الشرق الأوسطتحليلات

الأحداث السياسية الكبرى للمغرب : المستقل وسياقها التاريخي

اعداد : عبد الواحد بلقصري  – باحث في علم الاجتماع السياسي

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المقاومة التي أفرزها الشعب المغربي للكفاح من أجل الاستقلال، دفعت الإقامة الفرنسية إلى تقديم تنازلات في إطار التفاوض عبر ما يعرف بـ ” إيكس ليبان”  توجت بإعـــــــــــــــــــــــــــلان الاستقلال.

إبان الاستقلال، بدأت إشكالات تطرح، والمهام المنتظرة للمغرب المستقل، انطلقت من مضمون الاستقلال، والتوجهات العامة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا المؤطرة لحياة المجتمع المغربي وبناء الدولة العصرية.*1*.

الأمر الذي كان باعثا إلى بروز الكثير من الأحداث السياسية، والهزات الاجتماعية مقترنة بما هو سياسي وإيديولوجي، من خلال التفاعل والتناقض بين القوى المتواجدة بالساحة الوطنية طوال الفترة المراد دراستها، وقصد بلوغ هذا الهم، بالاستناد إلى طبيعة المرحلة وتداعياتها، وآليات بناء مرحلة جديدة، سينصب عملنا على معالجة الوقائع السياسية، عبر تقسيم التاريخ السياسي الحديث إلى مبحثين، نتناول في المبحث الأول الصراع حول  السلطة السياسية عبر مطلبين: المطلب الأول: 1956-1960، المطلب الثاني: 1960-1974.

وندرج في المبحث الثاني على آليات حسم الصراع حول السلطة السياسية، بدراسة مرحلتين في المطلب الاول: 1975-1990، المطلب الثاني : 1990-1999 .*2*

المبحث الأول:

الصراع حول السلطة السياسية

تميز الصراع حول السلطة، إبان الاستقلال بزخم كبير في الأحداث والوقائع حول مدى ترجمة الاستقلال، وبناء مؤسسات سياسية ودستورية، تؤشر على مقومات الدولة العصرية.

المطلب الأول: 1956 إلى 1960

أثناء حصول المغرب على الاستقلال واصطدامه بالإرث الثقيل الذي خلفه المستعمر، والاتجاه في العمل نحو تأطير الحياة المجتمعية للمغرب المستقل وبناء الدولة الحديثة وإقامة مؤسساتها.*3*

مقاومة الحماية الفرنسية أبرزت التفاف مكونات الحركة الوطنية والشعب المغربي حول الملك محمد بن يوسف على اعتباره يجسد الشرعية المغربية[1]، وتتويج ذلك بإجراء مفاوضات شكلت نقطة تحول في الانتقال من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال، الأمر الذي أفرز اختلافا كبيرا حول شكل النظام، نوع الملكية المعتمدة، ونسخ التحالفات، وفتح أوراش التدشين، بالنهج الذي يدفع إلى تحصين حياة المجتمع المغربي، وتفاديا للاصطدام، وتكريس هيمنة الحزب الوحيد، الشيء الذي جعل السلطان يحتكر السلطة التنفيذية من خلال لعب الدور المحوري في التدبير السياسي، وحمل مشعل تسيير شأن الأمة، كل ذلك لم يكن ليتم دون الدخول في إحداث مؤسسات (مؤسسة الجيش) وتقزيم عوامل قوة الحركة الوطنية، عبر تفكيك جيش التحرير، بالتصفية والقمع والاحتواء، وشن المؤسسة العسكرية الحديثة التكوين لحملات عسكرية، لا تخلو من إراقة الدماء.*4*

الهجوم على عامل إقليم قصر السوق، الراشيدية حاليا ـ عدى وبيهي وأنصاره 1957 بعد تمرده على السلطة رغم ولاءه لمحمد الخامس، وتؤكد بعض المصادر أنه كان مدعوما من قبل الفرنسيين في الخفاء من أجل منع وصول السلاح إلى الثورة الجزائرية، وتم إخماد التمرد وإلقاء القبض على عدي وبيهي والحكم عليه بالإعدام.*5*

بعد إصدار ” حركة التحرير والإصلاح الريفية”  لميثاقها يوم 7 أكتوبر 1958، وتشكيل تنظيم مسلح بحمل اسم ” جبهة النهضة الريفية” بهدف تسيير الريف من طرف الريفيين، اندلعت مواجهات ومعارك قوية بين الجيش المغربي والريفيين، عرفت قصفا جويا يضع حد للانتفاضة الريفية، خلف العديد من الضحايا، لم يتم تحديد عددهم إلى الآن.*6*

كل ذلك من أجل وضع حد لكل الميولات نحو الاستقلال عن الملكية، وتجسيد هذه الأخيرة لخيارها السياسي والإيديولوجي داخل المجتمع المغربي.

أسس الملك محمد بن يوسف، جمعية وطنية استشارية تتكون من 78 عضوا[2]، ضمت أعضاء الحركة الوطنية بما فيهم التنظيم القوي حزب الاستقلال تفاديا لمواجهته، ومن ثمة العمل على بلورة القواعد الدستورية والقانونية، توج ذلك بتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم، لوضع النصوص القانونية بما يتلاءم ودور الملكية التقليدية، وتحديد الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تصريف مشاريع لإنجازها، وبالتالي بناء الذات الوطنية للمغرب المستقل.*7*

كل ذلك حدث في ظل التناقضات التي تعتمد وسط الساحة الوطنية سياسيا وإيديولوجيا.انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذو التوجه اليساري الجذري عن حزب الاستقلال، وللقصر قسط في حدوث ذلك. ليأخذ الصراع مسار آخر كما يؤكد الدكتور عبد الله ساعف “الهاجس الذي كان يحرك الأطراف المتصارعة بما فيهم الدولة هو السيطرة على المجتمع، والتحكم في الأدوات القمعية والإيديولوجية، وطرح بدائل مجتمعية متناقضة”.*8*

هذا الصراع المحتدم، دفع الملكية إلى التفكير في وضع دستور، يؤطر وينظم الحياة السياسية والعلاقات بين الحاكمين والمحكومين، ويحدد اختصاصات السلط، لكنه لم يتقدم نظرا لمقاطعة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لمجلس الدستور المشكل من قبل الملك، ومطالبته بانتخاب جمعية تأسيسية تشرف على وضع الدستور.*9*

إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، تعني وضع حد لحكومة الاتحاد الوطني  للقوات الشعبية، وبالتالي وضع حد لنهاية مشاريعها، الأمر الذي اعتبر آخر مسمار يدق في نعش العلاقة بين القصر والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبالتالي حدوث تطور في الصراع خاصة بعد اعتلاء الحسن الثاني سدة الحكم.

المطلب الثاني: 1960-1974

التصور الذي تبناه محمد بن يوسف للملكية، لم يكن نفس التصور الذي جسده الحسن الثاني بعد وصوله الحكم، إذ سعى إلى إسباغ الطابع الامتيازي للملكية داخل الحقل السياسي المغربي، وعمل على تكييفها، وآليات الديمقراطية، مع الحفاظ على جوهرها، في أن يسود الملك ويحكم، بعد التصفيات التي قام بها ضد قادة جيش التحرير وعناصره، وهجومه الشرس، على المناطق المنتفضة، جعل القصر سيدا بدون منازع في الساحة السياسية.

دخول مرحلة الستينات، تميز بصراعات سياسية حادة، وأحداث دموية، هزت الاستقرار السياسي للمغرب الحديث، وحتى الحكومات الأربعة الأولى لم تتمكن من القضاء على تلك الاهتزازات[3]، لكون تلك الصراعات. كما اعتبرها الدكتور عبد الله ساعف ” لم تسايرها مبادرات اجتماعية واقتصادية، ولم تكن فيها إنجازات مهمة “.*10*

ما أسفرت عنه التجربة السياسية للحسن الثاني في بدابة حكمه، العمل على وضع قواعد مكتوبة تكون بمثابة دستور، يشرعن لإيديولوجية النظام الملكي، ومركزة السلطة في يد الملك بشكل مطلق دستور 1962 حزب الاستقلال اختار مؤازرة الملك، والتصويت بنعم على الدستور الممنوح، في حين اثار اعتراضات قوية على مضامنيه واسلوب وضعه من قبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتنظيم هذا الأخير لحملة دعاية من أجل مقاطعة الاستفتاء حوله، وبالتالي فتح خط المواجهة مع القصر.

نظمت أول انتخابات تشريعية سنة 1963، التي أعطت الفوز لحزب ” الفديك” الذي تأسس  حديثا بعد أن لعبت وزارة الداخلية دورا كبيرا في حسم النتائج، وضع الخريطة السياسية الجديدة، وإصدار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مواقف بأن العملية الانتخابية شابها التزوير، وجعل ذلك باعثا على اتخاذ موقف المقاطعة في الانتخابات الجماعية، الأمر الذي دفع النظام اللجوء إلى شن حملة عنف كرد فعل عن التهمة الموجهة إليه من النظام في كونه حضر لمؤامرة الإطاحة به. وبالتالي تعليق المسلسل الديمقراطي، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد.*11*

أمام تصدع ” الفديك ” في مهمتها المتمثلة في مساندة السياسة الحكومية،  ومن جهة ثانية فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، وضرب مصداقية شعارات بداية الاستقلال المتمثل في تكريس مجتمع العدالة والرفاه.

جاء رد فعل الشارع المغربي في مظاهرة 23 مارس 1965 بالبيضاء، ليجسد أول مواجهة بين الحكم والشارع، كان عنوانها العريض، العنف الدموي، 1525 دفنوا بالقرب من مطار محمد الخامس حسب تصريحات أحمد البخاري عميل المخابرات السابق.

غليان الشارع المغربي في البيضاء 1965، والمعارضة البرلمانية لحزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتقديمهما لملتمس الرقابة، دفع الحكم إلى الإعلان عن حالة الاستثناء طبقا للفصل 35 من الدستور، وإرفاقها بحل مؤسسة البرلمان، كل ذلك جعل ملك البلاد يعترف بـ ” أزمة حكم وسلطة “[4] زاد من تعميق الأزمة بالبلاد، اغتيال زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بنبركة بأيادي داخلية وخارجية، الشيء الذي أدى إلى الشلل والجمود في الحياة السياسية بالمغرب.

فرض حالة الاستثناء، أدى إلى تعطيل جل المؤسسات، وتكثيف الأجهزة القمعية لاستبدادها وظلمها، الاعتقالات والمحاكمات (1969-1970)، وتكريس الجمود السياسي، سرعان ما يستأنف بسلسلة مظاهرات جديدة للعمال والفلاحين كانتفاضة أولاد خليفة بمنطقة الغرب 1970، واستعمال الأجهزة العسكرية والأمنية، للرصاص الحي الذي خلف العديد من الضحايا.

كما لعبت الأحداث الدولية، الهزيمة العربية 1967 ضد إسرائيل وخروج مظاهرات الطلبة في فرنسا 1968، دور في إذكاء التساؤلات والإشكالات حول جدوى السياسات المتبعة داخل النخب اليسارية[5]، فتشكلت تنظيمات ماركسية لينينية، تتبنى الثورة وإحداث القطيعة مع النظام، 23 مارس تأسست 1970 من مناضلين خرجوا من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عرفت في البداية بمنظمة (ب)، وإلى الأمام المكونة من مناضلين  انشقوا عن حزب التحرر والاشتراكية وتأسست في غشت 1970 عرفت في البداية بمنظمة (أ)، واعتمد في قاعدتهما على القطاع المتعلم، والتحرك بسرية تنظيما، مما أربك الزمن السياسي للدولة، لتدخل هذه الأخيرة في سلسلة من الاعتقالات ومنطق القمع والتعذيب وتنظيم المحاكمات لاستنزاف قواهما وكوادرهما.

هذا التنامي والتطور السياسي والاجتماعي واحتدادهن استطاع أن يصدع أجهزة الجيش، للقيام بمحاولتين انقلابيتين، كتعبير عن امتداد الصراع داخل المجتمع المغربي.

وبهدف تحريك الوضع السياسي والاقتصادي العام بمجموع البلاد، وإنعاش قنوات الحوار والتواصل مع المؤسسة الملكية، واتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية جذرية، تنقذ  البلاد من وضعها المأزوم، بعد إقصاء الرموز العسكرية والأمنية الشديدة المعارضة لقوى الحركة الوطنية، خرج تنظيم سري للفقيه البصري يهدف شن ثورة عارمة على غرار ما كان سائدا في بلدان العالم الثالث، التي تناضل ضد الإمبريالية والاستعمار والصهيونية، والرجعية المرتبطة بهدف القوى[6]، وقعت أحداث مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة 1973 بمبادرة تنظيم الفقيه البصري البلانكي، لتواجه بحزم من قبل الدولة، وشن مصالح الأمن والجيش لحملة على المنطقة، بالمداهمة ونزع الممتلكات والتعذيب والاعتقال وإجراء محاكمات إدانة الانتماء إلى تنظيم 3 مارس 1973 تراوحت بين السجن والإعدام[7].

بعد استنفاد شعارات المرحلة لإمكانياتها، واحتداد الصراع السياسي، منذ وضع دستور 1962، واعتبار حالة الاستثناء أزمة سياسية داخل المرحلة، فرضت على الحكم، إعادة إدماج الحركة الوطنية في اللعبة السياسية ابتداء من دستور 1972، وخطوة إعادة الإدماج لن تأخذ مداها إلا سنة 1974 مع ” الإجماع الوطني”.

المبحث الثاني:

حسم الصراع حول السلطة السياسية

بوادر حسم السلطة السياسية بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم 1961، واستئثار الملك بالسلطة التأسيسية في وضع دستور 1962، بدل وضعه من قبل مجلس تأسيسي منتخب كما كانت تطالب  الحركة الوطنية، ستجد هذه الأخيرة نفسها عاجزة عن أي رد فعل تجاه احتداد منهجية القمع، ومن ثمة حدوث أزمة سياسية بعد مقاطعة دستور 1970 والبرلمان الناجم عن انتخابات 1970، ستعرف نهايتها بعد التعديل الدستوري لسنة 1972، وبلورة انفراج وإدماج الحركة الوطنية من جديد في اللعبة السياسية، بعد طرح مفهوم الإجماع الوطني عام 1974، واحتداد الصراع الاجتماعي والاقتصادي، وأخذه لأبعاد هيكلية وبنيوية، تدفع في اتجاه حل الأزمة من خلال مفاتيح الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بإجراءات مسطرية وقانونيةـ تروم بناء دولة المؤسسات المشروعة ودولة الحق والقانون لتحقيق الديمقراطية.

انطلاقا من ذلك سنعمل على تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، كل واحد يؤطر لمرحلة ويؤرخ لظروفها وأبعادها.

المطلب الأول: 1974 – 1990

الظرفية السياسة لبداية السبعينات، تميزت بإدماج الحكم للمعارضة في اللعبة السياسية، بعد قبول قواعد اللعبة، كما يحددها الحكم ” الاعتراف بالقواعد الشكلية، كقدسية الملكية والإسلام، والقواعد غير المكتوبة كالإجماع حول الثوابت وتحديد الاختيارات الوطنية… من خلال تأكيد الهوية الوطنية  والقومية، قضية الصحراء 1974، وبعث كثيبة جنود مغاربة إلى الجولان 1973، أدت  إلى تمثين الجبهة الداخلية، وما تطلبه من مستلزمات، يتدخل فيها الإيديولوجي عبر ما يسمى الإجماع الوطني ” والاقتصادي عبر ما يسمى “بالمغربة ” والانكباب على تصريفه سياسيا عبر ما يسمى ” بالمسلسل الديمقراطي”[8].

الانتخابات التشريعية لسنة 1977، شاركت فيها كل أحزاب الحركة الوطنية[9]، واعتبرها الأستاذان عبد الرحمان القادري وخالد الناصري، تفتقد للطابع التنافسي، أولا لعدم نشر نتائجها، وثانيا عدم نزاهتها[10]. كما وضح خالد الناصري أن الانتخابات في المغرب تلعب دورا في إضفاء المشروعية على توزيع سابق وضعه الجهاز الإداري الذي لا يحترم حرية الانتخاب وإرادة الناخبين.

هذه الانتخابات سجلت حد أدنى من الإدماج السياسي، وإصلاح الوضع دون المس بجوهر السلطة السياسية، التي استطاعت التكيف مع المحيط الداخلي والخارجي، وإعطاءها قيمة مركزية لميزان القوى بالشكل الذي يخدم أهداف ومصالح الحكم[11]، بدءا بتلجيم كل الميولات الشعبية.

انتفاضة الخبز بالبيضاء 1981 بعد دعوة الديموقراطية للشغل إلى إضراب عام، عم أغلب أحياء البيضاء، وتدخلت قوى الجيش والشرطة، وثم إحصاء ما لا يقل عن 600 قتيل وعدة اعتقالات ووصلها بالمحاكمات.

زاد من احتدام الصراع الاجتماعي، قبول المغرب بإعادة جدولة ديونه، وإقرار برنامج التقويم الهيكلي الذي يمتد من 1983 إلى 1993، ودفع الشعب المغربي لكلفته ماليا واقتصاديا واجتماعيا. ليخرج هذا الشعب عن صمته في مظاهرات بمدينة مراكش ومدن الشمال 1984، لم تخرج في مستوى قمعها عن انتفاضتي البيضاء 1965 و 1981 من حيث الاعتقالات الواسعة وإجراء المحاكمات.*12*

أمام الثقل الذي يتحمله كاهل الشعب المغربي الناتج عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المنتجة للأزمة، لم يبق أمامه إلا معاودة الخروج إلى الشارع في بداية التسعينات وبالضبط 14 دجنبر 1990، استجابة منه لدعوة نقابتي الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، في مدن فاس وطنجة وغيرها .. عرفت مدينة فاس مواجهات عنيفة إثر تدخل الجيش وتجاوز الأحداث لرجال الشرطة، واستعمال الآليات العسكرية الثقيلة من مثل المدافع الرشاشة، خلفت 100 قتيل و 1000 معتقل صدرت في حقهم أحكام قاسية[12].

هذه المظاهرات الزاخمة  خلال فترة الثمانينات وبداية التسعينات، أعطت مؤشر دفع المعارضة البرلمانية إلى تنظيم نفسها، ومساندة الشعب الفلسطيني والتضامن مع الشعب العراقي. ساهم في ذلك انهيار نظام القطبية الثنائية، والمبادرة بمطالب الإصلاح السياسي والإداري والقضائي مكن أجل تعبيد الطريق دولة الحق والقانون كمدخل للديمقراطية.

المطلب الثاني: مرحلة 1990 إلى 1999

التحولات السياسية والجيوستراتيجية على المستوى العالمي، بنهاية نظام القطبية الثنائية والضغط الاجتماعي المتزايد للشعب المغربي، وتنظيم المعارضة البرلمانية، وتهيكل المجتمع المدني، طغت المطالبة بالديمقراطية، وإحداث إصلاح سياسي وإداري وقضائي يواكب تيار العولمة الزاحف.

جعل النظام يقدم، على تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وجعله شرطا لإجراء قطائع مع ثقل الموروث الثقافي والمجتمعي، والإعفاء عن مجموعة من المعتقلين السياسيين سنة 1991. بروز الكتلة الديمقراطية، وتقديمها للمذكرة الأولى قبل وضع دستور 1992، الذي رفضته، باستثناء حزب التقدم والاشتراكية، وأعلن في ديباجة الدستور، عن تشبث المغرب بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه عالميا، تلاه الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين .*13*

والعفو عن المنفيين، ومؤسسيا إحداث وزارة حقوق الإنسان، وتنصيب المجلس الدستوري كآلية ديمقراطية للمراقبة الدستورية بما فيها القوانين الانتخابية.

هذه الخطوات خلقت انفتاحا سياسيا بين الحكم والمعارضة، بهدف توسيع المشاركة السياسية، وإرساء هيئات قارة لتنظيم الحوار وتعميق دراسة القضايا الكبرى المطروحة على البلاد، واقتراح السياسات والتدابير حول سبل معالجتها، الأمر الذي دفع الكتلة الديمقراطية إلى تقديم المذكرة الثانية للمطالبة بضرورة الإصلاح السياسي والدستوري، شكلت مدخلا لبروز مفهوم “التوافق” كشعار جديد يجمع بين الحكم والمعارضة البرلمانية، في تأطير الحقبة السياسية المقبلة.

انفرد الحكم بوضع دستور جديد سنة 1996، قبلته المعارضة البرلمانية -باستثناء- منظمة العمل الديمقراطي الشعبي – لتدخل في  مسلسلات ” الحوار الاجتماعي ” وآخر للحوار السياسي، أدى كل منهما إلى تصريح مشترك، الأول بين الحكومة والباطرونا والنقابات، والثاني بين الحكومة والأحزاب السياسية، يدفع الأول في اتجاه ضمان سلم اجتماعي، والثاني ” للتوافق” حول اللعبة السياسية، من خلال التراضي حول القوانين المؤطرة للعملية الانتخابية[13].

وبالتالي التحول في طبيعة المعارضة السياسية بالمغرب، إذ لم تعد هناك معارضة الحكم بل أضحت معارضة صرفة للحكومة.

فهل نجحت سياسة التوافق فيما فشلت سياسة “الوحدة الوطنية” والإجماع الوطني ؟

هذه الدينامية الحاصلة في المشهد السياسي المغربي، شكلت طفرة نوعية في مجال الإصلاح السياسي والدستوري، بإثباتها لإرادة سياسية قادرة على تحصين المكاسب والمنجزات، وتحويلها إلى نقط ارتكاز صانعة لآفاق قادرة على مقاومة الممانعات والضغوط المضادة للإرادة القائمة في ميدان الإصلاح، بتشكيل حكومة التناوب التوافقي المنبثقة عن نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1997 بقيادة عبد الرحمان اليوسفي.*14*

حكومة التناوب التوافقي استطاعت أن تحدث تطورا إيجابيا لمؤسسة الحكومة مغايرة لحكومات عقد الستينات والسبعينات والثمانيات[14]، بتحقيق نجاعة البرامج والسياسات العمومية عبر تخليق الحياة العامة، كمقوم للحكامة الجيدة، وتثبيت الشجاعة والجرأة في طرح أولويات الإصلاح. وفتح أوراشه المركبة، بدءا بتشجيع الاستثمار وخلق فرص العمل وتقليص العدد المهول للبطالة في حدود دنيا، مرورا بتكريس المساواة بين الرجل والمرأة في إطار الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وقوفا عند إصلاح المنظومة التعليمية والإدارية والقضائية. بالإضافة إلى المساهمة الفعالة في تعزيز استقرار البلاد وأمنها، وضمان انتقال الحكم في ظروف سلسة بعيدا عن كل الهزات والتوترات التي عرفها تاريخ انتقال الحكم في المغرب، والعمل إلى جانب  الملك الجديد في بلورة العديد من النصوص والقواعد القانونية الهادفة إلى تحصين الحياة السياسية (مشروع مدونة الأحزاب ، مشروع القانون الانتخابي)، والاقتصادية (مشروع قانون الاستثمار)، والاجتماعية (مشروع مدونة التغطية الصحية، مشروع مدونة الأسرة..).*15*

إذن حكومة التناوب استطاعت وضع التوجه الحازم نحو المستقبل، وتقعيد الخيار الديمقراطي المعبر عن المصلحة العليا للأمة، في تجاوب مع الإجماع الوطني، كالاعتراف بتاريخ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب المستقل، وتأسيس هيئة التعويض المستقلة إلى جانب المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من أجل الوقوف على سنوات الرصاص وتجاوزها عبر جبر الضرر للضحايا، وفتح الطريق نحو التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه عالميا، ومن خلال الاستفادة من التجارب التي عرفتها شعوب العالم، بهدف خلق مجتمع ديمقراطي تسوده الحرية والعدالة والحق.

المراجع والهوامش :

  • 1  – الاستقرار السياسي بالمغرب: رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا ص 95.
  • 2  – مجلة الصحيفة المغربية، العدد 9-11 -17 نونبر 2005.
  • 3  – حوار مع الدكتور ساعف ” المغرب إلى اين؟ جرسيدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ  شتنبر 1990.
  • 3  – عبد العزيز النويضي: ” حكم الحسن الثاني: حصيلة تجربة ” مقال نشر بمجلة الصحيفة المغربية عدد 9 ص 15
  • 4  – الاستقرار السياسي بالمغرب ط بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا ” ص 114.
  • 5  حوار مع الدكتور عبد الله ساعف ” المغرب إلى أين ” جريدة الاتحاد الاشتراكي 6 شتنبر 1990.
  • 6  – الفديك: جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية بزعامة أحمد رضا اكديرة.
  • 7  – مصطفى بوعزيز: ” اليسار المغربي الجديد: النشأة والمسار (1965-1979) ص 43-44.
  • 8  – جريدة النهج الديمقراطي: العدد 1 سنة 1995.
  • 9  – محمد لومة ” الثورة الموؤودة” ص 11ن طبعة 2004.
  • 10  –  نفس المرجع.
  • 11- الدكتور محمد معتصم: “الحياة السياسية المغربية (1992-1991)” ص 120.
  • 12- ماي 1990 أعلن الملك الحسن الثاني عن تشكيل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.
  • 13  – محمد معتصم: الحياة السياسية المغربية (1992-1991) حول وضعية المعارضة بالمغرب.
  • 14  – محمد ظريف: المغرب في مفترق الطرق ” قراءة في المشهد السياسي ” ص 104.
  • 15  – أوضاع الإصلاح في العالم العربي (الحالة المغربية) بحث لمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، ص 13.
5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى