الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الحرب الروسية – الأوكرانية: جيوبوليتيك الشرق الأوراسي في مواجهة البراغماتية الأطلسية

بقلم : محمد العربي العياري/مركز الدراسات المتوسطية والدولية/تونس

  • المركز الديمقراطي العربي

 

بعيدا عن القصف الديبلوماسي والإعلامي، تطفو على سطح الأحداث، عديد الأسئلة التي تُحاول تفكيك أسباب ومآلات الحرب الروسية – الأوكرانية. هل هي حرب توسُعية تشُنها روسيا ضد الجمهورية السوفياتية السابقة، في إطار استكمال بناء الطوق الأوراسي؟ أم هي حرب انتقامية من الحكومة الأكرانية التي وصلت الى السلطة في 2014، وأعلنت صراحة على فك الارتباط مع روسيا والعمل على الانضمام الى حلف شمال الأطلسي؟ أو ربما هي إعادة انتشار روسي لحماية خطوط الغاز (نورد ستريم 2) ذات التكلفة والعائدات المالية العملاقة؟

في هذا السياق، تتعدد ردود الفعل الدولية والتي تتشابك أحيانا مع المصلحة، واستغلال الظرف العالمي، ومع الحذر من انتشار الأزمة نحو الصين، وباقي دول حلف “البريكس”، ومن جهة أخرى، يبدو الصراع في منطقة البلقان والقوقاز، إيذانا بعودة المناكفات التي تجاوزتها الأحداث منذ تسعينات القرن الماضي.

من المهم أن نُشير إلى الحجم الجيواستراتيجي لأوكرانيا، إضافة الى التاريخ السياسي للدولة الثانية في الاتحاد السوفياتي السابق.  في هذا الإطار، تتمتُع أوكرانيا بثاني أكبر شبكة لنقل وتوزيع الغاز في أوروبا، بعد روسيا، وهي شبكة تضم نحو 37.1 ألف كلم من الأنابيب الرئيسية، مع 72 محطة للضغط، و13 منشأة للتخزين تحت الأرض بقدرات استيعابية تبلغ نحو 32 مليار متر مكعب، أي ما يعادل نحو 21.3% من الحاجة السنوية للغاز في عموم القارة الأوروبية. على هذا الأساس، تنظر روسيا بعين الريبة الى الحكومة الجديدة في أوكرانيا، خاصة بعد اعلان هذه الأخيرة عن رغبتها الصريحة في الانضمام الى حلف شمال الأطلسي، مما يعني سياسيا، فك الارتباط بالتاريخ السياسي لدول الاتحاد السوفياتي السابق، والقطع مع العُزلة مع المعسكر الغربي، خاصة وأن أوكرانيا، خبرت جيّدا التحوُّل الى الديمقراطية في المستوى السياسي، وتعلم نوعيّة وحجم الأطماع الروسية في المنطقة وفي العالم، في سياق التنافس الدولي على نقاط الطاقة وما ترتّب عنها من صراعات من ليبيا الى الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب التحالفات (الاتفاق الروسي – التركي حول مشروع نورد ستريم).

في إطار التعامل مع الحرب التي تدور رحاها في الحدود الغربية الجنوبية لروسيا، صرحت ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية، بأن” أولئك الذين يعتقدون أن الحرب بدأت اليوم، يكذبون بلا خجل. الحرب اندلعت منذ 8 سنوات.”  يدل هذا الإعلان على أن الإدارة الروسية كانت تتعامل مع الملف الأكراني منذ اسقاط الحكومة الموالية لروسيا في 2014، وصعود عقل سياسي جديد ينظر الى الجار الروسي بعين الريبة والتوجس من مطامعه التوسعية.

يُساعد العمق التاريخي للأحداث، في فهم تطورات الحرب وسياقاتها، على ضوء تغيُّرات الجغرافيا في دول الاتحاد السوفياتي السابق، والتحالفات الجديدة في المنطقة. في هذا الإطار، نسوق جُملة من أهم الأحداث التي مهّت لتطورات الأحداث، ووفّرت أسباب تعمُّق الخلاف، وتفجُّر الصراع:

  • الموقف من اسقاط حكومة “فيكتور ايانوكوفيتش” في 2014 الموالية لروسيا عقب احتجاجات حاشدة، عمّت المدن الأكرانية واعتبار ذلك، رياحا “ديمقراطية انتقالية” تهُب على الحدود الروسية. ومن ثمة، صعود قيادة سياسية جديدة بزعامة الرئيس الحالي “فلاديمير زلنسكي” واعلانه الصريح عن فك الارتباط السياسي بالجار الروسي، والتوجه نحو الغرب الأطلسي.
  • اعتبار القيادة الروسية أن ما حصل في أكرانيا في 2014، حسب ما نقله موقع “الشبكة العربية”، انقلابا مُموّلا من الغرب وخاصة الولايات المتحد الأمريكية، في محاولة لاستنساخ التجارب العربية، خاصة مع ظهور معلومات بحسب موقع Oriental Review تُؤكد على لسان الروس، بأن الولايات المتحدة الأمريكية، جنّدت ودرّبت ما أسمتهم بالعملاء انطلاقا من الأراضي البولونية، للقيام بأعمال شغب وتخريب في أكرانيا.
  • تجاهل الولايات المتحدة الأمريكية للمطلب الروسي بعدم ضم أكرانيا لدول حلف شمال الأطلسي، حتى لا تتغير قواعد الاشتباك المرسومة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وحماية الخطوط الغربية الجنوبية لإمدادات الغاز الروسي لأوروبا (نورد ستريم2)، والذي يصل الى الحدود الألمانية عبر الأراضي الأكرانية، كما يُوضحه الرسم التالي:

للإشارة، يُمثّل هذا المشروع جزء من مشروع أكبر يحمل نفس التسمية (نورد ستريم)، الذي يُمثّل بديلا على المشروع الروسي السوري الذي أسقطته نيران الحرب في سوريا. شهد هذا المشروع دخول لاعبين جدد على خط الشراكة مع روسيا، ونقصد الحليف الجديد، تركيا التي نزلت بكامل ثقلها في العمق الليبي، واستثمرت علاقاتها مع فاعلين محليين، وتقاطع المصالح مع بعض الدول الغربية، لتنتشر في المياه الإقليمية القبرصية، تحديدا المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، وتبني مع روسيا ما أسميناه “حلف فرصوفيا الطّاقي الجديد.”  حيث كشف الرئيس الروسي عن هذا المشروع الاستراتيجي نهاية 2014 بتكلفة تٌقدر ب11.4مليار يورو ما يعادل 12.9 مليار دولار. في الوقت الذي تم التخلي، في خضم الأزمة الأوكرانية، عن مشروع “ساوث ستريم” في البحر الأسود الذي يعرقله الاتحاد الأوروبي.للإشارة، يُمثّل مشروع “نورد ستريم 2” لنقل الغاز الطبيعي عبر بحر البلطيق، من أكبر حقول الغاز في روسيا، إلى ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية. فيما يبلغ طول الأنبوب الجديد حوالي 1230 كيلومتراً، ويمر بالقرب وبشكل متوازٍ مع خط الغاز الأصلي أنابيب “نورد ستريم 1” الذي ينقل حوالي 55 مليار متر مكعب من الغاز إلى ألمانيا منذ عام 2012. تم بناء وتشغيل خط الغاز الجديد “نورد ستريم 2″، بواسطة شركة “نورد ستريم إيه جي 2″السويسرية، وتعد شركة “غازبروم” الروسية العملاقة أكبر المساهمين في المشروع، حيث غطت أكثر من نصف التمويل، فيما موّلت شركة “انجيENGIE” الفرنسية و”OMV” النمساوية و”شلShell” الهولندية وشركات ألمانية أخرى بقية التكاليف. تُوضّح الخريطة الموالية، شبكة “نورد ستريم 2” في أوروبا، وفق الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الغاز AFP.

كما، يتجاوز الخط الروسي الألماني -بشكل تام- شبكات النقل الأوكرانية، حيث من الوارد أن يُكلّف “كييف” خسارة نحو مليارين إلى 3 مليارات دولار سنويا من رسوم العبور. هذا رغم مساعي واشنطن لعرقلة المشروع شهورا عديدة بفرض عقوبات على الشركات المنفذة والمشاركة في بنائه، لكنها رفعتها بُعيد انتخاب الرئيس جو بايدن بحجة أن المشروع “بات أمرا واقعا”. حيث أصبحت ورقة الغاز الروسي حسب الخبير الاقتصادي في مركز صوفيا للدراسات أندري يرمولايف ” أداة روسيا لدفع أوروبا نحو إعادة التطبيع معها بعد قطيعة نسبية سبّبها العدوان الروسي على أوكرانيا منذ 2014″.

تبدو المعطيات الواردة أعلاه، أهم المُحركات التي دفعت بالنظام الروسي نحو حسم الأمر عسكريا، مما يضمن من وجهة نظر الإدارة السياسية، استدامة وديمومة البرامج الطاقيّة المُسطّرة هناك، وطرد أطياف الوجود الغربي على الحدود الروسية. مثلما حصل مع النظام الشيشاني وجورجيا في فترة سابقة. غير أن نطاق الأزمة الأوكرانية الروسية، يتجاوز في أبعاده الصراع حول السيطرة على الطاقة، وافتكاك الصدارة عالميا، ليشمل صراعات السياسة، خاصة بعد استكمال دورة التدخل الأمريكي في الدول الحليفة تاريخيا لروسيا الاتحادية، مثل ليبيا والعراق وسوريا. تطمح روسيا لاستكمال بناء ما تعتبره البديل الاقتصادي والسياسي للنظام العالمي الحالي، من خلال حلف “البريكس” الذي أُنشئ عام 2011 ويجمع عضوية خمس دول من ذوات الاقتصادات الناشئة هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.  يُمثل هذا الحلف قُوة مالية وسياسية وعسكرية ذات وزن ودور محوري، حيث اعتبرت مجلة “إيكونوميست “البريطانية أن دول البريكس إذا ما تخلّت عن سدس احتياطيها يمكنها تأسيس صندوق بحجم صندوق النقد الدولي. على ضوء المطامع والطموحات والسياقات الجديدة، تبلورت مجموعة من ردود الفعل الدولية حول الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تلخّصت في ادانة دولية واسعة للغزو الروسي، مع توظيف عقوبات اقتصادية وسياسية على بعض رموز النظام الروسي. كما ظهر الموقف الألماني على لسان المستشار “أولاف شولتس” القادم حديثا على رأس القوة الاقتصادية الأولى لأوروبا، والمستفيدة رقم 1 من مشروع “نورد ستريم 2″، من أكثر المواقف حدّة تُجاه روسيا. يبدو أن ألمانيا تطمح لافتكاك الدور السياسي، وتتزعم منصب الناطق الرسمي باسم أوروبا مجتمعة. لا نُنكر الدور الألماني في مُجمل القضايا الدولية مثل ليبيا واليمن وسوريا، خاصة ما تُمثله من عمق استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، من خلال اقتصادها المستقر، واحتضانها للقيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا(الأفريكوم). لذلك، هي تعلم جيّدا الأدوار والتحالفات الجديدة في المنطقة، وما يمكن أن تُسفر عنه الحرب الروسية في منطقة تُعتبر محرارا لقياس حجم القوة العسكرية والسياسية.

قدمت ألمانيا وعودا بتقديم السلاح لأوكرانيا، وعزل روسيا دوليا. في الوقت الذي تجنّبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تصعيد الوقف على غير العادة السياسية. ربما يعود ذلك الى خشية النظام الأمريكي من امتداد المعركة نحو الصين، وتحريك ملف تايوان. غير أن سياقات الحرب التي بدأنا تشريح أسبابها اقتصاديا، سوف لن تضع أوزارها الا بعد توقيع تفاهمات سياسية، نُلخص أهمها فيما يلي:

  • العودة الى الاتفاق الروسي الأمريكي القاضي بعد ضم دول الجمهوريات السوفياتية السابقة لحلف شمال الأطلسي.
  • تثبيت استقلال جزيرة “القرم” التي سارعت روسيا بالاعتراف بها في 2014، ضمانا للعودة لاتفاقية “سيفاستوبول” التي تضمن انتشار أسطول البحر الأسود الروسي في مياه البحر الأسود.
  • الاتفاق حول تسويات سياسية تهم الوضعين الليبي والسوري، والدعم الأمريكي للقوى المُناوئة للوجود الروسي هناك، في مقابل دعم روسيا لاستقلال منطقتي”دوينتسك” و”لوهانسك” الأوكرانيتين كورقة ضغط.
  • تخلي واشنطن على مساعيها التوسُّعية في جمهوريات أوروبا الشرقية، خاصة مع فوضى تسليم أفغانستان لحركة طالبان.
  • ترتيب الملفات العالقة منذ أزمة الكوفيد والتي تهم الاقتصاد والسياسة، والعلاقات الجيوسياسية التي تعمّقت منذ 2020.

على ضوء هذه الشروط السياسية والتي تُحدد مآلات الصراع الذي يبدو أنه أصبح عالميا، لازالت القوى الدولية تبحث على تحسين شروط التفاوض مع الخصم الروسي، وذلك من خلال ملازمة ردود الأفعال لموقعها منذ بداية الأزمة، رغم تنوُّعها وتكثيفها يوما بعد آخر. فبين البراغماتية الغربية التي تطبع المواقف الأمريكية والأوروبية، والمطامح الجيوبوليتيكية في الشرق الأوراسي، لازالت الحرب في أوكرانيا تُعيد رسم خطوط الغاز، وكتابة الشروط السياسية.

4.7/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى