التكيُّف الانتقالي – مدخلٌ لمواجهة التغيُّر المُناخي
بقلم : هاجر محمد أحمد عبد النبي – باحث دكتوراه
- المركز الديمقراطي العربي
يتحدث العالم بأسره عن التغيُّر المُناخي باعتباره الملف الأكثر إلحاحًا، والمُهيمن الرئيس على سياسات، الدول وتوجُّهاتها، واستراتيجياتها خلال الفترة الراهنة، في محاولة واضحة لإنقاذ الكوكب، لا سيّما بعد أن شرعت الظواهر المناخية الكارثية في الظهور.
تتصاعد تصريحات قادة العالم من كلِ حدبٍ وصوب، وتُعقَد القمم الأممية الكبرى للخروج بأهداف طموحة من شأنِها الحدّ من التغيُّرات المُناخية، والحفاظ على درجة حرارة الأرض عند أدناها، بيد أنّ متطلبات النمو الاقتصادي، والتنمية الصناعية، والتطوُّر التكنولوجي العالمي المُتسارِع، يجعل تحقيق تلك الأهداف ليس بالأمر القريب، والأكثر من ذلك أنّ الأوضاع غدت تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
في ضوء ما تقدَّم، تبنّى المحلِّلون أكثر من منظور؛ فمنهم من يرتأي ضرورة الانتقال السريع إلى الاعتماد الكلّي على مصادر الطاقة المتجددة في كافّة المجالات، ومنهم من يؤكِّد صعوبة تحقيق ذلك في المستقبَل المنظور، وإن الأمر يتطلَّب عقودًا من الاستثمارات، وتعزيز الجاهزية الخاصة بالبنى التحتية، والبيئة التمكينية بشكلٍ عام، مع الإشارة إلى انّ المصادر المتجددة للطاقة؛ كطاقة الرياح، والطاقة الشمسية، “غير جاذبة” اقتصاديًا ولا تحقِّق هامش ربح كبير للمستثمرين. وفي خضم ذلك الجدل؛ ظهر فريق ينادي بضرورة تضمين عنصر “التكيُّف” الذي يُشير إلى انتهاج ممارسات، وتبنّي آليات تستهدف الاستعداد لآثار التُغيُّر المُناخي والتأقلُم معه، ما يعني، ضمنيًا، الاعتراف بصعوبة التصدي لذلك التغيُّر أو الحدّ منه على المدى القريب.
وثمّة فريق رابع أبرز إمكانية اللجوء إلى “حل وسط” يجمع بين الحفاظ على البيئة، وتقليل البصمة الكربونية للعمليات الاقتصادية والممارسات البشرية من ناحية، والاعتماد على مصادر الطاقة المُتاحة الآن، والصديقة للبيئة -خاصةً الغاز الطبيعي- بدرجة أكبر من غيرها من ناحيةٍ أخرى، حتى يتسنّى الانتقال إلى الاعتماد الموثوق على المصادر المتجددة للطاقة. ويتبنّى المقال ذلك الاتجاه، ويُعرِّفه بالاتجاه الداعم لـ “التكيُّف الانتقالي“، ويُقصد به “الاعتماد على الإمكانات المتاحة وتكييفها، بما يُسهم في الحدّ من تفاقُم أزمة التغيُّر المُناخي؛ حتى تتسنّى مُعالجة تحديات استخدام الطاقة المتجددة كمصدر موثوق للطاقة“، من خلال تكييف السياسات الحكومية والدولية مع أهداف الانتقال التدريجي بعيدًا عن المصادر الأكثر تلويثًا للبيئة.
يُبرز المقال أيضًا كيف يُمكن لمصر أن تقود العالم بصدد سياسات “التكيُّف الانتقالي”، في ضوء امتلاكها لأكثر مصادر الطاقة جذبًا للعالم؛ وهو الغاز الطبيعي “المُسال” الذي بات أبرز أسلحة الضغط السياسي والاقتصادي حديثًا؛ بسبب تعاظُم أهميته على الصعيدين الاقتصادي والبيئي.
أولًا: لماذا يُعدُّ “الغاز الطبيعي” مصدر للطاقة “أكثر كفاءة”
على الرغم من كونِ الغاز الطبيعي أحد مصادر الوقود الأحفوري التي ينادي العالم بالتخلّي المُطلق عنها، فإنّه يؤدي دورًا حيويًا، ويُعد ركيزةً أساسية في استراتيجية “تحوُّل الطاقة” للعالم أجمع على المدى القريب؛ حيث يتسنّى من خلال الاستخدام الآمن للغاز الطبيعي مُجابهة التحدي الماثِل أمام الكوكب، والمُتمثِّل في توفير مزيدٍ من إمدادات الطاقة، مع تخفيف آثارها البيئية؛ يعمل الغاز الطبيعي على تقليل الانبعاثات الكربونية، عند إحلال ذلك النوع من الوقود محل “الفحم” و”الديزل”، ما يُسهم في تحسين جودة الهواء. فضلًا عن ذلك، يُعدُّ الغاز الطبيعي شريكًا، وبديلًا موثوقًا لمصادر الطاقة المُتجددة؛ مثل طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والكهرومائية؛ نظرًا لأنه يُساند تلك الأنواع من خلال المساعدة على تحقيق التوازن بين العرض والطلب؛ وبمعنى آخَر يعوِّض توافُر الغاز الطبيعي المُسال الانخفاض المُفاجئ في إمدادات الطاقة الشمسية، أو طاقة الرياح، من خلال الاستجابة السريعة للزيادات المفاجئة في الطلب، أو تحقيق ما يُعرف بـ “تكامُل مصادر الطاقة منخفضة الانبعاثات”.
ما زال الغاز الطبيعي أيضًا يُشكِّل عنصرًا رئيسًا في أجزاء الاقتصاد التي يصعُب تسييرها باستخدام أنواع أخرى من مصادر الطاقة؛ كالعمليات الصناعية، ونقل البضائع. كما أكَّدت “الوكالة الدولية للطاقة” إنّه عند استخدام الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء، تكون انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة أقل بنسبة تتراوح بين 45 – 50%، مُقارنةً باستخدام الفحم. اتصالًا، يساعد “الغاز الطبيعي المسال” على تنويع مزيج الوقود، وتقليل تلوث الهواء كوقود للنقل البري، والشحن الثقيل؛ حيث يتم تحويل الغاز الطبيعي إلى وقود نظيف وعالي الجودة بحرق الغاز إلى سوائل (Gas-To-Liquids) تُستخدم كوقود للنقل، وزيوت المحركات[1].[2]
تأسيسًا على ما تقدَّم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز الدول التي سارعت في انتهاج سياسة تعتمد على الغاز الطبيعي، وتمكَّن ذلك المصدر الرئيس للطاقة من تقليل البصمة الكربونية لـ “واشنطن”؛ حيث عمدت الحكومة الأمريكية إلى تأطير سياساتها بناءً على ما تمتلكه الدولة من خيارات، واستطاعت من خلال اعتمادها على الغاز بدلًا من الفحم خفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري بأكثر من أي دولة أخرى خلال أقل من عشر سنوات، وعلى الرغم من تضمينها الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح الخالية من الكربون، إلى جانب الغاز منخفض الكربون في “مزيج الطاقة”، فإن نسبة 60% من إجمالي الخفض في الانبعاثات، يُعزى إلى التحوُّل إلى الغاز، مقابل نسبة 40% الناجمة عن التحوُّل صوب مصادر الطاقة المتجددة المذكورة[3].
وسعى الاتحاد الأوروبي مؤخرًا إلى إدراج “الغاز الطبيعي” ضمن “الطاقة الخضراء”؛ نظرًا لصعوبة إحلال مصادر أخرى للطاقة محل الوقود الأحفوري في المستقبل القريب، ما أعاد تشكيل مفهوم “الطاقة النظيفة” والتفكير في أبعاده وركائزه؛ حيث تتسم مصادر الطاقة الخالية من الكربون؛ كالطاقة الشمسية والرياح، بطبيعتها “المُتقطِّعة”، وغياب عنصر “الموثوقية”، الذي يُعد العنصر الرئيس في أمن الطاقة لأي دولة، كما أن وسائل تخزين كميات كبيرة من الكهرباء من تلك المصادر بتكاليف معقولة، لم تتوافر حتى الآن، وقد تتطلب عقودًا لإنتاجها؛ ما يؤكد محورية الغاز الطبيعي المُسال في “مزيج الطاقة” للدول؛ لا سيّما تلك التي تمتلك احتياطات كبيرة منه؛ مثل مصر [4].
