الدراسات البحثيةالمتخصصة

استبصارات استراتيجية : تصاعد المكانة الجيوبوليتيكية لإقليم آسيا الوسطى في جغرافية ممرات الطاقة

اعداد : م. د فراس عباس هاشم – كلية القانون -جامعة البصرة / العراق

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة

تشير تطورات الأحداث الدولية إلى إعادة إحياء الاهتمام العالمي بالأقاليم الجغرافية الحيوية المختلفة، ومنها منطقة آسيا الوسطى، سيما بعد تزايد الاهتمام العالمي بمشاريع نقل الطاقة، وسعي القوى الفاعلة بالمنطقة من أجل السيطرة على مسارات خطوط نقل الطاقة والتي تعد مسالة تتعلق بالأمن القومي للدول، خصوصا مع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية المتسارعة وتأثيراتها على أمدادات الطاقة العالمية وبالتالي تفرض تغيرا ديناميكيا تجاه الاهتمام المتزايد للقوى الكبرى والإقليمية بالمكانة الجيوبوليتيكية لمنطقة آسيا الوسطى، وبالتالي تسعى تلك الفواعل الدولية والإقليمية إلى ضمان أمدادات نقل الطاقة من خلال السيطرة على المنطقة، وهو ما يؤدي إلى تصاعد حدة التنافس بينها، إلى جانب هذا الاهتمام الدولي بالمنطقة إلا أن ثمة أزمات داخلية تواجه دول المنطقة، ستنعكس أبعادها على أمن الطاقة.

وبالتالي تأتي الاشكالية التي تنطلق منها الورقة البحثية:” ساهمت الأحداث الدولية المتسارعة وتأثيراتها تجلياتها على التفاعلات الإقليمية في تفعيل وإبراز مكانه إقليم آسيا الوسطى بما تمثله المنطقة من أهمية في جغرافية خطوط نقل الطاقة الدولية “.

ومن هنا ممكن طرح فرضية للورقة البحثية مفادها: ارتكزت دعائم الاهتمام الدولي بالمكانة الجيوبوليتيكية لمنطقة آسيا الوسطى وخاصة في مشاريع نقل الطاقة لكونها تثمل نقطة تلاقي وتنافس العديد من القوى الإقليمية والدولية للسيطرة عليها، لا سيما بعد تزايد أهميتها في سوق الطاقة بعد الحرب الروسية والأوكرانية”

واتساقاً مع ما تقدم سيتم توزيع هيكلية الورقة البحثية إلى ثلاث محاور. ويركز المحور الأول : تصاعد النزوع الدولي نحو جغرافية الأقاليم الحيوية. إما المحور الثاني : تناول ديناميكية مسارات نقل الطاقة ومحوريتها الجيوبوليتيكية . فيما تناول المحور الثالث : تصاعد التدافعات الصراعية للقوى الفاعلة تجاه جغرافية المنطقة.

المحور الأول : تصاعد النزوع الدولي نحو جغرافية الأقاليم الحيوية

مما لا شك فيه أن العقد الأخير من القرن العشرين شهد تصاعداً في الاهتمام بالجغرافيا التي تستدعيها تسارع تطور حركية الفواعل في النظام الدولي، وخاصة في المناطق المفتوحة في ساحات الأحداث المتشابكة، والتي أفضت إلى تصدر التحولات في جغرافيا العالم وصعود “جغرافيا الاتصال” و”الأقاليم البينية” موجة الاهتمام في أوجها من حركة النشر في ميادين العلاقات الدولية التي أضحت تمتد إلى صدور الكثير من الدراسات والكتب عن مسارات تلك التحولات التي يشهدها العالم([1]).

