعيّة .
فبالرغم من تهديده المباشر والصريح والمتكرر لكوريا الشماليّة ألا أنه قبِلَ في نهاية المطاف بالجلوس على طاولة الحوار , وربما تقديم تنازلات للجانب الكوري الشمالي الذي لطالما تحدّى الولايات المتحدة الامريكية بتجاربه النووية , وصواريخه الباليستية تدفعه بذلك عوامل داخليّة وخارجيّة .
وتتمثل العوامل الخارجية في محاولة الى ان تبقى الساحة الدولة دون منافس قوي للولايات المتحدة الامريكية , ولهذا تهدف الأخيرة الى اخلاء شبه الجزيرة الكوريّة من الأسلحة النووية , فالنظام الدولي تعقدَّ كثيراً , وبرزت قوى صاعدة ربما ستنافس الولايات المتحدة الامريكية على المدى القريب ولعل اهمّها (الصين وروسيا والهند ) وهذه الدول الثلاثة هم من أهم الدول التي تقلق الولايات المتحدة الامريكية في اسيا على حد وصف هنري كيسنجر . وربما هذا ما دفع وزيرة الخارجية الامريكية السابقة (هيلاري كلينتون) الى القول ” لا اريد لأحفادي ان يعيشوا في عالم تهيمن عليه الصين ” وبالتالي على الولايات المتحدة الامريكية ان توسّع دائرة صداقتها الدوليّة وتُقلّص دائرة العِداء حتى تتمكن في البقاء على قمة هرم النظام الدولي . وهذا ما دفعها الى التقارب مع كوريا الشماليّة بصرف النظر عن النتائج التي من الممكن ان تتحقق , فالجلوس على طاولة المفاوضات بعد قطيعة طويلة الامد يُعد خطوة جيّدة في اطار ايجاد نوع من التفاهم بين الطرفين .
في حين تتمثل العوامل الداخليّة في محاولة لكسب الدعم الشعبي الامريكي ومحاولة لإيجاد نصراً يمتطى صهوته ( دونالد ترامب ) في الانتخابات الامريكية القادمة , بعد ان نجح كثيراً في دفع عجلة الاقتصاد الامريكي الى الأمام , فضلاً عن عقده الكثير من الصفقات مع مختلف الدول وتعد الصفقة الامريكية مع المملكة العربية السعودية من أهم الصفقات التي عقدها ترامب لحد الان اذ وصِفت بصفقة القرن .
بالإضافة الى العوامل الداخليّة والخارجية انّ طبيعة الجانب الكوري الشمالي والذي يفاوض من منطلق القوة قد قادت الولايات المتحدة الامريكية الى القبول في المفاوضات , بمعنى هي ترجّلت من علياء القوة , ودبلوماسية العصا الغليظة الى طاولة الحوار , وبالتالي هذه نتيجة حسابات مُعمّقة لطبيعة المشكلة , وطبيعة الساحة الدوليَة على الوجه الأعم تدفعها بذلك واقعيّتها السياسية أي مصالحها القوميّة بالدرجة الأساس .
ثانياً : كوريا الشمالية :
انّ العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على كوريا الشمالية قاسية جداً بالرغم من صمود كوريا الشمالية امام هذه العقوبات ولكنها حتماً لن تستطيع أن تبقى صامدة الى ابد الابدين , اذ ان تقارير الامم المتحدة تشير الى ان مواطني كوريا الشمالية يعانون من انعدام مزمن للأمن الغذائي . ويعتمد نحو (18 مليون) شخص من مجموع سكان الدولة البالغ( 25 مليون ) نسمة على الحصص الحكوميّة , فضلاّ عن العزلة الدوليّة التي تعيشها كوريا الشماليّة .
أمام هذه الاشكالية كان عليها ايضاً ان تتحلى بالواقعيّة وترضخ الى طاولة الحوار مع الولايات المتحدة الامريكية عالأقل لمحاولة فك الخناق الذي فرضته الولايات المتحدة الامريكية من خلال مجلس الامن الدولي , وهذا ما حدث بالفعل فقد قبِل كيم جونغ أون بالتفاوض وعُقدت قِمّة بين الرئيس الكوري الشمالي والرئيس الامريكي في سنغافورة في 12 يونيو الجاري 2018 والتي عُرفت بالقمّة التاريخيّة , تخللها عقد وثيقة عُرفت “بالوثيقة التاريخيّة ” وقد انطوت هذه الوثيقة على اربعة بنود وهي :
– ان تكون شبه الجزيرة الكوريّة منطقة منزوعة السلاح .
– اقامة علاقات تجارية بين الولايات المتحدة الامريكية وكوريا الشمالية .
– تسوية الخلافات بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية .
– تقديم ضمانات على ضرورة استمرار الحوار بين الطرفين .
وقد جاءت هذه القِمة بعد سيلٍ من الاتهامات والتهديدات المتبادلة بين الطرفين بشكلٍ ربما لم يألفه التاريخ الدبلوماسي من ذي قبل , ولكن بالنتيجة تبددت هذه التهديدات وأجتمع الزعيمان انطلاقاً من مصالحهما القوميَة وواقعيّتهما السياسية .
ولكن ما يعد هدفاّ لأحد الأطراف ربما يشكل تهديداً وتعارضاً مع اهداف الطرف الاخر , وبالتالي يتطلّب خلق نوع من المواءمة وتقديم نوع من التنازلات من جانب الطرفين , ففي الوقت الذي تعتبر كوريا الشماليّة ان امتلاكها للسلاح النووي يُمثل ورقة ضغط لتحقيق اهدافها ومصالحها, ووسيلة للحفاظ على نظامها السياسي تعتبره الولايات المتحدة الامريكية تهديداً لها ولحلفائها, وهنا تفرض الواقعيّة نفسها مرّة اخرى خوصاً من الجانب الكوري الشمالي اذ لا يمكن ان يتخلى الجانب الكوري الشمالي عن برنامجه النووي بشكلٍ كامل , ربما سيقدم تنازلات في هذا الجانب تتعلق بتجميد او بتقويض التجارب النووية مُقابِل فك الحصار الذي فرضه مجلس الأمن الدولي بتحشيد من جانب الولايات المتحدة الامريكية .
وهكذا اذن تتجلى الواقعيّة السياسية في تحركات الطرفين , ليُجسدان بذلك المبدأ البريطاني القائل ليس هناك صداقة دائمة او عداء دائم وإنّما هناك مصلحة دائمة , فبعد ان وصف الرئيس الكوري الشمالي جيم كونغ اون الرئيس الامريكي “بالرجل العجوز” وهدد بضرب واشنطن بلا رحمة , وبعد ان بادله دونالد ترامب بتصريحات وتهديدات مماثلة ووصفه “برجل الصواريخ ” قد تصافحا في نهاية المطاف وتبادلا الابتسامات العريضة .
أما بعد واخيراً ستبقى الولايات المتحدة الامريكية تُصارع من أجل البقاء الى ان يأتي اليوم الذي تتدحرج فيه الى وادٍ سحيق , وستُركن في رفوف التاريخ , فهي لن تبقى شرطيّ العالم على مدى الدهر , فكل امبراطورية تولد تُولد بذرة فناءها معها , ولعل التاريخ خير شاهداً على ما نقول .