في ضوء ذلك، يؤكِّد العديد من المُحللين حول العالم أن سياسات “التكيُّف الانتقالي” ستكون أكثر جدوى اقتصاديًا، وسياسيًا في الوقت الراهن، من التركيز على مجابهة الأسباب الرئيسة للتغُّير المُناخي، أو التحوُّل الجذري للاعتماد بشكلٍ كليٍ على مصادر الطاقة المتجددة غير المتوفرة طوال الوقت[5].
ويُشير ما تقدَّم أنّ مصر تمتلك فرصة هائلة؛ كي تصبح رائدًا إقليميًّا بل وعالميًا بشأن قيادة جهود “التكيُّف الانتقالي” التي تستند إلى الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال كمصدر انتقالي آمن للطاقة، وهذا ينقلنا إلى السؤال الثاني.
ثانيًا: أين موقع مصر من الخريطة العالمية للغاز الطبيعي؟
أضحت مصر مركزًا إقليميًّا للطاقة على إثر اكتشافات الغاز الطبيعي الكبيرة؛ حيث شهدت الدولة منذ عام 2015، العديد من اكتشافات الغاز التي مكَّنتها، ليس فقط من تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولكن أيضًا من تعزيز قدرتها على التصدير لكبار مستوردي الغار الطبيعي على مستوى العالم. ومن تلك الاكتشافات؛ حقل “نورس” بـ “دلتا النيل”، وحقول الغاز التابعة لمنطقتي امتياز شمال “الإسكندرية” وغرب “دلتا النيل” بالبحر المتوسط، وحقل “ظهر” الذي يُعدُّ ضمن أكبر اكتشافات الغاز الطبيعي بالعالم[6].
في ضوء ذلك، زاد إنتاج مصر من الغاز الطبيعي من 40.3 مليار متر مُكعب في عام 2016 إلى 64.9 مليار متر مُكعب عام 2019، ما يُمثِّل زيادة بنسبة 61.04% وقد انخفضت الكمية المُنتَجة عام 2020 لتصل إلى 58.5، ما يُعدُّ انخفاضًا بنسبة 10.2% عن العام السابق عليه نتيجةً لتداعيات جائحة “كوفيد-19” الاقتصادية. ووفقًا لشركة “بريتش بتروليوم” (British Petroleum)، و”إدارة معلومات الطاقة الأمريكية” تمتلك مصر 2.186 تريليون متر مكعب، أو 77.2 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة عالميًّا، ما يجعلها تحتل المرتبة 16 على مستوى العالم، وأوضح تقرير “بريتش بتروليوم” لعام 2021، أن “القاهرة” ثاني أكبر مُنتجًا للغاز الطبيعي في إفريقيا بعد الجزائر.
ورغم ذلك، تُشير الإحصاءات أيضًا إلى أنّ مصر تُسهم بنسبة قليلة في صادرات الغاز الطبيعي سواءً على مستوى العالم، أو الدول العربية؛ فعلى سبيل المثال، ساهمت مصر بنحو 5% فحسب من إجمالي صادرات الدول العربية من الغاز، والتي بلغت 28.3 مليون طن في الربع الثاني من عام 2021. ويُمكِن أن يُعزى ذلك إلى زيادة الكمية التي تستهلكها الدولة محليًا من الغاز الطبيعي، والتي تزيد عن نظيراتها في الدول الأخرى التي تمتلك بالفعل احتياطات تفوق تلك التي تمتلكها مصر. في هذا الصدد، أوضحت بيانات تقرير “بريتش بتروليوم” 2021، أن الأخيرة استهلكت 57.8 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 2020، مُقابل 43.1، و35 مليار متر مكعب استهلكتها الجزائر، وقطر على الترتيب[7] [8].
وهذا يقودنا إلى السؤال الثالث -الذي يطرح نفسه في ضوء تلك المعطيات التي توضِّح أن مصر ليست مصدرًا رئيسًا للغاز الطبيعي في العالم- وهو:
ثالثًا: ما الذي يجعل مصر تقود “التكيُّف الانتقالي” من خلال الغاز الطبيعي؟
ثمّة عدة عوامل تدعم دور مصر هذا الصدد، حيث تُعدُّ الأخيرة حاليًا هي المصدر العربي الأسرع نموًا للغاز الطبيعي المسال، وفقًا لبيانات “منظمة الدول العربية المصدرة للبترول” (أوابك) عام 2020. فقد استأثرت مصر بنسبة 47% من نسبة نمو إجمالي الصادرات العربية من الغاز الطبيعي المسال خلال الربع الثاني من عام 2021.
لذا؛ تنبأ العديد من المُحلِّلين بأن مصر ستُصبح لاعبًا رئيسيًا ومنافسًا بارزًا في سوق الغاز الطبيعي المسال العالمي خلال سنوات قليلة. ولا يُمكِن لمصر تأدية ذلك الدور مدفوعة فقط بكونها مصدر إنتاج وتصدير، بل من خلال سياساتها المحلية لزيادة حصة الغاز الطبيعي في مزيج الطاقة، وإمكاناتها غير المستغلّة لـ “تسييل الغاز”، ودورها القيادي في “منتدى غاز شرق المتوسط“، وعلاقاتها الوثيقة مع “الاتحاد الأوروبي”، وموقعها الاستراتيجي بين مُصدِّرين أصغر؛ مثل: إسرائيل، وقبرص، والقيود الفنية والسياسية المفروضة على كبار المُصدِّرين الآخرين.
فعلى صعيد التدابير المحلية التي اتخذتها الحكومة المصرية في السنوات القليلة المنقضية لتعزيز دو الغاز الطبيعي في “أمن الطاقة المصري”، قامت الدولة بزيادة حصة الغاز الطبيعي في مزيج الطاقة، وأنشأت محطات تعبئة الغاز والتي وصلت إلى 530 محطة بنهاية عام 2021، فضلًا عن تحويل آلاف المركبات للعمل بالغاز الطبيعي المُسال تحت مظلة مبادرة رئاسية، كما تمّ تشغيل أول محطة متنقلة في مصر، وإقليم الشرق الأوسط لتموين المركبات بالغاز الطبيعي. وتقوم الدولة أيضًا بتوسيع نطاق توصيل الغاز للمنازل بسرعة غير مسبوقة. في هذا الصدد زادت الكمية المُستهلَكة من الغاز الطبيعي من 46 مليار متر مُكعب في عام 2015 إلى 59.6 في عام 2018 ما يُمثِّل زيادة بنسبة 29.6%،، بيد أن تلك الكمية شهدت انخفاضًا بنسبة 3.5% لتُمثِّل 57.8 مليار متر مُكعب في عام 2020؛ نظرًا للتداعيات الاقتصادية التي انبثقت عن جائحة “كوفيد-19” وعمليات الإغلاق التي صاحبتها.
وفي ضوء ما قيل، دأبت مصر على توسيع دورها إلى أبعد من ذلك، من خلال الإعلان عن إطلاق “منتدى غاز شرق المتوسط” في “القاهرة” عام 2019، والذي تحول بعد ذلك إلى منظمة دولية عام 2020. ويضم قبرص، واليونان، وإسرائيل، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، إضافةً إلى مصر. وهذا ينقلنا إلى دور مصر الإقليمي لقيادة عملية “التكيُّف الانتقالي”. يُعد “منتدى غاز شرق المتوسط” بمثابة منصة إقليمية رائدة تقودها مصر لتسهيل عمليات إنتاج الغاز الطبيعي المسال، واستغلاله محليًا، وتصديره؛ جاءت عملية إنشاءه مدفوعة بتنامي الحاجة إلى كيان إقليمي من شأنه تنسيق الجهود؛ لتحقيق أقصى استفادة من مقدرات الغاز البحرية، والاستفادة من البنية التحتية المتاحة، وخفض التكاليف الأولية، وجذب المستثمرين، حيث إنّه مِن المتوقَّع أن تزداد الكمية المُكتشفة من الغاز في البحر المتوسط خلال السنوات القليلة القادمة.
وفي حقيقة الأمر، تُعدُّ مصر العضو الوحيد في المنتدى الذي تمكَّن من تحقيق الاستقلال الذاتي لاستغلال الغاز الطبيعي وتصديره، على عكس الدول الأخرى التي تواجه تحديات بصدد الاستكشاف والاستغلال الأمثل لموارد الغاز؛ نظرًا لتردي البنية التحتية، والطبيعية الجغرافية الصعبة للاكتشافات؛ حيث يوجد معظمها في المياه العميقة، إضافةً إلى العقبات التنظيمية، والسياسات غير الداعمة لتحقيق الأرباح، ومن ثمّ إحجام المستثمرين عن المخاطرة برؤوس أموالهم في أنشطة لا طائل منها.
على العكس من ذلك، لم تتورع الإدارة المصرية عن تطوير البنية التحتية لتحفيز الاستثمارات؛ حيث ثمّة العديد من الإشادات الدولية لقطاع البنية التحتية المصري، والذي شهد نموًا خلال الأعوام الأخيرة، في ظل السياسات الحكومية الداعمة لتطوير شبكات النقل، والموانئ، وتعزيز كفاءة قطاع الطاقة. فوفقًا لوزارة التجارة الأمريكية مِن المتوقَّع أن ينمو قطاع البنية التحتية في مصر بين عامي 2020 و2024 بنسبة 9%[9]. اتصالًا، تحسَّن وضع مصر في مؤشر “جودة البنية التحتية” الصادر عن البنك الدولي بمقدار 48 درجة؛ ما رفع ترتيب مصر العالمي إلى المركز الـ 52 في عام 2019 بدلًا من المركز 100. ليس ذلك فحسب، بل أشار تقرير “ممارسة الأعمال” عام 2020 إلى تحسُّن أداء مصر بصدد حماية المستثمرين، والنظام الضريبي الداعم للاستثمارات، فضلًا عن زيادة كفاءة الخدمات اللوجستية.
ليس ذلك ما يزيد مِن ميزة مصر التنافسية بين كبار مُنتجي الغاز على مستوى العالم فحسب، بل تتميَّز “القاهرة” عن دول الشرق الأوسط الأخرى بقدرتها الفائقة على “تسييل” الغاز الطبيعي، والتي تجعلها أكبر مُصدِّر لأوروبا في الإقليم دون منافس، وتُعزِّز دورها “دوليًّا” -وليس محليًّا وإقليميًّا فقط- في سوق الغاز. تصل القدرة الإنتاجية للغاز المسال في مصر إلى ما يزيد عن 12 مليون طن سنويًا، من خلال مُجمعي: “دمياط” و”إدكو”، وينطوي “الغاز الطبيعي المسال” على أهمية قصوى؛ حيث يُعدُّ أكثر حفاظًا على البيئة من “الغاز الطبيعي المضغوط” الذي يتكوَّن من غاز “الميثان”، وبذلك يُمثِّل الغاز “المُسال” العامل الرئيس في سياسات “التكيُّف الانتقالي” الصديقة البيئة، وهو أيضًا ما يجعل مصر تنافس روسيا في هذا الشأن؛ حيث تعتمد الأخيرة على تصدير الغاز المضغوط عبر الأنابيب، وهو الاتجاه الذي بدأ العالم يُحجم عنه لمخاطره على البيئة والمناخ، وتكلفته الاقتصادية.
وتُعزِّز استراتيجية تخزين الغاز الطبيعي للمفوضية الأوروبية هذا التوجُّه؛ فبموجبها، يسمح الغاز الطبيعي المسال لدول الاتحاد الأوروبي بتعزيز عنصر “التنويع” للمورِّدين، وتقليل الاعتماد على المُنتجين الذين يقومون بتصدير الغاز عبر خطوط الأنابيب، وخاصةً روسيا، وأخيرًا إمكانية تخزين الغاز الطبيعي المسال؛ ما يساعد “بروكسل” على حماية نفسه من أي انقطاع مُحتمَل للإمداد نتيجة تصاعُد الخلافات السياسية أو الاقتصادية.
وبالفعل، تتمتع مصر بتاريخ من العلاقات القوية والمُستقرة مع الاتحاد الأوروبي، وما يُبرز ذلك تنسيق “القاهرة” مع “بروكسل”، على هامش قمة المناخ في “جلاسكو” 2021، بشأن آليات التعاون في مجال تصدير الغاز الطبيعي المسال الي أوروبا تحت مظلة “منتدى غاز شرق المتوسط”، ومن خلال مُجمّعات إسالة الغاز المصرية السابق ذِكرها؛ بغية تأمين إمدادات الغاز للسوق الأوروبي.
في سياقِ الحديث عن دعائم الريادة العالمية لمصر بصدد الترويج لسياسات “التكيُّف الانتقالي”؛ شجع الأخيرة مصر الجغرافي من قبرص، وإسرائيل، اللتين تطمحان إلى تصدير فائض إنتاجهما من الغاز إلى أوروبا، على إبرام اتفاقيات مع مصر. تنص على أنّ قبرص -من خلال خط أنابيب يربط حقل “أفروديت” بمصر- وإسرائيل ستصدران فائض الغاز إلى مُجمعات تسييل الغاز المصرية، كي تقوم مصر بتصديره “مسالًا” إلى الاتحاد الأوروبي. فضلًا عن المفاوضات بين مصر واليونان حول كيفية التعاون في مجال تسييل الغاز. وقد عزز من دور “القاهرة” كمركز رئيس في المنطقة للتسييل وتصدير الغاز إلى الأسواق العالمية أمران رئيسان هما؛ توتر العلاقات بين تركيا وجيرانها، الأمر الذي جعل مصر طريق العبور الوحيد إلى الأسواق الخارجية وخاصةً أوروبا، من خلال محطتي الغاز “إدكو” و”دمياط”، ووحدة عائمة للتخزين وإعادة تحويل الغاز وشبكة نقل محلية. بالإضافة إلى أن خطوط الأنابيب المُخصصة لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا تواجه الكثير من العقبات الاقتصادية والجيوسياسية، ما يعزز دور الغاز الطبيعي المُسال في السنوات القادمة.
وبخلاف المزايا الاقتصادية، والجغرافية، والفنية التي تتمتع بها مصر؛ ثمّة حزمة من العوامل السياسية الدولية التي تعزِّز دور مصر في سوق الغاز الطبيعي المُسال، وتؤكِّد توقُّعات تنامي قدرتها، خلال السنوات المُقبلة، على قيادة العالم لتحقيق “التكيُّف الانتقالي”.
في هذا الصدد، تشهد العلاقات الأوروبية الروسية اضطرابات مستمرة، مدفوعة بتوجُّهات مختلفة للجانبين سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا، ينبثق عنها استخدام “الطاقة” كورقة ضغط بشكلٍ مستمر؛ وأبرز مثال على ذلك: أزمة الغاز التي تشهدها “بروكسل” منذ عام 2021، نتيجة انخفاض الإمدادات الروسية، وزيادة الأسعار بشكلٍ حاد، على خلفية أزمة أوكرانيا التي تستقطب الجانبين في اتجاهات مًضادة.
اتصالًا، تُقيِّد العقوبات المفروضة على إيران -رغم وفرة احتياطاتها من الغاز- مِن قِبل الولايات المتحدة الأمريكية دورها كمُصدِّر للنفط والغاز إلى دول أوروبا. وبتدقيق النظر في الأُطر الاقتصادية والتجارية لدولة قطر؛ يتضح أن ثمّة تحديات “طويلة الأجل” تُحيل دون تأدية “الدوحة” دورٍ قيادي في مساعدة الدول على تحقيق “التكيُّف الانتقالي”؛ حيث تقوم استراتيجية السوق الخاصة بذلك المُنتِج العالمي للغاز الطبيعي المُسال، على ضمان الطلب الكامل على الأخير وزيادة حصته المُباعة بموجب “عقود طويلة الأجل”، ما من شأنه تقليل ما يتم بيعه عبر “السوق الفورية”، أو “سوق البضائع الحاضرة”، التي يتم فيها تداول الأصول وتسليمها في الحال. يعني ذلك أنّه على المدى القريب، لن تكون كمية الغاز الطبيعي المُصدَّرة بموجب العقود القصيرة، كافية لتغطية عجزٍ مثل ذلك الذي يشهده الاتحاد الأوروبي من وقتٍ لآخَر. اتصالًا، تولي “الدوحة” أهمية قصوى إلى السوق الآسيوية التي تتمتع بظروف اقتصادية مواتية بالنسبة لقطر على عكس السوق الأوروبية[10].
أفضى عن كل ذلك تعزيز موقف مصر كرائد إقليمي من شأنه تعزيز “التكيُّف الانتقالي” للطاقة؛ حيث استطاعت أن تصبح الجاذب الرئيس للاستثمارات في قطاع الغاز الطبيعي؛ في ضوء بنيتها التحتية القوية، وسياسات الإصلاح الحكومية، وموقعها الاستراتيجي الذي مكَّنها من أن تصبح “حلقة وسطى” بين الفواعل المختلفة، بالإضافة إلى الاهتمام بالبنية التحتية الحالية لتصدير الغاز.
ختامًا، هناك بعض التوصيات، في ضوء ما تقدَّم، يُمكِن أن تعزِّز دور مصر في سوق الغاز العالمي، وتدعم قدرتها على تحقيق “التكيُّف الانتقالي” محليًا وعالميًا. فمِن خلال دورها القيادي في “منتدى غاز شرق المتوسط” يجب أن تدأب الدولة المصرية على جعل الغاز المسال أكثر تنافسية وتفوُّق على المنافسين في السوق العالمية، فضلًا عن تحسين تنافُسية الأسعار عند رأس البئر. كما يُمكن لمصر أن تتبادل الخبرات مع الولايات المتحدة الأمريكية التي انضمت إلى المنتدى بصفة “مُراقِب”؛ حيث أصبحت الأخيرة أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المُسال، مؤخرًا، من خلال قدرتها على إنتاج الغاز الصخري، وفي سياق حرصها على ضمان إمدادات موثوقة إلى أوروبا بمنأى عن روسيا، فمِن المُرجَّح أن تولي الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا إلى زيادة إنتاجية الغاز في منتدى شرق المتوسط بالتعاون مع مصر؛ حتى تتمكن خلال سنوات قليلة قادمة من المنافسة في السوق الأوروبية.
يُمكِن لمصر أيضًا من خلال عضويتها في “منتدى الدول المصدرة للغاز” تبادُل الخبرات الناجحة، وعقد الشراكات التي مِن شأنها تعزيز القدرة المصرية على تصدير الغاز المُسال. ويجب على المسؤولين المصريين عدم تقييد عمليات بيع الغاز جميعها، وفقًا للعقود طويلة الأجل فحسب، حتى يتسنى تصدير الغاز بشكلٍ فوري للمناطق التي تعاني نقصًا حادًا، وهذا ما يتطلبه دور القيادة العالمية بشأن “التكيُّف الانتقالي”.
اتصالًا، مِن شأن رفع القدرات الإنتاجية للغاز الطبيعي في مصر، وتعظيم الاستثمارات في مشروعات تسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا، أن يُحقق لمصر مصدرًا موثوقًا للدخل القومي، يُمكن توجيهه صوب الاستثمار طويل الأجل في الطاقة المتجددة، بدلًا من توجيه الأموال حاليًا إلى مشروعات “الهيدروجين الأخضر”، التي أثبتت الدراسات أنها تتطلب عقودًا كي تؤتي ثمارها بيئيًا، وتُسهِم في خفض الانبعاثات. فبموجب تحليل التكلفة والعائد؛ بِدءًا من تحديد سياسات الوضع الراهن بصدد قطاع الطاقة وأثره على التغيُّر المُناخي وأثر تلك السياسة على الأسعار، والمُستهدفات الحالية للحكومة المصرية، مُقابل السياسة المُقترحة لزيادة حصة الغاز المُسال في مزيج الطاقة محليًّا، إلى جانب تعزيز الكميات المُنتَجة للتصدير. يُمكن للإدارة المصرية أن تحدد التكاليف المباشرة وغير المباشرة لسياسة الانتقال إلى الغاز، والعائد من تلك السياسة على المدى المتوسط والطويل.
[1] https://www.shell.com/energy-and-innovation/natural-gas/gas-to-liquids.html
[2] https://www.shell.com/energy-and-innovation/natural-gas/providing-more-and-cleaner-energy.html
[3] https://www.theregreview.org/2020/04/06/pierce-natural-gas-key-addressing-climate-change/
[4] https://www.theregreview.org/2020/04/06/pierce-natural-gas-key-addressing-climate-change/.
[5] Republicans Focus on Effects, Not Causes, of Climate Change, Wall Street Journal.
[6] وزارة البترول والثروة المعدنية.
[7] Statistical Review of World Energy, 2020, 2021.
[8] https://www.mei.edu/publications/egypts-future-lng-market
[9] https://www.trade.gov/country-commercial-guides/egypt-infrastructure
[10] https://www.mei.edu/publications/qatar-no-short-term-savior-it-may-still-play-role-strengthening-eu-energy-security