وتبعا لذلك يمكننا القول أن التحولات الدولية تشير إلى حدوث تغيرات جوهرية في بعض الفضاءات الجغرافية الحيوية ، والتي لن تتوقف تأثيراتها عند إقليم بعينه بل امتدت آثارها إلى أقاليم أخرى، مثلما جرى بمراحل تطورات النظام الدولي وتحولاته، وتحدث هذه التحولات على مستوى بعينه، أو على كافة المستويات: السياسية، مثل تحديات القوى الدولية الصاعدة للقواعد المستقرة في النظام الدولي القائم، أو إعادة اصطفاف القوى الدولية في محاور جديدة تتعارض وتوجهات النظام الدولي، وإدراك القوة أو القوى المتحكمة في النظام الدولي لهذه التحولات مع تبنيها سياسات التطويق للقوى الدولية الصاعدة، والاقتصادية، مثل اندلاع أزمات ذات تأثير كبير على الاقتصاد العالمي كأزمة الطاقة الراهنة، والتي لم تستطع القوى الممسكة بالنظام الدولي بمفردها مواجهتها، وبالتالي تفرض نفسها على معدل التنافس بين القوى الإقليمية المتنافسة بما يضمن لها زخم الوجود المستمر في داخل المجال الجغرافي([2]).ولذلك تحاول الدول الاستفادة من نقاط القوة التي تتمتع بها من خلال موقعها الجغرافي في تعظيم حضورها الخارجي وتحقيق اكبر قدر من المكاسب من خلال شراكاتها المتعددة مع مختلف الأطراف الإقليمية أو الدولية.

وفي هذا السياق إن اكتساب مجال جغرافي معين بعداً جيوبوليتيكيا دائماً ما يجعل منه ميداناً ورهاناً لتمدد القوى التوسعية على حسابه بهدف السيطرة على الطرق الاستراتيجية والثروات الحيوية ومنها الطاقة ومد نطاقات نفوذها، وهنا تبدو أن المقاربة الجيوبوليتيكية للمجال والمنافسات الرامية للسيطرة عليه لا تقتصر على تامين المصالح الحيوية المادية لضمان بقاء كيان سياسي وأمنه فقط، بل تتعدى للمنافسات الجيوبوليتيكية الجديدة على المجالات الجغرافية

الحاملة لقيم المجتمعات كمكسب استراتيجي([3]).ومن ثم فإن الاقاليم أخذت تكتسي أهمية حيوية،

وتتحول من طور إلى آخر، مع التطورات في البيئة الاستراتيجية الجديدة ([4]). وهذا الأمر توضح بصورة جليه عندما وقعت تغيرات في القيمة والأهمية الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية للأقاليم والدول.([5]) وهكذا تكشف لنا منظورات السياسة العالمية، تصاعد أهمية منطقة آسيا الوسطى التي رسخت مكانتها كمنطقة ذات أبعاد جيوبوليتيكية بالغة الأهمية ([6]).

واستنادا إلى ذلك فإن أهمية منطقة آسيا الوسطى في السياسة العالمية جرى الإقرار بها تاريخيًّا من قِبل الباحث والمنظر السياسي (هالفورد ماكيندر-Halford Mackinder) ، حين اعتبر أن منطقة آسيا الوسطى تحمل أبعادًا جيوسياسية مهمة، وأن الريادة الحميدة ذات الرؤية يمكن أن تستغل ذلـك لخلق توازن قاري مستديم. وبالرغم من ذلـك، إذا تحولت المنطقة إلى رقعة شطرنج تتصارع عليها القوى لبسط النفوذ والسيادة العالمية، فإن المنطقة قد تتهاوى إلى غياهب فوضى أبدية ([7]). حيث سلط الضوء على أهمية الفضاء باعتباره “المحور الجغرافي للتاريخ” أو “قلب الأرض”، تحدث عن منطقة حيوية سماها “جزيرة العالم”، تجمع القارات الثلاث: أوروبا، آسيا وأمريكا وهي منطقة القلب، تمثل الأراضي الروسية من يسيطر عليها يسيطر على العالم، كما أكد أن مستقبل العالم سينطلق من ذات المنطقة ([8]).وفي ظل ذلك تكشف وقائع الأحداث الدولية الأهمية المتزايدة التي أصبحت تتمتع بها منطقة آسيا الوسطى لا سيما وإنها أصبحت جزءا من الصراع للسيطرة على مسارات نقل الطاقة من جهة، ومن ناحية أخرى تشرف هذه المنطقة على ممرات التجارة الدولية .

من جهة أخرى، تعتبر آسيا الوسطى امتداداً طبيعيا للقوقاز، وجزء من آوراسيا التي تعتبر “قلب الأرض” (Heart Land) حيث يصنفها الخبراء كمكون رئيسي لما يعرف بـــ آوراسيا الوسطى فجغرافيا تمثل جمهوريات آسيا الوسطى الخمس(أوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان وطاجكستان، وقيرغيزستان )،( انظر الخارطة رقم (1)) إضافة إلى دول جنوب القوقاز الثلاث (أذربيجان وجورجيا وأرمينيا) ما يعرف بـــ آوراسيا الوسطى، وتقع دول هذه المنطقة إلى شرق وغرب حوض بحر قزوين الغني بالنفط والغاز([9]).اذ تحاذي كازخستان وتركمانستان الأحواض الترسبية الكبرى على الساحل الشرقي لبحر قزوين الأكثر غنى بالنفط والغاز، أما بقية الدول التي لا تملك حقولاً نفطية كبيرة فلها أهمية من نوع آخر تكمن أهميتها في موقعها الاستراتيجي لنقل النفط والغاز إلى أسواق شرق وجنوب شرق آسيا([10]).وفي ضوء ما متقدم يمكننا القول تشكل منطقة آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين إحدى المناطق الهامة في الحسابات والمصالح الاستراتيجية للقوى الإقليمية والدولية، نظراً لمخزونات النفط والغاز ([11]).

خارطة (1) الموقع الجغرافي لدول آسيا الوسطى

المصدر : فراس بورزان ، التنافس الدولي في آسيا الوسطى: هل هي لعبة كبرى جديدة ، موقع الجزيرة للدراسات ، 5/10/2022، شوهد في 5/4/2023، في: https://studies.aljazeera.net/ar/article/5472

المحور الثاني: ديناميكية مسارات نقل الطاقة ومحوريتها الجيوبوليتيكية 

حرياً بنا القول أن نهاية الحرب الـبـاردة وضعت دارسي السياسة الدولية والجيوبوليتيك أمام تحديات معقدة، وأصبح حقل معرفة الجيوبوليتيك تتدفق فيه النظريات والاستراتيجيات البديلة، وعدم التأكد والاطمئنان إلى المستقبل بعدما كانت التطورات قد تأطرت في جيوبوليتيك الحرب الباردة في “المكان” و”الايديولوجيا” و”الآخر العدو”. وقد ترتب على نهاية الحرب الباردة إعادة قراءة الافتراضات الجيوبوليتيكية للسياسات والاستراتيجيات للقوى الرئيسة في النظام العالمي في البيئة الاستراتيجية الجديدة؛ فقد تغيرت أهمية “المكان” من حيث “المكانية”، في مقاربة الجيوبوليتيك وتأثريها في السياسة الدولية والاستراتيجية، إضافة إلى اعتبارات أخرى، اقتصادية ([12]).

وهذا ما أشره العديد من المختصين والباحثين الأكاديميين من خلال الافصاح إن المكان أو الموقع لم يعد بذي أهمية قصوى في حد ذاته، بل بما فيه من مصادر الموارد الطبيعية والسوق وفرص الاستثمار التي جعلت منه ميدان صراع وبذلك تغيرت القيمة الجيوبوليتيكية  لبعض الأقاليم الحيوية ومنها منطقة آسيا الوسطى من كونها ذات مزايا إيجابية في الصراع على القوة لأغراض الأمن فحسب، وانتقالها لتصبح ساحة تنافس ونزاعات مسلحة من منطلق جيوبوليتيك الموارد، إذ تمثل منطقتي آسيا الوسطى والشرق الأوسط أهم موقعين في جيوبوليتيك الطاقة وتأثيرها في النظام الدولي والسياسة العالمية ([13]). ومن هنا ترى دول منطقة آسيا الوسطى نفسها لاعبا جيوبوليتيكيا في التفاعلات الدولية، وتعمل على توظيف ذلك من أجل إعادة تأكيد أهميتها الجيوستراتيجية، وخلق ظروف بيئية لجذب الاستثمارات الخارجية لتحسين واقع المنطقة الاقتصادي.

وعلى هذا الأساس، تتجلى الأهمية الجيوبوليتيكية الرئيسية لآسيا الوسطى في عاملين رئيسين وهما اكتشاف احتياطات معتبرة  من الموارد الطاقوية، ثانيا  كونها ممراً محوريا لأنابيب النفط والغاز، المواصلات التي تنطلق منها بكل الاتجاهات رابطة إياها بالصين وروسيا وأوروبا ومنطقة القوقاز وعبر بحر قزوين الى المحيط الهندي([14]). من ناحية أخرى يعتبر بحر قزوين أكبر تجمع مائي داخلي في العالم ويمثل (44%) من مياه البحيرة في العالم، تطل عليه أذربيجان، إيران، كازاخستان، روسيا وتركمانستان ، يتصل بالعالم الخارجي من خلال نهر الفولغا وقناتين   تمران عبر روسيا هما: قناة (الفولغا-دون) التي تربط بحر قزوين ببحر آزوف. والممر المائي (الفولغا-البلطيق)الذي يربط بحر قزوين ببحر البلطيق تمتلك المنطقة ما يقدر بـــ( 48 مليار) برميل من النفط، و(292 تريليون متر مكعب) من الغاز الطبيعي ([15]).

واتساقاً مع ما تقدم، تم ربط بحر قزوين بالعالم الخارجي بخط (باكو-سويسرا) عام (1999)، ينقل النفط من أذربيجان إلى ساحل البحر الأسود في جورجيا، وخط أنابيب (باكو-تبليسي-جيهان)( انظر الخارطة رقم (2)) ويبلغ طولة (1.730 كم )، الذي ينقل النفط من منطقة حوض بحر قزوين إلى العالم الخارجي عبر أذربيجان، جورجيا وتركيا. كما بدأ تشغيل خط أنابيب جنوب القوقاز، يربط هذا الأخير حقول الغاز الأذرية بتركيا عبر جورجيا، كما افتتح “اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين الروسية” عام (2001)، لنقل النفط من كازاخستان إلى الأسواق العالمية عبر ميناء نوفوروسيسك الروسي على البحر الأسود، وتتمثل شبكة خطوط أنابيب الطاقة في منطقة بحر قزوين فيما يأتي :([16])

– أنبوب أتيراو-سامارا (Atyrau-Samara)  تبلغ طاقته الإنتاجية (280 ألف برميل) يوميا،

يمتد من محطة أتيراو الكازاخية إلى مصفاة الأورال الروسية في سامارا، ثم يتصل بنظام دروزبا الرئيسي بين الشرق والغرب الروسي، يبلغ طول الخط (691.2 كم).

– خط باكو-نوفوروسيسك (Baku-Novorossiysk) يمتد من موانئ النفط خارج ميناء باكو إلى نوفوروسيسك عبر جنوب روسيا، تبلغ طاقتة الإنتاجية (180 ألف برميل) يوميا.

– خط باكو-سوبسا (Baku-Supsa) يمتد من باكو إلى ميناء سوبسا الجورجي على البحر الأسود.

– خط ديوهندي-باتومي (Dyuhendi-Batumi) يمتد من محطة النفط الأذرية في (Dyubendi) إلى ميناء باتومي الجورجي.

لذا يمكننا القول تعد خطوط انابيب النفط بين الدول المختلفة في منطقة آسيا الوسطى أحد المؤشرات التي يستدل منها على حال العلاقات الدولية بينها, وكذلك بين أطراف المرور، وعبر ذلك الخط تتجسد توازنات العلاقات المتأرجحة بين نقطتي التعاون والصراع، ولان خطوط الأنابيب هي الناقل للسلعة الاستراتيجية العالمية، فإن تتبع المسارات الجغرافية لخطوط الأنابيب يعكس الاتجاهات السياسية للعلاقات بين الدول المنتجة والدول المستهلكة، وكذلك الدول التي تجتازها خطوط الأنابيب، ولا تنشا خطوط الأنابيب بين دولتين أو أكثر إلا بحدوث توافق سياسي بين الدول التي يعبرها الخط، وبقيام الخط تظهر الأهمية الجيبوليتيكية لكل طرف من الأطراف مما يشكل عامل ضغط في أي من الاتجاهين، من هنا تأتي الخريطة الاستراتيجية لخريطة

الأنابيب في هذا الإقليم([17]).

خارطة (2) مسار خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان

المصدر : مسار خط أنابيب باكو-تبليس-جيهان، موقع المعرفة، شوهد في 6/4/2023، في:

https://www.marefa.org

وفي حقيقة الأمر فإن منطقة آسيا الوسطى تتمتع بصلات بينية وثيقة جديرة بالاعتبار في تحسين العلاقات التجارية وعلاقات الطاقة عبر أرجاء قارة آسيا وما وراءها، كما أن الهوس المتنامي للقوى الفاعلة في المنطقة بتضافر مصالحهم الاقتصادية مع آسيا الوسطى يعد دليلًا على أن هذه المنطقة أصبحت موضع تركيز الاهتمام العالمي على التواصل ونقل مصادر الطاقة عبر بحر قزوين إلى أوروبا وما يترتب عليه من قضايا أمنية باتت مجالات مهمة تحظى

بوزن معتبر بالنسبة لهذه المنطقة ([18]). بما يجعل  النفط والغاز مازال يمثلان حبراً لرسم خريطة المصالح الحيوية من منظور أمني واقتصادي، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى وجود حلقات صراعية وأخرى تعاونية وتنموية في مجال الطاقة، وفي هذا الشأن تشهد نطاقات خرائط أنابيب نقل النفط في آسيا الوسطى، صراعَ استراتيجيات بين الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا وبلدان أوروبا الغربية إلى جانب الهند، وذلك منذ أحداث الحادي عشر

من أيلول / سبتمبر عام (2001) ([19]).

المحور الثالث: تصاعد التدافعات الصراعية للقوى الفاعلة تجاه جغرافية المنطقة

لا شك أن وتيرة التنافس والصراع قد ازدادت بينها على الاستثمارات في مصادر الطاقة وتأمين وصولها إلى الأسواق العالمية خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، فآسيا الوسطى تزخر بموارد الطاقة “النفط والغاز الطبيعي” اللذين يمثلان العامل الجيوبوليتيكي الرئيسي و  المحوري الذي يحظى بأولوية متقدمة في عمليات التخطيط الاستراتيجي للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة ([20]). لا سيما وأن لكل دولة مسلمات جيوبوليتيكية لا يمكنها التخلي عنها فهي صمام أمنها القومي، وهي الإطار الفكري الذي تبني عليه استراتيجياتها الكبرى وتحدد على أساسه الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وهي السند الذي ترتكز عليه لتعلب أدوارها وتضمن موقعها في المنظومة العالمية ([21]).

وعليه فدور العوامل الجيوبوليتيكية يدفع الدول إلى اتخاذ إجراءات معينة، أو الامتناع عن إجراءات معينة في سعيها لتحقيق مصالحها الوطنية، حيث تتأثر جغرافية مصادر الطاقة بالعوامل الجيوبوليتيكية ويؤثر فيها ومن الاخطار التي تهدد أمن الطاقة هي التهديدات لإمدادات الطاقة المتأتية من مصادر متعددة، منها الهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية والابتزاز أو التهديد السياسي، الصراعات أو التوترات الإقليمية, إذ يمكن لأمن الطاقة أن يلعب دورًا هاماً في الأمن الشامل والقضايا الجيوبوليتيكية ([22]).

وهكذا فإن مَحاور الصراع والتنافس الاستراتيجي للدول الكبرى في آسيا الوسطى، تتضح في الرغبة الغربية ورغبة دول آسيا الوسطى في تزويد أوروبا بالطاقة دون المرور عبر روسيا. وهذا واضح في أنبوب (باكو- جيهان)، الذي يمر عبر أذربيجان وجورجيا ثم تركيا. وفي مقابل هذه الرغبة عملت روسيا على استراتيجية احتواء الدول المطلة على بحر قزوين، كأذربيجان وكازاخستان، وذلك عبر إيران التي ترتبط بعلاقات عرقية وثقافية مع هذين البلدين، كما استخدمت روسيا “منظمة شنغهاي للتعاون الإقليمي” التي تضم روسيا والصين وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان وطاجيكستان وكلاً من إيران وباكستان والهند بصفة مراقبين في محاولة

تدشين استراتيجية للطاقة في آسيا الوسطى([23]).

وإزاء ذللك تواجه منطقة حوض بحر قزوين صعوبة في إيصال إنتاجها الطاقوي إلى الأسواق العالمية، فعلاوة على أولوية مسألة بناء خطوط أنابيب جديدة في المنطقة، تمر جميع خطوط أنابيب التصدير عبر الإقليم الروسي([24]). ومن هنا فإن استغلال طاقة حوض بحر قزوين يجب أن يكون عبر ممرات عبور موثوقة وآمنة، لذلك تثير متطلبات النقل في المنطقة مسألتين هامتين  :([25])

المسألة الأولى: تتطلب طرق النقل لمسافات طويلة زيادة في تكاليف الإنتاج، علاوة على رسوم العبور التي تفرضها الدول المعنية، وكلما كانت بدائل طرق نقل الطاقة أقل، كلما أدى بدول العبور لممارسة الاحتكار.

المسالة الثانية: معظم مسارات خطوط الأنابيب تلفيا مخاطر سياسية، فالممر بين الشرق والغرب (فوق القوقاز، عبر جورجيا وتحت بحر قزوين والبحر الأسود) يثير مشاكل قانونية وبيئية             (عبور البحار والمرور عبر البوسفور)، ثم معضلات عدم الاستقرار نتيجة المرور عبر أذربيجان وجورجيا، علاوة عمى الهيمنة الروسية.

إضافة إلى ما تقدم، كما تواجه مسارات خطوط الأنابيب عبر تركيا تهديدات جنوب شرق الأناضول، وخطر الحرب الأهلية عبر أفغانستان، وتواجه خطوط الأنابيب عبر إيران سياسة العقوبات الأمريكية، وخطوط الأنابيب إلى الصين وهي سوق كبيرة ومنطقة عبور خالية من المخاطر لكنيا طويلة وبالتالي تطرح مشكلة التكلفة المادية ([26]).ولهذا يلاحظ أن استمرار التوترات على المستوى الإقليمي سوف يكون له تأثيره على تحسين وتطوير وسائل نقل الطاقة ، فضلاً عن ذلك التأثير في القدرة الإنتاجية لمراكز مصادر الطاقة.

في سياق آخر، تعاني جغرافية منطقة آسيا الوسطى القوقاز من مشكلات متجذرة تتصل بترسيم حدودها، وتكوينها الديمغرافي، وتركيبتها السياسية، حيـث عملـت تلـك الحـدود علـى تقسـيم العديـد مـن الجماعـات العرقيـة بشـكل قسري وخلق خلافات حادة وعميقة بين دول المنطقة، مما شكل ولا يزال أحد أهم أسباب التوترات الأمنية في هذه المنطقة، وجعل من أزمة إقليم “كاراباخ” أحد أهم نماذج الصراعات العرقية في الإقليم، مما سينتج عنها تغييرات تؤثر على دعم مشاريع  أنابيب نقل الطاقة( النفط والغاز الطبيعي) في جغرافية المنطقة وتعزز بذلك إحياء مسارات جغرافية بديلة لأنابيب نقل الطاقة في آسيا الوسطى لضمان سلامة مسارات تلك الأنابيب([27]).وبالتالي تشكل تلك المشكلات السياسية والأمنية المتنوعة التي تواجها منطقة آسيا الوسطى في سياق التطورات الإقليمية، فرصة للدول الكبرى لإعادة ترسيم مناطق نفوذها من خلال التموضع الجغرافي في المجالات الحيوية،لا سيما في ظل وطأة الحرب الروسية الأوكرانية التي قد تؤدي إلى تغيرات جيوبوليتيكية في المنطقة.

واتساقاً مع ما تقدم، بدت محاولات إعادة تشكيل خرائط السيطرة والنفوذ على ممرات وطرق نقل الطاقة والتجارة الدولية في جغرافية منطقة آسيا الوسطى، بمثابة مستودع لإحياء الصراعات والتنافس الاستراتيجي للسيطرة على جغرافية نقل الطاقة في ظل تعدد الفواعل الدولية والإقليمية ([28]).

الخاتمة

وفي ضوء ما تقدم يمكننا القول عكست التحولات في البيئة العالمية الاهتمام الدولي  بمكانة منطقة آسيا الوسطى، لاسيما بعد اشتداد المنافسة الجيوبوليتيكية على جغرافية أنابيب نقل الطاقة في المنطقة بشكل كبير، وبالتالي دفعت تلك الحاجة الدولية لمصادر الطاقة، وخصوصاً في مناطق تركز الطاقة في إقليم آسيا الوسطى، إلى محاولة الدول الفاعلة ذات المصالح الاستراتيجية لإعادة النظر بتطوير خياراتها الاستراتيجية تجاه المنطقة، بصورة متزامنة مع تسارع أحداث الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ساهمت تلك التطورات الإقليمية بتزايد المنافسة فيما بين القوى الفاعلة على المنطقة، سيما وأن الأحداث المتسارعة في جغرافية الإقليم أدت إلى حدوث اختلال توازنات العرض والطلب على مصادر الطاقة، مما تسبب بأزمات ضاغطة باتجاه استدامة التوترات والنزاعات في البيئة الإقليمية، وبالتالي من شانها أن تؤدي إلى اضطرابات في عدم استمرار امدادات الطاقة إلى الأسواق العالمية .

قائمة المصادر والمراجع

أولاً: الكتب العربية والمترجمة

-عبد القادر دندن ، الصعود الصيني والتحدي الطاقوي : الأبعاد والانعكاسات الاقليمية ، ( عمان : مركز الكتاب الاكاديمي ، 2016).

-فراس عباس هاشم ، استعصاءات الجغرافيا : روسيا واختراق المخيال الجيوبوليتيكي لمساحة الفضاءات العالمية ، ( الأردن، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع ، 2022).

ثانياً: المجلات والدوريات

-رباب بولمشاور ، جميلة علاق ، “التنافس حول شبكة خطوط أنابيب الطاقة في منطقة آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين” ، المجلة الجزائرية للعلوم الإنسانية والاجتماعية ، المجلد (1)، العدد (1)،(2022).

-عبد الجبار اسماعيل ابراهيم، “مسارات أنابيب الطاقة في الاستراتيجية الدولية: التعاون والصراع”، مجلة الحقيقة ، مجلد (17) العدد( 3)،( 2018).

-فراس عباس هاشم، “تعاظم مكانة الممرات الدولية في الديناميات الجديدة للمقاربات الجيوبوليتيكية الإيرانية”، مجلة مدارات إيرانية، العدد (17)،(2022).

-ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ، جنان خليفه يوسف ،”المحركات الدافعة للاستراتيجية التركية تجاه منطقة شرق المتوسط : قراءة في المضمون والمرتكزات”، المجلة الجزائرية  للسياسة والأمن، المجلد(1)،العدد (2)،( 2022).

-كاظم هاشم نعمة ، “المحور الجيوبوليتيكي العربي – الإسلامي وعملية هيكلة النظام الدولي: نحو مقاربة جديدة” ، مجلة سياسات عربية ، العدد (43)،(2020).

ثالثا: التقارير

-إلياس طنوس حنا، “الحرب الروسية على أوكرانيا في الميزان الجيوسياسي”، في : التقرير الاستراتيجي (2022-2023)،(الدوحة : مركز الجزيرة للدراسات ، 2023). 

رابعاً: المواقع الإليكترونية

-“ديناميكيات العلاقات في آسيا الوسطى: تهديدات الأمن ووعود الاقتصاد” ، مركز الجزيرة للدراسات ،18 /1/ 2018، شوهد في 3/4/2023 ، في: https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/01/18

– فراس بورزان ، التنافس الدولي في آسيا الوسطى: هل هي لعبة كبرى جديدة ، موقع الجزيرة للدراسات ، 5/10/2022، شوهد في 5/4/2023، في: https://studies.aljazeera.net/ar/article/5472

– مسار خط أنابيب باكو-تبليس-جيهان، موقع المعرفة، شوهد في 6/4/2023، في:

https://www.marefa.org

-“الصراع على الطاقة في آسيا الوسطى”، موقع صحيفة الاتحاد ، شوهد في 4/3/2023 ، في: https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/27592

-رانيا مكرم، “نزاع مفتوح : لماذا تجددت الاشتباكات  بن أرمينيا وأذربيجان” ، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، 15/9/2022، شوهد في 6/4/2023، في: https://acpss.ahram.org.eg/News/10

([1]) فراس عباس هاشم ، استعصاءات الجغرافيا : روسيا واختراق المخيال الجيوبوليتيكي لمساحة الفضاءات العالمية ، ( الأردن، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع ، 2022)، ص 61.

([2]) فراس عباس هاشم ، جنان خليفه يوسف ،”المحركات الدافعة للاستراتيجية التركية تجاه منطقة شرق المتوسط : قراءة في المضمون والمرتكزات”، المجلة الجزائرية  للسياسة والأمن، المجلد(1)،العدد (2)،( 2022)، ص4.

([3]) فراس عباس هاشم ، جنان خليفه يوسف ،”المحركات الدافعة للاستراتيجية التركية..، مصدر سابق، ص 11.

([4]) كاظم هاشم نعمة ، “المحور الجيوبوليتيكي العربي – الإسلامي وعملية هيكلة النظام الدولي: نحو مقاربة جديدة” ، مجلة سياسات عربية ، العدد (43)،(2020)، ص 11.

([5]) المصدر نفسه ، ص13.

([6]) “ديناميكيات العلاقات في آسيا الوسطى: تهديدات الأمن ووعود الاقتصاد” ، مركز الجزيرة للدراسات ،18 /1/ 2018، شوهد في 3/4/2023 ، في: https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/01/18

([7]) المصدر نفسه .

([8]) رباب بولمشاور ، جميلة علاق ، “التنافس حول شبكة خطوط أنابيب الطاقة في منطقة آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين” ، المجلة الجزائرية للعلوم الإنسانية والاجتماعية ، المجلد (1)، العدد (1)،(2022)، ص 285.

([9]) عبد القادر دندن ، الصعود الصيني والتحدي الطاقوي : الأبعاد والانعكاسات الاقليمية ، ( عمان : مركز الكتاب الاكاديمي ، 2016)، ص 71.

([10]) عبد القادر دندن ، مصدر سابق ، ص 71.

([11]) رباب بولمشاور ، مصدر سابق ، ص 285.

([12]) كاظم هاشم نعمة ، مصدر سابق ، ص 10.

([13]) المصدر نفسه ، ص 11.

([14]) عبد القادر دندن ، مصدر سابق ، ص71.

([15]) رباب بولمشاور ، جميلة علاق، مصدر سابق ، ص 287.

([16]) المصدر نفسه ، ص 289 .

([17]) عبد الجبار اسماعيل ابراهيم، “مسارات أنابيب الطاقة في الاستراتيجية الدولية: التعاون والصراع”، مجلة الحقيقة ، مجلد (17) العدد( 3)،( 2018)، ص 422 .

([18]) “ديناميكيات العلاقات في آسيا الوسطى: تهديدات الأمن ووعود الاقتصاد” ، مصدر سابق .

([19]) “الصراع على الطاقة في آسيا الوسطى”، موقع صحيفة الاتحاد ، شوهد في 4/4/2023 ، في: https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/27592

([20]) “الصراع على الطاقة في آسيا الوسطى”، مصدر سابق .

([21]) إلياس طنوس حنا، “الحرب الروسية على أوكرانيا في الميزان الجيوسياسي”، في : التقرير الاستراتيجي (2022-2023)،(الدوحة : مركز الجزيرة للدراسات ، 2023)، ص14.

([22]) عبد الجبار اسماعيل ابراهيم ، مصدر سابق ، ص 423.

([23])”الصراع على الطاقة في آسيا الوسطى”، مصدر سابق .

 ([24])رباب بولمشاور ، جميلة علاق ، مصدر سابق ، ص 296.

([25]) المصدر نفسه ، ص 296.

([26]) المصدر نفسه ، ص 196.

([27]) رانيا مكرم، “نزاع مفتوح : لماذا تجددت الاشتباكات  بن أرمينيا وأذربيجان” ، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، 15/9/2022، شوهد في 6/4/2023، في: https://acpss.ahram.org.eg/News/10

([28]) فراس عباس هاشم ، “تعاظم مكانة الممرات الدولية في الديناميات الجديدة للمقاربات الجيوبوليتيكية الإيرانية”، مجلة مدارات إيرانية، العدد (17)،(2022)، ص 183.

5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى